تفنيد الاعتراضات على البدلية العقابية (٢)
البدلية العقابية والعلاقة بين الآب والابن
هذا الاعتراض يركز على العلاقات الأقنومية في الثالوث وطريقة تعامل البدلية العقابية معها. وهو يُصاغ بصور مختلفة بحيث أنه تُلام البدلية العقابية على أنها تشوه أو تطعن في العلاقات الأقنومية للثالوث. من بين ما يُقال مثلاً:
– البدلية العقابية هي تعسف أبوي ضد الابن Cosmic child abuse كما يدعي اللاهوتي ستيف تشاك. أو لماذا يخطئ الإنسان ويُعاقب الابن من الآب على خطايا لم يرتكبها؟
– البدلية العقابية تجعل الآب الذي يحب الابن منذ الازل غاضبًا منه.
– البدلية العقابية تجعل الآب غاضبًا تجاه الخطاة والابن محبًا تجاههم. أي لدينا ابن محب أراد أن يقف بين آب غاضب وخطاة يغضبونه.
في الحقيقة ليس أن البدلية العقابية هي التي تشوه العلاقات الأقنومية الثالوثية، بل ناقدي البدلية العقابية هم الذين يشوهونها من خلال رسم صورة غير صحيحة عنها بصفة جوهرية (مغالطة رجل القش). لهذا لا تجد ناقدو البدلية العقابية يقتبسون من كتابات أو أقوال ممن يعلمون بها لكي يثبتوا كيف يحدث هذا التشويه للعلاقات الثالوثية. إنهم يدعون أن البدلية العقابية تشوه الفكر الثالوثي دون أن يقدموا دليل واحد على ما يقولون. ذلك لأنهم يهاجمون خيالاً أو رجلاً من القش لا وجود له.
سيكون منهجي في الرد على هذا الاعتراض كالآتي: أولاً، الفكر البروتستانتي الثالوثي يعلم بوحدة في الجوهر والإرادة وهذا الفكر لا يسمح بتقسيم أو تشويه العلاقات الثالوثية. ثانيًا، البدلية العقابية لا تشوه العلاقات الثالوثية. ثالثًا، البدلية العقابية وحدها التي تستطيع استيعاب العلاقات الثالوثية في كونها عمل ثالوثي واحد متناغم.
يؤكد المنهج المصلح بما لا يدع مجالاً للشك على الحق النيقاوي القسطنطيني بأن الله ثلاث أقانيم في جوهر واحد ولهم إرادة واحدة ويعملون عملاً واحدًا. لهذا لا تجد أي بروتستانتي مصلح يعلّم بأي بصيغة من البدلية العقابية تخالف هذا الفكر. وإن وُجد مثل هذا التعليم فهو بكل تأكيد لا يتفق والفكر البروتستانتي المصلح المؤسس على الفكر الثالوثي الكتابي طبقًا لصياغته النيقاوية القسطنطينية.
تقول إقرارات الإيمان المصلحة عن وحدة الجوهر والإرادة الإلهيين:
"نؤمن بإله واحد وحيد، هو واحد في الجوهر، وفيه ثلاثة أقانيم متمايزون تمايزًا فعليًّا، وحقيقيًّا، وسرمديًّا، بحسب خصائصهم غير القابلة للمشاركة؛ وهم: الآب، والابن، والروح القدس ... لكن، هذا التمايز لا يجعل الله منقسمًا إلى ثلاثة ... ولكن هذه الأقانيم المتمايزة بهذا الشكل غير منقسمة أو ممتزجة؛ فإن الآب لم يتَّخذ جسدًا، ولا الروح القدس أيضًا، بل الابن وحده ... ثلاثتهم جميعًا سرمديون معًا، وواحدٌ في الجوهر. ليس فيهم مَنْ هو أول أو أخير؛ لأن ثلاثتهم جميعًا واحد في الحق، والسلطان، والصلاح، والرحمة" (إقرار الإيمان البلجيكي ١٥٥٩)
"في وحدانيّة اللاهوت توجد ثلاثة أقانيم، من جوهر واحد، وقدرة واحدة، وسرمديّة واحدة: الله الآب، والله الابن، والله الروح القدس" (إقرار إيمان ويستمينستر ١٦٤٦)
"هذا الكائن الإلهي اللامتناهي يوجد في ثلاث أقانيم حقيقيين، الآب، والكلمة أو الابن، والروح القدس. هؤلاء الثلاثة لهم نفس الجوهر والقوة والأزلية، ولكل منهم الجوهر الإلهي الكامل دون تقسيم لهذا الجوهر ... الثلاثة جميعهم لانهائيون ولا بداية لهم وبالتالي هم فقط إله واحد، لا ينبغي تقسيمه في الطبيعة والأزلية" (إقرار الإيمان المعمداني ١٦٨٩).
ومن حيث التناغم الثالوثي ووحدة العمل الناتجان عن وحدة الجوهر والإرادة تقول إقرارات الإيمان:
"نؤمن بأن الله، كليَّ الرحمة والعدل، قد أرسل ابنه ليتَّخذ تلك الطبيعة التي اُرتُكِبَ فيها العصيان، حتى يصنع كفارة في هذه الطبيعة نفسها ويحمل عقوبة الخطية من خلال آلامه المريرة وموته. ومن ثَمَّ أظهر الله عدله ضد ابنه حين وضع آثامنا عليه وسكب رحمته وصلاحه علينا، نحن الذين كنَّا مذنبين ومستحقين اللعنة، بدافع محبة خالصة وتامة، باذلاً ابنه للموت من أجلنا ومقيمًا إيَّاه لأجل تبريرنا، حتى ننال من خلاله الخلود والحياة الأبدية" (إقرار الإيمان البلجيكي)
"تلك الوظيفة (وساطة الرب يسوع) التي لم يأخذها لنفسه، ولكن دُعي إليها من أبيه، الذي وضع كل القوة والدينونة في يده، وأعطاه وصية أن ينفّذ الأمر ذاته ... هذه الوظيفة قد قبلها الرب يسوع بطواعيّة شديدة؛ والتي لكي يؤديها، وُلد تحت الناموس، وقد تممها على نحوٍ كاملٍ؛ وقد احتمل اشد العذابات المريرة مباشرة في نفسه، وأقسى الآلام المُبرحة في جسده؛ فقد صُلب، ومات، ودُفن، وبقي تحت سلطان الموت، لكنه لم يرى فسادًا. في اليوم الثالث قام من الأموات، بنفس الجسد الذي تألم به، والذي به أيضًا صعد إلى السماء، وهناك يجلس عن يمين أبيه، صانعًا الشفاعة" (إقرارا إيمان ويستمينستر والمعمداني)
"إن الرب يسوع، بواسطة طاعته الكاملة، وذبيحة نفسه، الذي، بروح أزلي، قدمها لله مرة، قد أرضى تمامًا عدل أبيه؛ واشترى، ليس فقط المصالحة، بل ميراثًا أبديًا في ملكوت السماوات، لأجل كل الذين قد أعطاهم له الآب" (إقرارا إيمان ويستمينستر والمعمداني)
هذا العمل الثالوثي الواحد يجد أساسه في العهد الأزلي بين الآب والابن لفداء المختارين:
"تم الإعلان عن هذا العهد في الإنجيل. لقد أُعلن أولاً لآدم في الوعد بالخلاص من خلال نسل المرأة. بعد ذلك، أُعْلِنَ عنه خطوة بخطوة حتى استعلانه بالكامل في العهد الجديد. هذا العهد مؤسس على تدبير العهد الأبدي بين الآب والابن بخصوص فداء المختارين" (إقرار الإيمان المعمداني ١٦٨٩)
كما هو واضح من الاقتباسات أعلاه فإن اعترافات الإيمان تؤكد على وحدة الجوهر والإرادة والعمل لأقانيم الثالوث. فالآب والابن لا يعملان ضد أحدهما الآخر بل معًا؛ عملاً عهديًا واحدًا بإرادة واحدة. أحد أول جوانب هذا العمل الواحد هو أن الآب والابن كلاهما ضحيا من أجل الإنسان؛ فالآب بذل ابنه الوحيد (مر ١٢ : ٦، يو ٣ : ١٦، رو ٣ : ٢٥، ٨ : ٣٢) والابن بذل نفسه (مت ٢٠ : ٢٨، يو ٦ : ٥١، أف ٥ : ٢ ، ٢٥، تي ٢ : ١٤). صحيح أن الآب لم يتخذ جسدًا، بل الابن وحده هو الذي فعل ذلك، إلا أن الآب تكبد ألمًا فادحًا ببذل ابنه. والابن بذل نفسه باتضاعه واتخاذه جسدًا؛ إذ وُلد تحت الناموس وأطاعه ثم مات أيضًا طاعة لحكم الناموس في الخطاة الفجار في كونه بديلاً عنهم. إن هذا البذل من طرف الآب والابن، الآب بتقديمه للابن، والابن بتقديمه لنفسه في الجسد، عَمِلا عَمَلاً واحدًا لكونهما نفس الجوهر والإرادة. كلاهما نفس الجوهر المحب الباذل، وكلاهما نفس الإرادة والمشيئة التي تجد مسرتها في البذل والفداء بنفس القدر.
إن كان كل من الآب والابن محبان باذلان لكونهما نفس الطبيعة، فإن الآب والابن كلاهما أيضًا يغضبان من الخاطئ وخطيته. إن الابن ما كان سيأتي إلى العالم لو لم تغضبه الخطية مثل الآب. بل إن القول أن الابن لم يكن غاضبًا من الخاطئ وخطيته لهو ادعاء ضمني بأنه لا يبال بالخطية أو أنه أقل من الآب من حيث القداسة والعدل. إن كاتب المزمور يحذر من غضب الابن قبل تجسده (مز ٢ : ١٢). ثم في أيام تجسده نقرأ عن غضبه من خطية الإنسان "فنظر حوله إليهم بغضب حزينًا على غلاظة قلوبهم" (مر ٣ : ٥). بل والابن نفسه يخبرنا أن الآب لن يدين أحد بل قد أعطى كل الدينونة للابن (يو ٥ : ٢٢). وسفر الرؤيا يحدثا مرارًا عن غضب الخروف العتيد (رؤ ٦ : ١٦، ١٩ : ١٥). الابن لم يتغير من حيث استجابته للشر أو موقفه من الخاطئ وخطيته، فهو واحد قبل التجسد وفي مجئ تواضعه ثم في استعلان ملكه. إنه هو هو نفس الغضب وإن كان التدبير مختلفًا. ذلك لأنه نفس الجوهر البار مع الآب.
لقد وضع الابن نفسه طواعية في توافق إرادي تام مع مشيئة الآب. صحيح أن الابن بلا خطية ولكنه لم يُجْبَرُ على تقديم كفارته عن الإنسان. فنحن في النهاية نتكلم عن الله الابن المساوي للآب في المجد والكرامة والسلطان. بل إن الابن والآب إرادة واحدة. فعل مشيئة الآب هو مسرة الابن، وطعام الابن هو أن يفعل مشيئة أبيه، والابن في كل حين يفعل ما يرضي الآب (مز ٤٠ : ٨، يو ٤ : ٣٤، ٨ : ٢٩). الابن أراد أن يفعل مشيئة الآب لأن مشيئتهما واحدة وهي تحقيق عدل الله ومطالب ناموسه في البديل الذي سيأخذ مكان الخطاة الفجار. لكي يكون الله بار (عادل) في تبريره للفاجر الذي يؤمن بالابن (رو ٣ : ٢٦). إن الحق الكتابي يؤكد أن الآب بذل ابنه، والابن بذل نفسه، وأن الابن في بذله لذاته لم يكن مكرهًا على فعل ذلك. وهذا ما تؤكده كلمات الابن نفسه "ليس أحد يأخذها مني، بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضًا. هذه الوصية قبلتها من أبي" (يو ١٠ : ١٨). كما أن خضوع الابن للآب في تحمل العقوبة منه هو خضوع تدبيري وليس من حيث الجوهر (فهما نفس الجوهر والمجد والسلطان). وعليه فإن الذين لديهم مشكلة مع حقيقة أن الآب بذل ابنه لديهم مشكل مع الحق الكتابي نفسه الذي يؤكد على كل الحقائق السابقة دون أن يرى أي تعارض بينها.
إن ما يقوله نقاد البدلية العقابية أن الآب كان غاضبًا نحو الابن في الصليب هو أمر صحيح. فقد أعطاه كأس الغضب ليشربها "الكأس التي أعطاني الآب ألا أشربها؟" (يو ١٨ : ١١). وأن الآب "سر بأن يسحقه بالحزن" (إش ٥٣ : ١٠). وأنه يدعو سيف الانتقام على الابن "استيقظ يا سيف على راعي وعلى رجل رفقتي" (زك ١٣ : ٧)، نفس الأمر يؤكده كاتب المزمور (مز ٦٩ : ٢٦). وأنه "لم يشفق على ابنه الوحيد" (رو ٨ : ٣٢). إن الآب غضب على الابن المتجسد كالبديل في الصليب، والابن تحمل هذا الغضب طواعية، لأنهما كلاهما يحبان الإنسان ويريدان فدائه بنفس القدر. إلا أن ما يحاول نقاد البدلية قوله من وراء التركيز على أن الآب كان غاضبًا على الابن في الصليب هو أن هذا ضد المحبة الأزلية بين الآب والابن. لكن، وإن كان الآب غاضبًا نحو الابن المتجسد كالبديل في الآلام، إلا أن المحبة الأقنومية الأزلية بين الآب والابن ظلت كما هي غير متأثرة بذلك إطلاقًا. وينبغي أن نفرق هنا بين الغضب والكراهية. فعندما نقول غضب الآب على البديل في الصليب فنحن لا نقول أنه كان يكرهه، حاشا. فهو ابن محبته ويظل كذلك حتى في أحلك لحظات الدينونة والغضب على الصليب. ولكن الغضب، وليس الكراهية، كان موجهًا للابن باعتباره البديل الكفاري على الصليب، الابن كالبديل وليس الابن في ذاته وبصفته الشخصية. وهذا التشويه للبدلية العقابية يحدث نتيجة خلط ناقدوها بين الغضب والكراهية. إلا أنه شتان الفرق.
وهكذا، فإن البدلية العقابية هي وحدها التي تستطيع استيعاب العلاقات الأقنومية في كونها عمل ثالوثي واحد متناغم. خذ مثلاً الكفارة العلاجية أو الثيوسيس أو كريستوس فكيتور. لن تجد تمايز ووحدة في العمل الثالوثي كما نجد في البدلية العقابية. إن كان الابن صُلِبَ لشفاء الإنسان، فماذا عمل الآب مع وتجاه الابن حتى يعود ذلك على الإنسان؟ وماذا قدم الابن للآب من أجل مشيئتهما ومسرتهما الواحدة من ناحية ومن أجل محبتهما للإنسان من ناحية أخرى؟ البدلية العقابية إذًا ثالوثية. بينما المناظير الكفارية الأخرى لا تعرّف بالضبط ماذا فعل كل من الآب والابن في الكفارة، وكيف قدم الآب ابنه وكيف قدم الابن نفسه لله ذبيحة (أف ٥ : ٢، عب ٩ : ١٤، ١ بط ٣ : ١٨).
خلاصة ما سبق: – الفكر المصلح يعلّم بوحدة الجوهر والإرادة، وهذه الوحدة أثمرت بالعهد الأزلي للفداء بين الآب والابن في أن يتنازل الابن ويخضع للآب في طاعة الناموس وفي أن يشرب كأس غضبه على الصليب لكي يخلص المختارين.
– الآب والابن، لكونهما نفس الجوهر، فهما باذلان محبان، إذ بذل الآب ابنه متكبدًا هذه الضحية اللامحدودة، وبذل الابن نفسه. وكلاهما في هذا البذل يحبان أحدهما الآخرن ويعملان من أجل المشيئة الواحدة لهما في محبة الإنسان وفداؤه.
– لكونهما نفس الجوهر فهما أيضًا يغضبان من الخاطئ وخطيته، إلا أن هذا لا يمنع أن الابن تحمل غضب الآب على الصليب. ليس لأن الابن المحب أراد أن يقف بين آب غاضب وإنسان مغضوب عليه، بل لأنه طبقًا للعهد الأزلي خضع الابن بكامل طواعيته لمشيئة الآب حتى يفدي الإنسان، رغم أن الابن مساوٍ للآب في المجد والسلطان والألوهية.
– رغم تحمل الابن لغضب الآب على الصليب ظلت المحبة الأزلية غير متأثرة بذلك. الكتاب لا يقول أن الآب كَرِهَ الابن المتجسد على الصليب، لكن الابن خضع طواعية لكي يتحمل غضب الله كالبديل. فمن منظور ما تحمل الابن المتجسد غضب الآب، ومن منظور آخر ظل الابن موضوع المحبة الازلية للآب.
– البدلية العقابية، إذًا، ليست فقط لا تشوه العلاقات الثالوثية، بل إنها تحفظها وتستوعبها وتعطيها تمايزها ووحدتها. وبهذا فهي كتابية. رغم ادعاء ناقديها بالعكس.
هذا الاعتراض يركز على العلاقات الأقنومية في الثالوث وطريقة تعامل البدلية العقابية معها. وهو يُصاغ بصور مختلفة بحيث أنه تُلام البدلية العقابية على أنها تشوه أو تطعن في العلاقات الأقنومية للثالوث. من بين ما يُقال مثلاً:
– البدلية العقابية هي تعسف أبوي ضد الابن Cosmic child abuse كما يدعي اللاهوتي ستيف تشاك. أو لماذا يخطئ الإنسان ويُعاقب الابن من الآب على خطايا لم يرتكبها؟
– البدلية العقابية تجعل الآب الذي يحب الابن منذ الازل غاضبًا منه.
– البدلية العقابية تجعل الآب غاضبًا تجاه الخطاة والابن محبًا تجاههم. أي لدينا ابن محب أراد أن يقف بين آب غاضب وخطاة يغضبونه.
في الحقيقة ليس أن البدلية العقابية هي التي تشوه العلاقات الأقنومية الثالوثية، بل ناقدي البدلية العقابية هم الذين يشوهونها من خلال رسم صورة غير صحيحة عنها بصفة جوهرية (مغالطة رجل القش). لهذا لا تجد ناقدو البدلية العقابية يقتبسون من كتابات أو أقوال ممن يعلمون بها لكي يثبتوا كيف يحدث هذا التشويه للعلاقات الثالوثية. إنهم يدعون أن البدلية العقابية تشوه الفكر الثالوثي دون أن يقدموا دليل واحد على ما يقولون. ذلك لأنهم يهاجمون خيالاً أو رجلاً من القش لا وجود له.
سيكون منهجي في الرد على هذا الاعتراض كالآتي: أولاً، الفكر البروتستانتي الثالوثي يعلم بوحدة في الجوهر والإرادة وهذا الفكر لا يسمح بتقسيم أو تشويه العلاقات الثالوثية. ثانيًا، البدلية العقابية لا تشوه العلاقات الثالوثية. ثالثًا، البدلية العقابية وحدها التي تستطيع استيعاب العلاقات الثالوثية في كونها عمل ثالوثي واحد متناغم.
يؤكد المنهج المصلح بما لا يدع مجالاً للشك على الحق النيقاوي القسطنطيني بأن الله ثلاث أقانيم في جوهر واحد ولهم إرادة واحدة ويعملون عملاً واحدًا. لهذا لا تجد أي بروتستانتي مصلح يعلّم بأي بصيغة من البدلية العقابية تخالف هذا الفكر. وإن وُجد مثل هذا التعليم فهو بكل تأكيد لا يتفق والفكر البروتستانتي المصلح المؤسس على الفكر الثالوثي الكتابي طبقًا لصياغته النيقاوية القسطنطينية.
تقول إقرارات الإيمان المصلحة عن وحدة الجوهر والإرادة الإلهيين:
"نؤمن بإله واحد وحيد، هو واحد في الجوهر، وفيه ثلاثة أقانيم متمايزون تمايزًا فعليًّا، وحقيقيًّا، وسرمديًّا، بحسب خصائصهم غير القابلة للمشاركة؛ وهم: الآب، والابن، والروح القدس ... لكن، هذا التمايز لا يجعل الله منقسمًا إلى ثلاثة ... ولكن هذه الأقانيم المتمايزة بهذا الشكل غير منقسمة أو ممتزجة؛ فإن الآب لم يتَّخذ جسدًا، ولا الروح القدس أيضًا، بل الابن وحده ... ثلاثتهم جميعًا سرمديون معًا، وواحدٌ في الجوهر. ليس فيهم مَنْ هو أول أو أخير؛ لأن ثلاثتهم جميعًا واحد في الحق، والسلطان، والصلاح، والرحمة" (إقرار الإيمان البلجيكي ١٥٥٩)
"في وحدانيّة اللاهوت توجد ثلاثة أقانيم، من جوهر واحد، وقدرة واحدة، وسرمديّة واحدة: الله الآب، والله الابن، والله الروح القدس" (إقرار إيمان ويستمينستر ١٦٤٦)
"هذا الكائن الإلهي اللامتناهي يوجد في ثلاث أقانيم حقيقيين، الآب، والكلمة أو الابن، والروح القدس. هؤلاء الثلاثة لهم نفس الجوهر والقوة والأزلية، ولكل منهم الجوهر الإلهي الكامل دون تقسيم لهذا الجوهر ... الثلاثة جميعهم لانهائيون ولا بداية لهم وبالتالي هم فقط إله واحد، لا ينبغي تقسيمه في الطبيعة والأزلية" (إقرار الإيمان المعمداني ١٦٨٩).
ومن حيث التناغم الثالوثي ووحدة العمل الناتجان عن وحدة الجوهر والإرادة تقول إقرارات الإيمان:
"نؤمن بأن الله، كليَّ الرحمة والعدل، قد أرسل ابنه ليتَّخذ تلك الطبيعة التي اُرتُكِبَ فيها العصيان، حتى يصنع كفارة في هذه الطبيعة نفسها ويحمل عقوبة الخطية من خلال آلامه المريرة وموته. ومن ثَمَّ أظهر الله عدله ضد ابنه حين وضع آثامنا عليه وسكب رحمته وصلاحه علينا، نحن الذين كنَّا مذنبين ومستحقين اللعنة، بدافع محبة خالصة وتامة، باذلاً ابنه للموت من أجلنا ومقيمًا إيَّاه لأجل تبريرنا، حتى ننال من خلاله الخلود والحياة الأبدية" (إقرار الإيمان البلجيكي)
"تلك الوظيفة (وساطة الرب يسوع) التي لم يأخذها لنفسه، ولكن دُعي إليها من أبيه، الذي وضع كل القوة والدينونة في يده، وأعطاه وصية أن ينفّذ الأمر ذاته ... هذه الوظيفة قد قبلها الرب يسوع بطواعيّة شديدة؛ والتي لكي يؤديها، وُلد تحت الناموس، وقد تممها على نحوٍ كاملٍ؛ وقد احتمل اشد العذابات المريرة مباشرة في نفسه، وأقسى الآلام المُبرحة في جسده؛ فقد صُلب، ومات، ودُفن، وبقي تحت سلطان الموت، لكنه لم يرى فسادًا. في اليوم الثالث قام من الأموات، بنفس الجسد الذي تألم به، والذي به أيضًا صعد إلى السماء، وهناك يجلس عن يمين أبيه، صانعًا الشفاعة" (إقرارا إيمان ويستمينستر والمعمداني)
"إن الرب يسوع، بواسطة طاعته الكاملة، وذبيحة نفسه، الذي، بروح أزلي، قدمها لله مرة، قد أرضى تمامًا عدل أبيه؛ واشترى، ليس فقط المصالحة، بل ميراثًا أبديًا في ملكوت السماوات، لأجل كل الذين قد أعطاهم له الآب" (إقرارا إيمان ويستمينستر والمعمداني)
هذا العمل الثالوثي الواحد يجد أساسه في العهد الأزلي بين الآب والابن لفداء المختارين:
"تم الإعلان عن هذا العهد في الإنجيل. لقد أُعلن أولاً لآدم في الوعد بالخلاص من خلال نسل المرأة. بعد ذلك، أُعْلِنَ عنه خطوة بخطوة حتى استعلانه بالكامل في العهد الجديد. هذا العهد مؤسس على تدبير العهد الأبدي بين الآب والابن بخصوص فداء المختارين" (إقرار الإيمان المعمداني ١٦٨٩)
كما هو واضح من الاقتباسات أعلاه فإن اعترافات الإيمان تؤكد على وحدة الجوهر والإرادة والعمل لأقانيم الثالوث. فالآب والابن لا يعملان ضد أحدهما الآخر بل معًا؛ عملاً عهديًا واحدًا بإرادة واحدة. أحد أول جوانب هذا العمل الواحد هو أن الآب والابن كلاهما ضحيا من أجل الإنسان؛ فالآب بذل ابنه الوحيد (مر ١٢ : ٦، يو ٣ : ١٦، رو ٣ : ٢٥، ٨ : ٣٢) والابن بذل نفسه (مت ٢٠ : ٢٨، يو ٦ : ٥١، أف ٥ : ٢ ، ٢٥، تي ٢ : ١٤). صحيح أن الآب لم يتخذ جسدًا، بل الابن وحده هو الذي فعل ذلك، إلا أن الآب تكبد ألمًا فادحًا ببذل ابنه. والابن بذل نفسه باتضاعه واتخاذه جسدًا؛ إذ وُلد تحت الناموس وأطاعه ثم مات أيضًا طاعة لحكم الناموس في الخطاة الفجار في كونه بديلاً عنهم. إن هذا البذل من طرف الآب والابن، الآب بتقديمه للابن، والابن بتقديمه لنفسه في الجسد، عَمِلا عَمَلاً واحدًا لكونهما نفس الجوهر والإرادة. كلاهما نفس الجوهر المحب الباذل، وكلاهما نفس الإرادة والمشيئة التي تجد مسرتها في البذل والفداء بنفس القدر.
إن كان كل من الآب والابن محبان باذلان لكونهما نفس الطبيعة، فإن الآب والابن كلاهما أيضًا يغضبان من الخاطئ وخطيته. إن الابن ما كان سيأتي إلى العالم لو لم تغضبه الخطية مثل الآب. بل إن القول أن الابن لم يكن غاضبًا من الخاطئ وخطيته لهو ادعاء ضمني بأنه لا يبال بالخطية أو أنه أقل من الآب من حيث القداسة والعدل. إن كاتب المزمور يحذر من غضب الابن قبل تجسده (مز ٢ : ١٢). ثم في أيام تجسده نقرأ عن غضبه من خطية الإنسان "فنظر حوله إليهم بغضب حزينًا على غلاظة قلوبهم" (مر ٣ : ٥). بل والابن نفسه يخبرنا أن الآب لن يدين أحد بل قد أعطى كل الدينونة للابن (يو ٥ : ٢٢). وسفر الرؤيا يحدثا مرارًا عن غضب الخروف العتيد (رؤ ٦ : ١٦، ١٩ : ١٥). الابن لم يتغير من حيث استجابته للشر أو موقفه من الخاطئ وخطيته، فهو واحد قبل التجسد وفي مجئ تواضعه ثم في استعلان ملكه. إنه هو هو نفس الغضب وإن كان التدبير مختلفًا. ذلك لأنه نفس الجوهر البار مع الآب.
لقد وضع الابن نفسه طواعية في توافق إرادي تام مع مشيئة الآب. صحيح أن الابن بلا خطية ولكنه لم يُجْبَرُ على تقديم كفارته عن الإنسان. فنحن في النهاية نتكلم عن الله الابن المساوي للآب في المجد والكرامة والسلطان. بل إن الابن والآب إرادة واحدة. فعل مشيئة الآب هو مسرة الابن، وطعام الابن هو أن يفعل مشيئة أبيه، والابن في كل حين يفعل ما يرضي الآب (مز ٤٠ : ٨، يو ٤ : ٣٤، ٨ : ٢٩). الابن أراد أن يفعل مشيئة الآب لأن مشيئتهما واحدة وهي تحقيق عدل الله ومطالب ناموسه في البديل الذي سيأخذ مكان الخطاة الفجار. لكي يكون الله بار (عادل) في تبريره للفاجر الذي يؤمن بالابن (رو ٣ : ٢٦). إن الحق الكتابي يؤكد أن الآب بذل ابنه، والابن بذل نفسه، وأن الابن في بذله لذاته لم يكن مكرهًا على فعل ذلك. وهذا ما تؤكده كلمات الابن نفسه "ليس أحد يأخذها مني، بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضًا. هذه الوصية قبلتها من أبي" (يو ١٠ : ١٨). كما أن خضوع الابن للآب في تحمل العقوبة منه هو خضوع تدبيري وليس من حيث الجوهر (فهما نفس الجوهر والمجد والسلطان). وعليه فإن الذين لديهم مشكلة مع حقيقة أن الآب بذل ابنه لديهم مشكل مع الحق الكتابي نفسه الذي يؤكد على كل الحقائق السابقة دون أن يرى أي تعارض بينها.
إن ما يقوله نقاد البدلية العقابية أن الآب كان غاضبًا نحو الابن في الصليب هو أمر صحيح. فقد أعطاه كأس الغضب ليشربها "الكأس التي أعطاني الآب ألا أشربها؟" (يو ١٨ : ١١). وأن الآب "سر بأن يسحقه بالحزن" (إش ٥٣ : ١٠). وأنه يدعو سيف الانتقام على الابن "استيقظ يا سيف على راعي وعلى رجل رفقتي" (زك ١٣ : ٧)، نفس الأمر يؤكده كاتب المزمور (مز ٦٩ : ٢٦). وأنه "لم يشفق على ابنه الوحيد" (رو ٨ : ٣٢). إن الآب غضب على الابن المتجسد كالبديل في الصليب، والابن تحمل هذا الغضب طواعية، لأنهما كلاهما يحبان الإنسان ويريدان فدائه بنفس القدر. إلا أن ما يحاول نقاد البدلية قوله من وراء التركيز على أن الآب كان غاضبًا على الابن في الصليب هو أن هذا ضد المحبة الأزلية بين الآب والابن. لكن، وإن كان الآب غاضبًا نحو الابن المتجسد كالبديل في الآلام، إلا أن المحبة الأقنومية الأزلية بين الآب والابن ظلت كما هي غير متأثرة بذلك إطلاقًا. وينبغي أن نفرق هنا بين الغضب والكراهية. فعندما نقول غضب الآب على البديل في الصليب فنحن لا نقول أنه كان يكرهه، حاشا. فهو ابن محبته ويظل كذلك حتى في أحلك لحظات الدينونة والغضب على الصليب. ولكن الغضب، وليس الكراهية، كان موجهًا للابن باعتباره البديل الكفاري على الصليب، الابن كالبديل وليس الابن في ذاته وبصفته الشخصية. وهذا التشويه للبدلية العقابية يحدث نتيجة خلط ناقدوها بين الغضب والكراهية. إلا أنه شتان الفرق.
وهكذا، فإن البدلية العقابية هي وحدها التي تستطيع استيعاب العلاقات الأقنومية في كونها عمل ثالوثي واحد متناغم. خذ مثلاً الكفارة العلاجية أو الثيوسيس أو كريستوس فكيتور. لن تجد تمايز ووحدة في العمل الثالوثي كما نجد في البدلية العقابية. إن كان الابن صُلِبَ لشفاء الإنسان، فماذا عمل الآب مع وتجاه الابن حتى يعود ذلك على الإنسان؟ وماذا قدم الابن للآب من أجل مشيئتهما ومسرتهما الواحدة من ناحية ومن أجل محبتهما للإنسان من ناحية أخرى؟ البدلية العقابية إذًا ثالوثية. بينما المناظير الكفارية الأخرى لا تعرّف بالضبط ماذا فعل كل من الآب والابن في الكفارة، وكيف قدم الآب ابنه وكيف قدم الابن نفسه لله ذبيحة (أف ٥ : ٢، عب ٩ : ١٤، ١ بط ٣ : ١٨).
خلاصة ما سبق: – الفكر المصلح يعلّم بوحدة الجوهر والإرادة، وهذه الوحدة أثمرت بالعهد الأزلي للفداء بين الآب والابن في أن يتنازل الابن ويخضع للآب في طاعة الناموس وفي أن يشرب كأس غضبه على الصليب لكي يخلص المختارين.
– الآب والابن، لكونهما نفس الجوهر، فهما باذلان محبان، إذ بذل الآب ابنه متكبدًا هذه الضحية اللامحدودة، وبذل الابن نفسه. وكلاهما في هذا البذل يحبان أحدهما الآخرن ويعملان من أجل المشيئة الواحدة لهما في محبة الإنسان وفداؤه.
– لكونهما نفس الجوهر فهما أيضًا يغضبان من الخاطئ وخطيته، إلا أن هذا لا يمنع أن الابن تحمل غضب الآب على الصليب. ليس لأن الابن المحب أراد أن يقف بين آب غاضب وإنسان مغضوب عليه، بل لأنه طبقًا للعهد الأزلي خضع الابن بكامل طواعيته لمشيئة الآب حتى يفدي الإنسان، رغم أن الابن مساوٍ للآب في المجد والسلطان والألوهية.
– رغم تحمل الابن لغضب الآب على الصليب ظلت المحبة الأزلية غير متأثرة بذلك. الكتاب لا يقول أن الآب كَرِهَ الابن المتجسد على الصليب، لكن الابن خضع طواعية لكي يتحمل غضب الله كالبديل. فمن منظور ما تحمل الابن المتجسد غضب الآب، ومن منظور آخر ظل الابن موضوع المحبة الازلية للآب.
– البدلية العقابية، إذًا، ليست فقط لا تشوه العلاقات الثالوثية، بل إنها تحفظها وتستوعبها وتعطيها تمايزها ووحدتها. وبهذا فهي كتابية. رغم ادعاء ناقديها بالعكس.
تعليقات
إرسال تعليق