لعنة النبي إليشع للصبيان قسوة إنسانية أم دينونة إلهية؟؟
ثُمَّ
صَعِدَ مِنْ هُنَاكَ إِلَى بَيْتِ إِيلَ. وَفِيمَا هُوَ صَاعِدٌ فِي الطَّرِيقِ
إِذَا بِصِبْيَانٍ صِغَارٍ خَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ وَسَخِرُوا مِنْهُ
وَقَالُوا لَهُ: [اصْعَدْ يَا أَقْرَعُ! اصْعَدْ يَا أَقْرَعُ!] فَالْتَفَتَ إِلَى
وَرَائِهِ وَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ بِاسْمِ الرَّبِّ. فَخَرَجَتْ
دُبَّتَانِ مِنَ الْوَعْرِ وَافْتَرَسَتَا مِنْهُمُ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ
وَلَداً. (2 مل 2 : 23 – 24)
لاشك
أن القراءة السطحية للنص الكتابي أعلاه يمكنها أن تثير في
أذهاننا الكثير من الأسئلة بل وربما نجد البعض مدفعوعين بالجهل يوجهون اصبع
الإتهام إلي النبي وإلي الشك في صلاح الرب. ولكننا نلتمس العذر لكل من يقفون موقف
المهامجم من كلمة الله بسبب الصعوبة التي ربما تكتنف بعض أجزاءها. ونحن هنا نعترف
أن رد فعل النبي قد يبدو قاسيا من الوهلة الأولي ، لكننا لو أمعنا النظر في النص
قليلا لزالت الصعوبة من أمامنا. ولنلخص بداية ما حدث مع إليشع ، فقد كان سائرا في
طريقه من أريحا إلي بيت إيل وأثناء مسيره أعترضته مجموعة من الصبيان (حسب تعبير
الكتاب المقدس) وسخروا منه قائلين "اصعد يا أقرع! اصعد يا أقرع" وبعد أن
لعنهم إليشع بإسم الرب ، خرجت دبتان من الوعر وافترستا منهم اثنين وأربعين ولدا.
وقبل
أن نشرح ما يقوله النص دعونا نشرح أولا ما لم يقله. قد يفهم البعض خطأ أن إليشع
أمر الدبتان لتخرجا من الوعر لإفتراس هؤلاء الشباب ، ولكن الحقيقة هو أن إليشع
لعنهم بإسم الرب فقط ، والرب هو الذي اختار أن يوقع عليهم دينونة الموت هذه وبتلك الطريقة.
وتزامن هذه الاحداث قد لا يعني بالضرورة أن ما حدث كان سببه الوحيد والمباشر هو الإنتقام
لكرامة إيلشع – مع أن هذا وارد طبعا كما حدث مع موسي (سفر العدد 12) – ولكن ليس
هناك ما يدعو للجزم بأن هلاك هؤلاء الصبيان كان سببه الوحيد هو النقمة لإيلشع ،
لأنه في كثير من المناسبات ما تخدم تعاملات الله أغراض كثيرة في نفس الوقت. فكما أن
هلاك الأمم الكنعانية كان سببه المباشر هو تمكين الشعب من الأرض الموعودة كان سببه
الغير مباشر أيضا هو إثمهم وشرهم (تك 15 : 16). فلعل هؤلاء الوثنيون كانوا يستحقون
دينونة الله حتي من قبل سخريتهم لنبيه الذي قد ابتدأ لتوه خدمته الجديدة ، فكان
شرهم هذا بمثابة كأس دينونتهم التي فاضت. وأخيرا فربما يكون هناك بعض التفاصيل
الأخري التي لم يقلها النص أيضا مثل أنه ما أدراك أن هؤلاء الصبيان لم يهاجموا
بيوت الدبتان أو صغارهم؟ فإن لم يشفق هؤلاء الوثنيون علي رجل الله الأكبر منهم سنا
فلا نتوقع أن يكونوا قد أشفقوا علي الحيوانات أيضا ، ولعل ذلك يفسر لماذا هما
أنثتان وليستا ذكران ، راجع (2 صم 17 : 8).
ينقسم
المفسرون لتفسير هذا النص إلي قسمين: القسم الأول يعتقد أن هؤلاء الصبيان الصغار
كانوا صغارا فعلا ولكنهم كانوا بصحبة ذويهم ، والقسم الثاني يري أن هؤلاء الصبيان
الصغار لم يكونوا صغارا كما يتبادر إلي الذهن بل كانوا شبان عاقلين. ونحن نميل إلي
الأخذ بالتفسير الثاني ، وذلك لأنه لو سلمنا أن هؤلاء الصبيان الصغار ليسوا إلا
أطفال فإما أن يكون هؤلاء الأطفال قد خرجوا من المدينة بدون قيادة وهذا غير وارد
الحدوث لأن والديهم لن يسمحوا لهم بذلك ثم أنهم ربما لا يكونوا قد ألفوا الطريق
التي تؤدي إلي الخروج من المدينة التي ربما كان لها أبوابا وحراسا ، أو أما أن
يكون بصحبة هؤلاء الأطفال الصغار ذويهم ، وهذا أيضا من الصعب الأخذ به لأنه لماذا
يعرض الأهل أطفالهم لمخاطر اللصوص والحيوانات المفترسة خارج المدينة وما المعني من
توريطهم في مثل هذه المواجهات والمهاترات؟ لذا نميل للأخذ بالرأي الثاني وسنشرح
ذلك بأكثر تفصيل.
تعبير
"صبيان صغار" قد لا يعني بالضرورة أطفال كما توحي لنا الكلمة. يقول آدم
كلارك في تفسيره أن هذا التعبير "صبيان صغار" قد يعني "شباب"
. وكلمة "صغار" استخدمت في النص الأصلي للإشارة إلي الصغار سنا مقابلة
بالشيوخ. أما كلمة "صبيان" فقد استخدمت ليس فقط لتعني "أطفال"
ولكن أيضا للإشارة إلي العبيد والجنود القادرين علي الذهاب إلي الحرب ، ونظرة
سريعة علي بعض الأمثلة التي ذكرت فيها هذه الكلمة (صبي) في الكتاب المقدس تحسم
الأمر: وردت في (تك 21 : 5 – 12) عن اسحق عندما كان في سنة الثامنة والعشرين ، وفي (تك 41 : 12) عن يوسف عندما كان في سن التاسعة والثلاثين ، ضف إلي ذلك أيضا ما ورد
في (1 مل 20 : 14) "فقال آخاب: بمن؟ فقال: هكذا قال الرب: بغلمان رؤساء
المقاطعات. فقال: من يبتدأ بالحرب؟ فقال: أنت" ، وغلمان تعني هنا
"الشباب" ، ومن المحتمل أن هؤلاء الشباب كانوا فرقة عسكرية مختصة بحماية
آخاب نفسه ، مما يجعلنا نقول أن هؤلاء الأشخاص الذين سخروا من إيليشع مسؤولون عن
تصرفهم . ويقول أيضا جون جيل في شرحه لهذا النص أن كلمة "صغار" كانت
تستخدم لمن هم في سن الثلاثين أو الأربعين ، وهذا أيضا يفسر كيف يمكن أن يخرج
"صبيان" خارج المدينة ، إذ أن الاطفال لن يتركهم ذويهم هكذا ليخجروا
خارج المدينة حيث اللصوص والوحوش الضارية ، ويقتبس جون جيل من الكتاب اليهود
قائلا: أن بعضهم – أي الكتاب اليهود – يري أن الكتاب المقدس وصفهم بـ
"صبيان" لأنهم تمردوا علي الوصية الكتابية أو عن نير طاعة الوصية
فاصبحوا بذلك قصر روحيا ، ووصف "صغار" بسبب صغر أو قلة إيمانهم.
وبعد
أن رأينا أن التفسير الأقرب إلي الصحة هو أن هؤلاء الصبيان الصغار كانوا شبابا
عقلاء يعرفون الطريق للدخول والخروج من المدينة ، دعونا نحاول أن نفهم أيضا لماذا
تصرف هؤلاء الشباب هكذا. كان إيلشع في طريقه إلي مدرسة الأنبياء الأخري في بيت إيل
ليخبرهم بصعود إيليا ، فقد كان الأنبياء يذهبون إلي المدن الوثنية التي ليس فيها
ذكرا للرب حتي يكونوا هناك شهادة ويتكلموا بكلمة النبوة التي أرسلوا بها من الله.
وكانت بيت إيل في ذلك الوقت مركزا للعبادة الوثنية ، فقد كان
بها واحدا من العجلين الذهبيين ليربعام (1 مل 12 : 25 - 33) الأمر الذي يجعلنا نعتقد بنسبة كبيرة أنهم كانوا وثنيون
غارقون في وثنيتهم. ويبدو أنه عند سماعهم بقدوم إليشع قرروا أن يخرجوا ليقاوموه
كما نفهم من تعبير الكتاب "خرجوا من المدينة" ، فهو لم يقل أنهم كانوا
خارجين صدفة أو أنهم كانوا في طريقهم إلي مدينة أخري أو كانوا بصدد مهمة معينة
خارج المدينة ، ولكنهم سمعوا بقدوم إليشع إلي بيت إيل فقرروا الخروج للسخرية منه
ومقاومته حتي لا يأتي إلي بيت إيل ويوبخهم علي شرورهم ووثنيتهم ، وكما يري البعض
أن السخرية من أنبياء الرب ومقاومتهم بهذه الطريقة لربما كانت أمرا شائعا في تلك
الأيام. ثم أن تكرراهم للقول "اصعد يا أقرع" يبرهن علي تعنتهم وإصرارهم
علي إهانة النبي وعمل الرب ، فالكتاب يخبرنا أن النبي إلتفت إلي وراءه مما يدل علي
أنهم كانوا يتبعونه من الخلف خصيصا ، ولعله أيضا التفت لهم أكثر من مرة حتي يثنيهم
عن تلك السخرية ولكن علي ما يبدو أن لم يكن بهؤلاء الصبيان أية أخلاق أو حتي حمرة
الخجل.
ولم
تكن سخرية هؤلاء الصبيان الصغار موجهة إلي شخص إليشع فقط ، ولكنها كانت موجهة أيضا
إلي الرب الذي كان إليشع نبيه ورسوله. لذلك نجدهم يستهزئون به وبإيليا وبعمل الرب
أيضا في تلك الكلمات القليلة التي قالوها "اصعد يا أقرع" ، إذ أن الصعود
هنا لا يعني الصعود من حيث جاء ، إلي أريحا ، ولكن يعني الصعود إلي السماء مثل
إيليا معلمه ، فهم يشككون ويسخرون من عمل الرب ، وكأنهم يقولون له لماذا لم تصعد
أنت مثل إيليا إلي السماء؟ ليتك تصعد أنت أيضا مثله فنسترح منك. فلم تكن كلمات
السخرية هذه زلة لسان منهم بل كانت مقصودة ومتعنته ومتكررة بهدف السخرية والمقاومة
لعمل الله ونبيه إيليشع.
وربما
يثير هذا في ذهنك تساؤلا عزيزي القارئ ، وهو ما الذي يضمن لنا أن إيليشع لم يكن
محمولا من رغبة انتقامية داخله دفعته لتوجيه هذه اللعنة لهؤلاء الصبيان؟ قد لا
يبدو أن إليشع كان منقادا بروح الله عندما وجه هذه اللعنة كرد علي إهانته والسخرية
منه ، إلا أنه بكل تأكيد كان تحت قيادة الروح القدس لهذا ليس من الغريب أن نراه
يلعنهم بإسم الرب وإلا لما كان رد فعل السماء موافقا لما صدر منه هكذا. فلم تكن
هذه اللعنة إذا قسوة إنسانية مدفوعة برغبة إنتقامية من نبي الرب وإنصاعت له فيها الإرادة الإلهية ، ولكنها كانت دينونة إلهية عادلة ضد عبدة الأوثان
هؤلاء الذين أرادوا مقاومة الله عن طريق السخرية من نبيه.
تعليقات
إرسال تعليق