لماذا أؤمن (4)



هل أمات العلم الله؟

يعتقد الكثيريون أن العلم والإيمان خصمان يتباريان في حلبة مصارعة .. جولاتها مستمرة وساخنة.. وجمهورها متعطشا للإثارة .. ويتناوب كل منهما فيها المكسب والخسارة .. وأن كل منهما ينتظر اللحظة التي يحظي فيها بلمس أكتاف للآخر ليقضي عليه ويشهر به أمام جمهور المشجعين. أو كما صور لنا نجيب محفوظ هذا الصراع في روايته أولاد حارتنا بالسيد "عرفة" الذي يرمز إلي العلم عندما يقتل "جبلاوي" الذي هو رمزا لله. علي أن هذا الإنتصار البادي أمامنا لم يكن كذلك في بداية الأمر. فعندما كانت أوروبا في قبضة الكنيسة لم يكن للعلم أي صوت يُذكر ، ولكن بعد أن تحررت أوروبا من سطوة البابوية وفسادها بفضل الإصلاح البروتستانتي العظيم وانطلقت النهضة العلمية كالصاروخ من قاعدته أضحت أوروبا أكثر علمية وعلمانية للدرجة التي فقدت معها تقريبا هويتها الدينية تماما ، وصار صوت العلم فيها مسموعا أكثر من الكنيسة التي بات صوتها كالضجيج الذي لا معني له بسبب  فضائحها القديمة وماضيها الغير مشرف. ومع أنه قد يُصوَّر للعامة أن العلم وجه ضربته القاضية للإيمان بالله حينما خرج علينا داروين بنظريته الشهيرة التي خطها في كتابه "أصل الأنواع" في القرن التاسع عشر ، خصوصا بعد أن تغيرت قواعد اللعبة السياسية ولم تعد مقاليد الأمور في يد الكنيسة كما اعتدنا أن نري ، إذ أضحي صوت المجمتع العلماني المستبيح الآن أكثر تحيزا للعلم ليس لشئ سوي أن هذا الأخير يستطيع أن يبرر له نجاساته وشروره من خلال كذبة أننا أتينا من ذرة لا قيمة لها وماضون إلي الفناء حيث لا خلود ولا عقاب ولا إله ، إلا أن الحقيقة غير ذلك تماما. فالأمر لا يعدو أن يكون أكثر من مجرد معركة كلامية يحاول فيها العلم أن يبدو فيها سيد الموقف وصاحب الكلمة الأخيرة .. بل والله نفسه.

وما جاء علي لسان توماس جيفرسون أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية يمكن أن يعطينا لمحة عن هذه المعركة التي يحاول فيها الملحدين أن يجعلوا إيماننا بالله يهتز إذ يقول أن "رجال الدين من مختلف الطوائف .. يعانون من تقدم العلم كما يعاني السحرة من موعد شروق الشمس ، ويعبسون في وجه تلك الإطلالة التي تعلنهم بأن تلك الأوهام التي يعتاشون عليها في طريقها للزوال" (وهم الإله لريتشارد داكينز– الفصل الرابع). بل ويذهب ريتشارد داكينز أبعد من ذلك فيقول لنا في كتابه السابق الإشارة إليه أن الإيمان بالله منتشر في المجتمعات والأوساط الأقل ثقافة ، وأن نسبة الإيمان بالله بين العلماء تكاد تكون منعدمة. وبالطبع ليس ذلك صحيحا ، فأعظم العلماء في كل العصور علي الإطلاق وهو السير اسحق نيوتن كان مسيحيا مؤمنا بالله والذي فاقت كتاباته الدينية مثيلتها العلمية ، ناهيك عن الكثير جدا من الأسماء الأخري اللامعة مثل فاراداي وماكسويل ومندل وباسكال وجاليليو. وإن ذكرت هذه الأسماء السابقة علي مسامع ريتشارد داكينز لسارع بالرد قائلا أن معظهم جاء قبل أن تظهر نظرية التطور لداروين ، ولكننا نجيب عليه قائلين أن في عصرنا الحالي يوجد أيضا الكثيرين من حملة الدكتوراه في شتي العلوم من يؤمنون بالله ويدافعون عن وجوده مثل: دون باتون وتاس والكر وديفد كاتشبول وبيير جيرلستورم وأليستر ماكجراث ومارك هاروود وجيم ماسون وجون كروجر وجوناثان سافراتي وروبرت كارتر وغيرهم الكثيرين جدا. ويستطيع صديقنا القارئ أن يتأكد بنفسه بالبحث عن هذه الأسماء في الشبكة العنكبوتية.

وللأسف فقد وقع من يدعون بأن العلم سيقضي علي الإيمان بالله في نفس الخطأ الذي وقعت فيه الكنيسة في العصور المظلمة لأوروبا حينما تعدت علي رجال العلم مثل جاليلو وحاكمته بالهرطقة عندما دافع عن نظرية كوبرنيكوس القائلة بمركزية الشمس ودوران الأرض حولها. وموقف هؤلاء الذين يدعون بأن العلم يستطيع أن يثبت عدم وجود الله ليس أفضل من الموقف المخزي للكنيسة مع عالمنا الجليل جاليليو. فكلاهما تعدي علي إختصاص الآخر ، وكلاهما حاول أن يسحق الآخر ويسيطر علي دائرة نفوذه ويُضحِك الآخرون عليه. فهل هو صراع علي النفوذ والمجد بين رجال العلم ورجال الدين؟ ربما. ولكن ما يهمنا هنا هو أن هؤلاء العلماء المتحذلقون يفتون فيما لا يعلمون. وإن كنا نحن لا نستطيع أن نثبت وجود الله بالأدلة المادية ، فهم أيضا لا يستطيعون أن ينفوا ذلك علميا وإن قضوا كل أعمارهم بين أنابيب الإختبار وأمام شاشات الكمبيوتر وفي وسط حقول التجارب. وبما أن أصلنا وأصل الكون الذي نعيش فيه هما القضية المشتركة والسؤال العويص الذي يحاول كل من الطرفين الإجابة عنه ، فعلي الملحدين التطوريون إثبات أنه غير مخلوق ولم ينشأ إلا عن انفجار عظيم لذرة حدث لها تطورا كوزمولوجيا ثم جيلوجيا ثم بيوكيميائيا ثم بيولوجيا إلي أن وصلنا للإنسان في صورته الحالية. أما المؤمنون بالله فيقع عليهم عبء إثبات أن الكون مخلوق من العدم بكلمة الله ، وحيث أننا ندعي وجود إله غير منظور فالبينة علي من ادعي والدليل علي من أنكر. وبالمناسبة فإن قائل هذه العبارة الأخيرة هو الفيلسوف أنتوني فلو الذي كان أيام إلحادة من ألد أعداء الإيمان بالله ولكنه لم يجد بد من الإعتراف بذلك الإله الذي لم يستطع أن ينكر وجوده في قوانين الطبيعة وشفرة الحمض النووي DNA ، مع التحفظ طبعا علي أنه لم يصر مسيحيا بل اكتفي بالإيمان بالله.

وفرع العلم الذي يبحث في أصل الكون ونشأته  (Origins Science)لا يندرج تحت العلوم التجريبية (Operational science) التي تخضع للتجربة والملاحظة وإمكانية التكرار. وإنما له طبيعة مختلفة تدخل في نطاق العلوم التاريخية لكونه لا يمكن إخضاعه للتجربة والملاحظة. فأنت تستطيع أن تكتشف بنفسك درجة الحرارة التي يغلي عندها الماء وتتأكد من ذلك بالقيام بتلك التجربة عدة مرات ، وهذا هو العلم التجريبي. أما علم النشأة فيهتم بكيف آلت الأمور إلي ما هي عليه الآن ، مثل كيف تكونت الصخور ، وكيف جاء الإنسان إلي العالم. من هنا نشأت التفرقة بين الإثنين. وبما أننا لم نري كيف أتت الخليقة إلي الوجود ولا نستطيع اخضاع هذا الأمر للتجربة والملاحظة ولا يمكننا تكرار عملية الخلق تلك إذا فالموضوع لا يمكن فحصه بواسطة العلوم التجريبية. بل هو تاريخ محض. لهذا قال ستيفن ج. جولد عالم الأحياء الشهير بجامعة هارفارد والذي يعتبر من أشرس المدافعين عن نظرية التطور "أقولها لكل الزملاء وللمرة المليون (من جليسي الكليات وحتي مقدمي الإطروحات العلمية): العلم ببساطة لا يستطيع (بإستعمال الطرق الشرعية) الحكم في قضية إذا ما كان الله قائما علي الطبيعة. ولا نؤكده ولا ننفيه ، بل ببساطة نقول بأنه ليس لدينا كعلما القدرة للتعليق علي هذا الموضوع".


وهذه التفرقة بين العلوم التجريبية ونظرية التطور كعلما تأريخيا ليست من اختراع المؤمنين بالله بل أقر بها أشد المدافعين عن نظرية التطور من العلماء. فمثلا ذكر موقع Scientific American أن عالم الأحياء الدارويني إيرنست ماير Ernst Mayr يري أن "داروين أدخل التاريخ إلي العلم. فالبيولوجيا الداروينية هي علما تأريخيا وذلك علي خلاف الفيزياء والكمياء. والتطوريون يحاولون شرح الأحداث والعمليات التي حدثت بالفعل، ولكن القواعد والتجارب هي تقنيات غير ملائمة لشرح تلك العمليات والأحداث". وقال أيضا عالم الأحياء الدارويني ادوارد اوزبورن ويلسون E. O. Wilson "لو فرضنا أن السيارة المتحركة هي كائنا حيا، فإن علم الأحياء الوظيفي يشرح تركيبها وطريقة عملها، بينما يقوم علم الأحياء التطوري بإعادة تركيب أصلها وتاريخها، كيف أتت إلي الوجود والرحلة التي قتطعتها إلي وقتنا الحالي" وذلك بحسب ما ذكر موقع جامعة ميتشيجان.

ورغم ما قاله ستيفين ج. جولد والذي يعتبر شريكا لداكينز في كفاحه ضد الإيمان بالله إلا أن هذا الأخير لم يقنع برأي صديقه في عجز العلم التجريبي عن البت في قضية وجود الله ، فيأتي لنا بمثال سخيف لتجربة يعتبرها علمية ولكنها في الحقيقة أشبه بمسرحية هزلية. والتجربة هدفها اختبار فعالية الصلاة للمرضي والتي قامت بتبنيها منظمة تمبلتون وأثبتت أنه لا فعالية للصلاة علي الإطلاق وبالتالي فلا وجود لله. وهي تتخلص في أنه قد طُلب الصلاة من أعضاء كنائس معينة من أجل بعض المرضي الذين علم بعضهم أن هناك من يصلون من أجلهم والبعض الآخر لم يعلم. وفي كل الحالات جاءت النتيجة متطابقة وهي أن أحد منهم لم يُشفي. وأقل الشكوك التي يمكن أن تثيرها هذه التجربة في أذهاننا هو أنه من أدرانا أن تلك الصلوات استوفت شروطها التي حدثنا عنها الكتاب المقدس؟ وكيف نتأكد من أمانة القائمون علي التجربة؟ وألم يعلمنا الكتاب المقدس أن لا نجرب الرب إلهنا فكم وكم عندما يجربه من لا يؤمنون به؟ أبهذه السهولة تحاول اقناعنا أن الإيمان بالله يمكن إخضاعه للتجارب العلمية؟ وعلي أي حال فإن العلم التجريبي لا يصلح أبدا لقياس الأمور الروحية الغير منظورة بشهادة العلماء أنفسهم.

وما يستطيع أرباب العلوم التاريخية فعله في هذا المضمار هو أن يقوموا بوضع النظريات والتكهنات والإفتراضات التي لا يمكن التحقق منها بواسطة الأدوات التي تستخدم في العلوم التجريبية. والمثال الشهير علي استخدام العلماء للإفتراضات هو طريقة القياس المستخدمة في تحديد عمر الصخور المكتشف بها الحفريات والتي تسمي "التأريخ بواسطة الراديوأيزوتوب" أو كما يقال لها بالإنجليزية (Radioisotope Dating). وهذه الطريقة تعتمد علي افتراض أن إنحلال العناصر وتحولها من صورة إلي أخري يحدث بنفس المعدل ونفس السرعة التي حدثت في الماضي. وقد استنتج بعض العلماء بأن الكون عمره ملايين السنين – وليس بضعة آلالف كما يقول الكتاب المقدس – بناء علي تلك الإفتراضات التي وضوعوها ليحددوا عمر الأرض. وهذا افتراض وافتراء محض لا يوجد دليل علي صحته. كما أن التطور الذي يدعيه المتشتقدون به لم يتم مشاهدته أو ملاحظته أثناء حدوثه وإنما تم افتراضه بناء علي بعض القرائن التي يجوز إثبات عكسها. وفي تناقض عجيب يدعو للدهشة ويثير السخرية يقول ريتشارد داكينز "أن عملية التطور تم رصدها وملاحظتها .. إلا أنه لم يتم ملاحظتها أثناء حدوثها" عفوا سيد داكينز عن أي ملاحظة تتحدث إن لم تري الأمر أثناء حدوثه؟ أنت إذا تتحدث عن استنتاجات وافتراضات قد تصيب وقد تخطئ. وليس الهدف من كلامنا هنا أن نقلل من قيمة علم النشأة وأنه لا فائدة له ، ولكن العكس صحيح فهو فرع من العلوم له فائدته إذ يندرج تحته علم التحقيق الجنائي الذي يرسي قواعد تقفي أثر الجناة ومن ثم تحقيق العدل ، بل أن الخلائقيون أنفسهم الذين يؤمنون بخلق الله لهذا الكون في ستة أيام حرفية وبأرض عمرها تقريبا ستة آلاف سنة يستخدمون أيضا علم النشأة هذا لتفسير كيف أدي الطوفان إلي وجود حفريات الديناصورات في أوضاع معينة عند اكتشافها.

في عام 1972 قام العالمان سيفين ج. جولد ونايلز إلدريدج بنشر نظيرتهما التي أثارت ضجة في الأوساط العلمية والتي تسمي (Punctuated Equilibrium) ، وذلك في محاولة منهما لسد ثقوب النظرية الداروينية الكلاسيكية ، وخصوصا فيما يتعلق بندرة الحفريات الإنتقالية المفقودة في السجل الأحفوري. إذ أن داروين نفسه قال في كتابه "أصل الأنواع" وفي الفصل السادس الذي عنونه "صعوبات تواجه النظرية" أنه إن لم يتم العثور علي تلك الحفريات الإنتقالية تصبح نظريته لا قيمة لها. وهذا ما حاول هذان العالمان القيام به في نظريتهما – إنقاذا لنظرية التطور. فهي تهدف إلي تفسير ندرة الحفريات الإنتقالية بين الأنواع المختلفة للكائنات الحية بإرجاع ذلك لحدوث التطور بسرعة دون أن يكون هناك فرصة لتلك الكائنات أن تترك لنا دليل ذلك في الحفريات. وبمعني آخر فإن كانت نظرية داروين الكلاسيكية تقول أن التطور كان منتظما ومتدرجا وبطيئا ، لكن نظرية جولد ومايلز تري أن التطور كان في معظم أوقاته راكدا وبطيئا ولكن تخللته فترات قصيرة نسبيا حدث فيها تطورا سريعا بناءا علي تحولات جينية أو طفرات معينة دون أن يظهر لنا في السجل الحفري ما يدل علي حدوث ذلك التطور السريع. لهذا السبب ليس لدينا سجلا أحفوريا غنيا بالحفريات الإنتقالية. وهذا عجب العجاب في رأييّ المتواضع. وكأن النظرية الأخيرة تنفي الأولي وتظهر هشاشتها ، في الوقت نفسه الذي تظهر فيه هذه النظرية الأخيرة قمة العبث والضحك علي الذقون. فإن كان العم داروين قال لنا صراحة أنه في حالة عدم وجود حفريات انتقالية كافية تثبت حدوث التطور بين الأنواع فإن كلامه هراء. وعندما انتظرت البشرية كثيرا وقامت بعمليات تنقيب لا حصر لها لكي تعثر علي تلك الحفريات أخذ الجميع يتسائلون إن كانت هناك حفريات انتقالية فعلا ، بل وإن كانت نظرية داروين صحيحة من الأساس. فخرج علينا السيدان السابق الإشارة إليهما لكي يقولا لنا "حذر فذر .. إنه لا يوجد أي حفريات انتقالية .. الحفريات بح!!". بهذه البساطة؟ وكأنهما يقولان أن التطور حدث ولا يوجد دليل عليه وكل من يعترض عليه أن يشرب من البحر. واحد يقول لنا أن نظريته لا تقوم لها قائمة إن لم يتم العثور علي "الكثير" من الحفريات المؤكِدة ، والآخر يقول لنا أنه لا توجد حفريات لأن التطور حدث بسرعة جدا بحيث تعذر ظهور التطور في حفريات الأنواع المختلفة. إنها مجرد نظرية تلو الأخري عزيزي القارئ ، فلا داروين استطاع أن يثبت لنا نظريته .. ولا مؤيدوه ولا أتباعه .. وحينما فشلوا في إثبات النظرية كما هي – بعد أن لجأوا للكثير من الأكاذيب التي سنتعرض لبعضها لاحقا – قاموا بتحوير النظرية لسد الثقوب التي فيها فخرجوا علينا بفرضية جديدة. فلم يفلحوا في إثبات أي من النظريتين حتي بالأكاذيب التي لم يستطيعوا حبكها علينا.

إذا فالعلم التجريبي لا يستطيع أن ينفي أو يثبت وجود الله ، وعلم النشأة والأصول هو ذو طبيعة تأريخية قائم علي الإفتراضات وبالتالي فإستنتاجاته ليست قاطعة بل يجوز إثبات عكسها. وهذا ما يحدث فعلا. فالتشابه الموجود بين الكائنات الحية ليس مرجعه هو أنهم جميعا انحدروا من خلية واحدة كما يقول الداروينيون ولكنه يخبرنا عن مصمم وخالق واحد للخليقة أراد أن يترك بصمته علي كل ما صنعته يده ، وأراد أن يخلق كونا متناغما منسجما لا توجد بينه إختلافات جذرية. وبالطبع فإن التأمل في أمر كالسابق الإشارة إليه قاد التطوري إلي نتيجة عكس التي توصل إليها الخلائقي. فكل منهما ارتدي نظارته الخاصة ليقرأ بها كتاب الطبيعة ، فالمؤمن بالله وضع نظارة الإيمان علي عينيه وقرأ السطور التي خطتها يد الخالق في الكون لتعلن عن خليقة عجيبة متناغمة جاءت إلينا من العدم ، أما معتنق نظرية التطور فيري أن هذا الكون لم يكن سوي ذرة صغيرة تطورت إلي كل ما نراه أمامنا الآن فتولد عنها كائنات متشابهة الطبيعة. فنحن إذا في حاجة إلي شهادة كتاب آخر غير كتاب الكون الذي يقرأه كل منا بحسب إيمانه ، أما هذا الكتاب فهو موجود ، وقد خطه من كان شاهدا بل وصانعا لهذا الكون ، ولا يوجد أصدق وأعظم من شهادة كلمة الله عن خليقته!

فضائح العلم الكاذب الإسم

في أحد المقالات التي طالعتنا عليها مجلة الخليقة العلمية الكتابية الفخمة وتحديدا في العدد الصادر في ديسمبر 2004 بعنوان "لماذا لم يُشفَي العلم من وباء الكذب إلي الآن" للدكتور العلامة جيري برجمان (وهو صاحب تسعة درجات علمية منها علي الأقل درجة دكتوراه في علم البيولوجيا) نقرأ أن معظم حالات الكذب في العلم حديثا تكون في مجال العلوم الحياتية وخصوصا علم البيولوجيا الطبية ، إذ أن عدد حالات سوء السلوك العلمي التي تم رصدها في عام 2001 فقط هي 127 حالة وذلك بحسب ما سُجل لدي مكتب نزاهة البحث العلمي في الولايات المتحدة الأمريكية. وأشهر الأمثلة علي ذلك هو فضيحة الدكتور زولتان لوكاس في مجال المناعة الطبية المتعلق بزرع الكلي حيث تم العثور علي بيانات مضللة في بحثه. وكان من اكتشف هذا الكذب هو تلميذه راندال موريس عندما علم أن هناك تقارير بحثية لم يقم بإجراءها الدكتور لوكاس. والطامة الكبري في كل ذلك هو أن الكذب لم يقتصر علي هذا البحث وحده بل امتد ليشمل أبحاث أخري اعتمدت عليه كمرجع. وقد يخيل إلينا أن الأكاذيب العلمية لا تحدث إلا في بعض الجامعات المغمورة ، ولكننا فوجئنا بأنها رُصدت أيضا في جامعات عريقة مثل هارفارد ، ييل ، كورنيل ، وسلون كيتيرينج .. وهي شائعة جدا لدرجة أنه في بعض الدول قد يُمنح من يستطيع حفظ سجل بحثه العلمي نظيفا تقديرا خاصا مثلما حدث مع العالم الإيطالي فرانكو رايزيتي. وليس بغريب علينا أن نري إيطاليا تقدر الأمانة التي أصبحت نادرة فيها. وهنا تكمن خطورة الكذب في البحث العلمي إذ أنه يمكن أن يعرض حياة الكثيرين للأخطار الناجمة عن تلك الضلالات العلمية الغير مدروسة والغير مختبرة ، ناهيك عن السمعة والبرستيج اللذان يحاول أن يختلقهما العلم لنفسه بأنه قادر علي حل كل المشكلات بل وحتي سبر غور تلك التي تتعلق بالأمور الروحية الميتافيزقية.

أما عن فضائح العلم الدارويني الكاذب فحدث ولا حرج .. الأمثلة كثيرة جدا. وسنتعرض لبعضها فقط لضيق المجال. ولعل أول ما يتبادر إلي الذهن منها هو إنسان بيلت داون (Piltdown Man) وربما سمع القارئ العزيز عن تلك الأكذوبة الكبيرة والتي تعتبر وصمة العار الكبيرة في جبين كل دارويني. حدثت في عام 1912 ، وملخصها هو أن ثلاثة من المهتمين بمجال الحفريات – مع الأسف أحدهم رجل دين كاثوليكي وهو بيير تيلهارد – وعلي رأسهم تشارلس داسون ، أخذوا النصف الأعلي من جمجمة إنسانية وبطريقة ما قاموا بتركبيها بالنصف الأسفل من جمجمة قرد الغاب وقدموها للعالم علي إنها تمثل حفرية الإنسان الإنتقالي الذي تكلم عنه داروين. وبعد أربعين عاما تقريبا وبعد أن كتب عنها الكثير من الأبحاث العلمية ومنح علي أساسها بعض الدرجات العلمية كشفت تقنيات العلم الحديث تلك الخدعة الكبيرة والتي تعد الأسوأ علي الإطلاق في تاريخ العلم عموما وفي تاريخ الداروينية علي وجه الخصوص.

وإن كان هناك من الأكاذيب ما هو متعمد ، يوجد أيضا تنويعة أخري من الضلالات العلمية الغير مقصودة ، مثل إنسان نبراسكا (Nebraska Man). وأعتقد أننا كنا سنتعاطف مع هذه الكذبة قليلا – بإعتبارها غير متعمدة – إن كانوا قد اكتشفوا هيكلا عظميا أو جمجمة وأقنعونا أن تلك الحفرية هي الحلقة الإنتقالية بين الإنسان وقرد الغاب. ولكن تخيل ماذا وجدوا عزيزي القارئ؟ لقد وجدوا أحد الضروس في غرب ولاية نبراسكا وأوهمونا أن هذا هو الإنسان الإنتقالي المذكور في نظرية داروين ، فقاموا برسم هذا الإنسان من وحي خيالهم وجعلوا له هيكلا عظميا وقد اكتسي هذا الهيكل لحما وجلدا داكنا وجعلوا له شعرا كثيفا .. بل ورسموه أيضا مع زوجته وأبناءه .. تصور المهزلة صديقي القارئ؟! كل هذا من مجرد ضرس واحد! ويا ليته ضرس إنسان أو قرد بعد كل هذا ولكن إتضح أنه ينتمي إلي خنزيرا أمريكيا منقرضا. أليس هذا مثالا علي التحيز وعدم الموضوعية التي لا ينبغي أن يتصف بها أي باحث علمي؟ والأمثلة علي إعادة بناء إنسان كامل (Reconstruction) من مجرد جزء صغير لحفرية مكتشفة كثيرة ويعوزنا الوقت والمساحة لذكرها ولكننا نكتفي هنا بذكر أشهرها وهو إنسان نبراسكا.

المهتم منا بمثل هذا الجدل الحادث بين الداروينيون والخلائقيون لابد أن يكون قد اطلع علي أكذوبة أخري روجها بول كاميرير (Paul Kemmerer) والذي يعتبر من أكبر المدافعين عن النظرية اللاماركية وهي سابقة للداروينية ولكنه لم يكتب لها الرواج مثل الأخيرة لأنها ادعت امكانية وراثة الصفات المكتسبة التي كشف العلم فيما بعد خطئها. وبحسب الموسوعة البريطانية فإن صاحبنا بول كاميرير هذا حاول اثبات صحة اللاماركية عن طريق تجربة ادعي أنه أجراها في العشرينات. وهدف التجربة كان إثبات إمكانية تغيير شكل أحد الضفادع الأرضية ليكون شبيها بتلك التي تحيا في المياه وذلك فقط عن طريق تغيير مكان معيشتها فتقوم هذه الضفادع بتوريث تلك الصفات الجديدة المكتسبة إلي الأجيال التي تلدها بعدها. وقد جاءت النتائج مبهرة في الجيل الثالث لهذه الضفادع لتثبت صحة نظريته .. ولكن إلي حين. فقد اتضح فيما بعد أنه تم حقن الضفادع بالحبر الهندي حتي يصير شكلها مغايرا في الأجيال الجديدة ليثبت صحة ادعاءه. ولا نندهش أن نسمع أنه انتحر بعد فضح ضلالته بأسبوعين. شئ مؤسف ومخجل كذب العلماء ثم انتحارهم!!

في عامي 1866 1874 قام البيولوجي الألماني إيرنست هاكل الذي كان أحد أشرس المدافعين عن نظرية داروين بنشر مواد احتوت علي رسومات لمقارنة التطورات الجنينية في ثلاثة مراحل لثمانية كائنات حية مختلفة كان من بينها الجنين البشري. وليس بعد نشر هذه الرسومات بكثير اكتشف البروفوسير ويلهيلم هس من جامعة ليبزيج عدم دقتها وواجهه بذلك ومن المفترض أنه اعترف بالأخطاء التي فيها ولكن أرجعها للرسام الذي قام برسم اللوحة. ولكن الذي لم يُخبَر به البروفسير ويلهيلم هو أن ايرنست هاكل نفسه كان هو الرسام من الألف للياء. ولازال الداروينيون يستخدمون هذه الرسومات إلي وقتنا الحاضر بل ولا زلنا نجدها في المناهج الدراسية. وعلي الرغم من معرفة العلماء بهذا الخطأ الفادح إلا أن أحدا لم يقم بعمل مقارنات صحيحة سوي عالم الأجنة بكلية طب مستشفي القديس جورج بلندن مايكل ريتشاردسون عام 1997 والذي اكتشف أن هناك اختلافات هائلة بين كل الأجنة في المراحل الثلاث حيث قام هاكل بالتلاعب برسومات سابقة لعلماء أجنة آخرين متخصصون في الأجنة الكلابية والبشرية فعمل علي التقليل من الإختلافات وزيادة التشابهات. فكانت تلك الرسومات أكثر من مجرد أخطاء صغيرة يمكن التغاضي عنها كما يدعي التطوريون. ويمكن للقارئ العزيز التحقق من ذلك بالرجوع إلي مقال نشر علي موقع جامعة شيكاجو بقلم روبرت ج. ريتشارد عنوانه "أجنة هاكل .. كاذبة وغير مثبة"

في آواخر الخمسينات من القرن الماضي تدوي فضيحة أخري للداروينيين وتعرف بأكذوبة (Peppered Moths) وملخصها أن شخصا يدعي كيتلويل حاول إثبات صحة نظرية التطور عن طريق دراسة تأثير الثورة الصناعية في انجلترا علي نوع معين من الفراشات وكيف أدي هذا إلي تكيفها وبقاءها. فقبل بداية الثورة الصناعية كانت معظم الفراشات ذات لونا رماديا فاتحا ، ولكن يبدو أن معظمهم تغيره لونه إلي رماديا داكنا بعد الثورة الصناعية. كانت الفراشات تستقر علي الأشجار فاتحة اللون التي لم تكن قد تغير لونها بعد بفعل التلوث الذي حدث من جراء الثورة الصناعية فيما بعد. وقد ساعد ذلك الفراشات فاتحة اللون علي التخفي من الطيور التي كانت تتغذي عليها ، بينما كانت الفراشات داكنة اللون فريسة سهلة للأعداء. وبعد أن فعلت الثورة الصناعية فعلها وتحولت جذوع الأشجار إلي اللون الداكن حدث العكس فأصبحت الفراشات فاتحة اللون فريسة سهلة للطيور بينما استطاعت الفراشات داكنة اللون أن تجد البيئة المناسبة لها للتخفي من أعداءها. فقام صاحبنا كيتلويل هنا بتصوير الطيور وهي تلتقط الفراشات داكنة اللون من علي جذوع الأشجار ذات اللون الفاتح ونفس الطيور تلتقط الفراشات فاتحة اللون من علي الأشجار ذات اللون الداكن. واعتبر ذلك دليلا علي صدق الإنتخاب الطبيعي وبالتالي نظرية التطور. ولكن اتضح فيما بعد أن الصور التي التقطها صاحبنا هنا كانت لفراشات ميتة تم تثبيتها علي الأشجار بالدبابيس أو الصمغ. كما أن هذا النوع من الفراشات لا يستقر علي الأشجار أثناء النهار ، الأمر الذي قوض مصداقية تقريره من الأساس.

وإن أراد القارئ الكريم أكذوبة حديثة وطازجة خرجت لتوها من الفرن الدارويني للاكاذيب .. ها هي خدعة حفرية الأركيورابتور (Archaeoraptor) المكتشفة في الصين والتي قدمت للعالم سنة 1999 علي أنها الحفرية الإنتقالية بين الديناصورات آكلة اللحوم وبين الطيور. ويقول موقع أخبار الناشيونال جيوجرافيك نيوز أنه تم اكتشاف هذه الضلالة العلمية بسرعة حيث وجدوا أن رأس الحفرية وجسمها ينتمي لطائر صائد للأسماك اسمه يانورنيس مارتيني ، أما الذيل والأطراف الخلفية فقد كانت لديناصور اسمه ميكرورابتو زايانوس ، وقد تم إلصاق أجزاءها جميعا بالصمغ بواسطة أحد المزارعين الصينيين.


ويعوزنا الوقت للحديث عن باقي أكاذيب الداروينية مثل إنسان الجافا ولوسي وسمكة السيلاكانث وباكاسيدس وأركيوبتريكس وغيرها من الكثير من الإدعاءات التي اتضح فيما بعد خطئها. إذا فإن إفترضنا جدلا أن علم النشأة أو العلم التجريبي يستطيعان أن يخبرانا عن أصل الحياة كيف لنا أن نثق في نزاهة أي منهما بعد كل هذه الأكاذيب المختلقة؟ ولكن ينبغي أن ننوه هنا أن هذا لا يعني أننا نرفض العلم ومنجازاته التي لا نستطيع انكار عظمتها وفائدتها خصوصا الطبية منها. إننا نكرم العلم والعلماء الحق ، وليس أولئك المأجورون الذين ليس لهم هم سوي أن يقلبوا إيمان قوم. ولكن ما لا نستطيع أن نقبله هو عجرفة العلماء وزعمهم أنهم يستطيعوا ضحد الإيمان بوجود الله بمجرد نظرية غير مثبتة ، أو عن طريق بعض التجارب السخيفة التي أجراها بعض المتحذلقين ، أو بواسطة بعض الحفريات الكاذبة عمدا وعن غير عمد. المهم أن للعلم دائرة اختصاصه التي لا ينبغي أن يتعداها ، لأنه إن حدث ذلك لم يعد علما بل دربا من المعرفة الفرضية أو صنفا من أشباه العلوم التي لا نستطيع التحقق منها (Pseudoscience) ، أو لونا من ألوان الخيال العلمي. إذا فالعلم لم يميت الله بعد لأنه لا يستطيع. بل إن العلم أمامه طريقا طويلا ليكتشف الكثير من الغوامض والعوائص في هذا الكون المنظور والمليئ بالتعقيد ، ولا نتوقع له الآن أو فيما بعد أن تطول يده لتصل إلي عالم الروحيات الميتافيزيقي ، وأكررها ثانية .. لأنه لم ولن يستطيع. ولذلك أنا أؤمن!!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس