هل ظهرت العقائد المسيحية الأساسية فقط في القرن الرابع كتطورات لمسيحية القرن الأول؟
منهج النقد التاريخي وتجاهل قراءة المسيحية في سياق نصوص العهد القديم
لاحظت أن أحد الأخطاء الجوهرية في منهج النقد التاريخي هو تجاهل العهد القديم. الكثير من هجومهم على المسيحية مؤسس على تقييم المسيحية بمعزل عن جذورها في نصوص العهد القديم. الادعاءات الآتية هي أمثلة لذلك:
لاهوت المسيح شيء مستحدث لم يكن موجود قبل مجمع نيقية في القرن الرابع.
الثالوث تعليم مستحدث لم يوجد قبل انعقاد مجمع نيقية في القرن الرابع.
يسوع التاريخي مختلف عن مسيح الإيمان والأول غير معروف هويته.
الميلاد العذراوي ليسوع تعليم ظهر في القرون اللاحقة على مسيحية القرن الأول.
كان هناك أكثر من مسيحية واحدة. المسيحية التي تُعرف بالقويمة انتشرت وسادت العالم فقط بسبب أن المنتصرون هم الذين يكتبون التاريخ.
الكنيسة لم يكن لديها كتاب مقدس قبل مجمع نيقية في القرن الرابع.
فضلاً عن أن تلك الإدعاءات السابقة في حد ذاتها غير صحيحة كتابيًا وتاريخيًا، إلا أن تعنت حركة النقد التاريخي ضد المسيحية واضح في التجاهل المتعمد لتأصيل الرسل للمسيحية التي كرزوا بها في السياق اليهودي للعهد القديم. إذ يدعي أولئك النقاد أن تعاليم الثالوث وألوهية المسيح وميلاده العذراوي وقيامته نشأت لاحقًا في التاريخ المسيحي نتيجة اختبارات تاريخية معينة اجتازت بها الكنيسة أدت إلى نشأة وتطور تلك التعاليم عبر الوقت.
ولكن، إن كانت تلك التعاليم تطورات لاحقة على مسيحية القرن الأول، كما يدعون، إذن، فمن المتوقع أن لا نجد نبوات، أو لاهوت كتابي، أو رموز، عنها في العهد القديم. إن كانت مستحدثة، فالمنطقي ألا يكون لها جذور. إلا أن العكس صحيح. إذ أن تلك التعاليم الجوهرية، مثل أزلية المسيح وألوهيته وميلاده العذراوي وقيامته والثالوث، موجودة جمعيًا في العهد القديم، وإن لم تكن بنفس الوضوح الذي نجده في العهد الجديد. وهذا أيضًا شىء طبيعي أن يكون إعلان العهد الجديد أكثر وضوحًا من إعلان العهد القديم بما أن الإعلان جاء بصورة تدريجية عبر مراحل التاريخ الفدائي.
إن تأصيل الرسل للمسيحية في السياق اليهودي من خلال الإقتباسات الصريحة والضمنية لنصوص العهد القديم لهو خير دليل على أن الثالوث وأزلية المسيح وألوهيته وميلاده العذراوي وقيامته، والمسيحية قويمة الإيمان بجملتها، ليست أقل مما علّم به العهد القديم نفسه.
يصبح إذًا الرد المختصر على تلك الإدعاءات السابقة هو: نصوص العهد القديم. لنتناول هذه الادعاءات واحدًا تلو الآخر لنرى موقف العهد القديم منها.
العهد القديم يعلّم بالثالوث:
مثل قول المسيا نفسه، قبل أن يتجسد، أن الآب والروح أرسلاه: "والآن أرسلني (الابن متكلمًا) السيد الرب (الآب) وروحه (القدوس)" (إش ٤٨ : ١٦).
الآب أيضًا يتكلم مع الابن عن الإكرام المزمع أن يعطيه الأقنوم الأول للثاني بعد تجسده: "قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك" (مز ١١٠ : ١).
الآب أيضًا مخاطبًا الابن عن ملكه الأبدي ومسحته ومحبته للبر: "كرسيك يا الله إلى دهر الدهور. قضيب استقامة قضيب ملكك. أحببت البر وأبغضت الإثم، من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الإبتهاج أكثر من رفقائك" (مز ٤٥ : ٦ – ٧). لاحظ كيف أنه يخاطبه "يا الله" ثم يقول لاحقًا "الله إلهك". يطبق كاتب العبرانيين هذا النص على الابن: "وأما عن الابن: كرسيك يا الله إلى دهر الدهور. قضيب استقامة قضيب ملكك" (عب ١ : ٨).
هذا فضلاً عن نصوص أخرى، تؤكد على عقيدة الثالوث، يتحدث فيها الله عن نفسه بصيغة الجمع مثل (تك ٩ : ٩، إش ٦ : ٨).
هذه النصوص الثالوثية السابقة، بالتبعية، تؤسس أيضًا لحقيقة أزلية وألوهية المسيح في العهد القديم. بما أن هناك ثلاثة أقانيم متساوون في الألوهية وواحد من حيث الجوهر، إذًا، فالابن الذي هو الأقنوم الثاني، هو الله.
الظهورات المسيانية بدورها، كملاك الرب ورئيس جند الرب وكالرب نفسه واحدة، من الإثباتات لألوهية المسيح في العهد القديم.
لكن هناك أيضًا نصوصًا صريحة عن ألوهية المسيح في العهد القديم مثل:
"كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام، فقربوه قدامه. فأعطى سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي، وملكوته ما لا ينقرض" (دا ٧ : ١٣ – ١٤). إن ابن الإنسان هذا، الأمر الذي يعني ضمنًا أنه سيتجسد، "أُعطي سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لتتعبد له كل الشعوب". كما أن هذا السلطان "أبدي"، وملكوته "لا ينقرض". الجدير بالذكر أن لقب "ابن الإنسان" كان هو اللقب المفضل للرب يسوع المسيح للحديث عن نفسه أثناء حياته على الأرض.
"لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابنًا، وتكون الرئاسة على كتفه، ويدعى اسمه عجيبًا، مشيرًا، إلهًا قديرًا، أبًا أبديًا، رئيس السلام" (إش ٩ : ٦). في هذا النص يتحدث إشعياء عن تجسد الابن الأزلي "لانه يولد لنا ولد"، وعن ألوهيته "إلها قديرًا"، وعن ملكه وأمجاده "تكون الرئاسة على كتفه"، مازجًا بذلك أكثر من عقيدة واحدة عن أزلية الابن وألوهيته وتجسده وميلاده العذراوي وأمجاده وملكه.
بالنسبة للميلاد العذراوي، يقول إشعياء: "ولكن يعطيكم السيد نفسه آية: هوذا العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل" (إش ٧ : ١٤). يتنبأ إشيعاء بالميلاد العذراوي في نبوة مركبة لها أكثر من تحقيق. تحقيق قريب في زمن آحاز الملك، وتحقيق بعيد في المجىء الأول للمسيا. إن نبوة إشعياء عن مولود العذراء تنمو شيئًا فشيئًا عبر هذه النصوص: (٧ : ١٤، ١٦، ٨ : ٨، ١٠، ٩ : ٦ – ٧).
أما عن القيامة في العهد القديم، فإن نصوص العهد القديم تتكلم عن كل من اتضاع المسيا، وآلامه، وموته، وقطعه من أرض الأحياء، من ناحية. ثم عن الأمجاد والملك اللذان بعد الآلام والموت. إن وضعنا هذه النصوص التي تتكلم عن الموت جنبًا إلى جنب مع تلك التي تشير إلى الأمجاد فإنها تحدثنا بصورة ضمنية عن قيامته المباركة. وإلا فكيف سَيُكرم ويُمَجَّد ويَمْلُك من مات وقُطِعَ من أرض الأحياء؟ صحيح أن العهد القديم لم يوضح أن هناك فجوة زمنية بين الآلام (المجيء الأول) والأمجاد (المجيء الثاني)، إلا أنه كان واضحًا بما يكفي حول الآلام التي تعقبها الأمجاد.
الرب يسوع المسيح استخدم قصة يونان كنبوة رمزية عن قيامته (مت ١٢ : ٤٠، لو ١١ : ٣٠). ولهذا فإن يونان نموذج لموت المسيح وقيامته.
يقول إشعياء في أحد النصوص الواضحة التي تجمع بين آلام المسيا وموته ثم ملكه وأمجاده الأبدية:
"ظُلِمَ أما هو فتذلل ولم يفتح فاه. كشاةٍ تساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يتفح فاه. من الضغطة ومن الدينونة أخذ. وفي جيله من كان يظن أنه قطع من أرض الأحياء، أنه ضُرب من أجل ذنب شعبي. وجُعل مع الأشرار قبره، ومع غني عند موته. على أنه لم يعمل ظلمًا ... أما الرب فَسُرَّ بأن يسحقه بالحزن. إن جعل نفسه ذبيحة إثم يرى نسلاً تطول أيامه، ومسرة الرب بيده تنجح. من تعب نفسه يرى ويشبع، وعبدي البار بمعرفته يبرر كثيرين، وآثامهم هو يحملها. لذلك أقسم له بين الأعزاء ومع العظماء يقسم غنيمة، من أجل أنه سكب للموت نفسه وأُحصي مع أثمة" (إش ٥٣ : ٧ – ١٢).
لاحظ معي آلام المسيا وموته في قول إشعياء أنه يُساق للذبح، وأنه قطع من أرض الأحياء، وأنه ضُرب، وأن قبره مع الأشرار، ومع غني عند موته. ثم لاحظ أيضًا كيف يحدثنا النبي الإنجيلي عن أمجاد المسيا وإنتصاراته في نفس تلك القرينة بقوله أن المسيا سيرى نسلاً تطول أيامه، وأنه من تعب نفسه سيرى ويشبع، وأنه أُقسم له بين الأعزاء ومع العظماء يقسم غنيمة.
بالإضافة إلى النصوص السابقة، فإنه في نسيج التاريخ الفدائي بأكمله، كما نتعلمه من صفحات العهد القديم، هناك ضرورة لوجود وظهور هذا الشخص العظيم والفريد، الذي هو ليس أقل من الله نفسه متجسدًا. إن إخفاق آدم، ومن بعده نوح كآدم جديد، ثم إخفاق إسرائيل كآدم آخر، وسقطات عمالقة التاريخ الفدائي مثل إبراهيم وموسى وداود وسليمان وإيليا، تشير جميعًا إلى ذلك الشخص الفريد الذي سيتمم كل مسرة يهوه.
فضلاً عن أن الادعاء بأن الكنيسة لم يكن لديها كتاب مقدس حتى القرن الرابع هو ادعاء أبعد ما يكون عن الحقيقة، لأن الكنيسة كان لديها كل أسفار العهد الجديد بحلول نهاية القرن الأول، وإن تطلب الأمر بعض الوقت لتحديد قانونية عدد قليل من أسفار العهد الجديد، إلا أن الكنيسة كان لها أسفار العهد القديم أيضًا. ولا يوجد تعليم في العهد الجديد، مثل التعاليم السابق ذكرها، والتي هي موضوع الادعاءات هنا، لا نجد له نصوص تؤيده في العهد القديم، كما رأينا.
تأسيسًا على ذلك، فإن المسيحية القويمة لم تسد بسبب أن التاريخ يكتبه المنتصرون. بل لأنها هي الحق. ولأنها هي معتقد الكنيسة الأولى بصورة غالبة. ولأن جذورها ضاربة في عمق العهد القديم. منذ الإنجيل الأولي protoevangelium "هو يسحق رأسك" (تك ٣ : ١٥).
طبعًا هناك الكثير من الإثباتات بإيمان الكنيسة منذ القرن الأول بالثالوث وأزلية الابن وألوهيته وميلاده العذراوي وقيامته. وأن الكنيسة كان لديها عهد جديد كامل في اللحظة التي انتهى فيها يوحنا من كتابة سفر الرؤيا في القرن الأول. وإن كان قد أخذها بعض الوقت لتقرير مصير خمسة أو ستة أسفار بعينها. إلا أن ما قصدته هنا هو إظهار الخطأ الجوهري الذي وقع فيه أصحاب مذهب النقد التاريخي بالادعاء بأن المسيحية، وعقائدها الرئيسية، لم توجد منذ القرن الأول، بل تطورت عبر الوقت. وكيف أن هذا الخطأ الجوهري سببه التجاهل العمدي، وغير المبرر، لنصوص العهد القديم والتي تشكل الجذور اللاهوتية للمسيحية.
لاهوت المسيح شيء مستحدث لم يكن موجود قبل مجمع نيقية في القرن الرابع.
الثالوث تعليم مستحدث لم يوجد قبل انعقاد مجمع نيقية في القرن الرابع.
يسوع التاريخي مختلف عن مسيح الإيمان والأول غير معروف هويته.
الميلاد العذراوي ليسوع تعليم ظهر في القرون اللاحقة على مسيحية القرن الأول.
كان هناك أكثر من مسيحية واحدة. المسيحية التي تُعرف بالقويمة انتشرت وسادت العالم فقط بسبب أن المنتصرون هم الذين يكتبون التاريخ.
الكنيسة لم يكن لديها كتاب مقدس قبل مجمع نيقية في القرن الرابع.
فضلاً عن أن تلك الإدعاءات السابقة في حد ذاتها غير صحيحة كتابيًا وتاريخيًا، إلا أن تعنت حركة النقد التاريخي ضد المسيحية واضح في التجاهل المتعمد لتأصيل الرسل للمسيحية التي كرزوا بها في السياق اليهودي للعهد القديم. إذ يدعي أولئك النقاد أن تعاليم الثالوث وألوهية المسيح وميلاده العذراوي وقيامته نشأت لاحقًا في التاريخ المسيحي نتيجة اختبارات تاريخية معينة اجتازت بها الكنيسة أدت إلى نشأة وتطور تلك التعاليم عبر الوقت.
ولكن، إن كانت تلك التعاليم تطورات لاحقة على مسيحية القرن الأول، كما يدعون، إذن، فمن المتوقع أن لا نجد نبوات، أو لاهوت كتابي، أو رموز، عنها في العهد القديم. إن كانت مستحدثة، فالمنطقي ألا يكون لها جذور. إلا أن العكس صحيح. إذ أن تلك التعاليم الجوهرية، مثل أزلية المسيح وألوهيته وميلاده العذراوي وقيامته والثالوث، موجودة جمعيًا في العهد القديم، وإن لم تكن بنفس الوضوح الذي نجده في العهد الجديد. وهذا أيضًا شىء طبيعي أن يكون إعلان العهد الجديد أكثر وضوحًا من إعلان العهد القديم بما أن الإعلان جاء بصورة تدريجية عبر مراحل التاريخ الفدائي.
إن تأصيل الرسل للمسيحية في السياق اليهودي من خلال الإقتباسات الصريحة والضمنية لنصوص العهد القديم لهو خير دليل على أن الثالوث وأزلية المسيح وألوهيته وميلاده العذراوي وقيامته، والمسيحية قويمة الإيمان بجملتها، ليست أقل مما علّم به العهد القديم نفسه.
يصبح إذًا الرد المختصر على تلك الإدعاءات السابقة هو: نصوص العهد القديم. لنتناول هذه الادعاءات واحدًا تلو الآخر لنرى موقف العهد القديم منها.
العهد القديم يعلّم بالثالوث:
مثل قول المسيا نفسه، قبل أن يتجسد، أن الآب والروح أرسلاه: "والآن أرسلني (الابن متكلمًا) السيد الرب (الآب) وروحه (القدوس)" (إش ٤٨ : ١٦).
الآب أيضًا يتكلم مع الابن عن الإكرام المزمع أن يعطيه الأقنوم الأول للثاني بعد تجسده: "قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك" (مز ١١٠ : ١).
الآب أيضًا مخاطبًا الابن عن ملكه الأبدي ومسحته ومحبته للبر: "كرسيك يا الله إلى دهر الدهور. قضيب استقامة قضيب ملكك. أحببت البر وأبغضت الإثم، من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الإبتهاج أكثر من رفقائك" (مز ٤٥ : ٦ – ٧). لاحظ كيف أنه يخاطبه "يا الله" ثم يقول لاحقًا "الله إلهك". يطبق كاتب العبرانيين هذا النص على الابن: "وأما عن الابن: كرسيك يا الله إلى دهر الدهور. قضيب استقامة قضيب ملكك" (عب ١ : ٨).
هذا فضلاً عن نصوص أخرى، تؤكد على عقيدة الثالوث، يتحدث فيها الله عن نفسه بصيغة الجمع مثل (تك ٩ : ٩، إش ٦ : ٨).
هذه النصوص الثالوثية السابقة، بالتبعية، تؤسس أيضًا لحقيقة أزلية وألوهية المسيح في العهد القديم. بما أن هناك ثلاثة أقانيم متساوون في الألوهية وواحد من حيث الجوهر، إذًا، فالابن الذي هو الأقنوم الثاني، هو الله.
الظهورات المسيانية بدورها، كملاك الرب ورئيس جند الرب وكالرب نفسه واحدة، من الإثباتات لألوهية المسيح في العهد القديم.
لكن هناك أيضًا نصوصًا صريحة عن ألوهية المسيح في العهد القديم مثل:
"كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام، فقربوه قدامه. فأعطى سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي، وملكوته ما لا ينقرض" (دا ٧ : ١٣ – ١٤). إن ابن الإنسان هذا، الأمر الذي يعني ضمنًا أنه سيتجسد، "أُعطي سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لتتعبد له كل الشعوب". كما أن هذا السلطان "أبدي"، وملكوته "لا ينقرض". الجدير بالذكر أن لقب "ابن الإنسان" كان هو اللقب المفضل للرب يسوع المسيح للحديث عن نفسه أثناء حياته على الأرض.
"لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابنًا، وتكون الرئاسة على كتفه، ويدعى اسمه عجيبًا، مشيرًا، إلهًا قديرًا، أبًا أبديًا، رئيس السلام" (إش ٩ : ٦). في هذا النص يتحدث إشعياء عن تجسد الابن الأزلي "لانه يولد لنا ولد"، وعن ألوهيته "إلها قديرًا"، وعن ملكه وأمجاده "تكون الرئاسة على كتفه"، مازجًا بذلك أكثر من عقيدة واحدة عن أزلية الابن وألوهيته وتجسده وميلاده العذراوي وأمجاده وملكه.
بالنسبة للميلاد العذراوي، يقول إشعياء: "ولكن يعطيكم السيد نفسه آية: هوذا العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل" (إش ٧ : ١٤). يتنبأ إشيعاء بالميلاد العذراوي في نبوة مركبة لها أكثر من تحقيق. تحقيق قريب في زمن آحاز الملك، وتحقيق بعيد في المجىء الأول للمسيا. إن نبوة إشعياء عن مولود العذراء تنمو شيئًا فشيئًا عبر هذه النصوص: (٧ : ١٤، ١٦، ٨ : ٨، ١٠، ٩ : ٦ – ٧).
أما عن القيامة في العهد القديم، فإن نصوص العهد القديم تتكلم عن كل من اتضاع المسيا، وآلامه، وموته، وقطعه من أرض الأحياء، من ناحية. ثم عن الأمجاد والملك اللذان بعد الآلام والموت. إن وضعنا هذه النصوص التي تتكلم عن الموت جنبًا إلى جنب مع تلك التي تشير إلى الأمجاد فإنها تحدثنا بصورة ضمنية عن قيامته المباركة. وإلا فكيف سَيُكرم ويُمَجَّد ويَمْلُك من مات وقُطِعَ من أرض الأحياء؟ صحيح أن العهد القديم لم يوضح أن هناك فجوة زمنية بين الآلام (المجيء الأول) والأمجاد (المجيء الثاني)، إلا أنه كان واضحًا بما يكفي حول الآلام التي تعقبها الأمجاد.
الرب يسوع المسيح استخدم قصة يونان كنبوة رمزية عن قيامته (مت ١٢ : ٤٠، لو ١١ : ٣٠). ولهذا فإن يونان نموذج لموت المسيح وقيامته.
يقول إشعياء في أحد النصوص الواضحة التي تجمع بين آلام المسيا وموته ثم ملكه وأمجاده الأبدية:
"ظُلِمَ أما هو فتذلل ولم يفتح فاه. كشاةٍ تساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يتفح فاه. من الضغطة ومن الدينونة أخذ. وفي جيله من كان يظن أنه قطع من أرض الأحياء، أنه ضُرب من أجل ذنب شعبي. وجُعل مع الأشرار قبره، ومع غني عند موته. على أنه لم يعمل ظلمًا ... أما الرب فَسُرَّ بأن يسحقه بالحزن. إن جعل نفسه ذبيحة إثم يرى نسلاً تطول أيامه، ومسرة الرب بيده تنجح. من تعب نفسه يرى ويشبع، وعبدي البار بمعرفته يبرر كثيرين، وآثامهم هو يحملها. لذلك أقسم له بين الأعزاء ومع العظماء يقسم غنيمة، من أجل أنه سكب للموت نفسه وأُحصي مع أثمة" (إش ٥٣ : ٧ – ١٢).
لاحظ معي آلام المسيا وموته في قول إشعياء أنه يُساق للذبح، وأنه قطع من أرض الأحياء، وأنه ضُرب، وأن قبره مع الأشرار، ومع غني عند موته. ثم لاحظ أيضًا كيف يحدثنا النبي الإنجيلي عن أمجاد المسيا وإنتصاراته في نفس تلك القرينة بقوله أن المسيا سيرى نسلاً تطول أيامه، وأنه من تعب نفسه سيرى ويشبع، وأنه أُقسم له بين الأعزاء ومع العظماء يقسم غنيمة.
بالإضافة إلى النصوص السابقة، فإنه في نسيج التاريخ الفدائي بأكمله، كما نتعلمه من صفحات العهد القديم، هناك ضرورة لوجود وظهور هذا الشخص العظيم والفريد، الذي هو ليس أقل من الله نفسه متجسدًا. إن إخفاق آدم، ومن بعده نوح كآدم جديد، ثم إخفاق إسرائيل كآدم آخر، وسقطات عمالقة التاريخ الفدائي مثل إبراهيم وموسى وداود وسليمان وإيليا، تشير جميعًا إلى ذلك الشخص الفريد الذي سيتمم كل مسرة يهوه.
فضلاً عن أن الادعاء بأن الكنيسة لم يكن لديها كتاب مقدس حتى القرن الرابع هو ادعاء أبعد ما يكون عن الحقيقة، لأن الكنيسة كان لديها كل أسفار العهد الجديد بحلول نهاية القرن الأول، وإن تطلب الأمر بعض الوقت لتحديد قانونية عدد قليل من أسفار العهد الجديد، إلا أن الكنيسة كان لها أسفار العهد القديم أيضًا. ولا يوجد تعليم في العهد الجديد، مثل التعاليم السابق ذكرها، والتي هي موضوع الادعاءات هنا، لا نجد له نصوص تؤيده في العهد القديم، كما رأينا.
تأسيسًا على ذلك، فإن المسيحية القويمة لم تسد بسبب أن التاريخ يكتبه المنتصرون. بل لأنها هي الحق. ولأنها هي معتقد الكنيسة الأولى بصورة غالبة. ولأن جذورها ضاربة في عمق العهد القديم. منذ الإنجيل الأولي protoevangelium "هو يسحق رأسك" (تك ٣ : ١٥).
طبعًا هناك الكثير من الإثباتات بإيمان الكنيسة منذ القرن الأول بالثالوث وأزلية الابن وألوهيته وميلاده العذراوي وقيامته. وأن الكنيسة كان لديها عهد جديد كامل في اللحظة التي انتهى فيها يوحنا من كتابة سفر الرؤيا في القرن الأول. وإن كان قد أخذها بعض الوقت لتقرير مصير خمسة أو ستة أسفار بعينها. إلا أن ما قصدته هنا هو إظهار الخطأ الجوهري الذي وقع فيه أصحاب مذهب النقد التاريخي بالادعاء بأن المسيحية، وعقائدها الرئيسية، لم توجد منذ القرن الأول، بل تطورت عبر الوقت. وكيف أن هذا الخطأ الجوهري سببه التجاهل العمدي، وغير المبرر، لنصوص العهد القديم والتي تشكل الجذور اللاهوتية للمسيحية.
تعليقات
إرسال تعليق