هل جهم مجرد حالة أم حالة في مكان أيضا؟

تفنيد إدعاء القس سامي عياد بأن جهنم حالة داخل الإنسان وليست مكان خارجه

لا شك أن جعل جهنم حالة وليست مكان هي واحدة من المحاولات الليبرالية للتهوين من وطأة جهنم ومن ثم تخدير الضمائر وكسب رضا المعارضين من العلمانيين. ويقوم هنا المتكلم بإثارة أربعة أسئلة يحاول من خلالها الوصول إلي نتيجة (يري أنها منطقية) أن جهنم حالة داخلية ستحدث للإنسان وليست مكان خارجه. ولكن كما سنري فلا الأسئلة التي تثار ولا النتيجة التي يحاول إقحامها المتكلم علينا منطقية.

وأول سؤال يطرحه المتحدث هنا هو: هل الله أكبر من الخليقة أم أن الخليقة أكبر من الله؟ وهنا يحاول المتكلم إثبات أن الله (الذي هو روح) أكبر من الخليقة (التي هي مادة)، لينتقل إلي النقطة الثانية التي تقول أن الأكبر يحتوي الأصغر وليس العكس. ولكن يبدو أن المتكلم هنا يغفل أن المقارنة لا تجوز بين شيئين غير متجانسين. فمقارنته هذه تشبه المقارنة بين الأفكار والدماغ، أيهما أكبر؟ هل الأفكار التي نفكرها أكبر من الدماغ الذي ينتجها؟ السؤال نفسه غير ذي معني لأن كل منهما شيئين مختلفين في الطبيعة والخصائص. فالله روح، ليس له حجم أو كثافة أو كتلة أو أبعاد مثل الخليقة، وبالتالي لا يمكن مقارنته بالمادة لأنه غير محدود بخصائصها، وغير خاضع لتلك القياسات. فالمقارنة لابد أن تتم بين أشياء متجانسة ومن نفس الطبيعة. ولكن لا شك أن الله كروح هو حاضر في كل مكان وزمان، ولكن لا تجوز المقارنة بينهم.

وهذه المغالطة السابقة للمتكلم يؤسس عليها حجته الثانية بأن الأصغر (الذي هو الخليقة) موجود في الأكبر (الذي هو الله). وبالتالي فحجته الفلسفية باطلة، لأن كل ما بني علي باطل فهو باطل. ولكننا سنجاريه في إفتراضه بأن الله أكبر من الخليقة. يتساءل المتكلم: هل الأكبر موجود في الأصغر أم أن الأصغر موجود في الأكبر؟ هل من المنطقي أن يكون الله في الخليقة أم أن الخليقة هي الموجود في الله؟ والإعتراض الذي يثور هنا هو: لو كانت الخليقة موجودة في الله فهذا يعني أن الله به شر ولعنة وتشويش وصراع ودموية وحروب، لأن الخليقة بها شر وتحت لعنة وتشويش إلي آخره. أيضا: ولو كانت الخليقة موجودة في الله إذا فالخليقة جزء من الله ولا انفصال أو تمييز بينهما، وبالتالي فعبادة الخليقة يمكن أن تكون عبادة لله لأن كلاهما في الآخر وكلاهما جزءا من الآخر، وهذه هي العقيدة الوثنية القائلة بوحدة الموجود (Panentheism). وقياسا علي أن الروح هي التي تسكن الجسد المادي، أيهما يكون في الآخر؟ الجسد في الروح؟ أم الروح في الجسد؟ طبعا الرد المنطقي والكتابي هو أن الروح تسكن المادة أو الجسد وليس العكس، وعليه، وبناء علي منطقك، فإن الله هو الذي يسكن في الخليقة وليس أن الخليقة موجودة في الله.

ثم يثير المتكلم نقطة أخري (ونحن نتفق معه فيها) وهي أن وجود الله خارج الزمان والمكان، وبهذا فهو يتناقض مع قوله السابق بأن الأصغر موجود في الأكبر. ويتناقض أيضا مع قوله بأن الله أكبر من الخليقة، فكيف إذا يمكن المقارنة بين الله الذي هو روح وغير خاضع للزمان والمكان مع الخليقة المحصورة في الزمان والمكان؟

ويداهمنا المتلكم بقوله: "كلمة جهنم اللي كل الناس بتخاف منها"، يبدو أن المتكلم يستنفر هذا الخوف وكأنه لم يعد موجودا لديه، أو أنه يشذ عن هذه القاعدة، أو أنه لا داعي للناس أن يخافوا من جهنم، فهي مجرد حالة وليست مكان .. ما علينا

أما عن قوله أن هناك من يقول أن الله غير موجود في جهنم، نود أن نسألهم كيف يؤمنون بالكتاب المقدس وفي نفس الوقت يعتقدون أن الله غير موجود في جهنم؟؟ بكل تأكيد الله موجود في جهنم "إن صعدت إلي السموات فأنت هناك، وإن فرشت في الهاوية فها أنت" (مز 139) وهو حاضر بعدله وقداسته وغضبه معاقبا للأشرار بهذه جميعها، إذ كيف سيشعر الأشرار بوطأة خطاياهم وتمردهم وجرمهم ضد الرب وضد بعضهم البعض إلا إذا كان هناك الله بقداسته وعدله وبره؟

وأخير يختتم المتكلم حديثه بقوله أن جهنم ليست مكان ولكنها حالة، الإنسان غير موجود في النار ولكن النار هي التي تكون في الإنسان، وهذه النار هي الألم والندم علي الخطية. ونحن نتفق جزئيا مع المتكلم في كون أن النار موجودة في الإنسان، فالخطية  نار. خذ مثلا اللسان الذي هو من أصغر الأعضاء في الجسم "فاللسان نار، عالم الإثم، هكذا جعل في أعضاءنا اللسان الذي يدنس الجسم كله، ويضرم دائرة الكون، ويضرم من جهنم" (يع 3). والطبيعة الساقطة في البشر هي نار أيضا، لأنه جاءت كدينونة من الله علي تمرد الإنسان، فأسلمه الله إلي شره كعقاب علي ذلك. وبالمناسبة فالنتيجة المنطقية لما يقوله المتكلم هنا تعني أن النار موجودة في الله، لأنه بما أن النار موجودة في الإنسان وليست مكان خارجه، وبما أن الإنسان جزء من الخليقة، وبما أن الخليقة موجودة في الله، إذا فجهنم هي أيضا حالة موجودة في الله. هذا طبعا بحسب المنطق الذي يتحدث به المتكلم في الفديو.

ومع أننا نتفق جزئيا مع المتكلم في أن هناك جهنم صغيرة في الإنسان، إلا أن هذا لا يعني أن جهنم حالة فقط تكون داخل الإنسان وليس أن الإنسان داخلها. ونسوق الأدلة التالية علي ذلك:

"ثم يقول للذين عن اليسار: إذهبوا عنوا يا ملاعين إلي النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته" (مت 25 : 41). 

"لأن لي خمسة إخوة، حتي يشهد لهم لكيلا يأتوا هم أيضا إلي موضع العذاب هذا" (لو 16: 28). الكلمة اليونانية المترجمة "موضع" هنا هي "توبوس" topos وتعني "مكان مخصص ومحدد لشئ".

"ليأخذ قرعة هذه الخدمة والرسالة التي تعداها يهوذا ليذهب إلي مكانه" (أع 1 : 25). كلمة "مكانه" هنا هي نفس الكلمة اليونانية السابقة "توبوس".

أشار إليها الرب يسوع المسيح بقوله "هناك": "فكما يجمع الزوان ويحرق بالنار هكذا يكون في انقضاء العالم. يرسل إبن الإنسان ملائكته فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر وفاعلي الإثم. ويطرحونهم في أتون النار. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان" (مت 13 : 40 – 42).

"وطلب إليه أن لا يأمرهم بالذهاب إلي الهاوية" (لو 8 : 31). الكلمة اليونانية المترجمة "هاوية" هنا هي  "أبوسوس" abussos وتعني حفرة أو هوة لا قاع لها تكون سجن للأرواح الشريرة. وقد جاءت تسعة مرات في العهد الجديد. راجع أيضا (رؤ 9 : 1 – 2 ، 9 : 11 ، 17 : 7 – 8 ، 20 : 1 ، 20 : 3).

"لأنه إن كان الله لم يشفق علي ملائكة قد أخطأوا، بل في سلاسل الظلام طرحهم في جهنم، وسلمهم محروسين للقضاء" (2 بط 2 : 4)، لفظة جهنم هنا في الأصل اليوناني هي "تارتارو" tartaroō وجاءت مرة واحدة فقط في العهد الجديد علي لسان بطرس، وكان يشار بها لدي اليونانيون القدماء إلي مسكن الموتي الأشرار حيث يعاقبون علي أعمالهم الشرير. والرسول هنا يقول أنها سجن للملائكة الذين أخطأوا إلي وقت دينونتهم.

وختاما نقول أنه علي فرض أن ما جاء في الكتاب المقدس عن الجحيم هي رموز وليست حقيقة، فالرموز دائما ما تكون ظل وأشباه للحقيقة الأكثر قوة، والحقيقة دائما أقوي وأكثر حدة من الرموز والمجاز. ذبائح العهد القديم كانت صورة باهتة من أهوال الدينونة الحقيقية التي احتملها الرب يسوع على الصليب. وكما أننا نتوقع أن تكون السماء أعظم وأسمي من الصور المرسومة لها في الكتاب المقدس، فإننا نتوقع أيضا أن يكون الجحيم أشرس وأقسي من الصور المرسومة له في كلمة الله، وإلا فلماذا أصر الرب يسوع المسيح في أحاديثه الكثيرة عن جهنم في أن يرسم لنا صوره لها لا تقل هولا وبشاعة علي الأقل عن النار الطبيعية التي نعرفها جميعنا؟

جاء ردنا هذا علي حديث القس سامي عياد، وحديثه موجود في الفديو علي الرابط الآتي:

تعليقات

  1. ان كانت الجحيم او النار معده لابليس واعوانه ، وان كان ابليس روح وليس جسد مادى فكيف النار والجحيم المادى تؤثر في الروح الغير مادى ؟؟

    ردحذف
    الردود
    1. أهلا بك الأخ الأستاذ جوزيف إبراهيم، وردا علي سؤالك:
      أولا سؤالك يفترض عدة أشياء، أن الجحيم مكانا ماديا لن يشمل عذابه الأرواح، مع الرب يسوع قال أن الغني بعدما مات جسده دفن في القبر، وروحه فقط هي التي ذهبت إلي الجحيم، ولكنه كان يتغذب "ومات الغني أيضا ودفن، فرفع عينيه في الجحيم وهو في العذاب، ورأي إبراهيم من بعيد ولعازر في حضنه، فنادي وقال: يا أبي ابراهيم، ارحمني وارسل لعازر ليبل طرف اصبعه بماء ويبرد لساني، لأني معذب في هذا اللهيب" (لو 16 : 22)، طبعا لعازر لا جسد له وهو يقول تلك الكلمات، لكن العذاب كان شديدا لنفسه، لأن خطاياه التي اقترفها بلسانه استحضرت أمامه، فشعر وكأنه في الجسد أيضا.
      ثانيا سؤالك يفترض أيضا أن العذاب في الجحيم سيكون ميكانيكيا، بعني أن الخاطئ أو الشيطان سيلقي في الجحيم، وسيتعذب إلي الأبد بصورة تلقائية. إلا أن الله سيكون حاضرا بعدله وغضبه في الجحيم أيضا معاقبا الشيطان وأتباعه علي خطاياهم، وإلا فكيف يمكن أن يتعذب الأشرار دون أن يشعروا بوطأة العدل الإلهي، وبنجاستهم أمام قداسة الله؟ لهذا فلابد أن يكون الرب بنفسه هو من يباشر معاقبة الأشرار أنفسهم، كل علي حسب فداحة شروره، ولابد أن يكون حاضرا بصورة دائمة معاقبا لهم بعدله وغضبه. وبالتالي فقدرة الله هي التي تعطي ذلك العذاب قوته، عذابا يشمل الأجساد والأرواح.
      ثالثا لو كان كلامك صحيحا، بأن مكان العذاب المادي لا يمكن إلا أن يكون له تأثيرا ماديا علي الأجساد فقط دون الأرواح، فإن السماء لكونها هي الأخري مكانا، سيقتصر تأثيرها علي سعادة مادية للأجساد. ولكن الكتاب يخبرنا أن الملائكة (وهي أرواح فقط دون أجساد) ترنم في حضرة الله، ولا يمكن أن يكون تسبيح تلك الملائكة شيئا ميكانيكيا يفعلوه دون أن يشعروه أو دون أن يوجد شئ يحركه فيهم. ولا شك أن هيبة الله ومجده هما ما يبعثان الفرح الذي يجعل الملائكة ترنم. وعليه فالإفتراض بأن الجحيم مكانا ماديا فقط لن يشمل في تأثيره الأرواح، يستتبع بالضرورة نفس القول بخصوص الفردوس أو السماء، بأنها أيضا ستكون مكانا ماديا لن يكون له تأثير سوي علي الأجساد فقط، أي أن الأجساد فقط وليس الأرواح هي التي ستسعد، وهذا طبعا لا يعقل.
      رابعا سؤالك يفترض أيضا أن العذاب سيكون ماديا فقط. لكن العذاب سيكون روحيا في المقام الأول، وذلك لأن الروح هي التي عصت علي الله وتمردت عليه وأخطأت في حقه، ولم يكن الجسد المادي سوي أداة للروح. ولكن الجسد طبعا مشترك في الجريمة. والرب يسوع المسيح نفسه في العهد الجديد هو أكثر من تكلم عن الجحيم، ولم يكن هناك أقل من النار المادية لوصف النار الأبدية، إلا أن وصف العذاب بالنار المادية، لا يعني أن العذاب سيشمل الأجساد فقط. نار الجحيم سيكون لها خصائص لم نراها نحن البشر في النار الأرضية التي اعتدنا عليها، فهي أولا لن يوجد قوة تطفئها "نار لا تطفئ"، أي أن وقودها وطاقتها لن تنفذ، وثانيا ستكون مظلمة وغير مضيئة "اطرحوهم في الظلمة الخارجية"، ثالثا لن تجفف دموع الإنسان "حيث البكاء وصرير الأسنان"، رابعا لن تفني الأجساد منها بل ستظل تتعذب فيها إلي ما لا نهاية.
      خامسا ، فالكتاب المقدس يخبرنا صراحة أن النار في الأساس "معدة لإبليس وملائكته". ولا شك أن الله أخذ في الإعتبار عند اعداده لتلك النار أنها ستكون في الأساس للأرواح قبل الأجساد.
      وأخيرا، لو كنت تعتقد أخي أن الجحيم ليس مكانا، فأحب أسمع منك تفنيدا للأفكار الواردة في المقال أعلاه.
      ولك جزيل الإحترام والشكر

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس