هل كان المسيح في تحدٍ مع العهد القديم؟
أحدهم:
فلم يترك المسيح فرصة واحدة لكسر الناموس إلا واستغلها أكبر استغلال ...
كسر السبت، لمس البرص، لمس الطامث، أطلق الزانية، سمح لتلاميذه بالأكل دون اغتسال، إلخ.
لكن هل هذا صحيح؟ إطلاقًا، فهذا أبعد ما يكون عن الصحة!
لم يكن المسيح في مواجهة مع الشريعة إطلاقًا، حاشا، لكن كان يتحدى الفهم والتطبيق الخاطئان لها. المسيح كسر المفاهيم والتطبيقات الخاطئة لوصايا الناموس، وليس الناموس نفسه. لقد كانت هذه عادة الرب يسوع المسيح، أن يتحدى المفاهيم التفسيرية والتطبيقية الخاطئة لوصايا الناموس. حتى في عظته على الجبل لم يكن يضع أقواله في تحدٍ لوصايا الناموس. فالمسيح كان يقول "سمعتم أنه قيل" لأنه كان يقتبس أقوال أو مفاهيم خاطئة شائعة ليضعها في مواجهة مع التفسير الصحيح "أما أنا فأقول". لكن عندما كان يقتبس الناموس، في تجربته في البرية مثلاً، كان يقول "مكتوب". لقد عرف المسيح جيدًا كيف يفرق بين "المكتوب" و"ما قيل" أو "ما زيد على المكتوب من تقاليد الشيوخ".
بالنسبة للادعاء بأن المسيح كسر السبت.
نخطيء الظن إن اعتقدنا أن حفظ السبت وصية طقسية فقط. بل هو أكثر من ذلك. لقد وردت وصية حفظ السبت أيضًا ضمن الوصايا الأدبية العشر وتحديدًا الوصية الخامسة (خر ٢٠ : ٨ - ١١)، مما يعطيها طابعًا أدبيًا بالإضافة إلى طابعها الطقسي، الأمر الذي يزيد من كونها ملزمة لأنها تتعلق بالطبيعة الأدبية لله. وبالتالي إن كان المسيح قد كسر وصية أدبية (حفظ السبت) لكان قد كسر الناموس الأدبي نفسه، وليس مجرد طقوس. وكسر المسيح للناموس الأدبي له تضمينات خطيرة على الإنجيل ذاته، إذ بذلك نطعن في كمال المسيح الأدبي ومن ثم صلاحيته كذبيحة كفارية.
نتعلم من النص الوارد في (عدد ١٥: ٣٢ – ٣٦) أيضًا أن حفظ السبت كان وصية مدنية، خرقها يتطلب عقوبة قضائية تُنَفَذ بواسطة قضاة بني إسرائيل (الرجم). فضلاً عن ذلك، فإن السبت كان علامة العهد بين الرب وشعبه (خر ٣١ : ١٣). فكيف إذًا ينقض الرب يسوع المسيح علامة العهد بينه وشعبه؟ خاصة وأن عدم حفظ الشعب لسبوت الرب جلب عليهم دينونة السبي قديمًا؟ (حز ٢٠ : ١٢ – ٢١).
إذًا، ففي ضوء كون السبت، وصية طقسية، ووصية مدنية خرقها يؤدي إلى عقوبة قضائية (الرجم)، ووصية أدبية من ضمن الوصايا العشر (تحديدًا الوصية الخامسة)، وأنه علامة العهد بين الرب وشعبه، كيف يمكن للمسيح حتى أن يفكر مجرد التفكير في كسر هذه الوصايا ونقض العهد؟ أن تقول أن المسيح كسر السبت، هو أن تقول أن المسيح كسر وصية طقسية، ووصية مدنية، ووصية أدبية، من وصايا الناموس، بل ونقض العهد الذي كان بين الله وشعبه!
لكن بقي أن نفهم طبيعة قول المسيح أن "السبت إنما جُعِلَ لأجل الإنسان، لا الإنسان لأجل السبت" (مر ٢ : ٢٧).
لم يكسر المسيح السبت، لكن كسر عادات معينة فُهمت خطًأ على أنها طاعة للسبت. فالمسيح قال أن السبت للإنسان وليس العكس. أي أنه حافظ على السبت لكن بمنطق مختلف عن منطق الفريسيين. بمعنى، إن كان السبت قد صُمم ليكون راحة للإنسان، إذًا، فراحة الإنسان هي في شفاءه وإراحته من حمله الذي يتعبه ويثقله يوم السبت. لذا فشفاء إنسان في السبت هو في صميم حفظ هذا اليوم المقدس.
لم يقصد الرب يسوع المسيح بهذا القول أن يضع الوصية في تضاد مع الإنسان كما يحاول البعض أن يفعل. ذلك لأن الوصية جُعِلَت لخير الإنسان. إذ في طاعتها نجاحه وسلامته، أي عندما تكون فوقه. وهذا لا يعني أن (راحة) الإنسان مركز الوصية، بل (مجد) الرب. لابد أن ننظر إلى الوصية من منظور مركزه الله God-centered . الغرض الرئيسي من الوصية كان هو مجد الله من خلال طاعته. وكمنتج ثانوي، أو كغرض فرعي للوصية، تأتي راحة الإنسان وسلامته.
لا يمكن أن تتحقق راحة الإنسان، إلا من خلال طاعتة للوصية بغرض مجد الله. لهذا نجد الإنسان يفقد تلك الراحة بمجرد كسره لوصية التحذير من الأكل من شجرة معرفة الخير والشر. راحة الإنسان كانت مرتبطة بطاعة الوصية كناموس فوقي. وفي اللحظة التي كُسِرَت فيها الوصية، أي عندما جعل الإنسان نفسه ناموسًا فوق الوصية، دخل الألم والموت. ذلك لأن روح الوصية كان مجد الله (بطاعته) الذي يؤول إلى راحة الإنسان.
إن حادثة السقوط، وتاريخ إسرائيل بأكمله، يخبرانا أن راحة الإنسان هي أن يجعل الوصية فوقه، وليس أن يجعل نفسه فوق الوصية. كما أن نموذج الشجرة المغروسة عند مجاري المياه في مزمور ١ يعلمنا أن النجاح والإثمار (ومن ثم الراحة) هما في طاعة الوصية، والألم والفشل، كما في حالة الأشرار كالعصافة التي تذريها الريح، يأتيان بسبب تمردهم على الوصية.
طاعة الرب يسوع المسيح للوصية في تجربته في البرية، رغم تعبه وجوعه ووحدته ومقاومة اليهود له وهياج الشيطان عليه، كانت هي التحقيق لنموذج الشجرة المغروسة، وفي نفس الوقت، عكس لحادثة السقوط. لقد وجد الرب يسوع المسيح راحته الحقيقية في جعل الوصية فوقه.
إنه مأزق مفتعل من البعض عندما يضعوا الوصية في مواجهة مع الإنسان. الوصية حليفة الإنسان وليست عدوته. ولكن المشكلة تحدث فقط عند تفسيرها بصورة خاطئة. وهذا ما فعله اليهود إذ شوهوا وصية السبت، كما فعلوا أيضًا مع الكثير من وصايا الناموس. كان جوهر وصية السبت هو راحة الإنسان. وراحة الإنسان العظمى هي في معرفته للرب وخلاصه. لهذا، فأي عمل من شأنه خلاص الإنسان (تخليص نفس أو اهلاكها)، وتعميق معرفته بالرب، هو في صميم حفظ السبت. هكذا رأى الرب يسوع المسيح السبت، وهذا ما لم يفهمه اليهود.
"احملوا نيري عليكم ... فتجدوا راحة (سبت) لنفوسكم" (مت ١١ : ٢٩).
عودة إلى باقي الاعتراضات.
لمس المسيح الأبرص لأنه أراد شفاءه، وليس لكي يتحدى الشريعة التي تنهى عن لمس الأبرص. بل إن المسيح في نفس القرينة أمر الأبرص الذي تطهر أن يذهب ويُري نفسه للكاهن ويقدم عن تطهيره كما أمر موسى شهادة لهم. فلا يُعقل أن يكسر المسيح جزء من الوصية ويحافظ على جزء آخر. وتأكيدًا لذلك، فإن المسيح أمر العشرة رجال البرص الذين شفاهم قائلا: "اذهبوا وأروا أنفسكم للكهنة" (لو ١٧ : ١٤). إن لَمْس الأبرص بواسطة المسيح كان تأكيدًا لإرادته في شفاءه، حيث أن سؤال الأبرص كان "إن أردت تقدر أن تطهرني" (مت ٨ : ٢). لقد أراد الرب يسوع المسيح أن يعالج ليس فقط البرص، بل شكوك الأبرص نفسها حول شخصه من خلال تلك اللمسة التي لم يكن الغرض منها أبدًا تحدي الناموس.
المسيح لم يسعى للمس الطامث، بل هي التي لمسته "لأنها قالت في نفسها: إن مسست ثوبه فقط شفيت". وهذا واضح من سؤاله: "من لمس ثيابي؟" (مر ٥ : ٣٠). ليس هذا معناه أن المسيح كان سيتحاشى لمسها وهي في حاجة إلى شفاء. بل من المحتمل أن المسيح نفسه كان سيلمسها حتى ولو لم تسعى هي إلى لمسه. ليس كتحدٍ للناموس فتنتقل نجاستها (الطقسية) إليه، بل إتمامٍ له، بأن ينتقل شفاءه وطهارته إليها.
بالنسبة لقصة الزانية، فالإكتشافات النصية الحديثة تقول أن هذه الرواية ليست أصيلة في إنجيل يوحنا. طبقًا لدان والاس فهذه القصة لا توجد في أقدم المخطوطات حتى القرن الخامس. وغير موجودة في كتابات الآباء حتى القرن الثاني عشر. وفي المخطوطات التي وجدت بها هي نص عائم لها أكثر من مكان: في يو ٧ أو بعد يو ٧ : ٣٥، أو في نهاية إنجيل يوحنا كقصة قائمة بذاتها، أو بين لوقا ويوحنا، أو بعد لوقا ٢١ : ٣٨. وعلى فرض أنه نص أصلي، فالمسيح أعطى تلك المرأة غفران الخطايا "ولا أنا أدينك. اذهبي ولا تخطئي أيضًا". وهذا معناه أنه أعطاها غفرانًا شاملاً، من العقاب الأبدي ومن العقاب الزمني. فهل كان يُعقل أن يغفر لها المسيح خطاياها ويصرّ على أن تُرجم كزانية؟ إن المسيح غفر خطايا المفلوج المدلّى من السقف وجاء شفاءه كبرهان على غفران خطاياه.
أما عن أكل المسيح والتلاميذ بدون اغتسال، فلم يكن هناك وصية كتابية تأمر بغسل الأيدي بعد العودة من السوق "ومن السوق إن لم يغتسلوا لا يأكلون". على العكس فقد كان هذا تقليدًا وليس وصية من وصايا الناموس: "لماذا لا يسلك تلاميذك حسب تقليد الشيوخ، بل يأكلون خبزًأ بأدٍ غير مغسولة؟". لهذا جاء توبيخ المسيح ليقول أن طقوسهم وعبادتهم باطلة لأنها لا تستند إلى وصايا الناموس: "باطلاً يعبدونني وهم يعلمون تعاليم هي وصايا الناس. لأنكم تركتم وصية الله وتتمسكون بتقليد الناس .. ثم قال لهم حسنًا: رفضتم وصية الله لتحفظوا تقليدكم" (مر ٧ : ٣ – ٩). إذًا فالمسيح ليس فقط أنه لم يكسر الناموس، بل أكد على تفوقه على التقليد، وضرورة طاعته قبل التقليد.
إن طاعة الرب يسوع المسيح للناموس كان لابد أن تكون بلا شائبة، حتى في الوصايا الطقسية التي تبدو أقل ثقلاً من الوصايا الأدبية. جاء المسيح كالإنسان الثاني الذي كان عليه أن ينجح فيما فشل فيه الإنسان الأول: الطاعة. فشل آدم الأول في حفظ الوصية في جنة عدن، فجاء آدم الأخير ليتمم حفظ الوصايا كلها، الصغير منها والكبير، الأدبي منها والطقسي. لهذا يقول بولس: "لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جعل الكثيرون خطاة، هكذا أيضًا بإطاعة الواحد سيجعل الكثيرون أبرارًا" (رو ٥ : ١٩). إن الإدعاء بأن المسيح كسر أية وصية، أخلاقية كانت أم طقسية، لمن شأنه أن يضع الإنجيل نفسه على المحك.
إن المسيح لم يخالف حتى القانون الوضعي، فدفع الضرائب وأوصى بدفعها، وخضع لإجراءات محاكمته الظالمة، فكم وكم يعصى وصايا الناموس حتى وإن كانت مجرد وصايا طقسية؟ إن المسيح هو من قيل عنه أنه "يعظم الشريعة ويكرمها" (إش ٤٢ : ٢١). وأن شريعة الله في وسط أحشائه (مز ٤٠ : ٨).
لم يكسر المسيح السبت، بل كسر التقاليد غير الكتابية التي اخترعها اليهود ليوم السبت. وهذا تأكيد من طرفه لقدسية السبت. لم يهاجم المسيح العهد القديم، بل هاجم التقليد، الذي أُضيف إلى الوصية، والتفسير الخاطيء لها. وهذا إكرام للوصية الحقيقية من قبله. لم ينقلب المسيح على الهيكل، بل قلب موائد الصيارفة الذين دنسوه. وهذا تعظيم لقيمة الهيكل.
لم يكسر المسيح لا الناموس الإلهي ولا حتى القانون الوضعي. كان أهون له أن يُكسر جسده من أن يكسر الوصية. وهذا ما حدث، فقد أطاع حكم الناموس حتى الموت.
تعليقات
إرسال تعليق