أنا أنا هو الماحي ذنوبك


أَنَا أَنَا هُوَ الْمَاحِي ذُنُوبَكَ لأَجْلِ نَفْسِي، وَخَطَايَاكَ لاَ أَذْكُرُهَا
(إش 43 : 25)


كثيرا ما نسمع القول أن "إله العهد القديم إله قاس وجبار ومنتقم علي عكس إله العهد الجديد إله الغفران والتسامح والنعمة". ولا يوجد أبعد عن الصواب أكثر من هذه المقولة. فإله العهد القديم هو نفسه إله العهد الجديد كلي الرحمة وكلي العدل. وهذه الآية التي نحن بصدد الحديث عنها هنا تثبت لنا خطأ هذا الإدعاء كما سنري. فهي لؤلؤة واحدة من بين لآلئ النعمة الكثيرة التي نجدها متناثرة عبر صفحات العهد القديم، ولعلها أكثرهم لمعانا. وليس بغريب أن نجدها مكتوبة بقلم إشعياء النبي الإنجيلي، فهو نبي الأخبار السارة، فالإنجيل يعني الأخبار السارة. وليس بشك أن قول الرب هنا "أنا أنا هو الماحي ذنوبك لأجلي نفسي وخطاياك لا أذكرها" هو أخبار سارة في وسط مشهد محزن.

العدد الأول في هذا الأصحاح يمثل نقطة تحول كبيرة بينه وبين المشهد المظلم في الأصحاح السابق، فثمة فجر جديد علي وشق أن ينبثق من وسط تلك الظلمة. فإشعياء يصف حالة الشعب في السبي البابلي في الأصحاح السابق في قوله "ولكنه شعب منهوب ومسلوب. قد اصطيد في الحفر وفي بيوت الحبوس اختبأوا. صاروا نهبا ولا منقذ وسلبا وليس من يقول رد .. من دفع يعقوب إلي السلب وإسرائيل إلي الناهبين؟ أليس الرب الذي أخطأنا إليه ولم يشاءوا أن يسلكوا في طرقه ولم يسمعوا لشريعته. فسكب عليه حمو غضبه. وشدة الحرب فأوقدته من كل ناحية ولم يعرف وأحرقته ولم يضع في قلبه"(42 : 22 – 25). فبعد أن يذكر النبي الدمار والبؤس للشعب تحت وطأة السبي البابلي هكذا، لكي يحضرهم إلي التوبة من خلال هذا التذكير ومن خلال الربط بين ضيقتهم الحالية وبين الذنوب التي اقترفوها، يأتي بنا "الآن" إلي ما ينوي الرب علي فعله من دينونته لبابل وخلاصه لإسرائيل. ومع أن خلاص الرب لهم يشمل إنقاذهم من البابليين وإرجاعهم إلي أرض ميراثهم، إلا أن الأعظم من هذا وتلك هو رد سبيهم الروحي ومحو ذنوبهم، يقول الرب لهم "أنا أنا هو الماحي ذنوبك لأجل نفسي وخطاياك لا أذكرها". وهذا يأخذنا إلي أولي كلمات هذا التأمل:

"أنا أنا هو الماحي ذنوبك .."

