إزالة البرقع والرجوع إلي الرب




1 أَفَنَبْتَدِئُ نَمْدَحُ أَنْفُسَنَا، أَمْ لَعَلَّنَا نَحْتَاجُ كَقَوْمٍ رَسَائِلَ تَوْصِيَةٍ إِلَيْكُمْ، أَوْ رَسَائِلَ تَوْصِيَةٍ مِنْكُمْ؟ 2 أَنْتُمْ رِسَالَتُنَا، مَكْتُوبَةً فِي قُلُوبِنَا، مَعْرُوفَةً وَمَقْرُوءَةً مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ. 3 ظَاهِرِينَ أَنَّكُمْ رِسَالَةُ الْمَسِيحِ، مَخْدُومَةً مِنَّا، مَكْتُوبَةً لاَ بِحِبْرٍ بَلْ بِرُوحِ اللهِ الْحَيِّ، لاَ فِي أَلْوَاحٍ حَجَرِيَّةٍ بَلْ فِي أَلْوَاحِ قَلْبٍ لَحْمِيَّةٍ.
4 وَلَكِنْ لَنَا ثِقَةٌ مِثْلُ هَذِهِ بِالْمَسِيحِ لَدَى اللهِ. 5 لَيْسَ أَنَّنَا كُفَاةٌ مِنْ أَنْفُسِنَا أَنْ نَفْتَكِرَ شَيْئاً كَأَنَّهُ مِنْ أَنْفُسِنَا، بَلْ كِفَايَتُنَا مِنَ اللهِ، 6 الَّذِي جَعَلَنَا كُفَاةً لأَنْ نَكُونَ خُدَّامَ عَهْدٍ جَدِيدٍ. لاَ الْحَرْفِ بَلِ الرُّوحِ. لأَنَّ الْحَرْفَ يَقْتُلُ وَلَكِنَّ الرُّوحَ يُحْيِي. 7 ثُمَّ إِنْ كَانَتْ خِدْمَةُ الْمَوْتِ، الْمَنْقُوشَةُ بِأَحْرُفٍ فِي حِجَارَةٍ، قَدْ حَصَلَتْ فِي مَجْدٍ، حَتَّى لَمْ يَقْدِرْ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى وَجْهِ مُوسَى لِسَبَبِ مَجْدِ وَجْهِهِ الزَّائِلِ، 8 فَكَيْفَ لاَ تَكُونُ بِالأَوْلَى خِدْمَةُ الرُّوحِ فِي مَجْدٍ؟ 9 لأَنَّهُ إِنْ كَانَتْ خِدْمَةُ الدَّيْنُونَةِ مَجْداً، فَبِالأَوْلَى كَثِيراً تَزِيدُ خِدْمَةُ الْبِرِّ فِي مَجْدٍ. 10 فَإِنَّ الْمُمَجَّدَ أَيْضاً لَمْ يُمَجَّدْ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لِسَبَبِ الْمَجْدِ الْفَائِقِ. 11 لأَنَّهُ إِنْ كَانَ الزَّائِلُ فِي مَجْدٍ، فَبِالأَوْلَى كَثِيراً يَكُونُ الدَّائِمُ فِي مَجْدٍ.
12 فَإِذْ لَنَا رَجَاءٌ مِثْلُ هَذَا نَسْتَعْمِلُ مُجَاهَرَةً كَثِيرَةً. 13 وَلَيْسَ كَمَا كَانَ مُوسَى يَضَعُ بُرْقُعاً عَلَى وَجْهِهِ لِكَيْ لاَ يَنْظُرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى نِهَايَةِ الزَّائِلِ. 14 بَلْ أُغْلِظَتْ أَذْهَانُهُمْ، لأَنَّهُ حَتَّى الْيَوْمِ ذَلِكَ الْبُرْقُعُ نَفْسُهُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ بَاقٍ غَيْرُ مُنْكَشِفٍ، الَّذِي يُبْطَلُ فِي الْمَسِيحِ. 15 لَكِنْ حَتَّى الْيَوْمِ، حِينَ يُقْرَأُ مُوسَى، الْبُرْقُعُ مَوْضُوعٌ عَلَى قَلْبِهِمْ. 16 وَلَكِنْ عِنْدَمَا يَرْجِعُ إِلَى الرَّبِّ يُرْفَعُ الْبُرْقُعُ. 17 وَأَمَّا الرَّبُّ فَهُوَ الرُّوحُ، وَحَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ. 18 وَنَحْنُ جَمِيعاً نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا فِي مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ.
 (2 كو 3 )


في الجزء الأول من هذا الأصحاح (عدد 1 - 6) يواصل الرسول بولس دفاعه عن خدمته ومؤهلاته كخادم بعد أن هوجم في شخصه من الرسل الكذبة الذين أرادوا أن ينادوا بإنجيلا مزيفا ، فرأوا أن أفضل طريقة للتمهيد لذلك هو بالإساءة إلي بولس (2 كو 11 : 12 – 13) ، فيرد عليهم بولس قائلا أن الله جعله  كاف أن يكون خادما للعهد الجديد. وفي الأعداد التي تلي ذلك (7 – 18) يوضح بولس خدمة العهد الجديد التي أخذها من الله ، إذ أن هؤلاء الخدام الكذبة كانوا ينادون بإنجيلا متهودا مزجوا فيه بين الناموس والنعمة فعلموا أهل كورنثوس أنه لابد من مراعاة أشياء معينة في الناموس لكي يقبلوا عند الله. ولذلك يقدم الرسول هنا شرحا لتفوق خدمة العهد الجديد علي العهد القديم ، خدمة إنجيل النعمة علي ناموس موسي. ومن هذا المنطلق يبرز بولس قيمته وأصالته كرسول من عند المسيح بكونه أهلا لأن يكون خادم عهد جديد ردا علي إتهامات الخدام الكذبة الذين عظموا شأن الناموس في الخلاص بالمقارنة مع إنجيل المسيح.

ويعقد بولس هنا مقارنة بين الناموس والنعمة ، فيصف الناموس بأنه "خدمة الدينونة" ، فقد كان هدفه هو أن يظهر للخاطئ حالته ، بأن يقدم له وصايا الله التي إن لم يطيعها صار مذنبا وإستوجب دينونته ، الأمر الذي يتتبع تنفيذ حكم الموت فيه لذلك يصف بولس أيضا خدمة الناموس بأنها "خدمة الموت". ثم يستمر في سرد الفروق بين الخدمتين ، فيضيف أن خدمة الناموس هي خدمة المجد الزائل ، أما خدمة النعمة فهي خدمة المجد الدائم. وبولس إستقي مبدأ تفوق مجد النعمة علي مجد الناموس من المجد الوقتي الذي ظهر علي وجه موسي أثناء تلقيه الناموس من الرب علي الجبل (خروج 34: 29 -35). وكما كان المجد الذي علي وجه موسي مجدا زائلا ، هكذا أيضا الخدمة التي قدمها الناموس والمجد المصاحب لها. وينبغي هنا أن نفرق بين خدمة الناموس ، وروح الوصية الأدبية التي فيه. فخدمة الناموس بما فيه من ناموس طقسي وقضائي وأدبي لم تعد موجودة ، لأن الهدف من الناموس كعهد هو أن يطع اليهودي هذا الناموس فيحيا ، وإن لم يطع يموت ، فيظهر لليهودي حالته الأدبية الرديئة وموته الروحي وإستحقاقه لدينونة الله. أما الوصية نفسها فمقدسة وعادلة وصالحة (رو 7 : 12) ، فالناموس نفسه كان يحض علي التقوي ، والبر ، ومحبة القريب ، وفعل الصلاح حتي للأعداء ، والأمانة تجاه الرب والناس. وهذه كلها تممها الرب يسوع ولم ينقضها. ونحن أيضا مطالبون بطاعة روح الناموس التي تحض علي التقوي والبر ، ليس كوسيلة لنوال البر ، بل كرد فعل طبيعي كمن حصلنا علي البر بالنعمة. أما خدمة الناموس والتي تلخص بأن نطع الوصية فنحصل علي البر ، فقد زالت بمجدها الباهت الزائل الذي كان مصاحبا لها.

وينبغي أن نلحظ هنا أن موسي لم يضع البرقع أثناء الكلام مع الشعب ، فهذا عكس ما نقرأ في (خر 34 : 33 – 34) "ولما فرغ من الكلام معهم جعل علي وجهه برقعا. وكان موسي عند دخوله أمام الرب ليتكلم معه ينزع البرقع حتي يخرج ، ثم يخرج ويكلم بني إسرائيل بما يوصي". والغرض من هذا يشرحه الرسول بولس فيقول "وليس كما كان موسي يضع برقعا علي وجهه لكي لا ينظر بنو إسرائيل إلي نهاية الزائل" (2 كو 3 : 13) فموسي لم يرد أن يري بنو إسرائيل مجد وجهه الوقتي وهو يخبو شيئا فشيئا لذلك وضع هذا البرقع لكي لا يروا نهاية هذا المجد الزائل ، فليس الهدف هنا هو إخفاء المجد ولكن إخفاء مشهد زواله. وللأسف لم يفهم الإسرائيليون هنا المعني من وضع موسي برقعا علي وجهه. ثم ينتقل بولس هنا من هذا الرمز إلي المرموز إليه. فمجد موسي الزائل يشير هنا إلي المجد الزائل لخدمة الناموس ، والبرقع هنا هو رمز للحاجز الذي كان علي قلوب بني إسرائيل فلم يفهموا الغرض من وجوده ، والذي كان إخفاء لحظة خبو هذا المجد. ولولا برقع عدم الإيمان والظلمة الروحية التي كانت علي قلوبهم لفهموا المغزي من وراء برقع موسي ، وهو إخفاء مجدا زائلا ليعن الحاجة إلي مجد من نوع آخر يدوم. وهذه كانت غاية الناموس أن يقودنا للمسيح  ، لأن "غاية الناموس هي المسيح للبر لكل من يؤمن" (رو 10: 4). فالناموس إذا يعلن لنا في وصاياه عن إله قدوس عادل يكره الخطية ، ويطالبنا بطاعته طاعة كاملة بدون أدني معصية ، ولا يقدم لنا أي عون في ذلك ، فنكتشف إثمنا وجرمنا بل وضعفنا في الإيفاء بتلك المطالب. من هنا تنشأ الحاجة إلي النعمة ذات المجد الدائم التي ظهرت في شخص الرب يسوع المسيح الذي كان هو نهاية خدمة الناموس ذو المجد الزائل.

وهكذا كان علي قلب اليهودي برقعا روحيا ظهر في عدم فهمه لمعني إخفاء موسي مشهد زوال اللمعان والمجد من وجهه. فعندما جاء الرب يسوع المسيح ليخلصهم من لعنة الناموس وموته ، لم يفهموا ذلك فرفضوا رب المجد ، إذ كان البرقع لم يزل قابعا علي قلوبهم. بل ونراه موجودا علي قلوبهم إلي يومنا هذا. ولكن بولس الرسول يخبرنا أنه كما كان يرفع موسي برقعه عندما يعود إلي محضر الرب فإن برقع عدم الإيمان أيضا سيرفع من علي قلوبهم عندما يرجعوا إلي الرب. والفعل الذي إستخدمه بولس هنا "يرفع" قد إستخدم أيضا في (عب 10 : 11) عن نزع الخطية "وكل كاهن يقوم كل يوم يخدم ويقدم مرارا كثيرة تلك الذبائح عينها ، التي لا تستطيع البتة أن تنزع الخطية". ويمكننا أن نري في ذلك خطية عدم الإيمان التي كانت تحول بينهم وبين فهم الغرض من خدمة الناموس حتي رفضوا رب المجد.

وتطبيقا لذلك فإلبرقع الذي كان يحول بين اليهود وبين فهمهم لطبيعة خدمة الناموس ومحتواه من نبوات عن المسيح وإشارات رمزية لمجده ما هو إلا صورة لكل حاجز وحائل يعوقنا عن معرفة الله المعرفة الحقيقية والنظر إلي مجده الدائم. تستعمل كلمة (veil) في الترجمة الإنجليزية للتعبير عن حاجز أو حائل أو برقع ، فقد أستخدمت مع برقع موسي ، وحجاب الهيكل ، وأستعملت أيضا مع برقع الوجه الذي كن يستخدمنه النساء في القديم (تك 24 : 65). فهناك أكثر من نموذج للبرقع في كلمة الله ، ولكنها جميعا تشير إلي كل ما يحول بيننا وبين الوصول إلي محضره أو رؤيته. فكما كانت براقع النساء تحول دون رؤية وجوههن ، وكما حال برقع موسي دون رؤية زوال المجد من علي وجهه ، فإن حجاب الهيكل أيضا حال الجميع (ما عدا رئيس الكهنة مرة في السنة في وجود دم الذبيحة) دون رؤية قدس الأقداس أوالوصول إليه. ولكن جميع هذه الحواجز ترفع بالرجوع إلي الرب.

أولا رفع برقع التبرير بالناموس والرجوع إلي الرب للتبرير بنعمة المسيح

رأينا كيف يشير البرقع الذي كان علي وجه موسي إلي برقع روحي كان علي قلب الشعب تمثل في عدم فهمهم لمغزي وَضْع موسي له ، ثم رأينا أيضا أن رفع البرقع عند عودته إلي محضر الرب يشير إلي رفع البرقع عن قلب الشعب الإسرائيلي في المستقبل عندما يعودوا إلي الله بالإيمان. سيزول برقع عدم الإيمان من علي قلوبهم فيفهموا الإشارات النبوية والرمزية الخاصة بالمسيح ، بل وسيفهموا أيضا أن الناموس أعطي لا لكي يتبرروا به ، لأن لا أحد يستطع فعل ذلك ، ولكن ليدركوا إحتياجهم إلي المسيح الذي تمم البر بسلوكه فوضع لنا مثالا للسلوك بالبر ، ثم مات لكي يمنحنا هذا البر ، وأخيرا صعد إلي عرش الله لكي يغيرنا ويعطينا روح البر الذي يثمر فينا بعمل البر الحقيقي المقبول لدي الله. فحينما يعودوا إلي الرب بقلب تائب وإيمان بوعوده وناموسه الذي تكلم عن المسيح سيقبلوا أمام الله وسيرفع البرقع من علي قلوبهم فيروا مجد المسيح الدائم لا مجد موسي الزائل.

وحالة اليهود تذكرنا بحالة كثيرين في يومنا هذا من المسيحيين الإسميين وغير المسيحيين أيضا الذين يريدون أن يتبرروا حسب مبدأ الناموس "إفعل هذا فتحيا". وحقا ما أكثرهم في يومنا هذا ، فلا نجدهم فقط خارج كنائسنا بل في داخلها أيضا. والبعض من هؤلاء قد كتبوا ناموسا لأنفسهم أسموه طيبة القلب أو الأخلاق الكريمة أو ضميرهم الذي يظنوا أنه لازال حيا ، وهم يحاولون جاهدين أن يحيوا علي مستوي هذا الناموس الخاص بهم ، والعجيب أنهم يخفقون حتي في ذلك. وهؤلاء أيضا لديهم علي قلوبهم برقع خطية عدم الإيمان ببر المسيح إذ يريدون أن يرضوا الله بأعمالهم. وهم لا يرون لذبيحة المسيح قيمة مثلما لم ير اليهود ذلك أيضا. وحتي عند قرائتهم لكلمة الله نجد هذا البرقع باق علي قلوبهم فلا يلتفتوا إلي تلك الآيات التي تتكلم عن بر المسيح المجاني والذي يعطي لكل من يؤمن ، إذ أن البرقع الذي علي قلوبهم يمنعهم من رؤية هذا الحق المجيد ، بل ونجدهم يتشدقون أيضا بتلك الآيات التي تتكلم عن أهمية الأعمال الصالحة كثمر لوجود الإيمان في القلب ، فيحتجون بها وكأن هذا هو مبدأ التبرير عند الله ، متناسين كل الآيات الصريحة في العهد الجديد والإشارات الطقسية والرمزية في العهد القديم التي تتكلم عن أهمية الذبيحة وكفايتها للتبرير أمام الله.

ولكن لماذا لا يمكن الإستناد علي الناموس كوسيلة للتبرير؟ أولا لأن الناموس كتب في ألواح حجرية. يقول بولس "ظاهرين أنكم رسالة المسيح ، مخدومة منا ، مكتوبة لا بحبر بل بروح الله الحي ، لا في ألواح حجرية ، بل في ألواح قلب لحمية" (عدد 3). بولس هنا يحاول إثبات قيمة وأصالة خدمته بالمقارنة مع خدمة الرسل الكذبة الذين قاوموه ، فهم كانوا ينادون بضرورة طاعة الناموس كوسيلة لنوال البر ، ولكنه هو ينادي بالنعمة فقط كالوسيلة الوحيد لذلك. والدليل علي ذلك هو أن الناموس – الذي طالب بطاعته الرسل الكذبة – كتب علي ألواح حجرية ، أما خدمة الرسول بولس فكتبت علي ألواح قلب لحمية ، هي قلوب أهل كنيسة كورنثوس ، إذ أنهم رسالته التي تظهر أصالة خدمته. والناموس الذي نقش علي الألواح الحجرية أظهر أهمية القداسة في التبرير أمام الله ، لكنه لم يقدم أي مساعدة حتي لمن أرادوا طاعته ، أما عمل النعمة فيكتب الوصية في ألواح القلب اللحمي الذي تغير بفعل عمل الروح في القلب. فالقلوب اللحمية هي تلك التي تغيرت فنالت القدرة علي طاعة الوصية التي أصبحت جزءا منها ، بعكس خدمة الناموس الذي كتب في ألواح حجرية ليخاطب اليهود بالوصية ، لكنهم ظلوا كما هم لأن قلوبهم لم تتجدد من الداخل بواسطة الروح القدس. فالأعمال الصالحة إذا غير قادرة علي أن تمنحنا البر لأننا في حاجة إلي عمل الله في قلوبنا من الداخل بالولادة الجديدة حتي تنقش رسالة المسيح في القلب. وبمعني آخر الناموس يشير إلي الخطية ولكنها لا يقدم أي معونة في التخلص منها لكن النعمة تظهر الخطية وتغير القلب أيضا فتصير طاعة البر أمرا طبيعيا. كما يقول حزقيال  "وأنزع قلب الحجر من لحمكم وأعطيكم قلب لحم" (حز 36 : 26).

وثانيا أعمال الناموس لا تخلصنا لأن الحرف يقتل. المعني المنتشر في الأوساط المسيحية لهذه الآية غير دقيق ، فليس المقصود هنا هو أن طاعة الوصية حرفيا ينتج فينا موتا. وفي هذا الصدد يقول وليم مكدونلد "لقد فُسِّر ذلك من قِبَل كثيرين على أنَّه يعني أنَّك إذا أخذت مجرَّد كلمات الكتاب المقدس الخارجية الحرفية وجرَّبت أن تكون مطيعًا لحروفها من دون رغبة في إطاعة روحها، فعندئذٍ يضرّك الحرف بدلاً من أن يساعدك. والفرّيسيون مَثل واضح على ذلك؛ فقد كانوا مدقِّقين في تقديم عشورهم إلى أبعد حد، ولكنهم لم يُظهِروا الرحمة والمحبة (متى 23: 23). بينما يٌعَدّ هذا التأويل تطبيقًا صحيحًا لهذا العدد، لكنه ليس هو التفسير الصحيح له. ففي العدد6، يشير الحرف إلى ناموس موسى، والروح إلى إنجيل نعمة الله. وعندما يقول بولس: «الحرف يقتل» فهو يتحدث عن خدمة الناموس، حيث يدين الناموس جميع الذين لا يحفظون وصاياه أو أوامره المقدسة. «لأن بالناموس معرفة الخطية» (رو3: 20). «ملعون كل من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به". وهذا ما حدث مع الرسول بولس بالفعل "أما أنا فكنت بدون الناموس عائشاً قبلاً ولكن لما جاءت الوصية عاشت الخطية فمُت أنا. فوجدت الوصية التي للحياة هي نفسها لي للموت لأن الخطية وهي متخذة فرصة بالوصية خدعتني بها وقتلتني" (رو 7 : 9 – 11). فالناموس قتل السلام الذي فيه إذ أخبره عن خطيته وشره فأفقده سلام القلب وراحة البال وهدوء الضمير ، بل وأكثر من هذا فإن الناموس قتل بولس نفسه إذ أخبره أيضا عن الحكم الذي يقع علي من يخالف مجرد وصية واحدة "لأن من حفظ كل الناموس ، وإنما عثر في واحدة ، فقد صار مجرما في الكل" (يع 2 : 10). لهذا يدعو بولس خدمة الناموس "خدمة الدينونة" و "خدمة الموت". أما روح نعمة المسيح فتأثيره مختلف "لأن الحرف يقتل ولكن الروح يحي". إن روح المسيح الذي يسكن القلب بناء علي عطية النعمة يحي الموت الذي فينا ، ويحينا نحن أنفسنا بأن يخلصنا من حكم الموت.

ثالثا أعمال الناموس لا تبررنا لأن مجد الناموس كان زائلا. لم يكن الهدف من الناموس من يوم أن كتبه الله بإصبعه أن يخلص به البشر. لقد قدم الناموس تحديا لم يستطع أي إنسان أن يحياه. وكان المقصود من هذا التحدي المستحيل تحقيقه هو أن يدرك الإنسان عجزه فيبحث عن المخلص الحقيقي الذي هو المسيا. فالهدف من مجد الناموس الوقتي هو تمهيد الطريق أمام المجد الدائم للنعمة. وعلي ذلك يكون التمسك بخدمة الناموس ذات المجد الزائل هو رفضا صريحا وإبطالا لخدمة النعمة ذات المجد الدائم ، الأمر الذي يجعل ذبيحة المسيح لا ضرورة لها. وهذا ما قاله بولس في رسالة غلاطية عندما واجه قضية خلط الناموس بالنعمة أيضا "لست أبطل نعمة الله. لأنه إن كان بالناموس بر فالمسيح إذا مات بلا سبب" (غل 2 : 21). فالتبرير هنا يعطي للإنسان كعطية وهبة لا يستحقها ، ولكن الحصول علي بر الله بناءا علي أعمالنا الصالحة يجعلنا لسنا في حاجة إلي نعمته ، وبذلك نبطل هذه النعمة ، فلا تكون النعمة بعد نعمة لأننا أخذنا الخلاص بناء علي أعمالنا الصالحة. وإن حدث هذا فإن المسيح حينئذ يكون قد مات بلا سبب. لأنه ما حاجتنا إلي كفارة المسيح عن خطايانا بينما نستطيع بأعمالنا الصالحة أن نكفر عنها؟ فالإعتقاد بإمكانية التبرير بواسطة الأعمال الصالحة يقوض مبدأ النعمة ويجعل ذبيحة المسيح بلا قيمة ، وحاشا للمسيح أن يكون قد تألم ومات وقام بلا سبب.

للأسف لم يزل هذا البرقع علي قلوب الكثيرين من حولنا اليوم فهم يصرون علي التبرير بناء علي أعمالهم الصالحة بالرغم كل ما تعلمه كلمة الله بخصوص ذلك. ولكن رغم تلك الظلمة التي تكتنف قلوبهم إذ أن برقع برهم الذاتي يحجب نور مجد الإنجيل الدائم إلا أنه لا زال يوجد رجاء لهم إن رجعوا للرب في تواضع معترفين بعدم إستحقاقهم لنوال هبة البر المجاني من الله بل ومعترفين أيضا بعجزهم عن طاعة الناموس ، وحينئذ فقط سيقبلوا أمام الله. فكما رفع البرقع من علي وجه موسي عند رجوعه إلي محضر الرب هكذا أيضا سيرفع الرب البرقع من علي وجوهنا إن رجعنا إليه مؤمنين أن مجد الإنجيل أعظم من مجد الناموس ، ومؤمنين أيضا بحاجتنا إلي ذبيحة المسيح الكاملة وبكفايتها أيضا. والرجوع للرب يتطلب عدم الإعتداد بأنفسنا ونبذ أي بر ذاتي فينا واللجوء إلي الرب للإكتساء ببره هو. فالعشار الذي لم يشأ أن يرفع نظره نحو السماء وطلب الرحمة من الرب معترفا بخطيته نزل إلي بيته مبررا دون الفريسي الذي تمسك ببره الذاتي. والرجوع للرب يتطلب أيضا السير في الطريق الذي حدده ، وهو طريق الذبيحة وليس طريق الأعمال الصالحة ، فذبيحة هابيل التي قدمت بالإيمان قبلت من الله في حين رفضت ثمار الأرض الملعونة التي استحسنها قايين.

ثانيا رفع برقع الجسد والرجوع إلي محضر الرب بإستمرار

رأينا في الفكرة السابقة كيف أن الإنسان يصر علي أن يقوم هو بالأعمال الصالحة ظانا أنها تبرره. ولكنه بذلك يثبت أن هناك برقعا علي وجهه يجعله لا يري حقيقة كونه غير قادر علي أن يتبرر بذلك. والجسد الذي في الإنسان الخاطئ والذي يريد أن يحصل علي بر الله بالأعمال الصالحة هو نفسه يظل موجود في المؤمن ويريد أن يطيع الوصية بقوته. فقبل أن نتبرر بنعمة المسيح كان الجسد فينا يريد أن يرضي الله بالأعمال الصالحة ولكن الرب أزال هذا البرقع من علي وجوهنا فأدركنا أن هناك خدمة النعمة التي وحدها تستطيع أن تبررنا. وبعد أن تبررنا لازال هناك الجسد في داخلنا يريد أن يرضي الله ويحاول أن يتمم وصاياه بقوته الطبيعية المرفوضة من الله فينتهي بنا الحال وعلي وجوهنا أيضا برقعا من نوع آخر. إنه برقع عدم إدراك صلب الجسد مع المسيح فنصر أن نرضيه بقوتنا بدلا من أن ندع الإنسان المقام الجديد في داخلنا لكي يقوم بتلك المهمة بمعونة الروح القدس. بل والجسد نفسه يعد برقعا أيضا يحول بيننا وبين التمتع الكامل بحضور الله وقوته ومجده. فكاتب العبرانيين يعلمنا أن حجاب الهيكل في القديم كان يشير إلي جسد الرب يسوع المسيح "فإذ لنا أيها الإخوة ثقة بالدخول إلي الأقداس بدم يسوع. طريقا كرسه لنا حديثا ، بالحجاب أي جسده" (عب 10 : 19 – 20). فجسد المسيح شق علي الصليب ، وعندما شق هذا الجسد الطاهر شق معه أيضا الإنسان العتيق في داخلنا "عالمين هذا: أن إنساننا العتيق قد صلب معه ليبطل جسد الخطية ، كي لا نعود نستعبد أيضا للخطية" (رو 6 : 6). ففي إنشقاق حجاب الهيكل صورة أيضا لموت الجسد مع المسيح علي الصليب. وقد كان من الضروري لهذا الجسد أن يموت لأنه كان بمثابة الحجاب الذي يمنعنا من الوصول إلي محضر الله والتمتع بالبركات التي لنا في شخص المسيح المبارك. ولكن عدم إدراكنا كمؤمنين لموت هذا الجسد مع المسيح يعد أيضا برقعا وحائلا آخر دون الوصول إلي محضر الله حيث نري مجد الله ونتمتع بملء حضوره.

إن خيمة داود التي نصبها لتابوت الرب والتي لم يكن بها حجاب تذكرنا بشكل العلاقة التي يريدها الله معنا (1 أخ 15 : 1). إن كان الواقع يشير إلي وجود ما يمنع الوصول إليه بسبب الخطية والطبيعة الساقطة التي تحول بيننا وبين إدراك مركزنا في المسيح إلا أن العلاقة التي يريدها الرب لنا معه علاقة بدون أي براقع أو حواجز مثل خيمة داود التي عندما تدخل إليها تجد تاتوت الله أمامك مباشرة ، مثل الهيكل بعد إنشقاق حجابه عند موت الرب علي الصليب.

والبرقع الذي يكون علي قلب المؤمن أو الحائل الذي يحول دون الدخول إلي محضر الرب بإستمرار هو الجسد الذي فيه. وكلما كان إدراكنا أكثر بصلب الجسد مع المسيح كلما كان هذا البرقع أقل إعتاما وأستطعنا أن نلمح المجد من خلفه. والمشكلة في هذا الجسد هو أنه لا يكف عن العمل ولا يتخلي عن روح الكبرياء التي تريد أن تأخذ المجد لنفسها بناء علي أعمالها. إنه يستغل جهل المؤمن بموت الطبيعة العتيقة في صليب المسيح ويتخذ ذلك فرصة له لكي يحاول بكافة الطرق أن يعيقه عن الدخول إلي محضر الله حيث يري مجد الرب. وليس المقصود هنا هو الجهل العقلي ، بل الجهل الروحي بعمل المسيح. إنها عملية الإستنارة التي تحدث للمؤمن بموت إنسانه العتيق مع المسيح وخلق إنسان جديد في داخله. وعملية الإستنارة هذه قد لا تأخذ وقت علي الإطلاق وقد تطول مدتها. ولكن في كل الأحوال تظل عملية جزئية متنامية. فكلما أدركنا روحيا موت الجسد مع المسيح علي الصليب كلما إزداد إنتصارنا عليه. بمعني آخر كلما إزددنا في الإستنارة الروحية في قلوبنا بهذا العمل المجيد كلما قل إعتام البرقع أمام أعينا وكلما وضحت رؤية المجد الإلهي لنا. فالبرقع هنا يزال تدريجيا من علي عيني المؤمن كلما إستنار إدراكه بصلب الجسد بل وكلما أماته أيضا عمليا.

وكلما كان الجسد في داخل المؤمن أكثر سيطرة كلما إزداد الصراع مع الروح إحتداما. فالجهل الروحي هنا بموت الطبيعة العتيقة ينتج في المؤمن هذا الصراع المحتدم الذي نري نموذجا له في بولس الذي كان يريد أن يفعل الحسني فيجد الشر حاضرا عنده. ويجد ناموس آخر في أعضاءه يحارب ناموس ذهنه ويسبيه إلي ناموس الخطية. وذلك لأنه يحاول جاهدا بقوة الجسد أن يطيع الوصية فيفشل في فعل ذلك. وذلك لأن المكان الوحيد للجسد هو الصليب ، فأعماله وشهواته ينبغي أن تسمر علي صليب المسيح. وبدلا من ذلك نسلم للروح فيتولي زمام الأمور في القلب ، حينئذ نستطيع أن نحسم ذلك الصراع. وعلي الرغم من أن الجسد قد صلب فعلا مع المسيح عند موته إلا أننا مطالبون بإماتته وبأن نحسبه قد مات فعلا. فالمؤمن في المسيح له مقام الموت في الصليب والقيامة معه ، ولكن حالته قد لا تكون مطابقة لهذا المقام المجيد ، لهذا فعليه أن يحتسب لنفسه هذا المقام مصدقا هذا المركز العظيم في المسيح ثم يسلك أيضا بحسب هذا المركز. فبرقع الجسد إذا قد زيل في صليب المسيح لكننا في فكرنا وتصرفنا ينبغي علينا أن نصدق هذا المقام ونتصرف بما يليق به "أن تخلعوا من جهة التصرف السابق الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور ، وتتجددوا بروح ذهنكم ، وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق" (اف 4 : 22 – 24).

ونستطيع أن نري علاقة بين الجسد في ظل الناموس والجسد في ظل النعمة في حياتنا كمخلصين. ففي ظل الناموس يريد الجسد أن يعبر عن وجوده بالأعمال الصالحة لكي يفتخر ويرضي روح الكبرياء التي فيه. ولكنا عندما يحبط ويكتشف أنه لا مجال للخلاص بالأعمال الصالحة يكف عن الرغبة في التبرير بناء علي ذلك. وبعد أن نخلص بالنعمة يظل هذا الجسد فينا أيضا يريد أن يخرج ما فيه من كبرياء قديم فيظن أنه قادر علي إطاعة الوصية بقوته حتي يفتخر أيضا. ولكن ينبغي أن يدرك المؤمن أنه لا يستطيع طاعة الوصية بقوة الجسد القديمة وعليه أن يصلب الجسد بكل ما فيه ، حماسته وقوته الفاسدة جنبا إلي جنب مع شهواته وأعماله. فالجسد بكل ما فيه لس له مكان سوي صليب المسيح. قال أحد اللاهوتيين "الناموس الطقسي ، الذي لا يعد أكثر من مجرد كونه ظلا ورمزا للمسيح ، يبيد نفسه بإظهاره لنا يسوع المسيح الذي هو حقه وجوهره. والناموس الأدبي إذ يتركنا تحت عجزنا تحت الخطية واللعنة يجعلنا ندرك إحتياجنا إلي ناموس القلب وإلي مخلص يعطينا إياه. الناموس يكون للإنسان العتيق ، كما لو كان يتناسب مع بشاعته وطبيعته الذليلة ، وقد صلب أيضا مع المسيح جنبا إلي جنب مع الإنسان العتيق. فالإنسان الجديد والناموس الجديد يتطلبان ذبيحة جديدة. ومن يحتاج إلي أي ذبيحة أخري ولديه يسوع المسيح؟ وأولئك الذين تسكن فيهم تلك الذبيحة لا يعيشون إلا لله وحده ، ولكن لا أحد يستطيع أن يحيا لله بدون أن يحيا بالإيمان ، وحياة الإيمان هذه ليست إلا الموت مع المسيح لأمور هذا العالم الحاضر ، والتوقع كورثة معه بركات العالم الأبدي. فهذا الإنسان قد وصل إلي درجة عالية من صلب الجسد ، إذ يقول: فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا في ، وأنا قد صلبت للعالم. ومثل هذا الإنسان قد أنكر ليس فقط الأمور الأرضية ولكن نفسه أيضا".

والرجوع إلي الرب هنا من شأنه أن يرفع هذا البرقع من علي قلوبنا. وذلك الرجوع لا يكون مرة واحدة فقط لكنه ينبغي أن يكون حالة قلب بأن يظل القلب متوجها دائما ومتطلعا للرب مصدر القوة للبر العملي أيضا. ثم أن نرجع أيضا إلي الرب بإستمرار إلي محضره كما كان يفعل موسي فيرفع البرقع من علي وجهه. فالقلب المتطلع إلي الرب والذي يرجع إلي محضره بإستمرار هو الذي يرفع من عليه البرقع. وإذا رجعنا كل يوم وكل اليوم إلي محضر الرب حصلنا علي هذه الإستنارة التي تجعلنا نري الجسد مصلوبا مع المخلص فنري مجد الرب في سلوكنا. فكما إحتجنا إلي نعمته لكي نتبرر لازلنا نحتاج أيضا إلي نعمته لكي نسلك بالبر. لذلك نجد آساف لا يري حقيقة زوال مجد الأشرار إلا عندما دخل إلي مقادس الرب ، ثم نجد الرب إلي مجد يأخذه (مزمور 73). فإن أردنا أن نعيش بحسب المقام المجيد لنا في الرب والذي لا يكون فيه الجسد إلا في موضع الصلب علينا أن نرجع إلي محضر الرب حيث يتغذي الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق ، وحيث يرفع البرقع من علي وجوهنا فيسطع مجد الرب علينا.

ثالثا رفع برقع الكنيسة عروس المسيح والرجوع إلي الرب في مجيئه

كانت النساء في القديم ترتدي برقعا في بعض الأحيان ، فنقرأ عن ثمار التي إرتدت برقعا لتتخفي كما كن يفعلن الزانيات حينئذ (تك 38 : 14). ونقرأ أيضا عن رفقة التي تغطت بالبرقع قبل ملاقاتها لإسحق عريسها (تك 24 : 65). وبحسب تاريخ إسرائيل القديم ، كانت العروس ترفع النقاب مرتين ، المرة الأولي للعريس والمرة الثانية في حفل الزفاف للمدعويين في نهاية اليوم السابع للحفل. وهذا ما سيحدث للكنيسة عن قريب ، فسوف يرفع برقع الكنيسة الذي لا يمكنها من رؤية العريس الآن عندما مقابلته في الهواء فتراه جليا ، وثانيا عندما تأتي معه ثانية ليرفع برقعها أمام العالم كله فيعرف الجميع أنها العروس.

والكنيسة الآن تري المسيح بالإيمان فقط ، فهي لا تراه مباشرة ولكنها تراه من خلال مرآة. يقول بولس في النص الكتابي الذي أشرنا إليه في البداية "ونحن جميعا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة". فبالمقارنة بالحالة التي كان عليها اليهود في وجود البرقع علي قلبهم فإننا ننظر الرب بوجه مكشوف الآن وليس هناك برقعا علي وجوهنا. ولكن بالمقارنة بما سنحظي به من رؤية الرب وجها لوجه فإننا الآن ننظره في مرآة. والنظر في المرآة قديما لم يوضح الصورة كاملة لأن المرايا كانت معدنية ، وهكذا فإن نظرنا الآن لمجد الرب بالمقارنة مع نظرنا إليه في الأبدية هو بمثابة النظر في المرآة لكن حينئذ سننظر وجها لوجه. فسوف يأتي الوقت الذي نستمتع فيه بمجد الرب ليس من خلال مرآة ولكن مباشرة عندما يأتي كوكب الصبح المنير فيسطع علينا بنور وجهه المجيد. والمرآة هنا تشير إلي نور الإنجيل الذي ننظر من خلاله إلي مجد الرب يسوع المسيح. فبولس يعلمنا في الأصحاح التالي عن الهالكين "الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمي أذهان غير المؤمنين ، لئلا تضئ لهم إنارة إنجيل مجد المسيح ، الذي هو صورة الله" (2 كو 4 : 4) ، ثم يكلمنا عن المخلصين الذين أضاء لهم نور الإنجيل "لأن الله الذي قال: أن يشرق نور من ظلمة ، هو الذي أشرق في قلوبنا ، لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح" (2 كو 4 : 6). فبحسب كلام بولس هنا فإن النور هو نور الإنجيل الذي حُجب عن الهالكين بسبب عماهم الروحي ، ولكن هذا النور أشرق في قلوبنا نحن الذين قبلنا الرب يسوع المسيح ، فالمعرفة هنا قلبية لأن النور سطع من الداخل أولا وعن قريب سيسطع من الخارج أيضا ، عن قريب سيتمجد كل الكيان بمجد المسيح.

فالكنيسة تري مجد المسيح الذي تعكسه مرآة الإنجيل. وهي تحيا الآن في ليل إغترابها عن الحبيب ، ولا تملك أن تتطلع إلي العريس إلا من خلال تلك المرآة. وكأنها بذلك ترتدي برقعا يحجب عن عينيها الرؤية الكاملة المجيدة للعريس. ولذلك فهي تتطلع إلي تلك اللحظة وطرفة العين التي يرفع فيها هذا البرقع عن عينيها فتري شخص المسيح جليا.

وكلمة "رفع البرقع" وردت في اليونانية (apokalupsis) والتي ترجمت بمعني "إعلان" أو "رؤيا". وتعبير "إعلان يسوع المسيح" الذي يرد في بداية سفر الرؤيا يترجم بالإنجليزية (The Unveiling of Jesus Christ) والذي يشير إلي ذلك اليوم الذي يأتي فيه الرب ليعلن عن نفسه للكنيسة أولا ثم للعالم فيما بعد. وفي الحقيقة فإن البرقع أو النقاب موجود لا علي الرب ولكن علينا نحن ، والرب هو الذي ينيرنا فيزيل هذا البرقع. وعملية إزالة البرقع يمكن تحقيقها جزئيا هنا علي الأرض ، إذا تكرست الكنيسة للمسيح تماما وعاشت عذراء عفيفة له بدون أن تزني مع العالم فلاشك أنه سيستعلن لها مجد المسيح بصورة أو بأخري. وعندما يزيل الرب البرقع من علي الكنيسة فإنه سيكون بمثابة إزالته من علي نفسه أيضا كما يقول إشعياء "حقا أنت إله محتجب يا إله إسرائيل المخلص" (إش 45 : 15) ،  (مع التحفظ علي أن ذلك قيل في قرينة تتكلم عن عالم شرير). ولا شك أن إسحق عند مقابلته رفقة وهي آتية إليه كان متشوقا أن يري وجهها الجميل الذي يخفيه البرقع ، لذلك كان من اللازم أن يرفع هو البرقع من علي عينيها لكي تراه هي أيضا بوضوح وليس من خلف البرقع. وسيرفع الرب يسوع المسيح البرقع الذي يحجبه عن عروسه لكي تتمتع ليس فقط برؤيته بل بالإتحاد به كعروس بعريسها.

وقد نخطأ نحن فنظن أن كل ما يسمي كنيسة هي عروس المسيح. فليس كل برقع هو برقع العروس المنفصلة المكرسة لعريسها وهي في طريقها إليه (تك 24 : 65) ، لكن هناك برقع الزني الذي تضعه أيضا الزانية العظيمة علي وجهها بعد أن جلست علي الطريق لتقيم علاقة مع العابرين (تك 38 : 14). وإن كنا نعتقد خطأ أن كل ما يدعي عليه إسم المسيح حولنا ينتمي له حقا إلا أن العريس لا يخطئ فهو يعرف عروسه جيدا (2 تي 2 : 19) وسيرفع عنها برقع ليل إغترابها عنه لكي تحظي برؤيته التي تشتاق إليها. لهذا إن أرادت الكنيسة أن تتمتع بمجد العريس ورؤيته وجها لوجه كان عليها أن تحيا مكرسة له ، وتمر فقط برجليها في طريق غربتها في العالم بإجتهاد لكي يكون لها نصيبا معه ، فلا مجال للجلوس علي جانب الطريق وإقامة علاقات لا يرضي عنها شخص المسيح. وإن تلطخت شهادتنا ككنيسة للمسيح ولبسنا برقع الزني علينا أن نترك هذه الحالة فورا ونرجع إلي الرب لكي يرفع عنا هذا البرقع فنري مجد الرب من جديد.

لذلك فالتعبير "إعلان يسوع المسيح" (أو رفع النقاب عن يسوع المسيح) يمكننا أن نري فيه أيضا أنه رفع النقاب من علينا نحن في نفس الوقت. وموضوع سفر الرؤيا هو رفع البرقع عن عروس المسيح بواسطته هو ، ليس فقط لكي تراه الكنيسة بل لكي يراها العالم أيضا. فالرب سيأتي أولا في الإختطاف ليرفع البرقع عن عروسه حتي تراه في مجده. ثم يأتي بعد ذلك مع جميع قديسيه كما يقول بولس "لكي يثبت قلوبكم بلا لوم في القداسة ، أمام الله أبينا في مجئ ربنا يسوع المسيح مع جميع قديسيه"(1 تس 3 : 13). فالمجئ الأول سري لن تره سوي الكنيسة وسيرفع فيه البرقع الذي يحجب رؤية العروس للعريس. والمجئ الثاني علني سيأتي فيه الرب مع ربوات قديسيه ليرفع البرقع عن عروسه فيراها العالم بأسره. وحينئذ فقط عندما ترجع الكنيسة إلي الرب سيرفع البرقع الذي يحجبها عن المسيح وسيرفع أيضا البرقع الذي يخفيها عن العالم. فعلينا ككنيسة أن نعيش في نور هذا الرجاء المبارك عندما نرجع إلي الرب جميعا لننظر وجه المسيح الذي أحبنا وقد غسلنا من خطايانا وجعلنا ملوكا وكهنة لله أبيه.




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس