لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟


ربما تندهش صديقي القارئ إن عرفت أني لم أشرع في التأمل في هذا الأمر إلا عندما سأله صبي صغير مدفوعًا بفضوله الطفولي البرئ. ولم يشفع لي في ذلك عقليتي كإنسان كامل السن. ولعل ذلك يرجع إلى الميل لأخذ الكثير من الأمور كمسلمات وعدم التأمل فيها، الأمر الذي ينطوي على خطورة إذ يجعلنا أسرى لموروثات قد لا تكون صحيحة. أو قد يحرمنا من التأمل ومن ثم التشبع بالمعاني الجميلة الخفية وراء تلك الموروثات الصحيحة وهذا هو الحادث معنا الآن كمسيحيين، فيكون مثلنا في ذلك مثل الخصي الحبشي الذي سأله فيلبس "ألعك تفهم ما أنت تقرأ؟".

فما إن سمعت السؤال من الصبي الصغير تذكرت قول السيد "إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السموات" (مت 8 : 13) حقًا ما أحوجنا لذلك! ولكن لماذا قام الرب يسوع في اليوم الثالث تحديدًا؟ أي لماذا لم يقم في اليوم الأول أو الثاني أو الرابع أو الخامس إلخ؟

هناك بعض المحاولات القيمة لتفسير ذلك مثل أنه لو كان قد قام قبل اليوم الثالث لقال الناس أنه دخل في حالة اغماء ولم يمت فعلاً وبالتالي لم يقم. وأنه إذا قام بعد اليوم الثالث لكان في ذلك إطالة على أتباعه الذين كانوا قد بدأوا في الانفضاض من حوله فعلاً. وعلى الرغم من وجاهة هذه الأسباب ومنطقيتها وأنها قد تحوي جزءًا من الحقيقة، إلا أن عدم ورودها في الكتاب المقدس تركني في حالة من عدم الرضى فدفعني لكي أفتش صفحاته المقدسة للإجابة عن هذا السؤال. والسطور القادمة هي محاولة لفعل ذلك. لهذا قررت أن أطيع وصية السيد وأصير مثل الأطفال فاشتهيت لبن كلمة الله العديم الغش وإليك ما وجدته من دسم بين دفتيها.

لم يقم قبل اليوم الثالث حتى يثبت ناسوته الكامل

عندما سقط الإنسان في الخطية، جاءت عليه الدينونة الإلهية "بعرق وجهك تأكل خبزًا حتى تعود إلى الأرض التي أُخذت منها. لأنك تراب وإلى تراب تعود" (تك ٣ : ١٩). وفي موت الإنسان تنفصل روحه عن جسده فيعود هذا الأخير للأرض التي أُخذ منها. وإذ يعود الجسد للتراب يصير الفساد والتحلل من نصيبه. لهذا يقول أيوب "وقلت للقبر أنت أبي وللدود أنت أمي وأختي" (أي ١٧ : ١٤). ولكن لخلو الرب يسوع المسيح من الخطية، كان من المستحيل أن يرى جسده فسادًا باجتيازه في الموت الجسدي الوقتي. لأنه لم يكن خاضعًا للموت بل أخضع ذاته له. فكان لابد لجسده أن يظل في هذه الحالة النقية لتكون ذبيحته رائحة نسيم طيبة. لذلك يربط بطرس الرسول مقتبسًا نبوة المزامير بين عدم ترك المسيح في الهاوية ورؤيته فسادًا وبين قداسته "لأنك لن تترك نفسي في الهاوية ولا تدع قدوسك يري فسادًا" (أع ٢ : ٢٧).

ونستطيع أن نرى إشارة رمزية لذلك في تحريم الشريعة الموسوية لإبقاء لحم الذبيحة بعد اليوم الثالث "أما الفاضل من لحم الذبيحة في اليوم الثالث يُحرق بالنار. وإن أكل من لحم ذبيحة سلامته في اليوم الثالث لا تقبل. الذي يقربها لا تحسب له، تكون نجاسة، والنفس التي تأكل منها تحمل ذنبها" (لا ٧ : ١٧ - ١٨). لأجل هذا كان من الضروري أن يظل الرب في القبر أطول فترة ممكنة لكي يستطيع من خلال ذلك أن يقدم دليل على طهارة ناسوته وخلوه من الخطية من خلال حفظ جسده طوال هذه الفترة الطويلة نسبيًا بدون تحلل أو فساد. وإذ فعل الرب ذلك أثبت أيضًا كفايته وكفاءته أن يقدم نفسه لله ذبيحة بلا عيب وغير محدودة الفاعلية.

قيامته في اليوم الثالث إثبات لمسيانيته

إن في قيامة الرب يسوع المسيح في اليوم الثالث إتمام لواحدة من نبوات كثيرة وردت عنه في العهد القديم "وأنه دفن، وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب" (١ كو ١٥ - ٤). وعلى الرغم أن البعض حاول التشكيك – بحسن نية – في نبوات العهد القديم عن قيامة المسيح في اليوم الثالث بقولهم أن التعبير "حسب الكتب" يعود علي القيامة وليس علي اليوم الثالث، وذلك بسبب عدم ورود نبوة صريحة مباشرة عن قيامة المسيح من الموت في اليوم الثالث، إلا أننا لا نستطيع أن نغفل قول الكتاب الصريح "وقال لهم: هكذا هو مكتوب وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث" (لو ٢٤ : ٤٦). راجع أيضًا (مر ١٠ : ٣٤). ناهيك عن تشبيه الرب لقيامته بخروج يونان من جوف الحوت بعد ثلاثة ايام وثلاثة ليال "لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاثة ليال، هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاثة ليال" (مت ١٢ : ٤٠). إذ نرى في ذلك الرب يستخدم نبوة رمزية من بين نبوات رمزية كثيرة وردت في العهد القديم تختص بقيامته في اليوم الثالث. وهكذا يؤسس لمنهجية أن الرموز في العهد القديم يمكن أن تعمل أيضًا كنبوات. أو بالحري رموز نبوية.

ونذكر علي سبيل المثال من هذه النبوات خروج الأرض في اليوم الثالث للخليقة من تحت المياة التي كانت مدفونة فيها وظهور الحياة بكل أشكالها فوقها بعد ذلك (تك ١ : ٩ - ١٣). وفي نزول اسحق حيًا من على الجبل في اليوم الثالث (تك ٢٢). وفي قصة يوسف يرد ذكر اليوم الثالث أيضًا "ثم قال لهم يوسف في اليوم الثالث: افعلوا هذا واحيوا. أنا خائف الله" (تك ٤٢ : ١٨). ونقرأ أيضًا عن اليوم الثالث في طلب موسى من فرعون أن يطلق الشعب فيذهبوا مسيرة ثلاثة أيام وراء البحر "نذهب سفر ثلاثة أيام في البرية ونذبح للرب إلهنا كما يقول لنا" (خر ٨ : ٢٧). ثم بعد ذلك يخبرنا عن مسيرهم في البرية لمدة ثلاثة أيام بلا ماء إلى أن وصلوا إلي مارة فحول الرب مرارتها إلي عذوبة بالشجرة التي طرحت فيها (خر ١٥ : ٢٢ - ٢٥). وعندما كانوا سائرون في البرية سار تابوت الرب أمامهم مسيرة ثلاثة أيام ليلتمس لهم منزلاً (عد ١٠ : ٣٣).

أيضًا في قول عزرا بخصوص عودة المسبيين من بابل "فجمعتهم إلى النهر الجاري إلى أهوا، ونزلنا هناك ثلاثة أيام" (عز ٨ : ١٥). وأخيرًا وليس آخرًا، يرد التعبير في قوله عن تعاملات الرب مع إسرائيل "يحيينا بعد يومين. في اليوم الثالث يقيمنا فنحيا أمامه" (هو ٦ : ٢). وفي إتمام الرب لهذه النبوات الكثيرة ذات المضمون الرمزي الواحد والذي هو الخلاص، أو الإنتقال من حالة (الموت) إلى أخرى (القيامة)، برهان عظيم على كونه المسيا الذي تمت واكتملت فيه كل النبوات القديمة في جميع الكتب (لو ٢٤ : ٢٧). لهذا كان من الضروري أن يقم الرب يسوع من بين الأموات في اليوم الثالث حتى يبرهن علي إرساليته ومسحته من الآب السماوي.

لم يقم بعد اليوم الثالث ليثبت ألوهيته

من المعروف أن الرب يسوع المسيح أسلم روحه ولم تؤخذ منه مثل البشر الخطاة أبناء آدم الساقط. لهذا يقول الرب يسوع "ليس أحد يأخذها مني بل أنا أضعها من ذاتي. لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضًا. هذه الوصية قبلتها من أبي" (يو ١٠ : ١٨). ورغم مكوث الرب معلقًا على الصليب لساعات عديدة، إلا أنه ظل أقوى من هذا الأخير. فلم يستطع أن ينهكه جسديًا بل بقي مرفوع الرأس حتى حانت اللحظة التي ينطلق فيها لذلك نقرأ عنه أنه "نكس الرأس" (يو ١٩ : ٣٠). وليس ذلك فقط بل أنه استودع روحه الطاهرة بين يدي الآب "يا أبتاه في يديك استودع روحي. ولما قال هذا أسلم الروح" (لو ٢٣ : ٤٦). وهكذا فإن الرب يسوع المسيح لم يفقد سلطانه على روحه أو على جسده في أي لحظة من اللحظات.

وحتى بعد موته، الذي تم بإنفصال روحه عن جسده، نراه يتمم نبوة قيامته في اليوم الثالث التي تكلم عنها بولس "وأنه دُفن، أنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب" (١ كو ١٥ : ٤) ليثبت لنا أنه لازال صاحب السلطان المطلق. فإن ربطنا سلطان الرب على جسده وروحه ونبوة قيامته في اليوم الثالث بقول بطرس "إذ لم يكن ممكنًا أن يُمسك منه" (أع ٢ : ٢٤) لتبين لنا أنه في الوقت الذي أراد الرب أن يقوم فيه ليتمم الكتب لم يستطع الموت أن يهزمه أو يمسكه أو يعطله. أي أن إتمامه لنبوة قيامته في اليوم الثالث يظهر حقًا سلطانه على الموت الذي لم يكن ممكنًا أن يمسك منه. وفي قول الرب يسوع أيضًا "انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه" (يو ٢ : ١٩) دليل آخر على أنه هو من أقام نفسه بذلك السلطان الإلهي على الموت الذي لم يكن ممكنًا أن يحجزه أو يؤخره. بل استطاع الرب أن يتمم الخطة الإلهية والنبوات القديمة التي اقتضت أن تتم قيامته في اليوم الثالث. وبإظهار الرب سلطانه المطلق على الموت أكد لنا حقيقة لاهوته وكونه الله الظاهر في الجسد. وبناء على ذلك تصير لذبيحته فعاليات وتأثيرات غير محدودة مؤسسة على ألوهيته اللامحدودة.

كما قول بطرس الرسول "إذ لم يكن ممكنًا أن يمسك منه" يرينا حقيقة لاهوته المفعم بالقوة والذي لم يستطع أن يبقيه الموت بين أوجاعه أكثر من ذلك. إذ أن خضوعه للموت كان استثنائيًا. وبالتالي فإنه لاق بذاك الذي أخضع للموت نفسه، أن تبتلع قوة قيامته هذا الموت وتحيله إلي حياة قيامة مجيدة. فإن كان عليه أن يبقى ثلاثة أيام في القبر لكي يُظْهِر أنه مع طول المدة ظل جسده بدون فساد، وذلك لكي يثبت حقيقة ناسوته الكامل الطاهر، إلا أنه لم يكن ممكنًا أن يظل في القبر أكثر من ذلك لأن القبر ليس له أحقية أو سلطان عليه. وكما لفظ الحوت يونان في اليوم الثالث – الذي طلب من النوتية إلقاءه في الماء – ولم يستطع احتماله بحسب أمر الرب له (يونان ٢ : ١٠)، هكذا فإن الموت لم يستطع أن يحتمل قوة ربنا يسوع المسيح الذي شاء وتنازل ووضع نفسه حتى الموت، موت الصليب.

آه أيها الموت السمج الصفيق كيف سولت لك نفسك أن تقبل حياة ذاك الذي أسلمها على الصليب؟ ألم تعلم أنه هو الذي قال أن يشرق نور من ظلمة في البدء؟ وأنه ذاك الذي يدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة؟ ألم يبدو لك منظره مألوفًا وهو الذي استرد منك حياة لعازر وإبن أرملة نايين قبل وقت قليل عندما أتاك ليخضع نفسه لك؟ نعم، لم يكن لك عليه سلطان البتة لو لم تكن قد أعطيت من فوق! آه وعندما سنحت لك الفرصة أن ينطلق الذي كان ميتًا وعاش لم تترد أن تطلق القدوس البار الذي كان موته شذوذًا عن القاعدة.

فمجدًا لإسمه القدوس إلي الأبد. آمين ثم آمين.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس