هل الله مختلف كليا عن خليقته؟ وما هو تأثير ذلك علي إمكانية الحديث عنه حديثا معقولا؟



يقول البعض، ولا سيما الليبراليون الجدد (النيوأرثوذكس)، أن الله كائن آخر تمامًا (wholly other)، أو مختلفًا بصورة كلية عن خليقته. ومحاولات تعريفه أو توصيفه أو فهمه كلها ستبوء بالفشل. ولعل أشهر من قال بهذه الفكرة هو كارل بارت. ويمكننا علي الأقل وصفها بأنها ليست سوي شكلا من أشكال اللاأدرية، مصطبغة بصبغة مسيحية. أما نسختها الغير مسيحية فنجدها فيما علَّم به عمانوئيل كانط عندما قال أنك لا تستطيع أن تذهب من العالم الظاهراتي المدرك بالحواس (Phenomenal) وهو عالمنا الملئ بالظواهر الطبيعية التي يبحث بها العلماء، إلي العالم الحدسي الغير مدرك بالحواس (Noumenal)، والذي أدرج به كانط الله وأمورًا أخري. وعَلَّم كانط أيضًا بأنك لا تستطيع التأكد من أن قواعد المنطق في عالم الفينومينا (العالم المادي)، مثل السببية وقانون عدم التناقض، يمكن أن تنطبق أيضًا علي عالم النومينا (العالم الماورائي). وبحسب ما جاء في موسوعة الدفاعيات المسيحية للفيلسوف المسيحي نورمان جايزلر فإن فكر كارل بارت جاء متأثرا بإبستمولوجيا كانط ووجودية سورين كيركجارد ورواية "الإخوة كرامازوف" لدوستيوفسكي والتي أظهرت إفلاس الفلسفات التي اتخذت الإنسان مركزًا لها. (1) وهذا الفكر قديم قدم المسيحية، إذ نجده فيما علم به الغنوصيون، حيث قصروا معرفة الله علي رهبانهم (النخبة) فقط الذين يستطيعون الوصول إلي الله، لا عن طريق الفهم العقلاني العقيدي، ولكن من خلال التأمل والتصوف فقط. إنه نوع من الإدراك الباطني غير العقلي، وهو أقرب إلي الإحساس منه إلي الفكر. والتسليم بصحة هذه الفكرة البارتية من شأنه أن يقوض المسيحية من أساسها. إذ يجعل وصف الله والحديث عنه – وبالتالي معرفته والاقتراب منه – ضربًا من المستحيل.

ونحن طبعا لا ننكر فكرة إختلاف الله عن الخليقة. لكننا في نفس الوقت لا نستطيع قبول الإدعاء بأن الله مختلف تمامًا عن خليقته. هو حقًا مختلف عن خليقته، ولكن ليس كليًا. أو بمعني آخر، فإن علاقة الله بخليقته علاقة اختلاف وتشابه في نفس الوقت. كما أننا لا ننكر صعوبة الحديث عن الله. هذه الصعوبة جعلت لوثر يميز بين الإله المُعْلَنْ والإله المحتجب. إذ ذكر أنه لا يمكن الإيمان بالله أو معرفته بدون إعلان عنه، فيما عدا ذلك الإعلان، لا ينبغي لنا أن نشغل أنفسنا. قدم أيضًا كالفن تمييزا مشابهًا لذلك فقال أن جوهر الله غير معلن مطلقًا، إلا أن مجده منقوش بحروف جلية على كل عمل من أعماله، حتي أن أجهل الجهلاء لا يستطيع أن يتذرع بجهله. وبلغة الكتاب المقدس فإن "السرائر للرب إلهنا، والمعلنات لنا ولبنينا إلي الأبد، لنعمل بجميع كلمات هذه الشريعة" (تث 29 : 29).

وبناء علي ذلك، فهناك فرق بين إمكانية الحديث عن الله حديثًا معقولاً، وبين الإحاطة به كليا – جل إسمه عن ذلك. فلا أحد عاقل يستطيع حتى مجرد الإدعاء بإمكانية توصيف الله كليًا أوحصريًا. إن عدم الإحاطة بالله علمًا ستظل سمة بشرية لنا حتى في الأبدية. وإن كان الإنسان لم يستطع إلي الآن أن يستوعب ويحيط علمًا بكل شيء في الخليقة المحدودة، فما بالك بالخالق غير المحدود؟ لكن تظل، مع كل هذا، إمكانية الحديث عن الله متاحة، ولا سيما في ضوء الإعلان الذي منحه لنا. إننا نعرف أموراً صحيحة عن الله، ولكن ليس كل شئ. ورغم ذلك تظل هذه المعرفة نافعة وحاسمة. ونستطيع أن نعبر عنها بالكلمات البشرية، ذلك لأن الله أعلن لنا ذاته في لغتنا البشرية التي نفهمها. والقول بأننا لا نستطيع الحديث عن الله أو فهمه عقليا لأنه مختلف كلياً عن خليقته له تضميناته اللاهوتية الخطيرة.

لو صح ذلك الإدعاء، فإن الله يكون غير موجود من الأساس لأن مجرد الحديث عنه يتطلب وجوده، ولا يمكن أن ندرك وجوده دون أن ندرك صفاته

إن مجرد القول بأن الله مخلتف كليًا لهو أمراً متناقضًا. وذلك لأنه يشتمل على إفتراضاً خفيًا بأن الله موجود، ولكنه مختلف عنا كليًا. ولكن أليس الوجود الذي ننسبه إلى الله هو بدوره شئ خاص بنا (وباقي الخليقة أيضًا) نطبقه عليه أو ننسبه إليه؟ إذا إن اعتبرنا الله مختلف كليًا عنا، فلا يصح من الأساس أن نفترض وجوده. لأن الوجود في حد ذاته هو خبرة إنسانية نقوم بنسبتها إلى الله. كما أن فكرة الإختلاف نفسها خبرة إنسانية، وعليه فإن كان الله مختلف عنا تمامًا، فلا يصح أن ننسب له الإختلاف من الأساس، لكون الإختلاف خبرة إنسانية.

أما الإدعاء بأننا نستطيع أن ندرك وجوده دون أن ندرك شئ عنه، فهو باطل. لأنك لا تستطيع أن تدرك وجود أي شئ من عدمه، دون أن تعرف علي الأقل صفة واحدة عنه. فأنا مثلا أدرك أن هناك كائنا ما (عاقل أو غير عاقل) خلف الباب من خلال طرقاته التي أسمعها. وهذه الطرقات تخبرني أن الشئ أو الشخص الذي يتسبب في تلك الطرقات، شيئا أو شخصا متحركا، ويستطيع الطرق علي الباب، ويستطيع إحداث صوت. قد يكون هذا الكائن إنسانًا، أو كلبًا أليفًا، أو جمادًا، المهم أنه قادر على الطرق، وعلى إحداث ضجيج ما. وبالتالي فلابد لي من تمييز، على الأقل، صفة واحدة لأي موجود ما، حتى أدرك أنه موجود. وعليه فما لا أستطيع أن أصفه أو أتحدث عنه هو فقط الشئ الغير موجود. والعكس بالعكس، لا يمكنني أن أدرك وجود كائن (أو شئ) ما دون أن أدرك صفة واحدة له على الأقل، حتي ولو كان التعبير عن هذه الصفة بالكلام شيئًا صعبًا.

إن كان الله مختلف كليًا عن خليقته فهو إذاَ غير قادر على الإعلان عن نفسه بطريقة مفهومة وعقلانية

القول بأن الله مختلف كليًا، يفترض ضمنا أن مسؤولية – وإمكانية – توصيف الله أو فهمه أو الحديث عنه بصورة عاقلة تقع على الإنسان. وهذا افتراض غير صحيح. فالإعلان عن الله هو مبادرة وعملا إلهيين. الله هو الذي أخذ المبادرة في الإعلان عن نفسه للإنسان في كل المراحل. وإعلان الله المتنوع – كما ذكر كاتب العبرانيين – كان في كل مراحله عملاً إلهيًا أيضًا حتى وإن اسْتُخْدِمَ فيه بشراً. فالله هو الذي تكلم. والإدعاء بأن الله مختلف كليًا عن خليقته، ومن ثم لا نستطيع الحديث عنه بصورة صحيحة، لهو إنكار لقدرة الله في الإعلان عن نفسه. فليس فقط أن الله يريد الإعلان عن نفسه، بل أنه يستطيع ذلك أيضًا رغم محدودية الإنسان، ورغم سقوطه وتَشَوُّه مستقبلاته الروحية. فقدرة الله على الإعلان عن نفسه هي شيئًا بديهيًا. ولو لم يكن الله قادر على الإعلان عن نفسه فالله ليس الله. لكن المسألة برمتها تصبح محسومة إذا وضعنا في اعتبارنا أن الله قادر على الإعلان عن نفسه رغم كل ما في الإنسان من محدودية وضعف وجهل وخطية.

لو كان الله حقًا مختلفًا كليًا عن خليقته فإن إعلاناته عن نفسه من خلال الطبيعة والكتاب المقدس والمسيح تصبح بلا قيمة

إن كل من قدرة الله وبالتالي رغبته في الإعلان عن نفسه يستتبع بالضرورة وجود إعلانات حقيقية وواقعية عن شخصه المبارك. وهذ الإدعاء من شأنه أن يهدم فكرة الإعلان من الأساس، ويجعلها غير ضرورية ولا قيمة لها. لأنه إذا كانت كل محاولاتنا في الحديث عن الله فاشلة وغير مجدية، لكونه مختلف عنا كليًا، ولا نستطيع أن نطبق تصوراتنا وخبراتنا عليه، فإن إعلاناته العظمى عن نفسه، في خليقته، وفي كلمته المكتوبة، وفي مسيحه المتجسد، جاءت دون أي جدوى منها. ويصبح وجودها مثل عدمها. فالسموات التي تحدث بمجد الله الخالق الحكيم يصبح حديثها لغوًا لا نستطيع فهمه أو تقديره أو تمييزه. وإعلان الله المتجسد في الرب يسوع المسيح أنه حول اللعنة إلي بركة، والألم إلي مجد، وأنه بجرحه صار لنا شفاء، وأنه بالموت هزم الموت، يصبح لا قيمة له. والكتاب المقدس الذي هو المسيح مكتوبًا ومقروءا يمسي أقوالاً لا طائل من تحتها. وحاشا أن تكون هذه الأمور هكذا، فالله كلمنا في الطبيعة، وفي الأنبياء، وكلم البعض في رؤي وأحلام ومعجزات، وأعظم الكل في إبنه.

وقد جاء فكر بارت حول كل من الإعلان الخاص والإعلان العام متناقضًا مع ما علم به حول إمكانية الحديث عن الله بلغة مفهومة. فبينما علم أن الله مختلف كليًا، وأن فهمه يكون من خلال الاختبار الروحي الإيماني فقط دون العقيدة، إلا أنه صرح أيضاً أنه هناك إمكانية للإعلان الإلهي. فقد أنكر أية صلاحية للإعلان العام (في الخليقة). وادعى بأن الإنسان ليست لديه أية قدرة فعالة على إستقبال الإعلان الخاص من الله (في الكتاب المقدس)، بل إن الله يحتاج إلي خلق نقطة استقبال معجزية قبل أي تواصل بينه وبين الإنسان. فالكتاب المقدس ليس كلمة الله بصورة موضوعية، ولكن الله يمكن أن يستخدمه للإعلان عن نفسه إن أراد ذلك. وبهذا فإن إن الكتاب المقدس بإعتباره إعلان الله يفقد قدرته الموضوعية على الإتصال بالإنسان.

لو صح هذا الإدعاء بأن الله مغاير لنا كليًا فإن الدين يصبح برمته مهمة سخيفة لا طائل منه

لو أننا حقا لا نستطيع الحديث عن الله لأنه مختلف عن خليقته كليًا، ألا يصبح الدين في حد ذاته بلا قيمة؟ بحسب معجم المعاني الإلكتروني فإن "الدِّينُ : اسمٌ لجميع ما يُعبد به الله". وفي الإنجليزية فإن تعريف كلمة (religion) في قاموس ميريام وبستر هو "خدمة وعبادة الله أو الفائق للطبيعة". فإن كان الدين هو عبادة من لا نستطيع فهمه عقليًا والحديث عنه لأنه مختلف عنا بصورة مطلقة، فكيف يمكن للعبادة أن تحدث من الأساس؟ لو كان كذلك، فإن هذه العبادة تشبه تلك التي كانت للأثنينيين عندما كتبوا على أحد التماثيل "لإله مجهول". إن عبادة الله شديدة الإرتباط بالإعلان الإلهي. فالأولي (العبادة) تعتمد في وجودها على الأخير (الإعلان). ففي كل مرة تكلم الله مع الآباء تجدهم يبنون له مذبحًا فورًا. راجع (تك 8 : 20، 12 : 7، تك 12 : 7-8، 13 : 18، 26 : 25، 35 : 1 و 7). طبعًا هناك عبادة باطلة، نابعة من توهم الإعلان. إلا أن فكرة الإعلان تظل مركزية للعبادة. وعليه فالإعلان يشكل مضمون وطريقة عبادتنا.

إن كان الله مختلف كليًا عن خليقته، فلا يمكن للإنسان أن يدرك هويته الحقيقية

لا يمكن للإنسان أن يعرف هويته الحقيقية بمعزل عن الله. بل إن نظرة الإنسان إلى ذاته لا يمكن أن تكون صحيحة لو لم يكن الله مركزها (Theocentric). من أين جاء الإنسان، وما معنى وجوده، وما هي الأخلاقيات التي ينبغي أن يتحلى بها، وإلى أين يذهب، هذه أسئلة ينبغي أن تكون إجاباتها الصحيحة هي الله. فالله هو خالق الإنسان، ومعنى وجوده يتحدد من خلال علاقته بخالقه، وهذه العلاقة هي التي تحدد سلوكياته وتنعكس عليها، والعلاقة مع الخالق والسلوكيات الناتجة عنها يحددان مصير الإنسان وموقفه الأبدي. وهكذا فإن الله مركز المعادلة الإنسانية الوجودية، وأولها وآخرها أيضًا. أخرج الله من المنظور العقيدي للإنسان وتجده يفقد إنسانيته فورًا. وبالتالي فنحن أمام ضرورة ملحة لمعرفة الله وللحديث عنه بصورة عقيدية مفهومة تدركها عقولنا. لأنه حينها فقط تتكون هويتنا الحقيقية، وصورتنا الصحيحة عن أنفسنا وعالمنا.

إن هذا الإدعاء ينكر التعليم الكتابي بخلق الله للإنسان علي صورته ومثاله

كيف يمكن للإنسان أن يكون مخلوق علي صورة الله ومثاله، كما يعلمنا الكتاب المقدس، وفي نفس الوقت يكون مختلف عنه كليًا؟ إننا لا نستطيع أن نؤمن بهذين الأمرين في نفس الوقت. فإما أن الإنسان مشابهًا لله، أو إما أنه مختلفا كليًا عنه. القول بأن الإنسان لا يمكنه الحديث عن الله أو وصفه عقيديًا لأنه مغاير له تمامًا هو إنكار للتعليم الكتابي بأن الله خلق الإنسان علي صورته الأدبية العاقلة. وليس فقط أن الإنسان يتميز بعقلانيته وإرادته وعاطفته عن باقي الخليقة، من حيث مشابهته لله، إلا أن الخليقة بأكملها أيضًا تحمل سمات تلك المشابهة، فهي في نهاية المطاف ثمار حكمته حتي ولو لم تكن كلها عقلانية مثله. ويوضح لنا سي. إس. لويس في كتابه "المسيحية المجردة" هذا الأمر قائلاً: "أن للإنسان شكل الله ولكن ليس له نوع الحياة الذي لله. وكل ما صنع الله له بعض الشبه به فالفضاء يشبهه في ضخامته، والمادة تشبهه الله في كونها ذات طاقة، والعالم النباتي يشبهه الله لأنه عالم حي، ونشاط الحشرات وخصوبتها لها مشابهة باهتة لنشاط الله الدائم وابداعه السرمدي، حتى إذا وصلنا للإنسان نجد أكمل ماشبهة لله نعرفها. ولكن ما ليس عند الإنسان في حالته الطبيعية هو الحياة الروحية: الحياة الأعلى والمختلفة نوعا والموجودة في الله". (2)

الحديث عن الله .. بين عقيدتي "وحدة الوجود" لدي الليبراليون و"سمو الله" لدي الإنجيليون المحدثون

يقول اللاهوتي والفيلسوف المسيحي آر. سي. سبرول في مقال له على موقعه الفخم ليجونير بعنوان "الغموض الإلهي" (3) أن النظرة الصحيحة لموضوع إمكانية الحديث عن الله ينبغي أن تكون متوازنة بين قطبين نقيضين: الأول هو الشكوكية، وهو أننا لا يمكن أن نتكلم عن الله لأنه مختلف عنا كليًا. والثاني هو وحدة الوجود التي تنادي باحتواء الله. وهذا هو الخطأ الذي وقع فيه كل من اللاهوت الليبرالي (Liberalism) واللاهوتي الإنجيلي المحدث (Neo-orthodoxy). فلاهوت القرن التاسع عشر الليبرالي طابق بين الله وبين جريان التاريخ والطبيعة. وروَّج إلى منظور وحدة الوجود الذي لا يري فرقا بين الله وأي شئ، فالله هو كل شئ، وكل شئ هو الله. وعلى خلاف ذلك أراد الإنجيليون المحدثون إسترجاع فكرة سمو الله فاعترضوا على المطابقة بين الله والخليقة. وقد أخذتهم الحماسة لدرجة أنهم تكلموا عن الله بإعتباره "مختلف كليًا". ونحن ننأى بأنفسنا عن المخاطر إذا وضعنا في اعتبارنا أن الحديث عن الله ينبغي أن يكون مؤسسًا علي التناظر. فالله يستطيع أن يعلن لنا نفسه إعلانًا حقيقيًا وذو معنى، ليس من خلال لغته هو، ولكن من خلال لغتنا نحن.

قد تكون فكرة اختلاف الله الكلي عن خليقته حسنة النية من حيث تأكيدها على سمو الله في مواجهة عقيدة وحدة الوجود (Pantheism)، والتي تتلاشى فيها الفواصل بين الله وخليقته. إلا أننا لا نستطيع أن نفهم فكرة السمو على أنها اختلاف مطلق، أو على أنها سمواً جغرافيًا أو مكانيًا. يقول سبرول في موضع آخر أننا عندما نقول أن الله سام أو متفوق علي خليقته، فلسنا نقصد بهذا تفوقا مكانيًا، بل تفوقا أنطولجيًا (من حيث الكينونة)، أي أن الله يسمو في كينونته (وجوده) عن الخليقة. بمعني آخر فهو اختلاف في مستوي الوجود يراد به التمييز بين وجودين: وجود الله ووجود الخليقة. فالله ليس في حاجة إلى كائن آخر لكي يوجد. بعكس الإنسان وباقي المخلوقات الذين يحتاجون في وجودهم إلى كائن آخر ذاتي الوجود يستمدون منه وجودهم. (4) ويمكننا أن نفهم هذا التمييز من خلال ما يعلمه كاتب العبرانيين بقوله أن الله "حامل كل الأشياء بكلمة قدرته". فهذا الحمل يشير إلي سمو الكينونة الإلهية عن الأشياء (الخليقة) كموجودات، من حيث أن الأخيرة تعتمد في وجودها على الأول وليس العكس. ووجود الأول لا يستتبع بالضرورة وجود الأخيرة، ولكن العكس صحيح. وعليه، ففكرة السمو الأنطولوجي لله عن خليقته لا تشير إلى اختلاف مطلق بين الله وخليقته.

كيف نتحدث عن الله؟

الفئات العقلية، من منطق ولغة ورياضيات، والتي نستخدمها في وصف ومعرفة الله، ليست شيئا استحدثناه نحن البشر، أو من اختراعنا، لكنها عطايا إلهية أعطاها لنا الله، وموجوده فيه أيضًا، وذلك لكي ندركه من خلالها. وعليه فعندما نقوم بوصف الله، أو بالحديث عنه، فإننا لا نقوم بتطبيق خبرات أو مفاهيم بشرية صرف مُخْتَلقة بواسطة البشر وقاصرة عليهم، ولكننا نستخدم ما أُعْطِينا إياه بواسطة الله، لكي نعرفه ونصفه ونفهمه من خلالها.

ولكن ماذا عما يدعيه البعض أننا لا نستطيع أن نصف الله سوي بطريقة النفي؟ يقول سبرول مجددًا في كتابه "ما هو اللاهوت المُصْلَحْ" أنه بقدوم الغنوصية أصبحت الفرصة سانحة لعودة الفلسفة اليونانية – التي جاءت المسيحية كبديل لها – في صورتها الجديدة وهي الأفلاطونية المحدثة. وأفلوطين - أبو الأفلاطونية المحدثة – هو الذي أشاع فكرة الحديث عن الله بطريقة النفي (via negationis). وهذه الطريقة لا غبار عليها، إلا أنها ليست الطريقة الوحيدة أو حتي الرئيسية في الحديث عن الله. فالكتاب المقدس نفسه يتحدث عن الله بطريقة النفي "مجد الله الذي لا يفني" (رو 1 : 23)، "الذي له وحده عدم الموت" (1 تي 6 : 16)، "الذي ليس عنده تغيير ولا لا ظل دوران" (يع 1 : 17). إلا أن الحديث عن الله لا ينبغي أن يكون فقط بطريقة النفي، فهناك أيضًا طريقة التأكيد من خلال وصف الله بكلمات تأكيدية إيجابية (via affirmatas)، مثل القول أن الله قدوس وبار وذو سلطان. وهناك، إلى جوار ذلك،  طريقة التسامي (via eminentia) وهي نسبة الصفات الإنسانية إلى الله بعد تصعيدها إلي أقصى درجة. فالإنسان مثلاً لديه قدرة أو قوة، حتي وإن كانت محدودة، إلا أنه يظل له هذا القدر المحدود منها. فطريقة التسامي إذاً هي القول أن الله "كلي القوة" أو "كلي القدرة". ويمكن تطبيق نفس الفكرة على صفات أخرى مثل المعرفة فنقول أن الله "كلي المعرفة"، أو الصلاح فنقول أن الله "كلي الصلاح". (5)

لغة التجسيم الكتابية Anthropomorphism

ولكن ماذا عن نسبة الكتاب المقدس الصفات الإنسانية إلي الله، ولا سيما تلك التي تصف أنشطة جسمانية للإنسان، مثل السمع والبصر والقول والمشي؟ هل استعمال الكتاب المقدس لمصطلحات مثل "عين الرب"، و"أذنه"، و"ذراعه"، و"تنسم الرب"، و"أتخمت"، و"يمينه"، و"موطئ قدميه"، و"أمام الرب"، و"خلفه"، هي استعمالات مجازية محضة؟ لدينا على الأقل ثلاثة أسباب تجعلنا نعتقد أن الحديث عن الله بلغة التجسيم ليس حديثًا مجازيًا بصورة مطلقة.

أولاً: لأن الله ليس أقل من أن يقوم بتلك الأنشطة الجسمانية الصرف دون الحاجة إلى جسد وزمان ومكان. الله هو خالق جسم الإنسان بما له من خصائص تعطيه القدرة على البصر والسمع والقول والشم والحركة. وهو بكل تأكيد غير محدود بها، ومع ذلك فهو ليس أقل من أنه يستطيع فعلها حتى ولو لم يكن له خصائص جسمانية أو أبعاد مكانية وزمانية. فإن كان الله هو خالق العين والقدرة على البصر، والأذن والقدرة على السمع، والأنف والقدرة على الشم، واليدين والقدمين والقدرة على الحركة، فهو بكل تأكيد ليس أقل من أنه يرى ويسمع ويشم ويتحرك. هو أعظم من هذه كلها بما لا يقاس، لكن عظمته هذه لا تتنافى مع قدرته على فعل كل هذه الأشياء دون أن يكون له جسد مادي. بل إن عظمته ولا محدوديته تشمل تلك القدرات الجسمانية الإنسانية المحدودة التي وهبها الله للإنسان. وعليه فعندما يتحدث الكتاب المقدس بلغة التجسيم عن الله، مثل القول "الله يرى"، أو "الله يسمع"، فهو إشارة إلى نشاطًا إلهيًا يشمل السمع والبصر وما هو أعظم منهما أيضًا. فمثلا عندما يقول الكتاب "لأن عيني الرب تجولان في كل الأرض ليتشدد مع الذين قلوبهم كاملة نحوه" (1 أخ 16 : 9) لا يستثني النشاط المادي من بصر وحركة، بل يشملهما، ويشمل ما هو أعظم منهما، دون أن يكون الله في حاجة إلى عين يبصر بها، أو قدمين يسير بهما، أو حتي جناحين يطير بهما. بعتبير آخر، فهذه النشاطات المادية هي جزء من حقيقة ما يفعله الله، حتى وإن لم تكن الحقيقة كلها. فالكتاب إذًا يلجأ إلي الحد الأدني من الحقيقة لوصف صورة لا نستطيع نحن أن ندرك أبعادها كليًا.

والسبب  الثاني الذي يجعلنا نعتقد أن الحديث عن الله بلغة التجسيم ليس حديثًا مجازيًا محضًا، هو تجسد الله في المسيح. لقد صار الله إنسانًا وولد من رحم إمرأة، ونام وجلس ووقف وجاع وعطش وأكل وشرب وجال في أرضنا وتغطت قدميه الطاهرتين بترابها الملعون. كان يجول يسمع ويرى ويتكلم ويلمس ويشم، لكل المؤثرات الحسية المادية التي يتعرض لها من حوله. عندما كان الرب يسوع المسيح يسمع ويرى ويتكلم ويقوم ويجلس ويسير ويَلْمِسْ ويُلْمَسْ، كان الله يفعل كل هذه الأشياء أيضًا. وهذا سر عجيب لا نستطيع نحن أن نسبر غوره. إلا أنه حقيقة. قبل التجسد كان الله يرى ويسمع ويشم ويجول خارج اطار الزمكان دون أن يكون له جسد. وفي التجسد ظل الله يفعل نفس تلك الأشياء ولكن داخل إطار الزمان والمكان ومن خلال جسد مادي محدود، جسده هو. لقد كان الرب يسوع المسيح تجسيدًا لكل شئ إلهى. تجسيمًا للواقع الذي لا نراه ولا نستطيع أن ندركه. للحب وللعدل والرحمة والقداسة والبر ولكل النشاطات الإلهية أيضًا. التجسد هو نقطة تلاقي الواقع غير المدرك حسيًا بالواقع المدرك حسيًا. وعليه فنستطيع إذًا النظر إلى الخلف من خلال التجسد، لنرى أن الله كان فعلا يبصر ويسمع ويتحرك.

الظهورات الإلهية (الثيوفوني) والمسيانية (الكريستوفوني) قبل التجسد في العهد القديم هي أيضًا دليل آخر على أن لغة التجسيم المستعملة عن الله ليست مجرد مجازًا أو مجرد صورة رمزية. فمثلا ظهر الرب لإبراهيم مع إثنين من الملائكة وهو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار عند بلوطات ممرا. ويخبرنا الكتاب أن إبراهيم صنع لهم ضيافة وكان واقفًا لديهم تحت الشجرة و"أكلوا" (تك 18 : 8). ويعلق بولس الرسول على هذا الأمر قائلا "لا تنسوا إضافة الغرباء، لأن بها أضاف أناس ملائكة وهم لا يدرون" (عب 2 : 13). هناك أمثلة أخرى مثل ظهوره ليعقوب وصراعه معه في فنوئيل، وظهوره لجدعون كرجل سيفه مسلول والذي لم يكن في حقيقته سوى رئيس جند الرب. وفي كل هذه الأمثلة، فإن الله – على الأقل – بالفعل رأى وسمع وتحرك مثلما يفعل البشر.

أما قول الكتاب مثلا "فاستيقظ الرب كنائم، كجبار معيط من الخمر" (مز 78 : 65)، فهو ليس قولاً حرفيًا لعدة أسباب. أولاً لوضوح اللغة أنها لغة تشبيهية "كنائم .. كجبار"، لاحظ حرف الكاف المستعمل للدلالة على أن الأسلوب هنا للتشبيه. الأمر الذي لا نجده عندما يخبرنا الكتاب أن الله يرى أو يسمع أو يتحرك، إذ لا نجد ما يدل على أنها عبارات مجازية صرف. ثانيًا لأن سفر المزامير سفراً شعريًا يستخدم الصور المجازية بكثرة، ويستعمل أسلوب التوازي في تكرار المعنى. ثالثًا لأن هذه النشاطات المادية لا يمكن أن يفعلها الله "فهو لا ينعس ولا ينام" وحاشا له أن يسكر ويفقد وعيه. وعليه فلغة التجسيم ليست مجرد مجازًا أو تشبيهًا محضًا، ولكنها الحد الأدنى من الحقيقة. إنها أكثر من ذلك، ولكنها ليست أقل منه. الله أكثر بما لا يُحَدّ من أنه يرى ويسمع ويشم ويتحرك، ولكن ليس أقل من ذلك.

حديث الكتاب المقدس عن العدل والغضب والدينونة وجهنم

الهدف الرئيسي لمن ينادون بالاختلاف الكلي لله عن خليقته، هو المصادرة على ما يعلمه الكتاب المقدس عن بعض الحقائق صعبة القبول، ومن ثم يستنى لهم إختلاق إلهًا يتفق مع أهوائهم. أو للمساومة على الحق الكتابي بهدف الإفلات من هجوم العقلانيون والملحدون عليه. مثل إنكار أن الله يغضب، وأنه يدين الأشرار، وأنه يُلقِي كل من يتمرد عليه في جهنم. ولكي يفعلوا ذلك فهم ينكرون الجانب القضائي للخطية باعتبارها جرمًا يستحق العقاب. وينكرون أيضا تعليم الفساد الموروث من أبوينا الأولين، بل يرون أنه فسادًا مكتسبًا ودخيلاً على الإنسان، وليس شيئا لصيقًا بطبيعته. وفي كل هذه فإن العلة لديهم هو أن الله ليس كما نتصوره نحن، بل هو مختلف عنا بصورة مطلقة. ولا يوجد بينه وبين خليقته أية مشابهة أو نقطة تلاق.

ولكن إذا كان الله مختلف كليًا، فالاختلاف الكلي ينطبق أيضًا على الأشياء المحببة وغير المحببة على حد سواء. على العدل والرحمة، الغضب والرضا، الدينونة والنعمة، الصرامة واللطف. وكما يعلمنا الكتاب المقدس أن لمحبة الله أبعادًا لم ندركها بعد، عرضًا وطولاً وعمقًا وعلوًا، إلا أنها ليست أقل مما عرفناه اختبرناه، وذلك لأننا متأصلون ومتأسسون في المحبة. فإننا نتوقع أيضًا نفس الشئ فيما يتعلق بعدل الله وغضبه ودينونته وصرامته، إنها ليست أقل مما وصفت به في كلمة الله. فإذا أرادوا اعتبار نصوص الكتاب المقدس عن العدل والغضب والصرامة والدينونة أحاديثًا مجازية غير حرفية، عليهم أن يطبقوا نفس المبدأ على محبة الله ورحمته ولطفه ونعمته. ولكننا لا نراهم يفعلون ذلك، لأنهم انتقائيون، لا يتورعون عن إعطاء أنفسهم سلطة أعلي من سلطة الكتاب المقدس. فيفسرونه حسب أهوائهم، بدلاً من أن يخضعوا لتفسيره هو عن نفسه. لهذا فمن يريد أن يقحم فهمه الخاص على الكتاب المقدس يلجأ إما إلى جعله مجازيًا أو غير معصومًا في كلماته، أو إما يفعلون الإثنين معا.

وإن لم يكن هناك نقطة تلاق بين محبة الله ومحبتنا فكيف يطالبنا الله بالمحبة "لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم .. ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به" (يو 17). وإن لم يكن هناك نقطة تلاق بين غفران الله لنا ومغفرتنا لمن يسيئون إلينا، فكيف لنا أن نغفر؟ "محتملين بعضكم بعضا، ومسامحين بعضكم بعضا إن كان لأحد على أحد شكوي. كما غفر لكم المسيح هكذا أنتم أيضا" (كو 3 : 13). ونفس الشئ ينطبق على عدل الله أيضًا، فإن لم يكن هناك نقطة تلاق بين عدل الله وعدل الإنسان، فكيف يمكن للإنسان أن يكون عادلا؟ "أيها السادة قدموا للعبيد العدل والمساواة، عالمين أن لكم أنتم أيضًا سيدًا في السماوات" (كو 4 : 1). ونقاط التلاقي بين محبة الله لنا ومحبتنا لبعضنا البعض، وغفران الله لنا وغفراننا لبعضنا البعض، وعدل الله ومساواته لنا وعدلنا ومساواتنا لبعضنا البعض، يرسيها الله من خلال إعلانه، ولسنا نحن من يقررها. إنها تبدأ من أعلى إلى أسفل وليس العكس. إننا لا ننظر إلى الله من منظورنا، ولا نضعه في قالبنا، ولكننا ننظر إلى إليه من منظاره هو، كلمة الله. وعلى أي حال، فهناك نقاط يتلاقى فيها الله مع البشر، وإلا لأضحى التمثل بالله كالنموذج الأخلاقي الأسمى غير ممكنا.

وكما رأينا فإن لغة التجسيم ليست مجازًا ولكنها الحد الأدنى من الحقيقة التي يستطيع البشر فهمها. وعليه فحديث الكتاب المقدس عن العدل والغضب والدينونة وجهنم إلى آخر هذه كلها، لا يمكن أن يوصف بأقل من تلك الأوصاف. فالرب يسوع المسيح هو أكثر من تحدث عن جهنم في الكتاب المقدس. ونحن نستطيع القول أن جهنم أقسى وأشرس من وصف الكتاب، وليست أقل منه. وهذا هو الخطأ الذي وقع فيه أولئك المجازيون. لقد ذهبوا في الإتجاه الخطأ، فبدلاً من أن يقولوا أن الأوصاف الواردة في كلمة الله عن الغضب والدينونة هي أقل ما يمكن أن توصف به تلك الأمور، والحد الأدنى منه، قالوا أنه لا يوجد بين الأوصاف والحقيقة أي نقطة تلاقي واقعية. فالأوصاف مجرد تشبيهات محضة. إن في هذا القول إتهامًا خطيرا لكلمة الله بالكذب. هناك فرق بين أن يخبرنا الكتاب المقدس بالحد الأدنى من الحقيقة، أو ببعد من أبعادها، وبين أن يخبرنا بما ليس عليه الشئ من الأساس.

وبناء على كل ما سبق، فإن الله مختلف عنا، ولكن ليس كليًا. فعلاقتنا به هي علاقة تشابه واختلاف في نفس الوقت. وهو مُعْلَنْ وغامض في آن واحد. إلا أن غموضه هذا لا يعوق إمكانية الحديث عنه حديثًا عقائديًا وعقلانيًا في إطار الإعلان. كما أن حديثنا عنه يكون بواسطة إمكانيات عقلية وهبنا إياها علي أساس الإعلان الذي أُعْطِينَا إياه في لغتنا البشرية.





(1) Baker Encyclopedia of Christian Apologetics Norman L. Geisler, under heading "Karl Barth"
(2) Mere Christianity by C. S. Lewis, page 158
(3) Divine Incomprehensibility by R.C. Sproul
http://www.ligonier.org/learn/articles/divine-incomprehensibility/
(4) Not a Chance: The Myth of Chance in Modern Science and Cosmology by R. C. Sproul, page 157
(5) What Is Reformed Theology, by R. C. Sproul, page 37-41

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس