تعليم تيموثي كلر بـ "الرقصة الإلهية" .. هل هو قويم؟


في هذا الفصل من كتاب Engaging with Keller يقوم كيفين بيدويل بتفنيد التعاليم غير القويمة للاهوتي المعروف تيموثي كلر والمختصة بالثالوث. سأقوم بتلخيص رد بيدويل على ما يُعَلِّمه كلر حول ما أسماه بـ "الرقصة الإلهية"، ثم بعض الملاحظات الختامية. ولكن ينبغي أولاً ملاحظة أن هذا المصطلح يتم ترجمته إلى العربية في بعض الأحيان إلى "الرقصة السماوية". إلا أن كلر استخدم تعبير Divine Dance للإشارة أن هناك رقصة من الحب وبذل الذات بين الأقانيم كما سيأتي الذكر. ولعل السبب في هذه الترجمة هو التخفيف من وطأة التعبير الأصلي لدى كلر.

يبدأ بيدويل حديثه بامتداح نية كلر في إحياء تعليم مهمل ولكن هام جدًا وله تضمينات خطيرة للحياة المسيحية ألا وهو تعليم الثالوث. إلا أن كلر في سبيل شرحه لهذا التعليم الخطير بلغة يفهمها الإنسان الغربي المعاصر حاد عن قويم الإيمان. وبيدويل لا يتناول كل ما قاله كلر عن الثالوث، ولكن عن تشبيه معين استعمله كلر بصفة خاصة لشرح تلك العقيدة.

وطبقًا لكمات كلر نفسه:

"لا تتميز حياة الثالوث بالتمركز حول الذات، بل بالمحبة الباذلة للذات والمتبادلة (بين الأقانيم). عندما نفرح ونخدم شخصًا آخر، ندخل في مدار ديناميكي حوله أو حولها، إذ نركز على اهتمامات ورغبات الآخر. وهذا يخلق رقصة، خاصةً إذا كان هناك ثلاثة أشخاص، كل منهم يتحرك حول الاثنين الآخرين. هكذا هو الحال (مع الثالوث) كما يخبرنا الكتاب المقدس. كل أقنوم من الثالوث يركز على الأقنومين الآخرين. لا أحد يُطالب بأن يدور الأقنومين الآخرين حوله. فإن كل منهم يكتنف طواعية الأقنومين الآخرين، ويدفق المحبة والبهجة والعشق فيهما. كل أقنوم من الثالوث يحب ويهيم ويذعن ويفرح بالأقنومين الآخرين. هذا يخلق رقصة ديناميكية ونابضة من الفرح والحب. كان لدى القادة الأوائل للكنيسة اليونانية كلمة تعبر عن هذا Perichoresis . لاحظ جذر كلمة بيريكوريسيس داخل الكلمة الإنجليزية Choreograph (وتعني: فن الرقص). إن كلمة بيريكوريسيس تعني حرفيا ‘الرقص أو التدفق’ ". (كلر)

إن خطورة هذا التشبيه الذي يستعمله كلر في تعليمه عن الثالوث تكمن في أنه يتعلق بشخص الله نفسه. وكما هو معروف في التقليد المصلح أن شخص الله هو أساس كل تعليم آخر في الحق المسيحي. وهذا بالضبط ما نجده لدى كلر. فهو لا يطبق تعليم "الرقصة الإلهية" على شخص الله فقط، ولو أن هذا في حد ذاته خطأ فادح، بل أيضًا على الخلق والفداء. يقول بيدويل في تحليله:

"ولا ينصرف تفكير كلر (عن الرقصة الإلهية) على عقيدة الله فقط. فهو يمد هذه الاستعارة المستحدثة على الرواية الكتابية للفداء. طبقًا لكلر، في البدء كانت ‘رقصة الخلق’. وعلى ما يبدو أيضًا (بحسب كلر) فقد جاء السقوط كـ ‘فقدان للرقصة’، والذي أصبح ثمرته هو أن صار الإنسان متمركزًا حول ذاته. (تمشيًا مع ذلك) يُفترض أيضًا أن الخلاص إذًا هو طريق ‘العودة إلى الرقصة’، والخروج من التمركز حول الذات. ومن ثم فإن أحداث النهاية في السماء الجديدة والأرض الجديدة يمكن أن تُلَخَّص على أنها ‘مستقبل الرقصة’ ".

إن هذه الفقرة الأخيرة توضح جيدًا أن ما يتم التعليم به حول شخص الله له تضميناته على الخلاص وباقي أجزاء الحق المسيحي. من هنا تكمن خطورة ما يعلّم به كلر حول "الرقصة الإلهية". يؤسس بيدويل حجته في الرد على ذلك بأن الخطأ الذي وقع فيه كلر يكمن في عدم التمييز بين كينونة الله وصفاته. إذ يميز إقرار إيمان ويستمينستر بين "كينونة الله" و"كمالاته" (صفاته). طبقًا لإقرار الإيمان فإن كينونة الله هي أنه روح محض، غير منظور، بدون جسد، أو أجزاء، أو أهواء. ثم تأتي قائمة كمالات الله بعد ذلك مثل أنه أزلي، وكلي القداسة، والحكمة والقدرة، إلخ. يقول بيدويل:

"من ناحية أخرى، عادة ما تشوش المحاولات الأقل أمانة في تعريف الله هذه الأشياء أو تسيء استخدامها. وغالبًا ما يُرى هذا في الميل الحديث لتنصيب صفة الحب في تعريف كينونة الله. إذا كان الحب جزءًا من تعريفنا لكينونة الله أو جوهره، فإن أي سمة (مثل العدل أو الغضب) تبدو غير متوافقة مع هذا التعريف يتم عادة رفضها أو التقليل من شأنها، مما ينتج عنه لاهوت مشوه. لذلك من الأفضل أن نحافظ على التمييز بين كيان الله وصفاته".

يضيف بيدويل أن خطأ كلر هنا مزدوج أو مركب:

"المشكلة هنا مزدوجة، فكلر من ناحية جعل المحبة هي الصفة المركزية في الله، ومن ناحية أخرى استعاض عن علاقات الأصول الأقنومية بالرقصة السماوية". وما يقصده بيدويل بعلاقات الأصول (كما سيأتي الذكر) هو لا ولادة ولا انبثاق الآب، وولادة الابن أزليًا من الآب، وانبثاق الروح القدس منهما أزليًا. فقد أزاح كلر علاقات الأصول الأقنومية تلك من المشهد واستبدلها بصفة من صفات الله. أيضًا يعلمنا الكتاب المقدس ليس فقط بأن الله محبة، بل أيضًا قدوس، ونار آكلة، وإله غيور. مما يعني هنا أن كلر انتقائيًا في اختياره لصفة واحدة من بين صفات الله وجعلها الصفة المركزية لديه.

بالإضافة إلى ما سبق، يذكر بيدويل ستة مشاكل في تعليم كلر هذا حول الثالوث. سأقوم بذكر أربعة منها فقط للاختصار. ومبدئيًا يرى بيدويل أن أي شرح للثالوث، يحيد عما جاء في قانون إيمان نيقية، وإقرارات الإيمان المصلحة، والتي جاءت مؤكدة لنيقية، حتمًا سيكون به أخطاء. إن جوهر ما علّم به نيقية والمصلحون هو ما يُسمى بـ "علاقات الأصول الأقنومية". هذه العلاقات تخص كينونة الله أو جوهره. وهي أن الآب غير مولود وغير منبثق، والابن مولود أزليًا من ذات جوهر الآب، والروح القدس ينبثق أزليًا من كليهما. للأسف أغفل كلر علاقات الكينونة الأزلية هذه واستبدلها بمفاهيم اجتماعية عن الحب والعشق والرقص والدوران حول الآخر.

المشكلة الأولى: ‘الرقصة الإلهية’ لا تدعم وحدة اللاهوت على أساس الجوهر الواحد

يقول بيدويل أن كلر يحيد عن قويم الإيمان طبقًا للآباء والمصلحون فيما يخص الوحدة بين الأقانيم على أساس الجوهر الواحد. إن السبب في كون الابن واحد مع الآب هو أنه مولود من نفس الجوهر (هوموأوسيوس). والسبب في كون الروح القدس واحد مع الآب والابن هو أنه منبثق من نفس جوهرهما الواحد. إلا أن كلر استبدل وحدة الجوهر بوحدة على أساس صفة واحدة فقط انتقاها من بين كل صفات الله ألا وهي المحبة. جاعلاً (بغير حق) المحبة دونًا عن باقي صفات الله هي الصفة المركزية فيه. كما سبق وتم الإشارة، إن كلر هنا يخلط بين كينونة الله وصفاته.

المشكلة الثانية: ‘الرقصة الإلهية’ تصور الحركة الخاطئة داخل الثالوث

طبقًا للإيمان القويم، فإن الآب غير مولود وغير منبثق، والابن مولود أزليًا من نفس جوهر الآب، والروح منبثق منهما أزليًا. علاقات الكنينونة أو الأصول الأقنومية تلك هي أساس العلاقات الأقنومية في ظل الخلق والفداء. فالآب يرسل الابن، والابن والآب يرسلان الروح القدس. فالثالوث ليس ساكنًا بل يتحرك هذه الحركة الخارجية.

يقتبس بيدويل من شرح جون أوين ليوضح هذه الحركة الخارجية للثالوث:

"على أساس بركة بولس الرسولية في كورنثوس الثانية ١٤ : ١٣، يوضح أوين بشكل رائع أن الآب والابن والروح القدس يُظْهِرُون صفات مُمَيِّزَة. فالنعمة (خاريس) يمنحها الابن بشكل خاص، والمحبة (أجابي) من قِبل الآب، والشركة (كوينونيا) بواسطة الروح القدس، وفي نفس الوقت فإن كينونة الله الواحدة غير قابلة للتجزئة. لا يقيد أوين الثالوث بصفة واحدة".

يضيف بيدويل بأنه ما كان سيخطر على بال رجال الإصلاح أن يستعملوا الرقص كتشبيه للعلاقات الأقنومية. فالرقص في وقتهم كان مقصورًا على التسلية الدنيوينة. إن التعليم المختصر لويستمينستر يصف الرقصات الخليعة كواحدة من خطايا كثيرة لكسر الوصية السابعة. إلا أن كلر يستخدم الرقص لشرح علاقات الكينونة الأقنومية.

المشكلة الثالثة: تعليم الرقصة الإلهية لا يقدم طرح متوازن للثالوث كما يعلّم به قانون الإيمان النيقاوي

ينص قانون إيمان نيقية:

"نُؤمِنُ بإلهٍ واحدٍ، الآبِ ضابِطِ الكُلِّ وخالِق السماءَ والأرضَ وكلَّ ما يُرَى وما لا يُرَى، وبربٍّ واحدٍ يسوعَ المسيحِ، ابنِ الله الوحيدِ، المولودِ من الآبِ قبل كلِّ الدهور، إلهٍ من إلهٍ، نورٍ من نورٍ، إلهٍ حقٍّ من إلهٍ حقٍّ، مولودٍ غيرِ مخلوقٍ، مساوٍ للآبِ في الجوهَرِ ... ونُؤْمِنُ بالروحِ القدُسِ، الربِّ المُحيِي، المنبثِقِ من الآبِ والابْنِ، نسجُدُ لَهُ ونمجِّدُهُ معَ الآبِ والابْنِ".

إن قانون الإيمان يعلّم بوجود وحدة جوهرية وفي نفس الوقت تمايز أقنومي على أساس اللاولادة واللاانبثاق للاب، والولادة الأزلية للابن من الآب، والانبثاق الأزلي للروح القدس من الآب والابن. بالمقابلة مع هذا الترتيب والتمييز الأقنومي، فإنه طبقًا لادعاء كلر بوجود الثلاث أقانيم في رقصة ديناميكية نابضة متبادلة من المحبة والعشق والإذعان حول أحدهم الآخر، سيكون من المستحيل التمييز بين الأقانيم وبعضهم. فليس فقط (طبقًا للمشكلة الأولى) أن الوحدة الجوهرية تضيع لأنه تم استبدال وحدة الجوهر بوحدة حول صفة. يضيع أيضًا التمييز الأقنومي بين الأقانيم وبعضهم لكونهم يدورون في مدارات من المحبة والعشق والإذعان حول أحدهم الآخر. إنه طمس للتمايز الأقنومي القائم على اللاولادة واللاانبثاق للآب، والولادة الأزلية للابن من الآب، والانبثاق الأبدي للروح من كليهما.

المشكلة الرابعة: تعليم الرقصة الإلهية يقوض الترتيب الأقانيمي

في النقطة السابقة رأينا كيف أن هذا التعليم غير القويم بالرقصة الإلهية لا يتفق والتعليم النيقاوي القويم من حيث الوحدة الجوهرية والتمايز الأقنومي. هنا يقول بيدويل بشئ من التفصيل أن هذا التعليم يلغي التمايز الأقنومي تمامًا. إن قول كلر "كل أقنوم من الثالوث يركز على الأقنومين الآخرين. لا أحد يُطالب بأن يدور الأقنومين الآخرين حوله"، هو بمثابة إنكار للتمايز الأقنومي. يتسائل بيدويل، طبقًا لتعليم كلر، ما الذي يميز إذًا كل أقنوم عن الآخر؟ ما الذي يمكّننا من تحديد أي من الأقانيم يمكن أن ندعوه "الآب"، وأي "الابن"، وأي "الروح القدس"؟ إن هذه الأسماء لم يعد لها قيمة ولا تشير لأي شئ طالما أن الأقانيم يدورون في مدارات من المحبة والإذعان والعشق المتبادل.

فضلاً عن ذلك، إن العلاقات الأقنومية الأزلية (علاقات الكينونة) لا يوجد بها خضوع أو إذعان لأي أقنوم للآخر (كما يدعي كلر). فجميعهم متساوون في الألوهة والمجد والقوة والأزلية لأنهم جوهر واحد. كما الابن عندما تجسد هو الذي خضع لمشيئة الآب وليس العكس (علاقة إيكونومية في ظل الفداء فقط). ادعاء كلر بأن هناك إذعان متبادل بين الأقانيم أحدهم للآخر يضرب عرض الحائط بهذا الحق الكتابي حول عدم وجود خضوع أزلي بين الأقانيم، وحول وجود خضوع للابن تجاه الآب في ظل الفداء فقط.

ولكن، ماذا عن البيريكوريسيس طبقًا للآباء؟ هل فعلاً ما قصده الآباء من ذلك هو رقصة دائرية للأقانيم؟ إن ما قصده الآباء من حديثهم عن حركة داخل الثالوث لم يكن له علاقة برقصة من الحب والعشق والإذعان المتابدل بين الأقانيم كما يزعم كلر. بل كما أشرنا سابقًا هي حركة من الولادة الأزلية والانبثاق والتي يثمر عنها في ظل الفداء إرسال الآب للابن، وإرسال الآب والابن للروح القدس. بل والأكثر من ذلك، فإن مصطلح Perichoresis نفسه لم يستعمله الآباء الكبادوك بل تم طرحه في القرن السابع بواسطة يوحنا الدمشقي. ادعاء كلر إذًا ليس له أساس من الصحة هنا.

انتهي تلخيصي لما قاله بيدويل في هذا الفصل. وبقي لكاتب هذه السطور ثلاث ملاحظات. الأولى هي أن كنيسة كلر في نيويورك قدمت فقرة (في نوفمبر ٢٠١٦) بها ثلاث رجال يرقصون على منبر الكنيسة أو قل مسرح الكنيسة. علّق البعض على ذلك بأن ‏المقصود من تلك الرقصة هو الثالوث. سواء كان هذا المقصود من الرقصة أم لا يظل ما علّم به كلر حول الثالوث غير قويم. ويظل يحق لنا أن نتسائل إن كانت هناك ثمة علاقة بين تعليم كلر عن "الرقصة الإلهية" ورقصة الثلاث رجال على منبر كنيسته.

الملاحظة الثانية هي أن تعليم كلر عن "الرقصة الإلهية" للأقانيم هو ذات ما يعلّم به الهرطوقي ريتشارد رور في كتابه "الرقصة الإلهية". الله طبقًا لـ رور ليس ثنائي قطبي متنافر بل ثالوث يرقص في حركة أو شركة دائرية. وينتج عن هذه الحركة كل شئ آخر في الكون. طبعًا المروج الكبير لفكر ريتشارد رور هو أوسم وصفي. فهو لا يكف عن الترويج لفكر رور حول المسيح الكوني والرقصة الإلهية. إن القس كلر المحسوب على المصلحين يشترك مع المعلمين الكذبة في نشر تعاليمهم.



ثالثًا وأخيرًا، تعليم كلر بـ "الرقصة الإلهية" يوجد بصورة مخففة أيضًا. مثل محاولة الحديث عن العلاقات الأقنومية لا من حيث ولادة وانبثاق، بل من حيث علاقات محبة أزلية بين الأقانيم. المثال على ذلك هو تعليم الدكتور ماهر صموئيل بوجود نشاط أو حركة إلهية بين الأقانيم تجعل الثالوث مكتفٍ بذاته وغير ذي حاجة إلى خلائقه. هذا النشاط أو تلك الحركة هي علاقات من المحبة والعشق المتبادل بين الأقانيم. ومع أن قانون إيمان نيقية يعلّم أن الله الابن "مولود غير مخلوق" أنكر الدكتور ماهر صموئيل أية ولادة في الله بقوله "نحن كمسيحيين موحدين بالله، ونؤمن أن الله لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، حاشا أن يكون له ولد". وعلى الرغم أن الدكتور ماهر صموئيل لم يستعمل تشبيه "الرقصة الإلهية" إلا أن الثالوث الاجتماعي الذي يروج له متقارب إلى حد كبير من مفهوم الرقصة الإلهية. الفرق فقط هو عدم استعمال ماهر صموئيل للتشبيه والمصطلح. إنه استبدال لعلاقات الكينونة بعلاقات اجتماعية صوفية لعاشق ومعشوق. سأكتفي بهذا هنا ويمكن الرجوع لمقال آخر كتبته حول هذا الموضوع بعنوان "الثالوث الاجتماعي".

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

سلطان الحل والربط في ضوء الكتاب المقدس