لماذا يشير الرب إلي نفسه بالضمير "أنا" مرتين؟ السبب في ذلك أولا هو أن الرب يرغب في إظهار نعمته لهم. فهو يريد أن يقول لهم أنه نفس الإله الذي احتقروا عبادته وخانوا عهده وكسروا وصاياه. نفس هذا الإله يمد لهم يد النعمة بدلا من الإستمرار في دينونتهم وسحقهم بإفناءهم مثل الأمم الوثنية الأخري التي أفناها الرب. ولو كان قد فعل الرب ذلك لكان محقا وعادلا لسبب عصيانهم وتمردهم عليه. فبإعترافهم هم ونبيهم إشعياء أنهم يستحقون نفس مصير الأمم الوثنية التي هلكت: "لولا أن رب الجنود أبقي لنا بقية صغيرة لصرنا مثل سدوم وشابهنا عمورة" (إش 1 : 9). وتاريخ اسرائيل خير شاهد عليهم، فهم لم يحفظوا وصايا الرب منذ يوم صعودهم من مصر، بل من قبل ذلك من أيام أبيهم "يعقوب"، إذ يذكرهم الرب بأبيهم "يعقوب" ثلاثة مرات في هذا الأصحاح، فمجئ اسم يعقوب في قرينة النص هنا يشير إلي التاريخ الطويل لهذا الشعب من الخطية والتمرد علي الرب والتهيان والخداع. ولكننا نجد الرب يعلن عن عزمه محو ذنوبهم وعدم ذكرها مرة أخري. فأنا الذي احتقرتموه هكذا وأنا أيضا الذي يريد محو ذنوبكم. وثانيا لأن الرب يريد إظهار محبته لخليقته. فقد كانوا نفرا قليلا إلا أن الرب هو الذي أكثر نسلهم وحفظهم وأخرجهم من أرض العبودية وأعطاهم الأرض الموعودة، فأكثر من مرة يذكرهم في هذا الأصحاح أنه خالقهم (عدد 1 ، 7 ، 15 ، 21). وقد تكلم إشعياء عن الرب في هذ الإصحاح بإعتباره "يهوه إيلوهيم" الرب الإله الخالق الذي له علاقة شخصية مع خليقته، فـ "يهوه" هو الإسم الذي عرف به لدي اليهود ويستعمل للدلالة علي العلاقة الشخصية بهم، و"إيلوهيم" هو الإسم الذي استخدم في الحديث عن الله الخالق في سفر التكوين (ص1)، ودمج الإثنين معا يشير إلي الإله الخالق الذي يريد الدخول في علاقة شخصية مع خليقته التي يحبها. فهو من خلقهم وأحبهم ويريد أن يصفح عن ذنوبهم. وثالثا لأن الرب يريد إظهار تميزه وتفوقه علي الآلهة البابلية. فأكثر من مرة يشير الرب إلي نفسه بالضمير أنا: "أني أنا هو" (عدد 10)، "أنا أنا الرب" (عدد 11)، "أنا الله" (عدد 12)، "أنا هو" (عدد 13)، وأيضا الآية موضوع تأملنا "أنا أنا هو .." (عدد 25)، وكل هذا بالمقابلة مع الآلهة البابلية إذ يقول الرب "لكي تعرفوا وتؤمنوا بي أنا أنا هو. قبلي لم يصور إله وبعدي لا يكون". والدليل علي تفوق الرب وتميزه عن الآلهة البابلية هو أن الرب قضي بهزيمة البابليين، الأمر الذي كان وشيك الحدوث علي أيدي الفرس. والرب يريد إظهار قدرته علي محو ذنوب اليهود عن طريق إظهار قوته في إنقاذ شعبه من بابل وإظهار كذب وضعف الآلهة البابلية، فالذي يستطيع أن يخلصهم من السبي يستطيع أيضا أن يغفر خطاياهم. والرب يسوع المسيح أكد علي استطاعته غفران الخطايا من خلال عمل المعجزات "ولكن لكي تعلموا أن لإبن الإنسان سلطانا علي الأرض أن يغفر الخطايا. حينئذ قال للمفلوج: قم إحمل فراشك وإذهب إلي بيتك" (مت 9 : 6). فأنا هو منقذكم من ضيقتكم وأنا أيضا ماحي ذنوبكم.

وتأتي هذه الكلمات "أنا أنا هو الماحي ذنوبك .." كإجابة عن سؤال لم يسأله إسرائيل: من يستطيع أن يمحو ذنوبي؟ وكأن إسرائيل يشعر بوطأة خطاياه وذنوبة الكثيرة وخيانته للرب ولم يمتلك الجرأة علي أن يوجه ذلك السؤال للرب شكا في إرادته، إذ كيف يمحو الرب ذنوب إسرائيل بعد أن أسلمه للسلب والنهب والدينونة هكذا؟ ألا تدل هذه جميعها علي غضب الرب عليهم ورفضه إياهم؟ أو  لعل إسرائيل هنا فقد الأمل في أن يجد حلا لمشكلة ذنوبه حتي لدي الرب فلاذ بالصمت يأسا، فما الذي يضمن له أن الرب يستطيع أن يغفر الخطايا وقد هزم إسرائيل أمام الأعداء وسلبوه ونهبوه وأخذت نساءهم وببنيهم إلي أرض بعيدة وأحرقت أورشليم وسورها وهيكلها؟ فما الذي يجعلهم يصدقون أن الرب يتميز عن الآلهة الوثنية التي يرونها في جيئتهم وذهابهم في بابل ومن ثم يستطيع أن يخلصهم؟ أو قد تكون الإجابة جاءت دون أن يوجد السؤال من الأساس لتوقظ فيهم الإحساس بحاجتهم إلي ذلك، حتي أنهم استهانوا بإنذارات الله لهم بالدينونة إن لم يتوبوا ويرجعوا عن خطاياهم "فسكب عليه حمو غضبه. وشدة الحرب فأوقدته من كل ناحية ولم يعرف وأحرقته ولم يضع في قلبه". وفي أي من هذه فإن الإجابة تأت كإعلان للرب عن طبيعته الصالحة رغم ذنوب إسرائيل وخطاياه.وكم منا يشبه إسرائيل في حالته هذه؟ أليس بيننا الكثيرون يشعرون بوطأة خطاياهم لدرجة أنهم يشكون في إرادة الله لمحوها، يشبهون بذلك الأبرص الذي شك في إرادة المسيح في شفاءه "إن إردت تقدر أن تطهرني"؟ أوليس في وسطنا أيضا من يظن أن خطاياه كثيرة حتي أن الله لا يستطيع أن يخلصهم منها، يشبهون بذلك أبو الولد المصروع "إن كنت تستطيع شيئا فتحنن علينا وأعنا". بل وكم يوجد بيننا من نسوا أنهم مرضي بالخطية من الأساس لطول المدة التي قضوها بجوار البركة فيضطر معهم الرب أن يأتي ويسألهم "أتريد أن تبرأ" وكأنه يذكره بأنه مريض وفي حاجة إلي شفاء؟

أما محو الذنوب نفسه، فهو مأخوذ من صورة محو صكوك الدين، عندما يُدْفع الدين وتزال تهمة الإستدانة. لهذا فإن اللفظ المستعمل هنا هو "الذنوب" (Pesha) والذي يعني "أفعال تعدي" أو "تعديات". وبينما يشير الغفران أكثر إلي التوجه القلبي لمن يغفر، فإن المحو يحدثنا عن الوضع القانوني لمن غفرت أو ستغفر خطاياهم. وشئ طبيعي أن يكون الحديث هنا محو صكوك الدين ضد إسرائيل لأن القرينة هنا تتحدث عن الدينونة والخلاص منها. فهم يستحقون الهلاك، إلا أن الرب سيبقي لهم بقية ويمحو ذنوبهم.

والرب عندما يمحو الذنوب فهو يمحوها جميعها الآن. فهو لا يقول "أنا سأمحو الذنوب" لكنه يفعل ذلك في الوقت الذي نطلب منه فيه. ثم أنه يمحوها كلها ولا يبقي منها بعضا غير محسوم آمره. نعم علي الرغم من كثرة خطاياهم، وعلي الرغم من أن الشعب جميعهم أخطئ بما فيهم أنبياءهم وكهنتهم، إلا أن نعمة الله شملت جميع هؤلاء "فحيث كثرت الخطية إزدادت النعمة جدا" (رو 5 : 20). إن الرب ليس مثل وكيل الظلم الذي جمع مديوني سيده وأسقط لهم جزءا من الدين فقط "كم عليك لسيدي؟ فقال مئة بث زيت. فقال خذ صك وأجلس عاجلا وأكتب خمسين" (لو 16 : 6). "وإذ كنتم أمواتا في الخطايا وغلف جسدكم، أحياكم معه، مسامحا لكم بجميع الخطايا، إذ مح الصك الذي كان علينا في فرائض، الذي كان ضدا لنا، وقد رفعه من الوسط مسمرا إياه بالصليب" (كو 2 : 13 – 14). ذكر سبرجن عن لوثر أن هذا الأخير قال للشيطان "أحضر لي سجل خطاياي" فأحضر الشيطان سجلا طويلا أسودا، فسأله لوثر "هل هذا هو كل شئ"، أجابه الشيطان "لا" ثم أحضرا سجلا آخر، فقال لوثر "الآن أكتب أسفل السجل: ودم يسوع المسيح إبنه يطهر من كل خطية". "يعود يرحمنا يدوس آثامنا، وتطرح في أعماق البحر جميع خطاياهم" (مي 7 : 19).

"لأجل نفسي .."

هل يمحو الرب ذنوبهم لأجل من فيهم من أتقياء مثل إشعياء النبي؟ إشعياء في الأصحاح السابق يقول "الرب الذي أخطأنا إليه" فحتي هو بكل تقواه وخدمته ومحبته للرب لا يستطيع سوي أن يضع نفسه في مصاف الخطاة الذين استحقوا دينونة الرب علي الأمة بأكملها. هل يمحو الرب ذنوبهم لأجل الكهنة؟ اسمع قول الرب "ولكن هؤلاء ضلوا أيضا بالخمر وتاهو بالمسكر. الكاهن والنبي ترنحا بالمسكر. ابتلعتهما الخمر. تاها من المسكر. ضلا في الرؤيا. قلقا في القضاء. فإن جميع الموائد امتلأت قيئا وقذرا ليس مكان" (إش 28 : 7 – 8). فحتي الكهنة دنسوا الكهنوت وعصوا قول الرب الصريح "خمرا ومسكرا لا تشرب أنت وبنوك معك عند دخولكم إلي خيمة الإجتماع لكي لا تموتوا. فرضا دهريا في أجيالكم" (لا 10 : 9)، فكانت النتيجة أنهم دنسوا حتي الأماكن المقدسة كما تقول الآية "فإن جميع الموائد امتلأت قيئا وقذرا. ليس مكان" فليس مكان لم يتدنس بقيئهم وقذارتهم وسكرهم. هؤلاء هم خدام الدين المفترض أنهم مرشدوا الشعب وصفوته وأكثرهم قربا إلي الرب، فهل يمحو الرب ذنوب شعب إسرائيل من أجلهم؟

من أجل من سيمحو الرب ذنوب الشعب؟ هل من أجل آلام اغترابهم عن أرض ميلادهم واستعباد البابليين لهم ولنساءهم وأولادهم؟ هل يمكن أن يعتبر الرب أن هذه الآلام تكفر عنهم؟ قطعا لا فقد نالوا هذا التأديب عن استحقاق، بل إنهم أستحقوا أكثر من ذلك طبعا ولكن الرب كان رحيما بهم. وقد اعترفوا هم بذلك صراحة في نفس السفر (إش 1 : 9 ) "لولا أن الرب أبقي لنا بقية صغيرة لصرنا مثل سدوم وشابهنا عمورة"، فما الذي يمنع أن يكون مصيرهم مثل مصير هاتين المدينتين مع أنهم ارتكبوا نفس شرورهم؟ بل إنهم يستحقون مصيرا أكثر قسوة من هاتين المدينتين لأنهما لم تكن لهما نفس الإمتيازات التي كانت للإسرائليون.

هل يمحو الرب ذنوبهم لاجل أعمالهم الصالحة وصلواتهم وذباحئهم؟ اسمع ما يقوله الرب لهم "وأنت لم تدعني يا يعقوب حتي تتعب من أجلي يا إسرائيل. لم تحضر لي شاة محرقاتك وبذبائحك لم تكرمني. لم أستخدمك بتقدمة ولا أتعبتك بلبان. لم تشتري لي بفضة قصبا وبشحم ذبائحك لم تروني. لكن استخدمتني بخطاياك وأتعبتني بآثامك" (إش 43 : 22 – 24). البعض يقول أن المعني المقصود هنا أن شعب إسرائيل لم يكن يستطيع أن يقوم بعبادة الرب وتقديم الذبائح له بسبب وجودهم في أرض السبي. والبعض الآخر يري أنهم لم يدعوا الرب من القلب، أما خدمة الرب وذبائحه فلم تكن سوي مشقة بالنسبة لهم "وقلتم ما هذه المشقة؟ وتأففتم عليه قال رب الجنود وجئتم بالمغتصب والأعرج والسقيم فأتيتم بالتقدمة. فهل أقبلها من يدكم؟ قال الرب" (مل 1 : 13). وسواء قدموا للرب ذبائح دون أن تكون ممتزجة بالإيمان أو لم يقدموا أي شئ من الأساس فقد انتفي أي استحقاق فيهم لأنهم غير مصلين (لم تدعني) حتي ولو كانوا يكرومونه بالشفاة إلا أن قلبهم مبتعد عنه بعيدا (مت 15 : 8)، ومحتقرين لعبادة الرب (حتي تعبت من أجلي، والترجمة الأدق: حتي تتعب مني) وغير شاكرين (لم تحضر لي شاة محرقاتك وبذبائحك لم تكرمني)، غير نافعون للرب (لم أستخدمك)، بخلاء لا يعطون الرب (لم تشتري لي)، مسببين حزنا وتعبا له (أتعبتني بآثامك).

لو كان الخلاص بالأعمال الصالحة، فما هو مقياس الصلاح؟ هل يقاس الصلاح علي ما أعتقد أنا أنه صالح، مع العلم بأن الذهن والقلب بدوافعه ومشاعره ملوث بسبب الخطية ولا يستطيع أن يصدر حكما صحيحا بصورة مطلقة؟ أو علي الأقل ما الذي يضمن لنا أن الصلاح الذي أتصور أنا أنه صلاح لا يشوبه شائبة ويرضي عنه الله؟ فإسرائيل كان في حالة من الصمم والعمي الروحي، قد كان لهم عيون ولكنهم عميان، لهم آذان ولكنهم صم "أخرج الشعب الأعمي وله عيون والأصم وله آذان" (عدد 8). لقد شوهتهم خطاياهم وصاروا مسخا. لهذا يقول الرب بفم إشعياء أيضا "وقد صرنا كلنا كنجس وكثوب عدة كل أعمال برنا، وقد ذبلنا كورقة، وآثامنا كريح تحملنا" (إش 64 : 6). ثم ما هو مقدار الأعمال الصالحة المطلوبة لكي يستحق المرء عطية غير محدودة كما وكيفا مثل الحياة الأبدية؟ وكيف يخلص من لا يستطيع فعل الصلاح كشخص مقعد أو مسن أو سجين؟ ومن أين يأتي الإنسان بالقوة الروحية والإرادة التي تمكنه من فعل الصلاح مثل مدمني الخمر أو المخدرات أو المجمرمين؟

إن العقلاء فقط هم الذين يضعون الجرار قبل عربات القطار ليقوم بجرها. إن الأعمال الصالحة البارة تأتي بصورة تلقائية بعد التبرير، وليس أن الأعمال الصالحة تُعْمَل أولا لكي يأتي علي أساسها التبرير، إنها تتبعه ولا تأتي قبله. إنها ثماره وبرهان وجوده، تماما مثلما تكون الثمار دليلا علي أن الشجرة ليست ميتة وتسري بها عصارة الحياة عبر فروعها. والسبب في ذلك الترتيب هو أن محو الخطايا أو التبرير لا يكون عملا منفردا بل تصحبه أمور أخري عظيمة، ألا وهو تغيير القلب. وهذا ما يسمي بـ "إنجيل السيادة" Lordship Salvation Gospel فنحن نتبرر لكي يسود علينا الرب والسيد يسوع المسيح، فنتغير لنتأتي بالثمار والأعمال الصالحة أمام الله.  وإن ادعي أحدهم أنه تبرر أمام الله ولم يأت بتلك الثمار الصالحة لكان عليه أن يراجع نفسه في إدعاءه ذلك.

ليس من أجل أي من هذه الأمور أو أولئك الأشخاص أو من أجل إسرائيل نفسها يمحو الرب الذنوب، "كما هو مكتوب: أنه ليس بار ولا واحد. ليس من يفهم. ليس من يطلب الله. لأن الجميع زاغوا وفسدوا معا. ليس من يعمل صلاحا ليس ولا واحد" وذلك "ليستد كل فم ويصير كل العالم تحت قصاص من الله" (رو 3) لكن الرب يمحو ذنوبنا "من أجل نفسه هو". إن الإستحقاق الوحيد لنا لكي تمحي خطايانا هو صلاح الله فقط "لأنكم بالنعمة أنتم مخلصون بالإيمان. وذلك ليس منكم بل هو عطية الله. ليس من أعمال كي لا يفتخر أحد" (أف 2 : 8 – 9).

وصلاح الطبيعة الإلهية المتمثل في نعمة محو الذنوب المقدمة لشعب إسرائيل ليس عشوائيا، كيفما أو قتما شاء عملها الرب دون أن يوجد ثمن يدفع. مطلقا! فإشعياء يحدثنا هنا عن ثمنا لخلاص إسرائيل ومحو ذنوبها، ألا وهو الفدية. يقول الرب لشعبه "جعلت مصر فديتك. كوش وسبا عوضك". أي نعم كان هناك عهدا بين الرب والآباء، إلا أن العهد تطلب ثمنا لحفظه وإتمامه. لقد أعطي الرب مصر وكوش وسبا عوضا عن إسرائيل، هلكت هذه الأمم كلها لتنجو إسرائيل. علي الرغم من مجد مصر وقوتها إلا أنها كانت فدية لإسرائيل، وأخذت مكانها حتي ينجو شعب الرب. المفسرون يختلفون فيهما بينهم حول المقصود بهذا الكلام، إذ يري البعض أن الحادثة المشار إليها هنا هو عندما كان سنحاريب علي وشك غزو أوشليم فتحول عنهم إلي مصر وحلفاؤها مدمرا إياهم. والبعض يعقد أنها ترجع إلي وقت شلمنآصر عندما خطط هذا الأخير لغزو يهوذا بعد تدمير السامرة إلا أنه تحول ضد المصريين والكوشيين والسبائيين. وهناك من يري أنها تشير إلي قمبيز بن كورش عندما احتل تلك الممالك المذكورة. وآخرون يعتبرونها تشير إلي وقت خروج الشعب من أرض مصر قديما. وأخيرا فهناك من يري أنها لا تشير إلي حادثة بعينها ولكن بصفة عامة إلي إنقاذ الرب لشعبه وتسليم أمم أخري للهلاك عوضا عنهم. وسواء كان هذا الأمر يشير إلي حادثة بعينها أم بصفة عامة، وسواء كان يشير إلي أولئك الأمم بعينهم أم إلي العالم بصفة عامة مرموزا إليه من خلالاها، فإن المعني يظل غير متأثر بالتفاصيل، فإن الرب يضحي بشعوب أخري من أجل فداء شعبه.

وإذا كان إعطاء الرب مصر وكوش وسبا فدية لشعبه (وحقا يستحقون ذلك لكونهم أشرار وإلا ما عاقبهم الرب "فالشرير فدية الصديق ومكان المستقيمين الغادر" أم 21 : 18) يُظهر لنا محبته، فكم وكم يكون إعطاءه للرب يسوع المسيح القدوس علي الصليب من  أجل كنسيته. لفظة "فدية" بالعبرية هي "كُوفِر" ، وتعني أولا تغطية (بالقار) "اصنع لنفسك فلكا من خشب جفر. تجعل الفلك مساكن وتطليه من داخل ومن خارج بالقار" (تك 6 : 14)، وثانيا ثمن إنقاذ حياة "يترأف عليه ويقول: أطلقه عن الهبوط إلي الحفرة قد وجدت فدية" (33 : 24) ، وثالثا استرضاء "ولا تأخذوا فدية عن نفس القاتل المذنب للموت بل إنه يقتل" (عدد 35 : 31). والرب يسوع المسيح فيه كل هذه، فعمله فيه تغطية لخطايانا "طوبي للذين غفرت آثامهم وسترت خطاياهم" (رو 4 :7). والله لا يعود يراها، لأن دماه تستر خزينا وخطيتنا، فقد أريقت من أجلنا وعوضا عن دمانا نحن، لأنه بدون سفك دم لا تحصل مغفرة خطية "عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفني بفضة أو ذهب من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء، بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح معروفا سابقا قبل تأسيس العالم" (1 بط 1 : 18 – 19). كما أن الله الآب شبع ورضي في المسيح، لسلوكه البار أثناء حياته علي الأرض ولموته نيابة عن الخطاة علي الصليب أيضا.

بالإضافة إلي ذلك فإن قول الرب "لأجل نفسي .." يعني أيضا "لأجل مسرتي". فالرب يمحو الذنوب لأنه يسر بفعل ذلك. فمسرة الرب ليست في موت الشرير في خطاياه، بل في أن يمحو ذنوبه حتي ما يبدأ علاقة جديدة معه، "هل مسرة أسر بموت الشرير يقول السيد الرب. ألا برجوعه عن طرقه فيحيا؟" (حز 18 : 23). صحيح أن الرب قاض عادل وديان كل الأرض وسيدين الأشرار حسب أعمالهم، إلا أنه لا يجد مسرته في ذلك، فالدينونة هي فعله الغريب كما يقول "لأنه في جبل فراصيم يقوم الرب وكما في الوطاء عند جبعون يسخط ليفعل فعله الغريب وليعمل عمله الغريب" (إش 28 : 21). فعمل الدينونة الذي كان الرب مزمعا أن يفعله ضد شعبه كان غريبا عن طبيعته، وإن كان هذا يخص شعبه إلا أن هذا صحيح أيضا بصفة عامة حتي عندما يدين الرب الأمم. يقول إرميا في مراثيه "لأنه لا يذل من قلبه ولا يحزن بني الإنسان" (3 : 33). ألم يبكي الرب يسوع المسيح أورشليم لأنه علم بالدينونة التي كانت ستحل بها؟ بالرغم من رفضهم ومقاومتهم بل وصلبهم له؟ إلا أنه لا يستطيع أن يفرح الرب عند دينونتهم. إن الرب يمحو الذنوب لأجل نفسه، لأجل مسرته.

"وخطاياك لا أذكرها"

مع أن خطايا إسرائيل لازالت تاريخا وسجلا حافلا بوصمات العار والخيانات والتمرد ضد الرب، إلا أنه لا يذكرها. ومع أنه قد يأتي إليهم المشتكي عدو الخير ويذكرهم بها ليقلب عليهم المواجع، بل ويأتي أمام الرب نفسه ليذكرها أمامه مثلما فعل مع يهوشع الكاهن العظيم ليقاومه (زك 3) ، إلا أن الرب يظل لا يذكرها، وذلك لأنه محاها. والرب لا يعدنا بفعل شئ هنا كما في حالة محو الخطايا، ولكن بالإمتناع عن شئ، ألا وهو ذكر الخطايا التي تم محوها. وإن كان الرب في قوله أنه سيمحو الذنوب أستخدم لفظة (Pesha) لأنه كان يشير إلي الوضع القضائي للشعب، إلا أنه يستعمل في قوله "وخطاياكم لا أذكرها" لفظة عبرية أخري هي "خطأ" وتعني "الإهانة" أو "الإساءة". وبقول الرب ذلك فإنه يعدهم بأن يمتنع عن ذكر تلك الإهانات والإساءات التي وجهها إليه اليهود، بل وتلك التي وجهناها نحن إليه أيضا. والفعل العبري المستخدم هنا في قوله "لا أذكرها" هو "ذَكَر"، ويعني "يذكر الشئ" أي "يقوله ويصرح به"، ويعني أيضا "يتذكر" أي أنه "لم ينسي الشئ"، ويعني أيضا "يسجل" أي "يدونه في السجلات". وهذا ما يفعله الرب مع الخطايا التي يمحوها، إنه لا يعود ينطق أو يصرح بها لا أمام الشعب ولا الشياطين ولا الملائكة، ولا يتذكرها بل يطرحها جميعها في أعماق البحر، ولا يعيد وضعها في السجلات مرة أخري.

والرب سيمنتع عن ذكر الخطايا: أولا لأنه وعد بذلك، ووعوده صادقة. فكما كان صادقا في محوها من السجلات، سيكون صادقا في عدم تذكر الإساءات مرة أخري. قال أحد رجال الله أن هناك أشياء يستحيل علي الله فعلها، مثل أن يكذب، فهو لا يستطيع أن يخالف وعوده وعهوده. ثانيا لأنه إله عادل، فالخطايا محيت علي أساس الفدية التي تمت، بناء علي الثمن الذي دفع والدين الذي تم تسديده. فكيف يطلب الرب دينا مرتين؟ ألم يوفي المسيح الدين علي الصليب؟ فكيف يطلبه منا ثانية؟ ثالثا لأن عطاياه بلا ندامة، ولا يرجع فيها، تلك التي لا تكون مشروطة بشئ. وبما أن الرب لم يشترط أي شئ لمحو الخطايا، لا أعمال صالحة، ولا طقوس، ولا أي شئ، إذا فلن يعود يذكرها أبدا.

لم يكتفي الرب بأن يمحو ذنوب إسرائيل، بل أعطاهم أيضا إمتيازات وعطايا ثمينة. يقول الرب في الأصحاح التالي "والآن اسمع يا يعقوب عبدي ويا إسرائيل الذي اخترته .. لأني أسكب ماء علي العطشان وسيولا علي اليابسة. أسكب روحي علي نسلك وبركتي علي ذريتك. فينبتون بين العشب مثل الصفصاف علي مجاري المياه" (إش 44 : 1 – 4). وليس فقط أن الرب يمحو ديون ذنوبنا، بل كما يقول سبرجن إنه يمحنا ميراثا ومواهب روحية ويأتمنا عليها. فبعد أن ضيعنا ما تم إئتماننا عليه في كورة بعيدة، يعيدنا الرب إلي حضنه ويمنحنا غناه ومواهبه الثمينة لنخدمه بها، إنه يشرفنا بخدمة الإنجيل والشهادة له. إنه لا يعود يرتاب فينا مرة أخري بل يثق بنا كأبناء ويستودعنا أمورا فائقة الثمن.

المسيح في هذه الكلمات

مع أن هذه الكلمات كتبت قبل المسيح بستة قرون، إلا أن محياه الطاهر يرتسم علي سطورها، فهو قائلها، وهو موضوعها. وأول ما نجده في هذه الكلمات:

برهانا لألوهية الرب يسوع المسيح. ففي هذا الأصحاح نجد إسم "يهوه" يتكرر ثمانية مرات، فالمتحدث هنا هو "يهوه". والرب يسوع المسيح نفسه هو يهوه. فقول الرب يسوع المسيح عن نفسه مرات كثيرة عبر صفحات الأناجيل "أنا هو" باليونانية (ego eimi) هو ترجمة للإسم العبري "يهوه" والذي يعني "الكائن". وهذا تأكيد علي كون الرب يسوع المسيح هو الله الأبد الأزلي. كما أن الرب يسوع المسيح أكثر من مرة غفر الخطايا "مغفورة لك خطايا" وأيضا "ولا أنا أدينك". وقد أدرك اليهود الفاهمين للشريعة جيدا هذا الأمر فأعترضوا عليه قائلين: "من يقدر أن يغفر خطايا إلا الله وحده؟".

ثم أننا نجد هنا أيضا إشارة إلي ناسوته الكامل. فالرب يخاطب إسرائيل هنا بصيغة المفرد بإعتباره الخادم الذي أخفق في إرضاء إلهه وإحتاج إلي من يمحو خطاياه الكثيرة. ولكن هذه الخطايا الكثيرة ستمحي فقط من أجل ذلك الخادم الكامل الذي أرضي الآب. لهذا ينادي إشعياء الرب يسوع المسيح في موضع آخر من سفره علي أنه اسرائيل الحقيقي الذي سيتمجد به "وقال لي أنت عبدي اسرائيل الذي أتمجد به" (اش 49 : 3). فمن سوي الرب يسوع مجد الآب؟ "أنا مجدتك علي الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته" (يو 17 : 4)، ومن فشل في تمجيد الآب سوي اسرائيل، كما نفهم من حادثة التينة وغيرها الكثير؟ذ1

ونري أخيرا لمحة عن طبيعة المسيح الغير متغيرة. فهو الذي محي ذنوب الشعب في القديم من أجل نفسه. وهو الذي جاء إلي أرضهم بعد ستة قرون من ذلك الوقت ليجول في طرقاتهم ماحيا ذنوب الزناة والعشارين والبرص. ولا زال هو نفس مسيح الأمس ماحي ذنوب كل من يأتي إليه. "أنا أنا هو ماحي ذنوبك لأجل نفسي وخطاياك لا أذكرها". آمين.




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس