الإنسان بين نسمة الخلق ونسمة القيامة


وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً (تك 2 : 7)
وَلَمَّا قَالَ هذَا نَفَخَ وَقَالَ لَهُمُ:«اقْبَلُوا الرُّوحَ الْقُدُسَ" (يو 20 : 22)



ربما كان من اللائق أن نضع تحفظا بسيطا في صدارة هذا المقال نصب عيني القارئ العزيز حتي لا يساء فهم النص الكتابي فتختلط الأمور لدي البعض ، وذلك فيما يتعلق بهذه النفخة المباركة من الرب للتلاميذ ، إذ قد يُظن أنها تعني ملء الروح القدس لهم ، ولكنها في الحقيقة لم تكن كذلك. لأنه من المعروف أن ملء الروح القدس لم يمكن ممكنا أن يعطي إلا بعد تمجيد الرب يسوع المسيح بصعوده إلي السماء وذلك حسب قول يوحنا الرسول "لأن الروح القدس لم يكن قد أعطي بعد لأن يسوع لم يكن قد مجد بعد" (يو 7 : 39). فقد كان لابد من إكتمال مخطط الفداء إلي آخره وذلك بصعود الرب وجلوسه عن يمين العظمة. وهذا بدوره يقودنا إلي أن نفرق بين ملء الروح القدس وبين حلوله ، فالأول لم يكن ليحدث بأي حال من الأحوال قبل صعود الرب يسوع وتمجيده ، أما الثاني فقد حدث في العهد القديم. إذا فهذا الملأ أو السكيب من الروح كان أمرا جديدا لم يحدث إلا في يوم الخمسين كما تنبأ عنه في يوئيل النبي (2 : 28). راجع أيضا (يو 16 : 7 ، أع 1 : 14 ، 2 : 33)

كما أن هذه النفخة أيضا قيلت في سياق الإرسالية العظمي للتلاميذ ، ولم تكن مجرد وعد بالروح القدس أو عربون كما يقول البعض ، بل كانت أكثر من ذلك ، لقد جلبت معها أيضا استخداما وسلطانا من الرب لهم في هذه المهمة الخاصة بهم إذ كانوا سيواجهون الكثير من المخاطر والمصاعب والتحديات التي لم يواجهها أحد مثلهم. ولا يستطيع أحد أن يدعي أن له هذا السلطان الرسولي أو سلطانا مماثلا له ، لأنه مَنْ مِن البشر أعطيت له هذه النفخة الربوبية أو قيلت له هذه الكلمات الإلهية ، أو حتي يستطيع أن يعمل أي من الأعمال التي عملها الرسل؟ كما أننا لا نقرأ في العهد الجديد أن الرسل سلموا أو نقلوا أو فوضوا هذا السلطان إلي غيرهم. وإن لم تكن هذه الريح المقدسة التي هبت علي وجوه التلاميذ أيضا تعني اعطاء حياة القيامة المجيدة بالروح القدس فعليا – إذ أن المفسرون يختلفون في هذا الأمر – إلا أننا علي الأقل نري في النفخة رمزا وإشارة للحياة الجديدة التي يعطيها الرب يسوع المسيح. وليس هذا شططا منا فقد استعمل الرسول بولس هذا القياس أيضا بين الخليقة الأولي والخليقة الجديدة عندما قال "لأن الله الذي قال أن يشرق نور من ظلمة ، هو الذي أشرق في قلوبنا ، لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح" (2 كو 4 : 6). و سيكون هذا موضوع تأملاتنا في السطور القادمة.

عندما نفخ الرب يسوع وقال للتلاميذ "اقبلوا الروح القدس" أراد أن يعود بنا إلي مشهد الخليقة الأولي حين جبل الرب الإله آدم من تراب الأرض ثم نفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفسا حية. وكأن الرب يريد أن يربط مشهد الخلق في القديم بمشهد إحياء الموتي بالذنوب والخطايا حديثا. ولا عجب في ذلك لإنه بعد أن صار الإنسان الأول نفسا حية ثم أضاع حياته تلك فورثنا عنه هذه الحياة الفاسدة بل بالحري ورثنا عنه الموت المفسد فإن لنا تعزية في آدم الأخير الذي يعطي روحا محييا. أتذكر أيها القارئ العزيز الأسد أصلان بعد قيامته من الموت كيف بثت أنفاسه الروح المحيية في أولئك الذي تجمدت الحياة فيهم بسبب تأثير المرأة الشريرة عليهم؟ إنها صورة أدبية رسمها الفيلسوف سي. إس. لويس للترابط الذي نحن بصدد الحديث عنه الآن ، إذ أنه – أي الترابط –  يقول الكثير ، ليس فقط من حيث التشابهات ولكن أيضا المفارقات بينهما ، وهذا ما سنتعرض له بنعمة الله في حديثنا عن العلاقة بين هاتين النفختين العظيمتين.

كلتاهما جلبتا الحياة

لولا تلك النفخة الإلهية لبقي آدم جسدا لا حياة فيه ولا حراك ، ولما عبر من عدم الوجود إلي الوجود. وعلي الرغم أننا لا نعرف الكثير من الأسرار عن الوجود البشري مثل أنه كيف تتحد الروح بالجسد إلا أننا نعلم علي وجه اليقين أنه لولا الروح لما كان لهذا الجسد قيمة ، مع كل ما فيه من تعقيد وحساسية ودقة متناهية. فما أعظم نسمة القدير التي سرت في جسد الإنسان ،  فأحضرت إليه الحياة ، وتحول من السكون إلي حركة ، ومن عدم الوجود إلي الوجود ، ومن جماد إلي كائن مفعم بالحياة. وإن كنا نستطيع أن نجد في التراب الذي أخذ منه الإنسان تفسيرا لما يشده لأسفل فإننا أيضا نستطيع أن نجد تفسيرا في تلك النخفة لما يجعل روحه تنجذب لأعلي. وعلي الرغم أن أصل روح الإنسان هو أنفاس الله ، وأن الروح هي ما يربط الإنسان بالله إلا أنها ليست من نفس الطبيعة الإلهية ، وإلا لما أصابها الموت والفساد بسبب الخطية (كو 2 : 13). لهذا جاء المسيح إلي عالمنا متجسدا لا لكي يصلح الفساد الذي فينا ولكن لكي ينفخ فينا تلك النفخة المباركة بعد قيامته من الموت. وإن كانت نفخة الحياة الأولي جعلت الإنسان يعطش إلي أصل وجوده إلا أنها لم تكن كافية لتجعله يختبر حميمية العلاقة مع أصل هذا الوجود. كان ذلك يتطلب أن يتجسد الله في المسيح ويحمل ضعف الإنسان وخطيته وموته ويعطي له حياة القيامة المجيدة التي انتصر بها علي الموت. لهذا حدثت هذه النفخة بعد القيامة المجيدة وما كان يمكن أن يعطي إمتياز الحياة الجديدة هذا دون موت الرب يسوع المسيح وقيامته. لأنه علي أساس كفارة المسيح وحده استطاع الإنسان أن يختبر حميمية العلاقة مع الله وأن يصير شريكا للطبيعة الإلهية.

وينبغي أن نضع في الإعتبار أنه مع كون آدم خلق علي صورة الله ومثاله أدبيا إلا أنه من حيث طبيعة الحياة التي حصل عليها لا يختلف عن المخلوقات الأدني منه كثيرا. فتعبير "نفسا حية" الذي قيل عن آدم غب انتشار نفخة  المحاياة في جسده قيل أيضا عن الدبابات التي أخرجتها الأرض والزحافات التي فاضت بها المياه (تك 1) ، ونحن بالطبع لا نريد أن نقول أن الإنسان لا يغاير الحيوان ، إذ أن هذا غير صحيح ، ولكن هناك صفات مشتركة بين تلك الحياة التي أعطيت لآدم وبين تلك التي أعطيت للحيوانات. ولسنا هنا بصدد الحديث عن تفاصيل هذه المساحة المشتركة ، ولكننا فقط نريد أن نلفت النظر إلي وجودها. لهذا جاء الرب يسوع المسيح ليرتقي بالإنسان ليرفعه إلي مستوي أعظم وأسمي في معرفة الله ، من الحياة الطبيعية إلي حياة الطبيعة الإلهية ، من الحياة التي يشترك فيها مع المخلوقات الأخري الأدني منه إلي حياه يشترك فيها مع إبن الله في قيامته ، من الحياة القابلة للفساد والموت والضعف والألم إلي حياة الدهر الآتي حيث لا موت ولا خطية ولا ضعف ولا ألم ، من حياة مخلوقة محدودة البركة إلي حياة الله نفسه في ملأ البركة. وكما يقول سي. إس. لويس في تشبيهه للحياة التي يحصل عليها الإنسان علي إثر النفخة الأولي (بيوس) والحياة الروحية الأخري التي هي وليدة النفخة الثانية (زويي) "فما هو الفرق الذي أحدثه المسيح إلي الكتلة البشرية بكاملها؟ هو بالضبط كالآتي: إن مشروع صيرورة الإنسان إبنا لله ، بتحوله من كيان مخلوق إلي كيان مولود ، وإنتقاله من الحياة البيولوجية الوقتية إلي الحياة "الروحية" الأبدية ، قد أنجز لنا .. ولكن العمل الشاق حقا ، ذاك الذي لم يكن في وسعنا أن نعمله نحن أنفسنا ، قد أكمل لنا. فليس علينا أن نحاول الإرتقاء للحياة الروحية بمجهوداتنا الشخصية ، إذ أن تلك الحياة قد نزلت فعلا إلي وسط الجنس البشري. وإن نحن فقط فتحنا باب أنفسنا لذلك الإنسان الفرد الذي فيه كانت تلك الحياة حاضرة حضورا كليا ، والذي هو ، رغم كونه الله ، إنسان حقيقي أيضا ، فإنه يفعل ذلك فينا ولنا".

كلتاهما هبتان

إن نفحة الحياة التي استقبلتها حواس آدم التي كانت بلا إحساس فأحيتها قديما لم تكن إلا هبة إلهية ، فهو لم يكن له وجود قبل هذه النفخة حتي مع وجود الجسد ، ولم يكن له إرادة  ليختارها حتي مع وجود ما يمكن أن تسخره الإرادة لخدمتها ، ولا أشواق ليسع وراءها حتي مع وجود ما يمكن أن تعبر به هذه الأشواق عن نفسها ، ولا فهما لكي يميز الوجود من عدمه حتي مع وجود آلة الفهم ، ولكنه أعطيها كهبة. ولم تكن هبة الحياة هذه التي أعطيها وليدة اللحظة أو وليدة الصدفة ، بل كانت مخططا إلهيا وتوقا أزليا قديم قدم الأزل السحيق (مز 139 : 16). وإن كان لم يسع الإنسان إلي تلك الحياة أو يشتاق إليها أو فعل أي صلاح ليستحقها فكم وكم بالحري تلك المحاياة التي نعطي إياها عند قيامتنا من قبور خطايانا والتي نصير بها شركاء الطبيعة الإلهية (2 بط 1 : 4)؟ فليس هناك إذا ثمة شك أن حياة الأبد أو حياة الدهر الآتي قد أعطيت له كمنحة أيضا. لأنه إن كان آدم قد وهب نسمة الإحياء بدون أن يفعل أي صلاح ليستحقها فكيف يستحق الإنسان الشارب الإثم كالماء والمحكوم عليه بالموت الحياة التي أقامت الرب يسوع من الموت؟ (أف 2 : 6). لهذا يقول الوحي المقدس "لأن أجرة الخطية هي موت ، وأما هبة الله فهي حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا" (رو 6 : 23) ، وأيضا "إذ أعطيته سلطانا علي كل جسد ليعطي حياة أبدية لكل من أعطيته. وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته" (يو 17 : 2 – 3).

وكل ما قيل عن هبة الحياة التي أخذها آدم يمكن أن يقال أيضا عن نافلة الحياة الجديدة التي يأخذها الخاطئ. فهي ليست فقط هبة لأن آدم لم يفعل أي شئ ليستحقها ولكنها أيضا كذلك لأنه لم تكن له الإرادة لكي يختارها. كيف يمكن لشخص ميت بالذنوب والخطايا أن يُرٍد الحياة الأبدية؟ فمنذ متي وللميت صريمة؟ أين كانت إرادة لعازر أو إبن أرملة نايين لكي يطلبا أن يعودا إلي الحياة من جديد؟ وعلي فرض أن الإنسان يمتلك الإرادة ليختار مَن أدراك أنه يمتلك الفهم والأمانة اللتان تمكنانه من الإختيار السليم؟ ألم يقل الكتاب المقدس "ليس من يهفم" (رو 3 : 11) وأن "القلب أخدع من كل شئ وهو نجيس من يعرفه؟" (إر 17 : 9)؟ وألم يثبت الإنسان في جنة عدن فشله الذريع وهو بعد حر الإرادة عندما اختار ثمرة الموت؟ (تك 2 : 17 ، 3 : 6)؟ ناهيك عن أشواقه التي ماتت أيضا كما يقول الكتاب "إذ هم مظلموا الفكر ومتجنبون عن حياة الله لسبب الجهل الذي فيهم بسبب غلاظة قلوبهم" (أف 4 : 18). راجع أيضا (يو 3 : 19 ، رو 3 : 11). وكما أن الإنسان ليس له إختيار في أن يفرط في هبة الحياة التي أعطي إياها في آدم – علي اعتبار أننا نقصد بالحياة هنا الوجود – عندما نفخ في أنفه نسمة الحياة ، إذ أن الموت يفصله عن الله ولكنه لا يعيده إلي حالة عدم الوجود التي كان عليها قبل النفخة ، هكذا أيضا فإن الحياة الجديدة هي هبة بلا ندامة من الله. لهذا فقد سميت حياة أبدية ، ليس فقط لأنها حياة الدهر الآتي ولكن أيضا لأنها حياة بلا نهاية ، لها نقطة إنطلاق ولكن ليس لها نقطة عودة أو توقف. وإن قلنا أن الإنسان يمكن أن يفقد هبة الحياة الإبدية لناقضنا أنفسنا بهذا القول لأنها إن فقدت لا تكون أبدية. فما أعظمها من هبة!

كلتاهما صوحبتا بسلطان

تخبرنا الأصحاحات الأولي من سفر التكوين في أكثر من موضع عن السلطان الذي منح لآدم علي الخليقة ، فقد كان له سلطان علي طير السماء وسمك البحر وكل البهائم والدبابات التي تدب علي الأرض. فلم يكن شئ في مملكة الحيوان غير خاضع لآدم بما فيها الجوارح والوحوش المفترسة حتي أنه دعا جميعها بأسماء. والأهم من ذلك – والأمر الذي قد لا تخبرنا عنه الأصحاحات الأولي من سفر التكوين صراحة – هو سلطان الإنسان علي نفسه ، ذلك السلطان الذي ربما لم يدم طويلا ، إذ أننا نقرأ لاحقا أنه باع ذلك السلطان جنبا إلي جنب مع براءته وعلاقته الحميمة مع الله مقابل قضمة من ثمرة معرفة الخير والشر. فأضحي يخشي الطبيعة ويخاف من نفسه في أحيان كثيرة ، بل وصار عبدا للخطية والشيطان. ولا زال الإنسان يحاول عبثا أن يستعيد سلطانه علي الخليقة وعلي نفسه ، ولكنه يجهل أن هذا السلطان يرتبط تمام الإرتباط بالحياة التي أخذها من أنفاس الله وأضاعها بإنفصاله عنه عندما قرر الأكل من الشجرة المحرمة. وهذا أمر منطقي أن لا يكون للميت روحيا أي سلطان ولو حتي علي نفسه. لذلك ذهبت كل محاولات الإنسان في إستعادة هذا السلطان المفقود أدراج الرياح ، فلم تنفع معه الفلسفة ، ولا التقشف ، ولا التهذب أو التحضر ، ولا حتي التدين ، بل ربما أزادت هذه الأمور حالته تعقيدا ، فهو الآن يعرف أكثر مما يستطيع أن ينفذ.

لقد تطلب الأمر أكثر من مجرد الطلاء الخارجي الذي يضعه الإنسان علي نفسه والذي لا يخدع به إلا ذاته. كان لابد من نفخة حياة من نوعية جديدة ليس فقط لكي يستعيد الإنسان بها سلطانه علي نفسه ، بل حتي لا يضيع هذا السلطان من جديد أيضا. وهذا ما عمله ربنا يسوع المسيح بقوة قيامته المجيدة ، أعطي نسمة حياة قيامته المباركة لكل من يؤمن به ، عندما اقتحم الرب بيت القوي وربطه ونهب أمتعته ، وأعاد للإنسان سلطانه علي نفسه ، بل أعطاه أعظم من ذلك ، روحه الأقدس الذي به قام من بين الأموات (رو 1 : 4). أليس هذا ما حدث مع المرأة التي أمسكت في ذات الفعل عندما قال لها الرب "اذهبي ولا تخطئي أيضا" (يو 8 : 11)؟ نعم ، ولم تكن هذه الكلمات مجرد تحريض من الرب لها علي حياة القداسة ، بل كانت مصحوبة بسلطان جديد علي نفسها ، لأنه ماذا ينفعها التحريض لو لم تكن هناك قوة تصحبه. ويعوزنا الوقت والمساحة أيها القارئ العزيز للحديث عن ذلك ، فالأمثلة عديدة من الكتاب ومن خارجة علي أناس لا حصر لهم قاموا من موتهم الروحي وتحرروا من سلطان الخطية. ولعل قارئ هذه السطور كان واحدا من هؤلاء الذين كانوا مجرد أمتعة في بيت القوي فدخل الأقوي منه وربطه وأخذك لنفسه ، فهنيئا لك بذلك. وعلي الرغم أننا كمؤمنين قمنا مع المسيح ولم نختبر بعد هذا السلطان في ملئه إلا أن هذا لا يعني أنه غير موجود ، لأنه ما دمنا نستوطن في هذا المائت فلابد أن نعثر في أشياء كثيرة إلي أن يلبس هذا المائت عدم موت ، حينئذ نختبر هذا السلطان في ملئه.

كلتاهما كانتا بغرض الشركة

يخبرنا الكتاب أن الرب الإله جبل آدم من أديم الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار نفسا حية ، وبعد ذلك أخذه ووضعه في جنة عدن حيث يكون له شركه معه هناك. فلم يخلق الرب الإنسان ليحيا كل منهما في معزل عن الآخر ، بل لتكون هناك شركة لصيقة بينهما. فقبل أن يأكل الإنسان من ثمرة معرفة الخير والشر ويسقط تعود أن يتقابل مع الرب الإله في الجنة عند هبوب ريح النهار "وسمعا صوت الرب الإله ماشيا في الجنة عند هبوب ريح النهار ، فإختبأ آدم وإمرأته من وجه الرب في وسط شجر الجنة" (تك 3 : 8). يقول جون جيل تعليقا علي ذلك أنهما "سمعا صوت الرب الإله ، الذي سمعاه وعرفاه من قبل ، إلا أن نغمة هذا الصوت قد اختلفت الآن ، فقد كانت قبلا رقيقة ولطيفة ، مسرة ومبهجة". كان الإنسان في شركة يومية وطيدة مع الرب قبل السقوط ، إلا أن تلك الشركة تحولت إلي أمر مزعج حتي نجده يختبأ هو وإمرأته في وسط شجر الجنة. ولا شك أن هذه الشركة الضائعة أحدثت فراغا عميقا عمق الهاوية في القلب الإنساني ، لهذا رأينا ولا زلنا نري الإنسان يحاول ملء هذا الخواء بأشياء لا تسطيع أن تعوض ولو بالقليل عن تلك الشركة المفقودة. يا لبؤس الإنسان وشقاوته فهو لم يعد يطيق العلاقة مع الله وصار يختبئ منه وسط أشجار الحياة ، ولكنه في نفس الوقت لا يطيق هذا الشغور الداخلي الذي أحدثه الإنقطاع في الشركة مع الله!

وكما كان الهدف من النفخة التي صيرت آدم نفسا حية هو الشركة مع الله ، هكذا أيضا نفخة الرب يسوع المسيح لكل من يؤمن به وبعمله علي الصليب. فعندما تهب علي أرواحنا ريح القيامة فإننا نقوم من الموت لكي ندخل في علاقة وشركة غير منقطعة مع الله ، ولكي تصير تلك الشركة مع من أقامنا شغلنا الشاغل. وعلي الرغم من أنه كان لآدم إمتياز الشركة مع الله وجها لوجه ، إلا أنه لا شك أن شركتنا نحن مع الله في ظل إنجيل النعمة لهي أعظم من شركة آدم في ظل حالة البراءة التي كان فيها بمقدار عظمة الإعلان الذي أعلنه لنا الرب يسوع المسيح لشخص الله ، وليس ذلك فقط بل أيضا بمقدار عظمة وسمو واقتدار نوعية الحياة التي حصلنا عليها بقيامة المسيح ، "لأن الذي قال أن يشرق نور من ظلمة ، هو الذي أشرق في قلوبنا ، لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح" (2 كو 4 : 6). يقول يوحنا الرسول "أما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح" (1 يو 1 : 3). إن النفس التي قامت من الموت لا تستطيع إلا أن يكون لها شركة مع من أقامها ، ليس من قبيل الإعتراف بالجميل ، ولكن حبا وافتتانا وانجذابا واحتياجا واكتفاء بذاك الذي صارت أنفاسه مصدر حياتها وقوتها وغناها. علي أنه قد تشوب هذه الشركة بعض الشوائب في حياتنا علي الأرض ، وذلك بسبب الخطية التي لازات تسكن فينا ، إلا أنه سيأتي ذلك اليوم الذي نتمتع فيه بملء الشركة مع الله حينما نري من أحبنا وجها لوجه. ولكن فلنجتهد أن لا نجعل نيران الشركة مع الله تخبو.

كلتاهما حدثتا طبقا لصورة

أثمرت المشورة الإلهية بين أقانيم الثالوث الأقدس بخلق الإنسان حسب صورة الخالق "وقال الله: نعمل الإنسان علي صورتنا كشبهنا" (تك 1 : 26). وعلي الرغم أن آراء المفسرين تتباين بخصوص تحديد أوجه الشبه بين الصورة والأصل ، إلا أن جميعهم يتفقون علي عنصرا مشتركا في هذا التشابه ألا وهو أن الإنسان مخلوق علي صورة الله فيما يتعلق بالطبيعة الأدبية. ويوضح لنا سي. إس. لويس هذا الأمر قائلا: أن للإنسان شكل الله ولكن ليس له نوع الحياة الذي لله. وكل ما صنع الله له بعض الشبه به فالفضاء يشبهه في ضخامته ، والمادة تشبهه الله في كونها ذات طاقة ، والعالم النباتي يشبهه الله لأنه عالم حي ، ونشاط الحشرات وخصوبتها لها مشابهة باهتة لنشاط الله الدائم وابداعه السرمدي ، حتي إذا وصلنا للإنسان نجد أكمل ماشبهة لله نعرفها. ولكن ما ليس عند الإنسان في حالته الطبيعية هو الحياة الروحية: الحياة الأعلي والمختلفة نوعا والموجودة في الله.

 كما أن الحياة الجديدة التي أخذها المولود من الله هي أيضا حسب صورة الخالق "ولبستم الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه" (كو 3 : 10). إلا أننا نؤمن أن مجد الصورة الثانية يختلف عن مجد الصورة الأولي. وفي هذا الصدد يذكر JFB  تعليقا علي الآية الآخيرة التي أوردناها أن الإنسان الجديد خلق حسب الله خالقه (أف 2 : 10 ، 4 : 24). فالخليقة الجديدة موازية أو مماثلة للخليقة الأولي (2 كو 4 : 6). وكما خُلق الإنسان وقتها علي صورة الله طبيعيا ، كذلك الآن روحيا. ولكن الصورة التي تكونت فينا بواسطة الروح القدس ، لهي أكثر مجدا من تلك التي حملها آدم ، وعظيمة بمقدار الفارق بين مجد الإنسان الثاني – الرب من السماء – ومجد الإنسان الأول. ويفرق أوريجين بين تعبير "صورة" وتعبير "شبه" إذ يقول أن "الصورة" كانت في الجميع ، ولا زالت في الإنسان حتي بعد سقوطه (تك 9 : 6) ، بينما "الشبه" كان شيئا خُلق الإنسان في صوبه ، لعله يستطيع أن يجاهد فيدركه. ويعتقد ترينتش أن الله في هذا التعبير الثنائي كان يتأمل كل من الخليقة الأولي للإنسان وأيضا تجديده للمعرفة حسب صورة خالقه. فهل تصور المسيح فيك بعد أيها القارئ العزيز؟

كلتاهما تُبِعتا بعملا معلنا لهما

لم يعطي الرب الإله نسمة الحياة لآدم لكي لا يجد ما يعمله ، بل ها هو يستلم مهمة من الرب "وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها" (تك 2 : 15). وإن كان آدم قد حصل علي نفخة الحياة من أنفاس الله وهو لم يفعل أي صلاح بعد ، فها نحن نراه هنا يعمل ما كلفه الله به بعد أن عرفت نفحات الحياة الإلهية طريقها إليه. وإذ حملت هذه النسمة عصارة الحياة إلي كيانه أعطته القوة لكي يريد ويعمل ما أسنده الرب إليه. فجائت أعماله كثمار أنتجتها تلك العصارة الروحية التي بثتها فيه الريح المحيية. وحتي العمل الذي عمله آدم كان قد أعد قبلا من الرب ولكن ما كان عليه هو أن يستخدم الإبداع الذي حباه الله به "وجبل الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية وكل طيور السماء ، فأحضرها إلي آدم ليري ماذا يدعوها ، وكل ما دعا به آدم ذات نفس حية فهو اسمها" (تك 2 : 19).

والحياة الجديدة التي يحصل عليها المولود من فوق تعلن عن نفسها أيضا ، ليس فقط في الإرهاصات الأولي لها كالصلاة التي صلاها بولس عندما سقطت القشور من علي عينيه (أع 9 : 11) ، وكالرغبة في التواجد إلي جوار من أعاد إلينا إنسانيتنا مثل مجنون كورة الجدرييين (مر 5 : 18) ، وكالشهوة المقدسة للبن كلمة الله العقلي اللازم للنمو (1 بط 2 : 2) ، ولكن أيضا في أعمال البر التي نعملها. يقول الرسول يوحنا "إن علمتم أنه بار هو، فإعلموا أن كل من يصنع البر مولود منه" (1 يو 2 : 29). فالدليل علي التبرير هو أن نصنع البر ، والدليل علي إظهار الحياة التي أخذناها من الله هي حياة البر العملي. لذا يقول أيضا يعقوب "ولكن هل تعلم أيها الإنسان الباطل أن الإيمان بدون أعمال ميت؟" (يع 2 : 20). ويعقوب لا يقصد هنا أن الأعمال لازمة للخلاص ، إذ أن ذلك الأخير يأتي بالإيمان وحده كما قال بولس "إذ نحسب أن الإنسان يتبرر بالإيمان بدون أعمال الناموس" (رو 3 : 28) ، ولكنها لازمة لإثبات صدقه وأصالته. فكيف نستدل علي الحياة في كل من اعترف بحصوله علي نفخة الحياة الجديدة سوي بالثمار التي لابد وأن تعبر عن نفسها بفعل عصارة الحياة التي تسري فيه؟ وإلا اعتبر الإنسان المعترف ميتا روحيا وإيمانه باطل أي ليس له وجود كما يخاطبه يعقوب "أيها الإنسان الباطل". فالنعمة التي تكشف لنا عن حقيقة ضعفنا وموتنا الروحي في التجديد هي نفسها التي تحضنا وتعلمنا أننا "نحن عمله ، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله وأعدها لكي نسلك فيها" (أف 2 : 10).

كلتاهما تطلبتا مقابلة شخصية مع معطي الحياة

لعل الرب أخذ يراقب وجنتي آدم وهما تتحركان تبسما عندما رأتا عيناه الرب كأول ما أبصره في حياته بعدما سرت في جسده نسمة الحياة. ولعل أولي كلمات آدم عندما رأت عيناه الرب وهو بين ذراعيه القدوستين "خالقي" فما كان من الرب إلا أن يري أنه "حسن جدا". نعم لقد تطلب الأمر مثل هذا الإقتراب الشخصي المباشر من الرب لآدم. فلم تعطي الحياة لآدم من خلال واسطة معينة ، أو أنه خرجت من رحم جمادا ، مثل الزحافات التي فاضت بها المياه والدبابات التي أخرجتها الأرض ، ولكن الأمر اقتضي أن تقترب تلك الشفتان القديرتان من وجه آدم الذي كان بلا حياة لتنفخ فيه تلك النفخة المحيية. والإنسان الميت بالذنوب والخطايا لابد أن يأتي إلي الرب شخصيا ومباشرة ، بدون الإستوساط بأي بشر أيا كانت درجة تقواهم أو حتي الملائكة مهما كانت قدرتهم ، ولا حتي يحتاج إلي ثمة أمر مادي مهما كانت درجة قداسته ، وذلك لأن تلك النفخة المحيية تعطي مباشرة كما خرجت من بين شفتي الرب يسوع لتلاميذه. بل إن المؤهل الوحيد هو أن ندرك موتنا الروحي لكوننا أشرار منفصلون عنه ونأتي إليه كمن يقيم الموتي ، وأن ندرك عرينا الروحي وأننا لا نمتلك أي شئ يسترنا أمام عينيه الفاحصتين اللتان تخترقان أستار ظلام القلوب ونأتي إليه وحده كمن يكسو بالبر ، ونقف أمامه كما وقف هؤلاء الذين كان بعضهم صيادين وبعضهم عشارون الذين ظهر عريهم وموتهم ليس فقط أمام ذاك الذي عيناه كلهيب نار ولكن أيضا أمام أنفهسم بعد أن خانه منهم من خانه وأنكره منهم من أنكره وتركه منهم من تركه عند رابية الصليب وحد ومسكين. فهل أخضعت نفسك لأبي الأرواح ليرسل إلي روحك ريح قيامته المجددة؟ ليتك تفعل هذا فتحيا. آمين.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس