عقيدة الاستحالة لدى الطقسيين والمحاولات الحديثة لتحريرها من أرسطو



تاريخيًا فهم الطقسيون، سواء كاثوليك روما أو الأقباط الأرثوذكس، حدوث الاستحالة من خلال مفاهيم أرسطية عن الجوهر والعرض. وبدون التمييز الذي ميزه أرسطو بين جوهر المادة وصفاتها الخارجية (العرض) لا يمكن شرح عقيدة الاستحالة شرحًا متسقًا أو ذو معنى. لهذا ظهرتا محاولتان حديثتان لتحرير عقيدة الإستحالة من اعتمادها الشديد على الفكر الأرسطي (العلماني). أدرك كل من سكالابايكس الكاثوليكي وبباوي الأرثوذكسي تلك الاعتمادية الشديدة لعقيدة الاستحالة (غير الكتابية) على المفاهيم الأرسطية فاقترحا صيغتين جديدتين للتعبير عنها. 

لكي يفسر الكاثوليك كيف تحدث معجزة استحالة Transubstantiation الخمر إلى دم والخبز إلى جسد في طقوس قداسهم اضطروا إلي استعارة نظرية أرسطو الفلسفية للجوهر Theory of Substance . وخلاصة النظرية هو أن للشئ جوهر وعرض. فبينما الجوهر ثابت وغير متغير، أي في حالة من الكينونة، فإن العرض متغير ودائمًا في حالة من الصيرورة. وهذا الجوهر Substance هو ما لا يتغير في الفرد بل يحفظ كينونته ويبقيها، والمادة هي تلك الصفات الخارجية المتغيرة المدركة بالحواس الخمس Accidencs . والجوهر والصفات الخارجية لمادته شيئًا واحدًا لا ينفصل إلا في حالة حدوث معجزة. 

قياسًا علي ذلك يرى الكاثوليك أن ما يحدث في تحول كل من الخمر والخبر إلى دم وجسد الرب يسوع المسيح هو تغير جوهو الخبز والخمر إلي جوهر الرب يسوع المسيح من جسد ودم. وهذا يتطلب حدوث معجزة مزدوجة لأن التحول يحدث علي مستويين. الأول هو تحول جوهر الخبز والخمر إلي جوهر الجسد والدم بدون أن يأخذ الخبز والخمر المظاهر الخارجية المدركة بالحواس لكل من الجسد والدم. والثاني هو أن الصفات الخارجية الملموسة لكل من الخبز والخمر (كالملمس واللون والرائحة والصلابة والسيولة والطعم) بقيت كما هي حتي بعد تغير جوهرهما إلى جسد ودم. وبالتالي فلدينا إذًا جوهر شئ بدون صفاته الخارجية المدركة بالحواس، والصفات الخارجية المدركة بالحواس لشئ آخر ولكن بدون أن يكون جوهره موجودًا. معجزتان! 

ولكن لابد أن تشهد الحواس عن حدوث المعجزة. فعندما حول الرب يسوع المسيح الماء إلي خمر في قانا الجليل وذاق رئيس المتكأ ذلك أقر بأنها خمرًا جيدة، وهو بلا شك اشتم رائحتها ورأي لونها وأخيرًا تذوق طعهما، ومن ثم شهد بأنها خمرًا حقيقية من النوع الجيد. ولعل السبب في كون ما يدعيه الكاثوليك منافيًا للعقل جعلهم يلجأون إلى تبرير ذلك بالقول أنها معجزة مزدوجة حيث أن لديك جوهر شئ بدون أعراضه، وأعراض شئ آخر بدون جوهره. ولكن، لو راجعت أرسطو في هذا الأمر لأكد لك أنه لا يمكن أن يحدث لأن المعرفة بعالم الموجودات التي حولنا عند قدماء الفلاسفة الإغريق لا تتأتى إلا من خلال الحواس. 

السبب في لجوء الكاثوليك إلى تبني نظرية الجوهر لأرسطو هنا هو عدم وجود ما يؤيد وجهة نظرهم من الناحية الكتابية. الأمر الذي دفع أحد رجال اللاهوت الكاثوليك وهو إدوارد سكلابايكس Edward Schillebeeckx إلى محاولة تحرير عقيدة الإستحالة الكاثوليكية من الإعتماد على فلسفة أرسطو في تفسيرها، وذلك بحجة الرغبة في فهم العقيدة في ضوء فلسفة جديدة لطبيعة الواقع أكثر تمشيًا مع الفيزياء الحديثة. وذلك عن طريق القول بأن الإستحالة التي حدثت هي على مستوى المعنى أو القيمة أو الأهمية فقط Transignification. أي أنها ليست استحالة على مستوي الجوهر. وبالتالي فطقس القداس لا يحيل جوهر الخبز والخمر إلى جسد ودم حقيقيان ولكنه يحيل قيمتهما من مجرد أطعمة عادية إلى عناصر لها قيمة جسد المسيح ودمه. الأمر الذي يعد انكارًا صريحًا لعقيدة الإستحالة الجوهرية الكاثوليكية مما دعى (البابا) بولس السادس إلى شجب هذا التعليم الجديد في مرسومه Mysterium Fedei عام 1965 الذي أكد فيه أن الكنيسة لا تلتزم فقط بمضمون العقيدة بل أيضًا بطريقة صياغتهًا. 

وإن كان المذهب الكلاسيكي للاستحالة قد تطرف في جعل الخبز والخمر يتحولان إلى جوهر جسد المسيح فإن الاستحالة المعنوية الحديثة غالت في رأيها من ناحية أخرى عندما اختزلت حضور المسيح إلى مجرد معنى أو قيمة فرائضية تصاحب عمل الفريضة للدرجة التي جعلت لا لزوم إطلاقًا لمعجزة أو استحالة أو أي شئ من هذا القبيل. إن ما قاله سكالابايكس أشبه بالقول أن الخبز والخمر مجرد رموز لأمورًا أخرى أسمى منهما. أي أنه اطاحة بتعليم الاستحالة.

لدى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية نرى محاولة مشابهة لذلك قام بها الدكتور جورج بباوي في رده على مقال كتبه الدكتور موريس تاوضروس في مجلة الكرازة العدد 27 – 28 – 4 يوليو 2014. حيث اقترح الأول الاستحالة السرية عوضًا عن الإستحالة الجوهرية التي ينادي بها الأخير ممثلاً الموقف الرسمي للكنيسة القبطية الأرثوذكسية. 

أراد بباوي بدوره تحرير العقيدة القبطية الأرثوذكسية من اعتمادها على الفكر الأرسطي العلماني بالقول أن الإستحالة سرية وليست جوهرية. والاستحالة السرية لدى بباوي تعني "نَقْل الخبز والخمر إلى جسد الرب ودمه بالروح القدس". ولم يوضح بباوي ما الذي يقصده بالضط من ذلك، لا في رده على تاوضروس عام 2014 ولا فيما كتبه في 2016 بعنوان "مرة أخرى،،، الاستحالة السرية والاستحالة الجوهرية". لكن على ما يبدو لي أنه يريد القول أن الخبز والخمر يُنقلان إلى جسد الرب ودمه في السماء ويصبحان جزءً منه. وهذا يدعونا للتساؤل، هل معنى ذلك أن جسد المسيح يتمدد أو يزداد أو يكتسب مادة جديدة؟ وأرى أن بباوي لم ينجح في تجنب فكرة الاستحالة كليًا كما نجح سكالابايكس (على الرغم أنه أراد فقط تحريرها من أرسطو). لأنه، بناء على نظرية بباوي، يثور سؤال، أليس هذا النقل للخبز والخمر إلى جسد الرب يعني تحول في طبيعتيهما؟ يبدو لي أن هذا هو المعنى الوحيد لنقل الخبز والخمر بالروح القدس إلى جسد الرب ودمه!

فضلاً عن أن تفسير عقيدة الاستحالة من خلال الفكر الأرسطي يعني أنها تستلزم حدوث معجزتين، كما رأينا، الأمر الذي يتنافى مع الحس العام والمنطق، فإن ذلك الاعتماد على الفكر العلماني، اضطر بعض رجال الكنيسة الطقسية مثل سكالابايكس وبباوي للعمل على تحريرها من ذلك الاعتماد. مما لا شك فيه أن استخدام الفكر الأرسطى لدعم عقيدة الاستحالة، والمحاولات الحديثة للتنصل منه مع الحفاظ على تلك العقيدة، تدل جميعًا على أنها غير مؤسسة على فكر كتابي. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

سلطان الحل والربط في ضوء الكتاب المقدس