هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟





بادي ذي بدء نقول أن ذلك الإدعاء الوهمي بأن الصلاة تغير فكر الله فيه من المغالطات والتناقضات اللاهوتية ما يكفينا لرفضه.  وليس ذلك فقط بل إن من شأن هذا الإدعاء أن يدخلنا في حلقة مفرغة من الآمال الوهمية التي من الممكن أن يعلقها البسطاء من المؤمنين علي الصلاة ظانين أنها تغير مشيئة الله فعلا ، ولكن للأسف غالبا ما ينتهي الحال بهؤلاء بشعورهم بخيبة الأمل من الصلاة وربما تتكون أيضا لديهم فكرة خاطئة عن ذلك الإله الذي لم يطع أوامرهم في الصلاة ويغير مشيئته لكي يرضيهم. وهنا تكمن خطورة الأمر لكونه ينطوي علي أهمية عملية تمس جزءا خطيرا من حياتنا اليومية. وإن كنت واحدا من هؤلاء اللذين لا تعنيهم ما إذا كانت الصلاة تغير مشيئة الله أم لا فليس عدم اكتراثك هذا إلا دليل علي أنه لم يتكون عندك بعد مفهوما صحيحا عن الصلاة. وثمة شئ نريد أن نلفت النظر إليه هنا قبل أن نشرع في الخوض في هذا البحث وهو أن الاعتقاد بأن الصلاة لا تغير مشيئة الله يؤثر سلبا علي عزيمتنا في الصلاة كما يدعي البعض هو ادعاء عار من الصحة وذلك لأن القضية محسومة بسكني الروح القدس وعمله في المؤمن ، فعمل الروح القدس في المؤمن هو أن يشفع فيه في الصلاة. وبالإضافة إلي ذلك فمهما كانت نظرتنا للصلاة فإنه ينبغي لنا دائما أن نطيع الوصايا الكتابية التي تحرضنا عليها. فالرب يسوع المسيح علم تلاميذه بأن يصلوا "لتكن مشيئتك" وهو أيضا الذي شجعهم علي الصلاة والسهر "اسهروا وصلوا" وأخيرا نجده هو أيضا يصلي "ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك".

ما هي الصلاة؟

الصلاة حسب تعبير الكتاب المقدس هي أن تُعلم طلباتنا لدي الله (في 4 : 6) ، وليس معني هذا أنه لا يعلم ما نحتاج إليه ولكن أن تُطرح طلباتنا أمامه وان نعترف له بها. فهذا شئ قد حدده السلطان الإلهي ، أن نأتي إلى الرب بخضوع ونعترف له بطلباتنا ونطرحها أمامه. وماذا سيفعل لنا الرب عندما تُعلم طلباتنا لديه؟ هل سيستجيب لنا كل هذه الطلبات؟ الآية لا تعدنا بذلك ، ولكنها تعدنا بالسلام في كل الأحوال "وسلام الله الذي يفوق كل عقل يحفظ قلوبكم وأفكاركم في المسيح" (في 4 : 7) ، قد يمنحنا الرب ما نصلي من أجله وقد لا يمنحنا ، لكننا في كل الأحوال سنتمتع بسلامه الذي يفوق كل عقل. وفي حزقيال (36 : 37) نقرأ "بعد هذه أُطلب من بيت إسرائيل لأفعل لهم"  وتعبير "اطلب" جاء في الكثير من الترجمات الإنجليزيةinquire) ) ويعني "يستعلم" أو "يسأل". وبحسب ما تقدم فالصلاة إذأ هي طرح طلبتنا عند قدميه مثلما نشر حزقيا رسائل تهديد ملك أشور له أمام الرب (2 مل 19 : 14)، ثم بعد ذلك نستعلم عن وعود الله ومشيئته. وكما يقول سبرجن " الصلاة إذن هي استعلام وسؤال ، ولا يستطيع أحد أن يصلي بطريقة صحيحة إلا إذا رأي الصلاة من خلال ذلك المنظور. فأنا أولا استعلم واسأل عن الوعد ، ثم أتحول إلى كتابي المقدس لكي أجد الوعد الذي بناء عليه يمنحني الله تلك الطلبة وأنه بمثابة تصريح لي من الله برغبته أن يمنحني إياها. ثم آخذ الوعد واحني ركبتي لأسأل الله إذا كان سيتمم لي وعده .. ثم استعلم عن استجابة الطلبة بأن أراقبها". وهذا المفهوم من شأنه أن يخرج من أذهاننا تلك الفكرة التي طالما رسخت فيها بأن الصلاة هي ما نمليه علي الله من طلبات لكي يفعلها لنا ، فالصلاة ليست هي أن نملي طلباتنا عليه ناسيين أنه ذلك الإله المطلق السلطان والإرادة.

إن اغلب من ينادون بفكرة أنهم يمكنهم أن يغيروا مشيئة الله بصلواتهم هم أصحاب اللاهوت المفتوح
Open Theism (الذين ينادون بأن الله لا يعلم ما يأتي به المستقبل وأنه مفتوح علي صلوات وأعمال البشر لتؤثر به) ، ومن يعظمون الإرادة البشرية ولا يذكرون شيئا عن السلطان الإلهي ، وبعض البسطاء من المؤمنين اللذين يعتقدون أنه ببكائهم وتشدقهم برغباتهم سيلوون الذراع الإلهية. بالطبع ليس هذا ما تعلمه الكتب المقدسة عن سلطان الله – الذي ينبغي أن يُأخذ بعين الاعتبار عند مناقشة كل القضايا الروحية.

وثمة تشبيه آخر للصلاة يلفت أنظارنا إليه المرنم بقوله "لتستقم صلاتي كالبخور قدامك" (مز 141 : 2) ، فالصلاة هنا هي تقدمة بخور ينبغي أن تراعي فيها الشروط اللازمة لتقديمها حتي تقبل أمام الله ، وإذا لم تراعي فيها تلك الشروط لا تقبل. وأولئك الذين يتخذون صلاة إبراهيم مثلا علي تغيير الله لمشيئته –  مع أن هذا ما كان ليحدث علي الإطلاق –  لم يلاحظوا خضوع إبراهيم لله وإدراكه لعظمته وسلطانه المطلق عندما قال "قد شرعت أكلم المولي وأنا تراب ورماد". فهل يصح أن التراب والرماد يغير مشيئة المولي أو يسعي لتغييرها؟ فليست الصلاة إذن هي ما نمليه علي الله لكي يتممه لنا بغض النظر عن مشيئته ورؤيته الفاحصة وعلمه الغير محدود بالمستقبل وإرادته الصالحة التي لا تنَبّع إلا كل ما هو صالح. فهل هذا معناه أن الصلاة لا تغير مشيئة الله؟ بكل تأكيد الصلاة غير قادرة علي تغيير مشيئة الله. وهذا يقودنا لأول سؤال منطقي في بحثنا هنا:


لماذا لا تغير الصلاة مشيئة الله؟

هناك بعض الأسباب المقنعة التي تجعلنا نرفض مبدأ إمكانية تغيير إرادة الله عن طريق الصلاة:

1- أول سبب يتبادر إلى الذهن هو سلطان الله وإرادته. فالله ليس إلها سلبيا يتأثر بالأحداث ولا يؤثر بها ، أو ينتظر صلواتنا حتي يحسم بواسطتها تلك الأمور الغير محسومة لديه ، ولكن العكس صحيح ، فهو إله ذو سلطان مطلق وله مشيئة في كل شئ. وهو لا يجلس مشاهدا للأحداث متأثرا بها ، ولكنه ينشئها ويجريها ويضع نهايتها. والله له خطة نابعة من سبق علمه بكل شئ تسير وفقا لصفاته السامية. ونظرة صغيرة لما لا نستطيع أن نغيره حولنا سواء بإرادتنا أو صلواتنا تخبرنا جيدا عن وجود إله ذو سلطان مطلق فوق كل سلطان آخر. فإن كانت الصلاة قادرة علي تغيير مشيئة الله لماذا إذا لم يستطع موسي أن يغير مشيئة الله عندما طلب منه دخول أرض الموعد علي الرغم من حكم الله بعدم دخوله "كفاك لا تعد تكلمني أيضا في هذا الأمر"؟ (تث 3 : 26) ولماذا لم يغير الله مشيئته أيضا عندما صلي داود أن يعيش ابنه من بثشبع علي الرغم من علمه بحكم الرب أن الولد لن يعيش ، وقد مات الولد فعلا رغم صلاة داود وصيامه واضطجاعه علي الأرض؟ (2 صم 12) ولماذا دعا الرب ارميا إلى التوقف عن الصلاة عندما أعلمه بدينونته علي الشعب بسبب عصيانهم له "وأنت فلا تصل لأجل هذا الشعب ولا ترفع لأجلهم دعاء ولا صلاة ولا تلح علي لأني لا أسمعك"؟ (ار 7 : 16) ولماذا لم يرد الله أن تفارق بولس شوكته في الجسد "من جهة هذا تضرعت إلى الرب ثلاث مرات أن يفارقني . فقال لي تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل"؟ (2 كو 12 : 8). والإجابة علي كل هذه الأسئلة هي أن الرب رأي في سلطانه وحكمته أن لا يمنح هذه الطلبات. الله له الحق والسلطان المطلقين في أن يفعل في خليقته ما يريد. وهو بكل تأكيد لن يفعل سوي ما يتفق مع صفاته السامية من حكمة وصلاح وقداسة وعدل ومحبة. وهذا ما تعلمه كلمة الله في اكثر من موضع يقول دانيال (4 : 35) "وحسبت جميع سكان الأرض كلا شئ ، وهو يفعل كما يشاء في جند السماء وسكان الأرض ولا يوجد من يمنع يده أو يقول له ماذا تفعل" ، وبولس الرسول أيضا يقول "حسب قصد الذي يعمل كل شئ حسب رأي مشيئته" (اف 1 : 11). نستنتج من كل هذا أنه ليس هناك مبدأ يمكننا أن نعتمد عليه اسمه الصلاة تغير مشيئة الله وذلك ببساطة لأن مشيئة الله لم تتغير في تلك الحالات المذكورة سابقا. وبالتالي فإنه ليس هناك ثمة مبدأ يحكم هذه العلاقة. وبمعني آخر ، حتي إذا افترضنا جدلا أن الصلاة يمكنها أن تغير مشيئة الله فإن هناك بعض الحالات التي لم تنجح فيها وبالتالي فإن تلك الفكرة الغير كتابية لا تصلح أن تكون مبدأ يمكن الاعتماد عليه وذلك لأن المبدأ الوحيد هو "وهذه هي الثقة التي لنا عنده إن طلبنا شيئا حسب مشيئته يسمع لنا" (1 يو 5 : 14). وفي هذا الصدد يقول وليم باريك "إذا كان الإنسان قادرا علي تغيير مشيئة الله فان هذا يعني أن الإنسان يعرف عن إدارة العالم اكثر من الله نفسه".

إن الله لا يحدد فقط إستجابته للصلاة ، ولكنه يحدد أيضا طريقة استجابته لها. ولنا في شفاعة ابراهيم من أجل سدوم وعموره مثل. لم يكن ابراهيم يتشفع من أجل سدوم وعموره في حد ذاتهما ، ولكنه كان يتشفع من أجل الأبرار الموجودين بهما. والدليل علي ذلك هو ما يقوله الوحي في (تك 19 : 29) "وحدث لما أخرب الله مدن الدائرة أن الله ذكر ابراهيم وأرسل لوطا من وسط الإنقلاب ، حين قلب مدن الدائرة التي سكن فيها لوط". فعلي الرغم أن مشيئة الله في هلاك سدوم وعموره قد تمت إلا أنه في نفس الوقت قد استجاب طلبة ابراهيم من أجل نجاة لوط. وهنا نجد الفرق بين نظرتنا المحدودة كبشر للأمور ونظرة الرب العليمة والفاحصة لكل شئ. فالطريقة التي كان يتخليها ابراهيم من أجل انقاذ لوط هي بالإبقاء علي المدينتين وعدم إهلاكهما ، أما طريقة الله فكانت بأن يرسل لوط من وسط الإنقلاب. لقد تمت مشيئة الله في كل الإتجاهات: فهلاك سدوم وعموره قد تم ونجاة لوط (والتي كانت موضوع صلاة ابراهيم) قد تمت أيضا. وفي هذا نري أنه قد يمنحنا الرب ما طلبناه منه في الصلاة ولكن بطريقته هو.

رأينا أن الله هو الذي يحدد بسلطانه ما إذا كان سيمنحنا طلبة بعينها أم لا ، ورأينا أنه بسلطانه أيضا يحدد الطريقة التي يستجيب بها الصلاة ، وهنا نريد أن نلفت النظر أيضا إلي أنه هو الذي يحدد وقت استجابة الصلاة. وأوضح مثال علي ذلك في كلمة الله هو ما فعله الرب عندما أرسلت إليه الأختان قائلتين "هوذا الذي تحبه مريض" ثم يقول الكتاب "حينئذ مكث في الموضع الذي كان فيه يومين". لقد كانتا الأختين تتوقعان استجابة فورية من الرب لكي يشفي من يحبه ، لكن كان هذا عكس ما توقعتا. فما إن سمع الرب أن لعازر حبيبه قد نام ، رأي في علمه وسلطانه الغير محدودين أن يتأني قليلا حتي تختبرانه الأختين كمقيم من الموت وليس كشاف فقط.

2- الصلاة لا يمكنها أن تغير مشيئة الله لأن هذا يتناقض ومبدأ التأديب الإلهي. وهنا نقصد سواء التأديب علي خطية وكنوع من الزرع و الحصاد مثلما حدث في حالتي موسي وداود ، أو التأديب بغرض الإنضاج الروحي كما في حالة بولس عندما صلي أن تفارقه شوكة الجسد. لا شك أن الله يسمح بالآلام في حياتنا كمؤمنين تأديبا لنا إما لشر قد ارتكبناه أو إما لكي ينضجنا روحيا ويحفظنا من خطايا أخري. وأمام تلك الآلام يلجأ البعض للصلاة للرب لكي يرفعها عنهم. قد يرفع الرب هذه الآلام وقد لا يرفعها ، فالأمر متوقف تماما علي مشيئته الصالحة التي قد تسمح باستمرار الألم أو تخفيفه أو إزالته. إذا فلسنا من المفترض أن نملي طلبتنا علي الرب بأن يشفينا من ذلك المرض أو يرفع عنا تلك الآلام – إلا إذا كانت بالطبع مدفوعة من الروح القدس الذي يشفع فينا حسب مشيئة الله. فهناك آلام قد لا يسمح الله بإزالتها عنا لأنه رأي في حكمته أن نعيش بها لكي تجعلنا في حالة من التسليم له والاتكال الدائم عليه ولكي تحفظنا أيضا من خطايا أخرى. وهناك آلام قد يسمح الله بها لفترة معينة ثم يرفعها. فالمبدأ الوحيد هنا هو سلطان الله في التأديب. فينبغي علينا أن نكون حذرين في التعامل مع هذا الأمر وان نتأكد من صوت الروح القدس في داخلنا بخصوص ما نصلي من أجله. ولا شك أن الروح القدس هو اعظم مرشد ومعلم لنا في الصلاة ، وسنعالج هذا في إحدى نقاط هذا البحث.

3- الصلاة لا تغير فكر الله لأن هذا يجعلنا نصطدم بإله متخبط ومتغير. كيف لنا أن نثق في إله يغير مشيئته؟ أو ليس في عدم تغير الله أعظم تشجيع لنا علي الصلاة؟ أو ليس أيضا في عدم تغيره أعظم أساس لإيماننا فيه كإله دائما كلي المحبة والصلاح والقدرة والعلم؟ كيف يمكن أن نطالبه بوعوده إذا كان يغير مشيئته؟ افترض معي جدلا أن هناك مرض ما سمح به الرب في حياة واحد من أولاده ، ثم صلي هذا المؤمن إلى الرب والرب أزال عنه تلك الآلام. فالمرض هنا هو مشيئة الله التي سمح بها ، والصلاة هي التي غيرت مشيئته ليفعل مشيئة المؤمن وهي الشفاء من المرض. فإذا صحت هذه الفرضية فإننا هنا بصدد إما إلها متخبط لا يعلم ما يفعله أو إما إله غير صالح. والسؤال هنا لماذا غير الله مشيئته بحسب ما يقولونه أصحاب هذا الادعاء؟ فلو كان المرض الذي سمح به الله هو مشيئته الصالحة من نحو هذا المؤمن ثم غيرها تعاطفا معه وضعفا أمام صلواته فلاشك أننا هنا أمام إله متخبط وضعيف. لأنه إن كان ذلك المرض هو حسب مشيئته الصالحة فلماذا يغيره إذا؟؟ أو إما تقودنا هذه الفرضية إلى الاصطدام بإله غير صالح ، فإذا كانت المشيئة الثانية – إن جاز لنا أن نستخدم هذا التعبير – وهي الشفاء من المرض هي ما رأي المؤمن انه الأصلح له واستجاب له الله بناء علي ذلك ، فلماذا سمح الله له إذا بأمر غير صالح من البداية؟ وهذا أيضا يجعلنا نصطدم بإله لا يعلم ما يخبئه المستقبل كما يدعي أصحاب اللاهوت المفتوح. فإما أن يكون سماحه بالمرض أمر صالح أو غير صالح ، فإذا كان أمرا صالحا فلماذا غيره إذا؟؟ وإذا كان أمرا غير صالحا فلماذا سمح به من الأساس؟؟

4- الصلاة لا تغير مشيئة الله لأنه ليس من المفترض أن يكون هذا هدفها. عندما علّم الرب يسوع المسيح تلاميذه الصلاة قال "لتكن مشيئتك" ، وهو نفسه له المجد صلي في جثسيماني "ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك". وهذه هي الصلاة الصحيحة أن تكون مشيئة الله هي الغاية لا مشيئتنا. فكيف لنا إذا أن نقول لتكن مشيئتك وفي نفس الوقت نطلب ما نراه صالحا في أعيننا؟ ولماذا ينبغي أن نصلي من اجل مشيئة الله؟ لأنها نابعة من صلاحه وقلبه المحب حتي لو سمحت لنا بالألم. ولأنها نابعة من علمه المسبق بكل شئ. ونتعلم أيضا من هذا أن هناك مشيئة لله ، وأن الأمور لا تسير بطريقة عشوائية وبالتالي فلسنا بحاجة أن نطلب من الله تصحيحها. حقا قال لوثر "إن الصلاة ليست الانتصار علي إحجام الله ولكنها التمسك بمشيئته".

5- الصلاة لا تغير مشيئة الله لأن التغيير قد لا يكون في مصلحتنا. هل نعلم جميعنا مطلقا ما هو لخيرنا؟ بالطبع لا ، لأننا قصيري البصر ولا نري الأمور إلا من منظارنا البشري المتأثر بضعف الجسد وانحيازه للأرضيات. من أدراك أن تلك الوظيفة التي تصلي من أجلها لخيرك؟ أو أن نجاحك المادي سيؤول للخير؟ نحن لا نصلح أن نصلي من اجل أنفسنا لأننا لا نستطيع أن نكون قضاة أنفسنا "لأنه من يعرف ما هو خير للإنسان في الحياة ، مدة أيام حياة باطلة التي يقضيها كظل" (جا 6 : 12) ، وكثيرا ما يكون الحال هو "لستما تعلمان ما تطلبان" (متي 20 : 22) ، وبولس رغم كل الإعلانات الكثيرة التي أعلنها له الرب إلا أنه أدرج نفسه تحت قائمة أولئك اللذين لا يعلمون ما يصلون لأجله فقال "لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله". والرب في تعاملاته معنا يعطي الأولوية للأمور الروحية والتي نميل نحن بسبب ضعف الجسد أن لا نعطيها الأولوية. فإن تعارضت مصلحة الروح مع مصلحة الجسد بكل تأكيد سيعطي الأولوية لمصلحة الروح . ولذلك فليس ثمة شك أن الرب لن يستجيب طلبة لا تؤول إلي خيرنا الروحي أولا. من هنا تكمن حاجتنا إلي معونة الله في الصلاة كرقيب وشفيع.

حاجتنا إلي رقيب وشفيع في الصلاة

يشبه الرب يسوع المسيح استجابة الله للصلوات بإستجابة الأب البشري لطلبات أولاده. فبحسب المثال الوارد في (متي 7 : 9 – 11) نجد أن الأب البشري ينتبه كل الإنتباه إلي ما يعطيه لأولاده ، فإن سأله إبنه خبزا لن يعطيه الأب حجرا علي الرغم أنه قد يبدو الحجر كالخبز في الشكل ، وإن سأله إبنه سمكة فالأب ينتبه جيدا أن لا يعطيه شئ يضره مثل الحية التي قد تبدو مشابهة للسمكة في الشكل. فهنا نجد الآب البشري في حنانه يستجيب طلبات أولاده ، لكنه في نفس الوقت ينتبه جيدا أن يعطي أولاده عطايا حسنة فلا تضرهم. وهنا نحب أن نشير إلي فكرة صلاح الأب البشري تجاه أولاده ، فهذا الصلاح يدفعه أن يوجه كل الإنتباه والعناية إلي ما يعطيه لأولاده لكي لا يضرهم. والآن دعونا نعكس المثال فنقول: إن سأل الأولاد أبيهم حجرا أو حية هل سيمنحهم أيا من ذلك؟ بكل تأكيد لا. إذن فالآب البشري هنا قام بعملية رقابية مستخدما فيها سلطته الأبوية. وهذا بالضبط ما يفعله أبونا السماوي ، فهو يستخدم سلطانه الإلهي الأبوي لكي يمارس عمله الرقابي كالأب فلا يمنحنا ما قد يكون فيه ضررا لنا. وهل هذا وارد الحدوث؟ هل يمكن أن يسأل الأبناء من أجل أمور لا تنفعهم؟ نعم ، فالسامرية طلبت المياه المادية الملموسة لكي لا تأتي إلي بئر يعقوب وتستقي (يو 4 : 15) ، فالماء الذي كانت تفكر فيه هو الماء الطبيعي الذي نشربه عندما يعطش الجسد ، لكن الرب كان يتكلم عن ذلك الماء الذي يصير فيه ينبوع ينبع إلي حياة أبدية والذي تعطش إليه الأرواح (يو 4 : 14). وقد كان في استطاعة الرب أن يمنح لها طلبتها ويأمر بكلمة واحدة من شفتيه أن يتفجر بئر ماء بجانب بيتها حتي لا تأتي إلي هنا وتستقي ، لكن ما حدث هو أن الرب يسوع قد مارس سلطته الإلهية الأبوية ولم يمنحها تلك الطلبة. ونفس الشئ ينطبق علي طلبة بولس عندما طلب أن يزيل الرب شوكة الجسد. لقد كان السماح بتلك الشوكة من قبل الرب هو أمر صالح (لم يكن المرض أمر صالح في ذاته لكن السماح به فقط هو الأمر الصالح). والسبب في سماح الرب له بالشوكة هو أن لا يرتفع بفرط الإعلانات (2 كو 12 : 7). وإذا أزال الرب تلك الشوكة لكان بولس قد ارتفع وتكبر بسبب كثرة الإمتيازات والإعلانات الروحية له ، الأمر الذي فيه ضررا عليه. وبالتالي فإن بقاء تلك الشوكة في الجسد كان له كل الخير. بكل تأكيد كان بولس من أعز الشخصيات لدي الرب فقد تألم من أجله كثيرا (2 كو 11 : 23 – 33) ، ولم يكن هناك شخص خدم الإنجيل مثل بولس ، فكان دائم السفر والتنقل والوعظ والكتابة للكنائس ، فكان أحوج ما يكون إلي صحته أكثر من أي شخص آخر ، ومع ذلك فقد سمح الرب له بالشوكة لأنها كانت ضرورية لحفظه من الكبرياء. وإزالة تلك الشوكة كان فيه ضررا كبيرا علي بولس ، لأنه كان سيرتفع بفرط الإعلانات فيؤثر ذلك سلبا علي علاقته مع الله وخدمته. ألم يطلبا إيليا ويونان الموت لنفسيهما؟ نعم إن كان هذا ما قد يطلبه الأولاد من أبيهم في بعض المرات فإنه يرينا إلي أي مستوي ممكن أن ننحدر بطلباتنا في الصلاة.

والله لا يمارس فقط عمل الأب الرقيب علي أولاده في الصلاة ، لكنه يمارس أيضا عمل الشفيع فيهم (رو 8 : 26 – 27). في الصورة الأولي نراه رقيب ذو سلطان يحجب ما ليس للخير ويمنح ما فيه خير. وفي الصورة الثانية نراه كشفيع في القلب ، فهو يغرس فينا بذرة الصلاة بروحه الأقدس ، ثم يروي هذه البذرة بأن يعطينا المثابرة واللجاجة في الطلب. والروح القدس يقوم بعمله الشفاعي هذا في إطار مشيئة الله فقط "لإنه بحسب مشيئة الله يشفع في القديسين". وسنشير إلي هذه النقطة بأكثر تفصيل لاحقا. ولكن العامل المشترك بين حاجتنا إلي رقيب وحاجتنا إلي شفيع في الصلاة هو جهلنا الروحي. فنحن نحتاج إلي رقيب لأننا ربما نطلب شئ من الرب نجهل ضرره علينا ، ونحتاج إلي شفيع "لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا ينطق بها". وبذلك ندرك أهمية أن يكون الحكم في هذه الصلوات هو سلطان الله وليس نحن.

وإذا كان الحال هكذا مع الصلاة التي ليست بحسب مشيئة الله فلماذا نصلي إذا؟ وما الفائدة من الصلاة إذا كان كل شئ معد سابقا في حكمة الله؟ وهل هناك حاجة إلي الصلاة والله يعلم طلباتنا قبل أن نسأله؟


معضلة الصلاة وسيادة الله وسبق علمه

يدعي البعض بأننا لسنا في حاجة للصلاة لأن الله يعلم ما نحتاجه قبل أن نسأله ، فلماذا نصلي إذا إن كان الله يعلم ما نحتاجه؟ ويمكننا أن نرد علي هذا السؤال بعدة أسألة أخري: لماذا نقبل أن هناك أعمال صالحة قد سبق الله وأعدها لكي نسلك فيها ولا نقبل سبق التعيين للصلوات؟ فلماذا لم تعوقنا هذه المعرفة عن قيامنا بالأعمال الصالحة؟ أولا تحسب أيضا الصلاة عملا صالحا وبالتالي تنتدرج تحت هذا المبدأ؟ (أف 2 : 10) ولماذا نبشر بإنجيل المسيح إن كان هناك مختارون معينون حسب علم الله السابق وأنهم سيخلصون لا محالة؟ فكما عين الله واختار قديسيه قبل تأسيس العالم قد عين أيضا أن يكون التبشير بالإنجيل هو واسطة خلاصهم وإيمانهم "فكيف يدعون بمن لم يؤمنوا به؟ وكيف يؤمنون بمن لم يسمعوا به؟ وكيف يسمعون بلا كارز؟" (رو 10 : 14) ونفس الشئ ينطبق علي الصلاة ، فكما حدد الله في سلطانه مسبقا استجابته لصلواتنا قرر أيضا في سلطانه أن تكون الصلاة هي الوسيلة التي يمنحنا بها البركات. لقد كان الرب يسوع المسيح مدركا لعلم الآب باحتياجاته ولكنه صلي مرات كثيرة ، ولم يثنه إدراكه هذا بعلم الآب بما يحتاج عن الصلاة أبدا.

ولكن تبقي المعضلة الأكبر وهي إن كان الله فعلا في سبق علمه قد حدد المصائر والاحتياجات فما الفائدة إذا من الصلاة؟ أليست الصلاة بذلك تحصيل حاصل؟ بكل تأكيد ليست الصلاة تحصيل حاصل وإلا ما كانت تحضنا عليها كلمة الله مئات المرات. فعلي الرغم أن هناك الكثير من الأمور قد حددها الله في سلطانه وقررها ، إلا أن هناك بركات مشروطة وموقوفة علي صلاتنا ، وهذا ما تؤيده كلمة الله في يعقوب (4 : 2) "ولستم تمتلكون لأنكم لا تطلبون". ولتوضيح ذلك نقول بأن هناك أمور يمنحها لنا الله دون أن نطلبها منه ، وهذا واضح في حياة الأشرار الذين يتمتعون ببركات كثيرة من الله دون أن يسألوه ، وفي المقابل هناك أيضا بركات ستمنح لنا إذا طلبناها ولن تمنح لنا إذا لم نطلبها ، وهذه كلها قد جعلها الله في سلطانه. وهذه الحقيقة أيضا تتفق مع عدل الله وسلطانه ، فكيف يساوي الله بين شخص يصلي بحرارة ولجاجة من أجل طلبة ربما كانت متوقفة علي صلاته وبين شخص آخر لم يتكبد مشقة الصلاة ، وهذا أيضا يفسر لماذا تكون حياة رجال الصلاة أعظم واكثر تأثيرا وبركة وأنضج من حياة أولئك اللذين لا يصلون ، فالمساواة بين الاثنين بكل تأكيد ليست عدلا ، ولكن الله أيضا هو من يقرر كل ذلك في سلطانه. ناهيك عن أننا مطالبون من كلمة الله بالصلاة في كل حين ومن أجل كل شئ كبر أو صغر بغض النظر عما إذا رأينا في الصلاة فائدة أم لا – ذلك إن كنا نؤمن بكلمة الله.

كيف نوفق بين الاثنين؟ أو كيف نصلي؟

وإن كانت القاعدة العامة هي أن الصلاة لا تغير مشيئة الله ، فكيف نوفق هذا بالوصايا الكتابية التي تطالبنا بالصلاة؟ أو ليس في ذلك عبثا أن تطالبنا كلمة الله بشئ لا طائلة تحته؟ ليس هذا إلا ادعاء كاذبا. إن وجود الروح القدس داخل المؤمن يحسم هذه القضية. فكلمة الله تعلمنا أن الروح القدس هو شفيع لنا في الصلاة "وكذلك الروح أيضا يعين ضعفاتنا. لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا ينطق بها. ولكن الذي يفحص القلوب يعلم ما هو اهتمام الروح. لأنه بحسب مشيئة الله يشفع في القديسين" (رو 8 : 26 – 27). وهنا نجد أن دور الروح القدس في الصلاة لا غني عنه وذلك لأننا لا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي. فالمشكلة تكمن في أننا قصيري البصر ومحدودي العلم ليس فقط بما ينبغي أن نصلي لأجله بل وباحتياجاتنا أيضا (يو 4 : 10). فالسامرية لم تكن تجهل فقط من هو الذي يكلمها "لو كنت تعلمين من هو الذي يكلمك" لكنها كانت تجهل أيضا أن حاجتها الحقيقية هي في الماء الحي "يا سيد أعطني هذا الماء لكي لا أعطش ولا آتي إلي هنا لأستقي" ، لقد كانت تفكر في الماء الطبيعي وأرادت أن تحصل علي هذا النوع الجديد من الماء الذي يقدمه هذا الشخص الغريب والذي اعتقدت أنه سيريحها من أتعابها اليومية فلا تأتي إلي البئر يوميا لتستقي. إن في ذلك صورة لما يمكن أن ينتجه الجسد في داخلنا من جهل بحاجتنا الحقيقية والتي تكمن في إشباع الروح وإعطاء الأولوية والأهمية المطلقة للأمور الروحية. فنحن مثل هذه السامرية التي لم تكن تفكر إلا في الراحة الجسدية فكانت طلبتها تعبر عن ذلك الجهل. إننا بطبعنا ميالون ومنحازون لإرضاء الجسد علي حساب الروح. وهنا يأتي دور الروح القدس في الصلاة ، فهو أولا: يعلمنا ما ينبغي أن نصلي من أجله ، فإذا ظننا خطئا أننا في حاجة إلي شئ معين صححنا الرروح القدس وأخبرنا بما نحتاج إليه حقا. وثانيا: هو ينشئ فينا الصلاة التي بحسب مشيئة الله ، فلأنه يعلم ما هو الاحتياج الحقيقي وما هي مشيئة الله فهو يستطيع أن ينشئ فينا الصلاة الحقيقية ، فالروح القدس يشفع فينا ، وإن كان شخص المسيح يشفع فينا في السماء أمام الآب ، فالروح القدس يشفع في قلوبنا بأن يحثنا ويشجعنا وينشئ فيها تلك الصلوات والطلبات التي بحسب مشيئة الله. ثالثا: الروح القدس يمدنا باللجاجة وروح المثابرة اللازمين لكي نستمر في الصلاة حتي يستجيب لنا الله تلك الطلبة التي بحسب مشيئته والتي وضعها فينا الروح القدس وأضرمها بناره المقدسة. والتاريخ يخبرنا عن جون بنيان كيف كان يصلي من أجل الصبر والاحتمال بفرح قبل أن يزج به في السجن والفضل للروح القدس الذي كان يحثه كثيرا علي الصلاة مستخدما ما جاء في (كو 1 : 11) "متقويين بكل قوة بحسب قدرة مجده لكل صبر وطول أناة بفرح".

ويوجد أيضا في تاريخ إسرائيل ما يثبت لنا ذلك: فالرب وعد الشعب في القديم (حزقيال 36 : 37) بأنه سيجمعهم من الشتات ، ولكنه لن يجمعهم إلا إذا صلوا له وطالبوه بالوعد "بَعْدَ هَذِهِ أُطْلَبُ مِنْ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ لأَفْعَلَ لَهُمْ. أُكَثِّرُهُمْ كَغَنَمِ أُنَاسٍ" ، وهو بكل تأكيد سيضع فيهم روح صلاة وتضرع فيصرخون له ويطالبونه بتحقيق الوعد فيستجيب لهم.

فالصلاة النموذجية إذا هي تلك التي نصليها بالروح القدس حسب مشيئة الله ، ولأنها حسب مشيئة الله فهي حتما ستستجاب. ونحن ربما لا نلحظ ذلك الدور الذي يقوم به الروح القدس في قلوبنا. فلا شك أنه مصدر كل الصلوات التي استجيبت أو ستستجاب في حياتنا. إن عدم تمييزنا لعمل الروح القدس في قلوبنا لا ينفي أنه مصدر تلك الصلوات المستجابة. وهنا نجد كيف ينبع نهر مشيئة الله ليجري في قلوبنا بفعل عمل الروح القدس إلي إن يصب أخيرا في نفس المنبع بفعل عمل الروح أيضا في الصلاة. ربما لا نشعر نحن بكل ذلك ولكن بكل تأكيد المؤمن الفطن والذي تدرب تحت يد الروح القدس يستطيع أن يري هذا النهر المتدفق وقد أخصب تربة الصلاة في داخله فأنبتت تلك الصلوات التي بحسب مشيئة الله. لهذا فلا يستطيع أحد أن يتعلل بقلة معرفته الكتابية فإن الروح القدس هو معيننا ومعلمنا.

ووجود الروح القدس في المؤمن لابد أن يكون من ضمن ثماره الصلاة ، فقد كان ذلك دليلا علي تجدد بولس (أع 9 : 10). وإن كان الروح القدس فينا فسوف يعمل فينا علي الصلاة. فلا يوجد مؤمن به الروح القدس لا يصلي. قد نجد شخص غير مسيحي يصلي ولكننا لا نستطيع أن نجد شخص مسيحي حقيقي لا يصلي.

لماذا نصلي إذن؟

ما أكثر الأسباب التي تدعونا للصلاة. فليس ثمة شئ في حياة المؤمن أهم من الصلاة ، وذلك لعدة أسباب:

إننا نصلي لأن الصلاة وصية كتابية
: مهما كانت فلسفتنا وراء الصلاة فإن هذا لا ينبغي أن يغير أبدا من كونها وصية كتابية واجبة النفاذ. ومهما كثرت خبرات الفشل ينبغي أن لا يثبط ذلك عزيمتنا عن الصلاة. فليست خبرات الفشل تلك إلا دليل علي أن هناك أمر يحتاج أن نراجع أنفسنا فيه.

نصلي لكي يتمجد الله: لاشك أن الله يستجيب لنا الصلوات لخيرنا. لكن في نفس الوقت لابد أن يعمل هذا علي تمجيد الله. فالهدف من الصلاة أساسا هو أن يتمجد اسمه. فعندما نصلي ويستجيب لنا الرب فإن ذلك يعود بالمجد عليه. وعندما نعترف له بضعفنا ومحدوديتنا أمام احتياجاتنا وضيقاتنا في الصلاة فلاشك أن ذلك أيضا يمجده كإله. وعندما نطلب من الرب شئ ليس بحسب خطته لنا فلا يمنحنا إياه فإن الرب أيضا يتمجد كأب محب لا يفعل إلا ما هو خير لأولاده.

نصلي لأن الصلاة هي الوسيلة التي عينها الله في سلطانه لنوال تلك البركات التي عينها أيضا في سلطانه: فكما عين الله مسبقا ما هي استجابته لصلواتنا قد عين أيضا أن تكون الصلاة هي الواسطة التي يمنحنا بها تلك البركات. "اسألوا تعطوا ، اطلبوا تجدوا ، اقرعوا يفتح لكم. لأن كل من يسأل يأخذ ومن يطلب يجد ومن يقرع يفتح له" (مت 7 : 7). ونحن مطالبون بالصلاة من أجل إتمام مشيئة الله ، والأدلة علي ذلك في كلمة الله كثيرة ، فالرب علم تلاميذه بأن يصلوا "لتكن مشيئتك" (لو 11 : 2). وعندما قال إبراهيم عن سارة أخته فأخذها أبيمالك الملك لنفسه ظهر له الرب في حلم الليل لينذره ويأمره بإرجاع سارة إلي إبراهيم ، ولأن الرب كان قد أغلق أرحام نساء بيت أبيمالك بسبب أخذه لسارة لكنه اخبره أيضا أنهم سيشفون جميعا بصلاة إبراهيم "فالآن رد امرأة الرجل، فإنه نبي، فيصلي لأجلك فتحيا" (تك 20 : 7). ثم يقول أيضا في نهاية الأصحاح "فصلي ابراهيم إلي الله، فشفي الله أبيمالك وامرأته وجواريه فولدن". وآخر مثال نسوقه هنا عندما طلب الرب من أيوب أن يصلي من أجل أصحابه حتي يرد سبيهم "والآن فخذوا لأنفسكم سبعة ثيران وسبعة كباش واذهبوا إلي عبدي أيوب، وأصعدوا محرقة لأجل أنفسكم، وبعدي أيوب يصلي من أجلكم، لأني أرفع وجهه لئلا أصنع معكم حسب حماقتكم، لأنكم لم تقولوا فيّ الصواب كعبدي أيوب" (أي 42 : 7 - 8).


نصلي لأن هناك بعض البركات التي حددها الله في سلطانه والتي لن يمنحها لنا إلا إذا طلبنا: هناك أشياء يحصل عليها البشر دون أدني صلاة ، وهذا واضح في حياة الأشرار ، فهم ينعمون بالكثير من البركات التي لم يطلبوها من الله بل وأنهم ينكروا أن الله مصدرها ، وهناك أشياء لن نحصل عليها حتي ولو طلبناها من الرب وقد سقنا بعض الأمثلة الكتابية عليها سابقا بل ونجد لها أيضا بعض الأمثلة العملية من حولنا ، وأخيرا - كما سبق وأشرنا أن - هناك بعض البركات التي أوقفها الله علي صلاتنا ، فهي ستمنح لنا إذا طلبناها ولن تمنح لنا إذا لم نطلبها. وخير مثال لنا علي ذلك هو بطرس الذي كان من المفترض أن يصلي ويسهر مع سيده علي الأقل ساعة واحدة حتي لا يدخل في التجربة ، وثلاثة مرات وجهت له الدعوة بأن يصلي ، ولكن لأن الروح نشيط وأما الجسد فضعيف كما نطقت تلك الشفتان المباركتان لم يستجب بطرس لدعوة سيده له غير عالم أن هناك بركة تنتظره في الصلاة حتي يقوي علي التجربة وغير عالم أيضا أنه كان هناك امتحانا قادما. لهذا ليس من الغريب أن يخفق بطرس في الامتحان فينكر المسيح ثلاث مرات. لقد أعد السيد في سبق علمه بركة لبطرس إذا صلي وسهر ولكن الجهل وضعف الجسد أعاقا بطرس عن اقتناص تلك البركة والتي بكل تأكيد كانت ستؤول لنصرته في الامتحان.

نصلي لأن الصلاة نوعا من العبادة : عندما نأتي إلي الرب معترفين بضعفنا وجهلنا وعدم استحقاقنا مسلمين له أثقالنا ومتاعبنا واحتياجاتنا غير المسددة فإن ذلك الاعتراف يتضمن العبادة والسجود للرب ، فإننا بذلك نعترف ضمنيا بسلطانه وصلاحه وقدرته الغير محدودة وحكمته وعلمه ، الأمر الذي يعد بمثابة سجودا له.


الأهمية العملية لهذا الفكر

إدراكنا بأن صلاتنا لا تستطيع أن تغير مشيئة الله – التي ربما تكون عكس ما نريد – يجعلنا لا نأخذ وقتا طويلا في التصالح مع مشيئته. ويجعلنا لا نفقد سلامنا عندما لا نري بعض الصلوات لا تغير الأمور. وللأسف فكثيرا ما نجد بعض المؤمنين وقد ملأ قلوبهم الإحباط وخيبة الأمل من الصلاة لأنها لم تأت بما كانوا يرجونه ، وربما يكون هذا أيضا سببا في تكون مشاعر سلبية تجاه الرب. ولكن إدراكنا لحقيقة أن الصلاة ليس الهدف منها هو فعل ما نريد بل ما هو يريد يساعدنا كثيرا علي أن لا نفقد سلامنا الداخلي عندما لا تسير الأمور كما نشتهي.

إذا استطعنا أيضا أن ندرك أن الصلاة لا تغير مشيئة الله فإن ذلك يقودنا أيضا لإدراك حقيقة مجيدة أخري وهي أننا لسنا عرضة لجهل الجسد ولكننا في يد ذاك الذي لن يسمح بأن نختار إلا ما هو لفائدتنا وخيرنا. فكما سبق وأشرنا أننا لا نستطيع أن نكون قضاة أنفسنا ، وأننا ميالون بطبعنا للأرضيات ، ولكن الرب لن يمنحنا ما لن يكون لخيرنا الروحي. ربما يسمح في مشيئته أن نتخذ نحن قرارات خاطئة في جهلنا فيتركنا نتعلم منها ، لكنه لن يمنحنا ما يعيق خطته أو يؤثر سلبا علي علاقتنا به.

إدراكنا أيضا لهذه الحقيقة من شأنه أن ينشئ فينا روح الصلاة الحقيقية فنصلي بروح وعقل خاضعين لمن هو فوق الكل. إن الصلاة ليست فقط عملا نقوم به ، لكنها توجه داخلي للقلب. فينبغي أن يكون القلب في حالة خضوع واتكال علي الرب لإتمام مشيئته ، مدركا لضعفه ومحدوديته وجهله وأن يكون أيضا في حالة استناد واعتماد كلي علي الله. إن لم يكن لسان حال قلبنا ونحن نقترب للرب في الصلاة هو أن نفعل ما يرضيه هو لا ما يرضينا نحن فلسنا بذلك في روح الصلاة الحقيقية. ولهذا فإن كان منظورنا للصلاة بأنها إملاء طلباتنا علي الله فهي بهذا تكون عكس المقصود منها.

وبناء علي ما سبق دعونا نسأل هذا السؤال: هل تغير الصلاة مشيئة الله؟ والإجابة: لا. إذن فماذا تغير؟ إنها تغير الأشياء بما فيها نحن. الصلاة التي بحسب مشيئة الله تغير الكثير من الأمور وربما المستحيلات. ولكنها أيضا تغيرنا نحن في المقام الأول فنصبح متوافقين مع مشيئة الله. إنها تغيرنا فلا نطلب ما هو لأنفسنا بل نطلب مشيئة الله. بل وحتي الصلوات التي يمنحها الرب ويغير بها الظروف العصيبة والضيقات ، تغيرنا نحن أيضا قبل أن تغير الظروف. هل تذكر ما حدث للمرأة الكنعانية التي تحدي الرب إيمانها؟ لقد بدا الرب محجما عن مساعدتها في بداية الأمر. ولكنه كان فقط يتحدي إيمانها. لم يكن الجفاء الذي تكلم به الرب من نحوها هو ما كان يشعر به في القلب ولكنه كان يريد أن يتحدي ذلك الإيمان فيخرج أفضل ما فيه. كان يريدها أن تعترف بعدم الاستحقاق ، وهذا ما حدث بالفعل. إن طلبة هذه المرأة قد غيرتها هي قبل أن تغير ابنتها: فقد حصلت علي معرفة قلبية أعمق بشخص المسيح كإله ، بل وبنفسها أيضا فعرفت مقدار عدم استحقاقها. كذلك أيضا جفاء المسيح الظاهري الذي بدا تجاه الأختين المحبوبتين مريم ومرثا عندما مرض أخوهما كان له هدفه السامي. لقد بدا أيضا شخص المسيح غير مبال في هذا الموقف ، ولكن لا شك أن قلبه كان يعتصر ألما وشفقة علي حزن أحباءه. فالكتاب يخبرنا أنه عندما علم بمرض الذي يحبه مكث في الموضع الذي كان فيه يومين وذلك لأنه أراد أن يقود الأختين بل وبعض اليهود إلي معرفة أعمق بشخصه ، ليس فقط كمن يستطيع أن يشفي المرض بل أيضا كمن يقيم الميت الذي أنتن في القبر. لقد غيرت الصلاة الأختين قبل أن تغير الموقف إذ عاينتا المسيح المقيم من الأموات وليس فقط الشافي من المرض. الصلاة تغير الأشياء وأولها نحن ولكنها لا تغير مشيئة الله.


اعتراضات

هناك بعض الآيات والمقاطع الكتابية التي يظن البعض أنها تعني تغيير الله لمشيئته ، ولكن النظرة المتأنية لكلمة الله والأخذ بعين الإعتبار لخلفية وقرينة كل من هذه النصوص الكتابية ترينا أنه ليس لهذا الإدعاء أساس من الصحة.

شفاعة إبراهيم من اجل سدوم وعموره (تك 18 : 16 – 33)

 لا أعلم كيف يجسر أصحاب الإدعاء القائل بأن الصلاة تغير مشيئة الله علي اقتباس هذا الموقف للتدليل بصحة ما يعتقدون. إن هذا المقطع الكتابي لا يثبت أبدا ما يدعون به. فإن كان حسب مشيئته أن يُبقي علي سدوم وعمورة إن كان بهما عشرة أبرار ، إلا أننا لا نعلم علي وجه اليقين ما إذا كان سيبقي الرب علي المدينتان إن كان بها تسعة أو ثمانية أو سبعة أو ستة أو خمسة أو أربعة أبرار. من الواضح أنه لم يكن فيها سوي ثلاثة أبرار: لوط وابنتيه ، وحتي زوجته التي نجت من الحريق لم نتج نهائيا إذ نظرت وراءها فصارت عمود ملح. والجدير بالذكر هنا أن نشير إلي أن الله لم يشفق علي العالم القديم وحفظ نوح ثامنا كارزا للبر. لقد كان هناك ثمانية أبرار في العالم ومع ذلك لم يشفق الله عليه فجلب عليه الطوفان. وبالتأكيد ليست القضية هنا قضية عدد ولكنها قضية سلطان الله وتقديراته وحساباته المباركة والنابعة من عدله ورحمته. فمن أدراك أن وجود خمسين بار في مدينة أخري في أي مرحلة من مراحل التاريخ كان سببا كافيا لله حتي لا يهلكها. فهو الذي يقرر متي يمتلئ كأس غضبه ليصبه علي من يستحق ، وهو الذي يقرر أن يمنح فرصة أخري مثلما حدث مع أهل نينوي أم لا. فوجود الأتقياء في القديم وسط شعب إسرائيل بل وصلاتهم من أجلهم لم يمنع عنهم دينونة الله وتسليمهم للسبي واحراق مدنهم.

والسؤال هنا هو لماذا توقف إبراهيم عن الشفاعة من أجل سدوم وعموره؟ سواء توقف إبراهيم عن شفاعته لسدوم وعمورة لأنه اعتقد أن لوط وزوجته وبنيه وبناته وأصهاره هم علي الأقل عشره وبهذا لا يكون في حاجة إلى مرحلة أخرى من التشفع إذ وصل إلى الرقم المطلوب ، أو سواء لأنه اعتقد أن المدينتان تستحقان الهلاك إن لم يكن فيهما عشرة أبرار. فالمحصلة واحد وهي أنه توقف عن التشفع وذلك لأن الرب أمسك روحه عن المضي قدما في هذا التشفع لأن الأمر كان مقررا من قبله. فعندما يقرر الله إهلاك مدينة فهو يمنع الصلاة لأجلها "وأنت لا تصل لأجل هذا الشعب ولا ترفع لأجلهم دعاء ولا صلاة ولا تلح علي لأني لا أسمعك" (ار 7 : 16) ، وقد لا تنفع أيضا شفاعة اكثر من رجل من رجال الله عندما يكون الأمر قد تقرر من قبله "ثم قال الرب لي وإن وقف موسى وصموئيل أمامي لا تكون نفسي نحو هذا الشعب . اطرحهم من أمامي فيخرجوا" (ار 15 : 1). ففي حالة إرميا كان الأمر مقرر من الرب أن يذهب الشعب للسبي فلم تنفع أي شفاعة للنبي. وإن كان الله لم يشفق علي ميراثه بل أنزل بهم دينونته فكم بالحري سدوم وعمورة مضرب المثل في الشر.

وفي النهاية فإن مشيئة الله تحققت وهي هلاك المدينتين وفي نفس الوقت استجاب الرب أيضا مضمون صلاة إبراهيم – وليس حرفها – فلم يهلك البار مع الأثيم بل نجي لوط البار من وسطهم "وحدث لما أخرب الله مدن الدائرة أن الله ذكر إبراهيم وأرسل لوطا من وسط الانقلاب" (تك 19 : 29) فعلي فرض أن إبراهيم لم يصل من أجل لوط هل كان سيهلك في وسط الأشرار؟ بكل تأكيد لا. فلوط كان بار وكان الرب سينجيه سواء صلي إبراهيم أو لم يصل "وأنقذ لوطا البار" (2 بط 2 : 7). ولكن الرب إستخدم صلاة إبراهيم لتتميم أغراضه المقدسة كما سبق وذكرنا. وعلي الرغم أنه لم يكن من المقصود أبدا أن يغير الله فكره تجاه سدوم وعمورة لكن كان المقصود من هذه الصلاة هو تغيير إبراهيم نفسه. ولكن كيف تغير إبراهيم؟ لقد حصل علي معرفة أعمق بالله الذي لا يتهاون مع الشر (تك 18 : 19) ، وأنه أيضا ذلك الإله المجري مراحم والذي قد لا يهلك الشرير من أجل البار. وتعلم أيضا الصلاة من أجل الآخرين: فصلي من أجل أبيمالك ليحيا وأيضا من أجل زوجته لتنجب (تك 20).


صلاة لوط لكي لا يهلك الرب صوغر مع باقي مدن الدائرة (تك 19)

إستجابة الرب لطلبة لوط بأن لا يهلك صوغر لا تعني أن الله نسخ مشيئته من أجله وأنه لن يمس المدينة أي سوء إلي الأبد – خاصة وأن مشيئة الله قد تمت في نهاية الأمر بخصوص هروبه إلي الجبل ، الأمر الذي رفض فعله في البداية ولكنه اكتشف مؤخرا أنه الأصلح له ، بل إن من الإنصاف القول هنا أن هروبه إلي الجبل في نهاية المطاف لم يكن إلا إتماما للمخطط الإلهي بإهلاك كل مدن الدائرة وعدم إستثناء أي مدينة مطلقا – ولكنها تعني تأجيل الضربة التي كانت آتية علي المدينة. فعدم إهلاك الرب لصوغر لا يعني عدم إهلاكها مطلقا ، بل ربما تأجيل هذا الإهلاك.

ليس في الكتاب المقدس ما يدعو أن صوغر لم تهلك فيما بعد ، فالرب لم يعد لوط بأن المدينة ستبقي ميراثا خالدا له إلي الأبد ، بل كل ما قيل له أن الرب رفع وجهه في هذا الأمر وأنه لن يفعل شئ حتي يصل إلي هناك (تك (19 : 22). وعدم ذكر صوغر من بين المدن التي هلكت في (تث 29 : 23) "كبريت وملح كل أرضها حريق لا تزرع ولا تنبت ولا يطلع فيها عشب ما ، كإنقبلاب سدوم وعمورة وأدمة وصبوييم ، التي قلبها الرب بغضبه وسخطه" لا يعني أنها لم تهلك ، لأن العامل المشترك بين هذه المدن الأربعة هو الهلاك بالكبريت والنار ، الشئ الذي ربما لم يحدث لصوغر ، إذ أن هناك من المؤرخون من يعتقدون أنها دمرت بواسطة زلزال. أو ربما يكون عدم ذكرها هنا لكونها مدينة صغيرة كما نفهم من الإسم الذي إطلق عليها "هوذا المدينة هذه قريبة للهرب إليها وهي صغيرة. أهرب إلي هناك. أليست هي صغيرة فتحيا نفسي" (تك 19 : 20).

أما بالنسبة لشهادة التاريخ فهناك عدد لا بئس به من المؤرخين يعتقدون بهلاك صوغر علي الرغم من أنهم قد يختلفون فيما بينهم حول الطريقة التي هلكت بها. يقول Fausset في قاموسه: يذكر سفر الحكمة (10 : 6) أن الخمسة مدن قد دمرت بالنار ، وهذا ما يؤيده يوسيفوس أيضا ، في حين يقول يوسبوس أن صوغر أو بالع قد أحتلت بواسطة الرومان ، بينما نجد جيروم وثيودوريت يعتقدان أن صوغر إبتلعت بواسطة زلزال بعد أن تركها لوط ، وربما يتوافق هذا مع الإسم الآخر الذي أطلق عليها "بالع" كما ورد في (تك 14 : 2 ، 8) ، إذ أن هذا الإسم قد أطلق عليها نسبة إلي إبتلاعها بواسطة الزلزال الذي ضربها (كما يعتقد البعض).

ونحن بدورنا نوجه هذه الأسئلة من نفس القرينة لمن يرون أن الرب غير مشيئته استجابة لطلبة لوط ، إذا كانت صوغر لم تهلك فلماذا يقول الكتاب "وقلب تلك المدن وكل الدائرة وجميع سكان المدن ونبات الأرض" (تك 19 : 25)؟ لاحظ معي هنا لفظة "كل" في الآية السابقة ، فلا نستطيع أن نستثني صوغر لأنها كانت جزءا من هذه الدائرة. وإذا كانت صوغر لم تهلك فلماذا يقول أيضا الوحي "حين قلب المدن التي سكن فيها لوط"؟ (تك 19 : 29) مع العلم أن لوط لم يسكن سوي في سدوم وصوغر. ولعلك تتساءل: إذا فما معني قول الرب له "لا أقلب المدينة التي تكلمت عنها"؟ وللأجابة علي ذلك نقول أن وعد الرب له هنا لا يعني بالضرورة أنه سيبقيها إلي الأبد ، بل طالما كان هو بها ، أي إذا خرج هو منها – كما حدث بعد ذلك عندما ذهب ليسكن في الجبل كما أمره الرب في بداية الأمر – فالرب غير ملزم بأن يبقي علي هذه المدينة ، لأن جوهر طلبته كان الإبقاء علي المدينة ليس لحبه لها ولكن لأنه سيسكن بها. وعندما يذكر الكتاب في الآيات التي اقتبسناها (تك 19 : 25 ، 29) أن الرب أهلك كل مدن الدائرة في حين أن صوغر لم تهلك حينئذ ، فمن المحتمل جدا أنه شملها علي اعتبار ما سوف يصير لها فيما بعد (وهذا يتوافق أيضا مع شهادات المؤرخين) وإلا فما معني ما ورد في (تك 19 : 25) "وقلب تلك المدن وكل الدائرة"؟ فإما أنه يكون قلب كل الدائرة وبذلك شمل صوغر أو إما أنه لم يقلب كل الدائرة ، وهذا ما يتناقض مع قول الكتاب المقدس.


وإذا كان الله يغير مشيئته فعلا ، فلماذا لم يغيرها من أجل إبراهيم مع أنه أولي بذلك ، إذ أنه أكثر طاعة وتقوي من لوط وقد آثر حياة الإعتزال عن الأشرار والشركة مع الرب في حين أن لوط ذهب ليسكن بين أهل سدوم الذين يصفهم الكتاب بأنهم كانوا خطاة وأشرار لدي الرب جدا (تك 13 : 13)؟ ناهيك عن أن سدوم كان بها علي الأقل أربعة أبرار وبالتالي فأنها تستحق الإبقاء عليها أكثر من صوغر التي لم يكن بها أي بار. فأيهما أكثر جدارة لدي الله بأن يغير مشيئته من أجله: إبراهيم التقي خليل الله ذو الإيمان العظيم الذي صلي من أجل مدينة كان بها علي الأقل أربعة أبرار ، أم لوط الذي ذهب ليسكن بين الأشرار في سدوم وعندما خرج منها لم يطع أمر الرب ويذهب للجبل بل ها هو أيضا يصلي من أجل مدينة لا يوجد بها ولا واحد بار؟

شفاعة موسي من أجل عدم إهلاك الرب شعبه

"فندم الرب علي الشر الذي قال أنه يفعله بشعبه" (خر 32 : 14)

إن أول ما يمكننا ملاحظته هنا هو أن قضاء الله هنا لم يكن مقررا ، بل كانت الصيغة التي قيل بها صيغة شرطية "فالآن اتركني ليحمي غضبي عليهم وأفنيهم فأصيرك شعبا عظيما" (خر 32  : 10) ، وهذا معناه أن قضاء الله كان موقوفا بتشفع موسي من أجل الشعب ، وعلي الرغم من أن شفاعة موسي لم تكن السبب الرئيسي لعدم افناء الرب لهم إلا أنها كانت واحدة من الأسباب. فالرب وضع في قلب موسي صلاة التشفع هذه والتي كانت أيضا بحسب مشيئته. وكقاعدة عامة فإن تعبير "ندم الله" يعني تغيير الله لإعلان قضاءه المشروط بتوبة من أعلن ضدهم ، وفي المرات التي أعلن الله فيها قضاءه وذكر 
أنه "ندم" بعدها فإن قضاءه في تلك المرات كان مشروطا بشئ يشبع عدله وقداسته ، والذي كان توبة من أعلن ضدهم القضاء كما في حالة نينوي. أما في هذه المرة فعندما ذكّر موسي الله بعهده مع ابراهيم استراحت نفسه ورضيت ، وفي نفس الوقت استراح أيضا عدله عندما أهلك الرب ثلاثة آلاف رجل من اسرائيل في هذا اليوم. عندما يكون قضاء الله شيئا مقررا ومحسوما فحينئذ لا تنفع معه أي شفاعة "يا بن آدم إن أخطأت الأرض وخانت خيانة فمددت يدي عليها وكسرت لها قوام الخبز وأرسلت عليها الجوع وقطعت منها الإنسان والحيوان ، وكان فيها هؤلاء الرجال الثلاثة نوح ودانيال وأيوب فإنهم يخلصون أنفسهم ببرهم يقول السيد الرب" (حز 14 : 13 – 14). وثانيا نقول أن صلاة موسي هذه كانت بحسب مشيئة الله وأنه لم يكن ممكنا أن يهلك الشعب. ولنتأمل الحجج التي ملأ بها موسي فمه:

1- الرب في لغته لموسي بدا وكأنه اراد التخلص من نسبته إلي الشعب فقال لموسي "قد فسد شعبك الذي أصعدته من مصر" (خر 32 : 7) ، ولكن ها هو موسي يذكره بمحبته ووعوده وأعماله المجيدة من أجلهم فيقول له "شعبك الذي أخرجته من مصر بقوة عظيمة ويد شديدة" (عدد 11). ألم يختارهم الرب لأنه أحبهم فقط وليس لكونهم أفضل من سائر الشعوب؟ (تث 7 : 8) فهل تغيرت محبته الغير مشروطة تجاه ميراثه؟

2- والسبب الثاني الذي قدمه موسي كحجة للرب هو مجده بين الأمم وخصوصا مصر. فماذا سيقول المصريون إذا أهلك الرب الشعب؟ هل سيقولون أنه أخرجهم ليغدر بهم؟ و بدل أن يذبحوا له علي الجبال ذبحهم هو؟ هل سيقولون أنه لم يكن هناك توافق بين الرب وشعبه؟ هل سيقولون أنه لم يستطع أن يوفي بوعده لهم ويدخلهم الأرض الموعودة؟ هل سيقولون أنه لم يعد يحتملهم في محبته؟ لا شك أن الشهادة للرب كانت ستتأثر بذلك لأن شعب إسرائيل كان هو الأمة الشاهدة للرب علي الأرض ، وموسي إذ عرف ذلك بفطنته كنبي وشفيع ومنقذ لهم إستخدم هذا كحجة في التشفع من أجلهم.

3- والحجة الثالثة التي يسوقها موسي هنا في شفاعته لدي الرب هي قسمه وعهده مع الآباء. لو أن الرب اهلك الشعب كله وأبقي علي موسي لكان قد خرق عهده للآباء إبراهيم واسحق ويعقوب ، بأن يتبارك في نسلهم جميع أمم الأرض وذلك عن طريق مجئ المسيح. لقد كان حسب خطة الله من البداية أن يأتي المسيح من سبط يهوذا "لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتي يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب" (تك 49 : 10). ومن المعروف أن موسي كان من سبط لاوي أما المسيح فمن سبط يهوذا. فلو كان الرب أهلك كل الأسباط بما فيهم يهوذا وأبقي علي لاوي فهو بهذا يكون قد نقض عهده مع الآباء ، الأمر الذي استخدمه موسي كحجة في تشفعه من أجل الشعب " اذْكُرْ ابْرَاهِيمَ وَاسْحَاقَ وَاسْرَائِيلَ عَبِيدَكَ الَّذِينَ حَلَفْتَ لَهُمْ بِنَفْسِكَ".

4- لم يكن الرب أقل رحمة علي شعبه من موسي في هذا الموقف ، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نقول أن عطف موسي علي الشعب كان أكثر من عطف الرب عليهم ، أو أن موسي لفت نظر الرب إلي الحقائق التي ذكرها.

فلم تكن صلاة موسي هذه بأية حال من الأحول ضد مشيئة الله ، لأنه كانت تتفق مع محبته القديمة وأشواقه للشعب وبكل تأكيد لم يتغير أي شئ من هذا ، لقد غضب الرب عليهم لكن محبته كانت كما هي. كانت صلاة موسي أيضا حسب مشيئة الله لأنه كانت تتفق مع الوعود القديمة والقسم والعهد مع الآباء.  ولاشك أن الهدف من تلك الصلاة لم يكن تغيير مشيئة الله ، بل أراد الرب أن يعلم موسي بعض الدروس الروحية: أن يتشفع موسي للشعب وأن يحرك الرب أيضا مشاعر موسي ومحبته وشفقته عليهم فيشعر بما يشعر به الرب نحوهم ، وأن تفيض مراحم الرب إليهم عبر موسي ومن ثم يكون الشفيع والنبي المناسب لهم. ولا شك أن في ذلك أيضا صورة لشفاعة المسيح وعمله من أجل المخلصين.

صلاة حزقيا (2 مل 20 : 1 – 11)

قد يبدو لنا من الوهلة الأولي أن الرب غير مشيئته من أجل حزقيا ، ولكن في واقع الأمر فإن حزقيا هو الذي تغير ، فلولا أن الرب قد اخبره بأنه سيموت لما كان قد صلي وتوجه للرب بتضرعاته ودموعه ، الأمر الذي يقدره الرب. وكثيرا ما يقودنا الرب إلي روح التواضع تلك عن طريق التحديات الإيمانية التي يجيزنا فيها مثل حزقيا. وقبل أن نقدم الحجج علي أن مشيئة الله لم تتغير هنا ، دعونا أولا نفسر ما حدث: لقد أرسل الرب برسالة تحذيرية إلي حزقيا ليخبره فيها بأنه سيموت ، ولم تكن هذه الرسالة للدينونة بل للإنذار والامتحان ، فهو لم يقل له أنه سيميته لا محالة لكنه قال له أن مرضه للموت ، والرب أراد بذلك أن يجيز حزقيا في تحد روحي لكي يختبر خضوعه وإيمانه به. ولكي يصل الرب إلي تلك الغاية رأي بأن ينذره بأن مرضه خطير وسيفضي إلي الموت. وقد أتي هذا الإختبار بثماره ، فلقد اتضع حزقيا وصلي إلي الرب باكيا معبرا عن ثقته فيه. فاستجاب الرب صلاته وقال له بأنه سيزيد خمسة عشر سنة علي أيامه. والزيادة هنا لا تعني التغيير في مشيئة الله ، فإذا نظرنا لها من خلال الواقع الذي كان سيحدث وهو أن حزقيا كان مريض مرض ليس له علاج وسيفضي به إلي الموت ندرك أنه بناء علي أن حياته كانت ستنتهي بهذا المرض فاستجابة الرب له في الصلاة هي زيادة علي عمره الذي حدده المرض المميت. ألا نقول نحن بلغتنا العامية عندما ننجو مثلا من حادث خطير أنه كتب لنا عمر جديد. وهنا نجد نفس المبدأ ، لقد كتب لحزقيا عمر اضافي لأنه نجا من الموت بواسطة المرض الخطير. ونريد أن نلفت النظر هنا أن صلاة حزقيا كان مصدرها الله نفسه ، وإذا قولنا أن حزقيا كان من الممكن أن لا يصلي فهذا فرض لا نستطيع أن نفرضه أولا لأننا علي الأقل لا نعلم ما إذا كان هذا سيحدث أم لا ، وثانيا: لأن مصدر هذه الصلاة بلا شك هو الرب نفسه.

وربما يعترض أحد قائلا إذا كانت هذه هي مشيئة الله فعلا من البداية وأن الله لم يرد موت حزقيا ، أفلا يعتبر ذلك تمثيلية؟ وللرد أقول: إن أردت أن تعتبر ذلك تمثيلية فعليك أن تقول نفس الشيء عن أمر الرب لإبراهيم بأن يقدم اسحق ابنه ذبيحة ، فالرب أراده أن يقدم اسحق ابنه ذبيحة ولكنه لم يسمح له بذلك في آخر الأمر ، فهل غير الله مشيئته عندما رأي طاعة إبراهيم؟ هل كان ذلك خداعا لإبراهيم؟ بكل تأكيد لا ، فالله لم يخدع إبراهيم ، ولم يغير مشيئته ، بل كان ذلك امتحانا له. فالرب هنا أمره بتقديم ذبيحة ولم يقل له بأن اسحق سيموت. علي الرغم من أنه كان هناك إمكانية أن يموت اسحق ويقيمه الرب من الموت بحسب ما كان يعتقد إبراهيم ، لكن الرب لم يفعل هذا ، وذلك لأنه لم يكن في حاجة إلي فعل ذلك الأمر. ناهيك عن أن ذلك يعتبر ذبيحة بشرية ، الأمر الذي يفعله عبدة الأوثان فقط ولم يأمر به الرب إطلاقا. وألا يفعل البشر نفس الشئ أحيانا؟ فقد يختبر الصديق كرم صديقه فيطلب منه مبلغ ما علي سبيل السلفة ، وما إن يضع الصديق الثاني يده في جيبه ليخرج المبلغ ليعطيه للصديق الأول حتي يدرك الصديق الأول كرم صديقه ، فيقول له أنا لست في حاجة للمال ولكني كنت أختبر فقط كرمك واستعدادك للتضحية من أجلي ومساعدتي. وكل المواقف الكتابية التي بدت فيها مشيئة الله أنها تغيرت هي في الحقيقة لم تتغير بل إن ما صار في نهاية الأمر هو مشيئة الله ، فإذا بدا لنا من هذه المواقف الكتابية أن الأمر (أ) كان سيحدث ولكن حدث الأمر (ب) بدلا منه في نهاية الأمر مع أن الأمر (أ) بدا وكأنه مشيئة الله إلا أن الأمر (ب) في الحقيقية هو فقط مشيئة الله لأنه هو ما حدث فعلا في نهاية المطاف ولم يكن الأمر (أ) سوي امتحان من الرب. وما حدث لحزقيا كان امتحانا من الرب له في ثقته وخضوعه.

ونستند أيضا بأن صلاة حزقيا لم تكن ضد مشيئة الله علي عهد الرب مع داود ، لقد وعد الرب داود بأن يثبت كرسي ابنه سليمان إلي الأبد وأن يأتي المسيا من نسله ، وحزقيا في ذلك الوقت لم يكن لديه وريث لملكه ، وبالتالي فإن موت حزقيا هنا معناه نهاية كرسي داود وانطفاء سراجه ، الأمر الذي فيه خرق لعهد الله مع داود بأن يثبت كرسي سليمان ابنه للأبد. وبعد أن استجاب الرب صلاة حزقيا وأطال في عمره خمسة عشر سنة أنجب حزقيا وريثه في الملك وهو منسي. ونظرة متأنية للإصحاح الأول من متي ترينا أن المسيح جاء من نسل منسي ابن حزقيا الذي ولد لأبيه في ثالث سنة من السنوات التي أضافها الله علي عمره. وهذا معناه أن موت حزقيا لم يكن هو مشيئة الله ، بل كان ذلك تأديبا من الرب له ، ولم تكن فقط تلك الصلاة حسب مشيئة الله بل إن الروح القدس أيضا هو الذي أمده بتلك اللجاجة التي صلي بها. ونريد أن نقول لأصحاب اللاهوت المفتوح القائلون بأن الله لا يعرف المستقبل – والحقيقة ليس أن الله لا يعرف المستقبل بل أنهم هم لا يعرفون كتابهم المقدس –  إن صح ادعائهم الكاذب ذلك فكيف عرف الله أن حزقيا سيعيش خمسة عشرة سنة عندما استجاب لصلاته وأضاف تلك السنوات إلى عمره؟ ولماذا خمسة عشرة سنة بالذات؟ ألا يخبرنا هذا الرقم عن سلطان الله الذي يقرر كل شئ حسب حكمته؟

وربما يعترض أحد أيضا قائلا: كان من الممكن أن يقيم الرب نسل لداود وأن يحافظ علي عهده معه من خلال اخوة حزقيا أو أعمامه. ولكن هل كان ذلك ممكنا؟ لا أعتقد ، فنظرة سريعة علي ما حل بأسرته تحسم الأمر: آحاز أبو حزقيا قام بتعبير (حرق) بنيه في النار للآلهة الوثنية (2 أخ 28 : 3) ، بالإضافة إلي قتل واحد منهم أيضا علي يد زكري (2 أخ 28 : 7) ، هذا بالنسبة لإخوة حزقيا. أما بالنسبة لعمه فقح ، أخو آحاز ، فقد تحالف مع الأشوريين ضد أخيه ثم قتل بعدها علي يد هوشع (2 مل 15 : 30).

ومن الجدير بالملاحظة هنا أن حزقيا لم يُمْل علي الرب أي شئ في الصلاة بل قال له "أذكر كيف سرت أمامك بالأمانة وبقلب سليم وفعلت الحسن في عينيك" ، لاشك أن مضمون صلاة حزقيا كان هو طلب الشفاء ، ولكن خضوع حزقيا وتواضعه كانا شديدين لدرجة أنه لم يصرح بتلك الطلبة صراحة بل سكب قلبه وشكواه أمام الرب ، وحتي لو كان قد طلب حزقيا صراحة وحرفا الشفاء من الرب لكان قد استجاب الرب طلبته ، ولكن تواضع حزقيا وخضوعه يعلمانا أن روح الكبرياء ليس لها مكان في الصلاة المقبولة لدي الرب. خلاصة القول أن حزقيا لم يمل علي الرب ما يريده ولكنه سكب قلبه أمام الرب وتركه ليفعل مشيئته وقد كانت مشيئته بكل تأكيد أن يشفي حزقيا من مرضه المميت. آه .. ليت أولئك المتشدقون بمشيئتهم ومعتدون بذواتهم يتعلمون من تواضع حزقيا فيسكبوا شكواهم في خضوع ويتركوا الرب ليعمل مرضاته.

توبة أهل نينوي وندم الله عن دينونته

فلما رأي الله أعمالهم أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة ندم الله علي الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم فلم يصنعه" (يونان 3 : 10)

لماذا يبدو غريبا لدي البعض أن يعلق الله قضاءه ودينونته علي توبة البشر ورجوعهم إليه حتي يعتبرون عدم تنفيذ الرب لإنذاره بالدينونة تغييرا لمشيئته؟ أليس هذا أمر بديهيا في كلمة الله ، أنه إن توبنا إليه ورجعنا عن طرقنا الردية رحمنا الله من دينونته وصارت البركات من نصيبنا ، وان صلبنا رقابنا واستمررنا في طريق الشر فبكل تأكيد ستكون الدينونة قسمتنا؟
(إر 18 : 7 –  10). وهذا ما حدث مع أهل نينوي.

عندما يقال ان الله ندم فليس المعني هنا أنه ندم مثلما يندم البشر ، ولكن ذلك يعني أن الله أزال الإنذار بالدينونة. والكلمة العبرية التي ترجمت عنها كلمة "ندم" هي "نشم" والتي تعني في لغتها الأصلية أنه "استراح أو تم استرضاؤه" ، فالله قد استراح وشعر بالرضا ازاء توبة أهل نينوي ورجوعهم عن الشر ومن ثم فقد أزال انذاره بالدينونة، وبالمناسبة فنفس هذا اللفظ العبري ترجم مرات كثيرة "تعزي" مثل قول الرب "لأعزي كل النائحين" (إش 61 : 2 ، 66 : 13). عندما يعلق الله دينونته علي توبة البشر ، ثم يتوبوا عن الشر فهل هذا معناه انه غير مشيئته؟؟ ان مشيئة الله لا تتغير لأنه غير متغير ، والذي يتغير فقط حسب سلطانه المطلق هي الأشياء ، والتي يستخدم الله معها وسائط ثانوية ، وصلاة شعبه هي احدي هذه الوسائط التي يستخدمها لاحداث مشيئته في العالم
.

وهنا أريد أن أوجه بعض الأسئلة ليجيب عليها من يرون أن الله غير مشيئته تجاه نينوي: أليس من المنطقي أن نقول أن دينونة الله كانت مشروطة بعدم التوبة ، من أن نقول أنه أراد اهلاكهم ثم غير مشيئته فندم عن اهلاكهم؟ ولماذا يشير البعض إلي توبة أهل نينوي للتدليل علي أن الصلاة تغير مشيئة الله مع أنه لا يوجد أي ذكر هنا لموضوع الصلاة؟ فالرب أزال عنهم الإنذار بالدينونة بناء علي أعمال توبتهم وليس صلواتهم (يونان 3 : 10). وما فائدة مناداة يونان لهم بالتوبة لو كانت دينونة الله مقررة؟ وماذا عن قول موسي الصريح "ليس الله إنسانا فيكذب، ولا ابن انسان فيندم. هل يقول ولا يفعل؟ أو يتكلم ولا يفي؟" (عد 23 : 19)، ألا يعتبر ندمه في حالة نينوي تناقضا مع قول موسي؟؟ ولماذا لا نسمع أصدقاءنا الذين يريدون تغيير مشيئة الله يشيرون إلي عدم استجابة الله لطلبته عندما طلب الموت لنفسه؟

"قد انقلب علي قلبي اضطرمت مراحمي جميعا لا أجري حمو غضبي لا أعود أخرب أفرايم" (هو 11 : 8)

الإشارة هنا إلي إبقاء الرب لبقية من اليهود من سبي أشور الذي حدث علي يد تغلث فلاسر ، فالغالبية تم سبيهم علي يد هذا الملك الآشوري ولكن الرب في نعمته أراد إبقاء بقية لهم إلي زمن المسيا والذي يتكلم عنه العدد التالي "وراء الرب يمشون كأسد يزمجر". واستخدام لغة بشرية من قبل الرب هنا ليس إلا لإظهار جرم إسرائيل ونعمة الله في إبقاءهم. فبدلا من إهلاكهم مثل ادمة وصبوييم – إذ أنهم يستحقون نفس المصير – إلا أن رحمة الرب تتدخل وتمنعه من إهلاكهم تماما فيبقي لهم بقية. والسؤال هنا هل كان عدم إهلاكهم ضد مشيئة الله؟ قطعا لا. لأن إبقاء الرب بقية لهم وعدم إهلاكهم مثل أدمة وصبوييم – اللتان كانتا بين المدن التي هلكت مع سدوم وعموره – يتفق مع عهده معهم ومحبته القديمة نحوهم التي لم تكن موقوفة علي أعمالهم. وفي الحقيقة إن إهلاك الرب لهم هنا هو ضد مشيئته ، لأن مشيئته من البداية هو أن يحبهم محبة غير مشروطة وغير متوقفة علي أعمالهم (تث 7 : 7 – 8). وما يبدو لنا هنا من صراع داخل القلب الإلهي بين رحمته وعدله ليس إلا لتقريب الصورة لنا ، فحاشا له أن يكون في داخله أي صراع بين صفاته ، فهو منزه عن كل ذلك. ولكن كما قلنا فإن الرب أراد أن يستخدم لغة بشرية في الحديث لينقل لنا مقدار ما شعر به من غضب تجاههم ومقدار ما كانوا يستحقونه من دينونة مثل أدمة وصبوييم وأيضا مقدار النعمة التي لم تسمح أن يكون مصيرهم مثل مصير تلك المدن. فليس هنا ثمة أي تغيير في مشيئة الله.

"إن اتفق إثنان أو ثلاثة منكم علي شئ يكون لهما من قبل أبي" (مت 18 : 19)

لكي نفهم هذه الآية ينبغي علينا ألا ننتزعها من قرينتها. والقرينة هنا تكلمنا عن التأديب الكنسي. فلكي تتخذ الكنيسة القرار الصحيح فيما إذا كان الأخ يستحق أن يحسب كالعشار أو الوثني ينبغي أن يكون ذلك ممزوجا بالصلاة. وسلطانهم هنا بالحل والربط الذي ليس إلا في يد الكنيسة كلها ينبغي أن يكون موجهة بإرشاد الله في الصلاة. فالتأديب الكنسي ينبغي أن يمارس في جو الصلاة ، وأن يطلب الارشاد من الرب في هذا الأمر حتي يكون حكم الكنيسة متوافق مع الروح القدس. وإن إفترضنا جدلا أن الآية تشير إلي الصلاة عامة فهذا لا يعني أن تكون الصلاة بمعزل عن مشيئة الله. فما أسهل أن نتفق معا علي الصلاة بأن يزيل الله الحروب من الأرض والأمراض المستعصية ، فهل سيزيلها الله فعلا؟ والجواب بكل تأكيد هو بالنفي.

صلاة إيليا أن لا تمطر

"كان إيليا إنسانا تحت الآلام مثلنا وصلي صلاة أن لا تمطر فلم تمطر علي الأرض ثلاث سنين وستة أشهر" (يع 5 : 17)

من الخطأ أن نظن أن صلاة إيليا قد غيرت مشيئة الله ، وأن الله لم يرد أن يمنع المطر ولكنه عمل ذلك فقط استجابة لصلاة إيليا. ولكن العكس صحيح ، فالرب هو الذي أوحي إلي إيليا ووضع في قلبه بأن يصلي هذه الصلاة التي كانت حسب مشيئته وذلك يتفق مع ما ورد في تثنية (11 : 14 – 17) "أُعْطِي مَطَرَ أَرْضِكُمْ فِي حِينِهِ: المُبَكِّرَ وَالمُتَأَخِّرَ. فَتَجْمَعُ حِنْطَتَكَ وَخَمْرَكَ وَزَيْتَكَ....
فَاحْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَنْغَوِيَ قُلُوبُكُمْ فَتَزِيغُوا وَتَعْبُدُوا آلِهَةً أُخْرَى وَتَسْجُدُوا لهَا فَيَحْمَى غَضَبُ الرَّبِّ عَليْكُمْ وَيُغْلِقُ السَّمَاءَ فَلا يَكُونُ مَطَرٌ وَلا تُعْطِي الأَرْضُ غَلتَهَا فَتَبِيدُونَ سَرِيعاً عَنِ الأَرْضِ الجَيِّدَةِ التِي يُعْطِيكُمُ الرَّبُّ". لقد تطلب عصيانهم للرب وعبادتهم للبعل قضاء الرب المتمثل في امتناع المطر. ولهذا فلم تكن صلاة إيليا بدعة ابتدعها هو ولكنها كانت طلبة حسب مشيئة الله وحسب بركة الله لهم والمشروطة بطاعتهم. والسؤال الذي نريد طرحه علي مسامع من يرون أن الله غير مشيئته استجابة لصلاة إيليا هو وماذا عن طلبة إيليا الموت لنفسه؟ ماذا لو كان الرب استجابها؟ ألم يكن سيحرم إيليا من الإختبار المجيد الذي اختبره بصعوده في المركة بالنارية؟ أيهما نار كان يفضلها إيليا نار الصحراء التي كان سيكتوي بها وهو يموت مرتميا عليها أم النار المركبية التي أقلته إلي السماء؟؟

تحويل الماء إلي خمر (يو 2 : 1 – 11)

يظن البعض أن الرب يسوع المسيح غير مشيئته هنا تلبية لطلب مريم في عرس قانا الجليل حيث قال "يا امرأة لم تأت ساعتي بعد" ثم نراه ينفذ طلبة مريم أمه ويجري المعجزة. والحقيقة أن الرب يسوع المسيح لم يغير مشيئته وخطته هنا ، فالساعة التي قصدها هنا الرب يسوع ليست هي ساعة إجراء المعجزات ولكنها ساعة الاستعلان للعامة كالمسيا، لهذا دعاها "ساعتي" ، فإلي ذلك الوقت لم يكن الرب يسوع المسيح قد أستعلن للعامة كالمسيا المنتظر ، وعمل معجزة كهذه كان من شأنه أن يعلنه للعامة كالمسيا لأنه قال أن أعماله تشهد له (يو 10 : 25)، لهذا فقد حرص الرب علي سرية المعجزة حتي لا يستعلن للعامة لأنه لم تحن الساعة لذلك. ولعل مريم التي كانت تحفظ كل شئ في قلبها (لو 2 : 51) ظنت أنه قد آن الأوان لهذا الإستعلان خاصة وأن المناسبة كانت عرسا به الكثير من الناس. وعلي ذلك فإن الرب يسوع أراد أن يقول لها أن ساعة استعلانه لم تحن بعد وليس كما اعتقدت هي، وأن سلطتها كأم لا ينبغي لها أن تتطرق إلي خدمته المسيانية، خاصة وأنها حاولت فعل ما يشبه ذلك عندما كان صبيا يحاور الشيوخ والمعلمين في الهيكل (لو 2 : 48 - 49)، ولأنه لم يعلم شئ عن المعجزة سوي مريم والتلاميذ والخدام فإن خطة الله هنا كانت تسير حسب الجدول الزمني المقرر لها ، وهكذا فإن ساعة استعلان الرب كالمسيا لم تكن قد أتت ، وعليه فإنه لم يغير مشيئته علي الرغم من استجابته للطلبة. والسؤال الذي نريد طرحه علي من يرون أن الرب يسوع المسيح غير مشيئته استجابة لطلبة مريم هو كالآتي: إن كان نفس الإصحاح يعلمنا أنه بعد اجراء المعجزة أن يسوع "أظهر مجده فآمن به تلاميذه" (يو 2 : 11)، إن كان للمعجزة تأثيرا مباركا كهذا علي التلاميذ، فهل تعتقدون أن الرب يسوع المسيح كان محجما عن فعلها (في البداية) رغم علمه بتأثيراتها الإيجابية علي إيمان التلاميذ خاصة وأنهم لم يسبق لهم وأن رأوه يعمل معجزات؟؟ وإن كان محجما عن فعلها فكيف لا يريد أن يعمل شئ من شأنه تقوية إيمان تلاميذه به؟ خلاصة القول أن الرب كان يريد أن يعمل المعجزة فعلا وأنه هو الذي وضع تلك الرغبة في قلبها خاصة وأن لها تلك التأثيرات المباركة علي تلاميذه لكنه أراد لمريم أمه أن تفهم أن ساعة استعلانه لم تكن قد حانت وأن سلطتها كأم لا تشمل تحديد ساعة استعلانه للخدمة العامة.

الرد علي بعض النظريات

- لقد حاول فيليب يانسي المزج بين الفكرتين عن طريق القول بأننا نريد إله يمكن الثقة فيه والاعتماد عليه وفي نفس الوقت يكون إله يسمح لنفسه بأن يتأثر بنا. ولكن محاولة المزج بين الفكرتين كما ادعي لا تزيدنا إلا حيرة وتشويشا ، ومسك العصا من الوسط والتوفيق بين الفكرتين بدمجهما لم ينتج إلا مفهوما مشوها عن الله.  فكيف يكون إلها يمكن الاعتماد عليه وفي نفس الوقت يسمح لنفسه بالتأثر بنا؟ أليس في هذا تناقضا؟ كيف يسمح هذا الإله بالتأثر بمخلوقات محدودة العلم لدرجة أنهم لا يعلمون نوايا قلوبهم؟ "القلب أخدع من كل شئ وهو نجيس من يعرفه" (ار 17 : 9) ، ولا يعلمون ما هو لخيرهم "لأنه من يعرف ما هو خير للإنسان في الحياة ، مدة أيام حياة باطلة التي يقضيها كظل" (ام 6 : 12) ، ولا يعلمون ما هو احتياجهم الحقيقي "يا سيد أعطني هذا الماء لكي لا أعطش ولا آتي إلي هنا لأستقي" (يو 4 : 15) ، "ولا يعلمون ما ينبغي أن يصلوا من أجله "لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا ينطق بها" (رو 8 : 26). فكيف نعتمد علي مثل هذا الإله؟

- نظرية المعرفة الوسطيةMiddle Knowledge  والتي تقول  بأن الله لا يعلم فقط المستقبل ولكنه يعلم أيضا المستقبلات (جمع مستقبل) المحتملةPossible Futures . وخلاصة هذه النظرية أن هناك أكثر من مستقبل محتمل لدي الله أو أنه يعرف كل الخطوط الزمنية Time Line ، وأنه يراعي صلواتنا ويدرسها لكي يحدد أي من هذه المستقبلات أو أي من هذه الخطوط الزمنية سيكون هو الحقيقي. وهذا هو التجديف والتخريف بعينه ، فكيف يكون إلها عليما بالمستقبل وعنده احتمالات؟ وأليس معني هذا أن معرفته بتلك الأختيارات الممكنة للمستقبل سبقت معرفته بصلواتنا ، الأمر الذي فيه تناقض ، فكيف يكون هناك أشياء تسبق أشياء أخري في معرفة الله؟ إن حقيقة علم الله بكل شئ تتنافى مع وجود أي احتمالات لديه. فإن كان الله قد وضع نظرية احتمالات فهذا معناه أنه ليس إلها عليما بالمستقبل. ألا يعلم هو طلباتنا وصلواتنا قبل أن نولد فكيف يحتاج إذا إلي احتمالات لكي يختار من بينها؟ "مخبر منذ البدء بالأخير ومنذ القديم بما لم يفعل قائلا رأيي يقوم وأفعل كل مسرتي" (اش 46 : 10).

أسئلة لمُدَّعي تغيير مشيئة الله عن طريق الصلاة

هذه بعض الأسئلة التي أود توجيهها لمن يعتقدون بأن الصلاة تغير مشيئة الله:

1- إذا كانت الصلاة تغير مشيئة الله فعلا ، فكيف يريد ويعمل الله شيئا يعرف أنه سيغيره؟ ألم يكن من الأحري به أن يصنع تلك المشيئة التي نريدها نحن من البداية إن كان في النهاية سيرضخ لطلباتنا ، حتي يوفر علي نفسه الإحراج علي الأقل؟ وإن لم يكن الله يعلم من البداية وقبل خلقه حيز الزمن ما سيفعله مع البشر في اطار حيز الزمن ، فتغييره لمشيئته لا يعني إلا أنه اقتنع بطلبتنا نحن في الصلاة أنها الأصلح ومن ثم غير مشيئته ، وبهذا فنحن نضرب بسبق علمه وحكمته عرض الحائط.

2- إذا كانت الصلاة تغير مشيئة الله ، فلماذا حرص الرب يسوع علي تعليمنا أن نصلي أن تتم مشيئة الله "فصلوا أنتم هكذا .. لتكن مشيئتك"؟ ومن الجدير بالذكر هنا أن صلاة الرب في بستان جسثيماني للآب حتي يجيز عنه كأس الصليب لم تكن إلا تعبيرا عن عمق الآلام والأحزان التي كان يجتاز فيها ويتوقعها عند الصليب. لم تكن صلاة الرب يسوع "أن أردت أن تعبر عني هذه الكأس" تعبر عن رغبة حقيقية لدي الرب في تجنب الصليب ، بل كانت بمثابة صرخة ألم لما ابتدأ يشعر به من أحزان وآلام. والدليل علي صحة هذه الكلام أن الرب يسوع المسيح لم يقدم ذاته ذبيحة علي الصليب وهو مرغم ومجبر من الله الآب ، فهو لم يجبر المسيح علي ذلك ، ولكن الإبن أقدم علي الصليب من تلقاء ذاته وطواعية "لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها ، هذه الوصية قبلتها من أبي" (يو 10 : 18) وفي آخر لحظات الرب يسوع المسيح علي الصليب "أسلم الروح" ولم تؤخذ منه ، وصلي للآب "يا أبتاه في يديك أستودع روحي". فالرب يسوع المسيح أقدم علي الصليب طواعية وطاعة للآب ، وكانا كلاهما ، الابن والآب ، في توافق تمام بخصوص موضوع الصليب "هذه الوصية قبلتها من أبي". فإذا كان الرب يسوع المسيح في صلاته "إن أردت أن تعبر عني هذه الكأس" يريد فعلا تجنب الصليب كان بإمكانه بسهولة بدون أن يصلي أن يترك الأرض ويذهب للسماء ، فلم يكن بحاجة للصلاة إن أراد فعلا تجنب الصليب ، فالرب يسوع لم يكن يطلب مشيئته هنا من الآب ثم صحح موقفه ليطلب مشيئة الآب ، وإلا فإن ذلك يعني أنه في لحظة من اللحظات لم يرد المسيح تحقيق مشيئة الآب ، الأمر الذي لا يمكن قبوله أبدا لاهوتيا وكتابيا ومنطقيا.

3- إذا كانت كل صلاة نرفعها من أجل المرضي من المفترض أن تشفيهم حسب القول "وصلاة الإيمان تشفي المريض" ، فلماذا ترك بولس تروفيمس في ميليتس مريضا (2 تي 4 : 20)؟ ولماذا اكتفي بولس بأن يوجه نصيحة لتلميذه تيموثاوس صاحب الأسقام الكثيرة؟   (1 تي 5 : 23) مع العلم بأن بولس لم يكن حتي في حاجة إلي الصلاة بل كان له سلطان من الرب بشفاء المرضي مباشرة مثلما فعل مع الرجل المقعد من بطن أمه في لسترة (أع 14 : 10)

4- إذا كان الكتاب يعلمنا أن الصلاة عملا حسنا "لأن هذا حسن ومقبول لدي مخلصنا الله" (1 تي 2 : 3) ، وإن كان الكتاب المقدس يعلمنا أيضا أننا "نحن عمله ، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها" (أف 2 : 10) ، أفلا تعتبر الصلوات بذلك أعمال صالحة قد سبق الله وأعدها؟ (رو 8 : 26 – 27) وإذا كان قد أعد الصلوات نفسها ، فهل يغير مشيئته استجابة لتلك الصلوات؟ وألا يعني أن الله سبق وأعد أعمال صالحة لكي نسلك فيها بأننا يجب أن نصلي من أجل مشيئته حتي نكون في توافق مع تلك الأعمال الصالحة التي سبق الله وأعدها لكي نسلك فيها؟ في المثال الذي استخدمته عن جون بنيان الذي صلي من أجل أن يمنحه الرب قدرة علي الصبر بطول أناة وفرح ولم يكن يعلم لماذا يصلي هذه الصلاة ولكنه اكتشف السبب لذلك عندما قضي اثنتي عشرة سنة في السجن فأدرك أن الروح القدس وضع في قلبه تلك الصلاة لأنه كان بحاجة للصبر فعلا ، ألم تكن صلاته حينئذ في توافق مع العمل الصالح الذي أعده الله له لكي يسلك فيه وهو الصبر بطول أناة وفرح؟

5- ألا يعني تغيير الله لمشيئته أنه خضع لتأثير البشر عليه ، الأمر الذي يتناقض مع المبدأ اللاهوتي القائل بأن الله لا يخضع لأي تأثيرات خارجة عنه (Impassibility)؟ فعندما يصدر الله انفعالاته العاطفية من غضب ومحبة وشفقة وحزن فهو لا يصدرها تأثرا بموقف ما ، لأنه لو حدث هذا التأثر لاضطررنا للقول بأن الله خضع لهذه المواقف التي أنتجت فيه هذه الانفعالات مما يتناقض مع كونه لا يخضع لأي تاثيرات خارجية ، إذ أن الإنسان يصدر انفعالاته بناء علي أمور خارجية تؤثر به ومن ثم تنتج فيه هذه الإنفعالات ، ولكن الله – علي عكس الإنسان –  يصدر هذه المشاعر أولا: إيجابيا وبمادرة منه بدون أن ينتظر لشئ يحركها ، ثانيا: بسلطان مطلق ودون أن يخضع لمؤثر خارجي ، ثالثا: بعلمه المسبق لها إذ أنه لم يفاجئ بها ، وبالتالي فإن القول بأن الله غير مشيئته ليعمل مشيئة البشر يقودنا للقول بأنه خضع لتأثير خارجي ، الأمر الذي من شأنه أن يقوض المبدأ القائل بعدم تأثر الذات الإلهية بما هو خارجها.  وإن طبقنا هذا المبدأ علي صلاة موسي للرب من أجل الشعب – علي سبيل المثال –  وافترضنا جدلا أن الله غير مشيئته بناء علي صلاة موسي لوصلنا حتما إلي نتيجة مفادها أن الله أخضع مشيئته لمشيئة موسي ورضخ لها وبالتالي فأنه تأثر عاطفيا بشئ خارج عنه وهو صلاة موسي وهو ما لا يستقيم مع كونه لا يتأثر بأي أمر خارج عنه لأن ذلك يتناقض ومبدأ سلطان الله المطلق في مشيئته وانفعالاته.

6- إن كانت الصلاة تغير مشيئة الله فلماذا منع يوحنا الرسول الصلاة من أجل أخ يخطئ خطية للموت؟ (1 يو 5 : 16 ، 17) بعد أن أسس يوحنا مبدأ هاما في الصلاة وهو "وهذه هي الثقة التي لنا عنده إن طلبنا شيئا حسب مشيئته يسمع لنا" يخبرنا أيضا عن مبدأ آخر في الصلاة من أجل الأخوة "إن رأي أحد أخاه يخطئ خطية ليست للموت ، يطلب ، فيعطيه حياة للذين يخطئون ليس للموت. توجد خطية للموت. ليس لأجل هذا أقول أن يُطلب. كل إثم هو خطية ، وتوجد خطية ليست للموت". معني كلام يوحنا هنا أنه عندما يصلي المؤمن من أجل أخيه ينبغي أن لا يكون هذا الأخ قد أخطئ خطية للموت ، لأنه توجد خطية للموت وخطية ليست للموت ، والذي يحدد ما هي هذه الخطية التي للموت هو سلطان الله ، لا توجد خطية للموت بعينها ، ولكن الله في سلطانه يقرر أن خطية بعينها هي للموت بناء علي ظروف معينة كعدم التوبة أو مراعاة للأثم في القلب أو من أجل الحفاظ علي قداسة ونقاوة الكنيسة. ويكون مصير هذا المؤمن الذي يخطئ خطية للموت هو الموت الجسدي ولا تنفع معه أي صلاة. ونستطيع أن نري أمثلة للخطية التي للموت في حنانيا وسفيرة اللذان كذبا علي الروح القدس فماتا تأديبا علي خطيتهما (أع 5 : 1 – 11) ، وأيضا الأخ الذي زني مع إمرأة أبيه "يسلم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع" (1 كو 5 : 5) ، وأيضا أولئك الذين كانوا يستخفون بمائدة الرب فيأكلون ويشربون بدون استحقاق فكانت النتيجة "من أجل هذا فيكم كثيرون ضعفاء ومرضي وكثيرون يرقدون" (1 كو 11 : 30).

7- إذا كان تغيير مشيئة الله عن طريق الصلاة هو المبدأ الذي ينبغي أن يحكم صلواتنا وتوجهاتنا ، فكيف إذا سنمارس فضيلة الشكر في الضيق؟ (1 تس 5 : 18) ، وكيف سنختبر قوة الله في الضعف؟(2 كو 12 : 10) وكيف إذا سنمارس فضيلة الخضوع للرب عندما يسمح بما لا يتوافق مع رغباتنا؟ وألا يعتبر ذلك تمردا علي تأديب الرب لنا في المرات التي يسمح فيها بأمور معينة لتأديبنا؟ (تث 3 : 26 ، 2 صم 12 : 1 23)

8- أليس في إصرارنا علي تغييرنا لمشيئة الله اعتراف ضمني بأن مشيئتنا أفضل من مشيئته؟ وأنه هو من يحتاج أن يسير وفقا لأفكارنا وخطتنا؟ ألا يتعارض ذلك مع الثقة في صلاحه؟

9- أليست فكرة تغيير مشيئة الله تطاولا علي سلطانه؟  ألا يعتبر من السخافة أننا نريد تغيير مشيئة الله التي فعلها بمسرته وسلطانه "قائلا رأيي يقوم وأفعل كل مسرتي" (إش 46 : 10)؟

الخلاصة

هل تغير الصلاة مشيئة الله؟ لا ولكنها تغير الأشياء بسماح من الله وفي إطار مشيئته. أليس الله أبا حنون يمنح أولاده ما يطلبوه؟ نعم هو أب حنون ولكنه أيضا ذو سلطان يمنح ما فيه خيرنا ويمنع ما لا يؤول لخيرنا أيضا ، بل ويضطر أيضا أن يؤدب أبناؤه إن تطلب الأمر. فهل معني ذلك أن لا نصلي؟ بكل تأكيد لا ، فالمؤمن الحقيقي لابد وأن يصلي ومن به الروح القدس لابد أن يعمل فيه الروح عمله الشفاعي ، بالإضافة إلي أن هناك بعض البركات المشروطة بالصلاة والتي جعلها الله في سلطانه ، ولأننا أيضا لا نعلم ما هي مشيئته فنحن إذا نحتاج للصلاة دائما. وإن كانت الصلاة التي بحسب مشيئة الله هي فقط التي تستجاب فكيف نعرف مشيئته؟ أولا عن طريق كلمة الله التي تعلن لنا أفكاره وشخصه ، وثانيا عن طريق الروح القدس الذي يشفع فينا بحسب مشيئة الله فيغرس في قلوبنا الصلاة التي بحسب مشيئته. فماذا لو كان هناك أمرا مستغلقا علينا ولم نعلم مشيئة الله بخصوصه؟ علينا إذا أن نصلي بأن تكن مشيئته. إذا كان بحسب مشيئة الله أن أُشفُي من مرض ما ولم أصل ، هل سيعطيني الله الشفاء رغم عدم صلاتي؟ أولا إذا كانت مشيئة الله لي هي الشفاء من مرض ما فسوف يضع الروح القدس الطلبة في القلب ويمدني بالمثابرة اللازمة لها حتي يستجيب لي الرب ، وثانيا إذا قاومت أنا شفاعة الروح القدس فيّ بأن أصلي من أجل الشفاء بخصوص هذا المرض فأعتقد أن الأمر متروك لسلطان الله. ولكن ما الفائدة من القول بأن الصلاة لا تغير مشيئة الله؟ إذا أدركنا أن الصلاة لا تغير مشيئة الله فهذا يساعدنا علي تكوين فكرة صحيحة عن الصلاة وعن شخص الله ، ويساعدنا أيضا أن نتصالح بسرعة مع مشيئته عندما يسمح لنا بضيق أو ألم أو احتياج غير مسدد.

إن الرغبة في تغيير مشيئة أبينا السماوي الصالحة ليست إلا ثمرة طفولتنا الروحية والكتابية ، فالطفل يبكي لأنه يريد الحصول علي شئ تمنعه عنه محبة أبيه ، أما عندما ينضج هذا الطفل وتتوافق رغباته مع رغبات أبيه لن يريد أو يرغب إلا ما يرغبه ويستحسنه أبيه. أيها القارئ الحبيب إن أبينا السماوي رأي في القديم أن ما عمله "إذ هو حسن جدا" ، وربنا يسوع المسيح في أيام جسده "عمل كل شئ حسنا" ، فلندعه إذا يعمل ما يشاء ولا نتذمر أو نتمرد علي مشيئته بل ليكن شعارنا بالصدق هو "لتكن مشيئتك".

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس