كيف تقرأ سفر إشعياء


كاتب السفر: هويته، دعوته، خدمته، استشهاده، النقد الأعلى

معنى إسم إشعياء هو "الرب يُخَلص". وهو من الأسرة المالكة. وله ابنان يشيران إسميهما إلى أحداث رئيسية في السفر بل وفي التاريخ الفدائي أيضًا. الابن الأول هو "ماهير شلال حاش بز" (٨ : ١ ، ٣). ويعني "يسرع إلى الغنيمة" في إشارة إلى الدينونة القادمة على الشعب في السبي الأشوري. والثاني هو "شآر ياشوب" (٧ : ٣) ويعني "البقية تعود" في إشارة لاستبقاء الرب لنفسه بقية رغم الدينونة الآتية على الشعب. خدم إشعياء تقريبًا لمدة أربعين سنة في عهد أربع ملوك ليهوذا: عزيا ويوثام وآحاز وحزقيا. بل وامتدت خدمته لعهد منسى أيضًا حتى أن التقليد اليهودي (سفر صعود إشعياء) يقول أنه شُطِرَ إلى نصفين في عهد ذلك الملك الشرير منسى.

على عكس إرميا الذي يبدأ سفره بالحديث عن دعوته للخدمة، يؤجل إشعياء سرد دعوته للخدمة إلى الأصحاح السادس (ويبدأ بالحديث عن الدينونة كنوع من التشديد عليها - دانيال هايز). إذ نقرأ عن هذا المشهد المهيب الذي رأى فيه النبي يهوه جالسًا على كرسي عالٍ ومرتفع وأذياله (هُدب ثوبه الملكي) تملأ الهيكل، والسرافيم واقفون فوقه وهذا نادى ذاك وقال "قدوس، قدوس، قدوس رب الجنود. مجده ملء كل الأرض". في ضوء هذا المشهد الرهيب ليهوه يرى إشعياء نجاسته فيصرخ "ويل لي إني هلكت، لأني إنسان نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأن عيني قد رأتا الملك رب الجنود". هذه الرؤية لشخص الرب تشكل طبيعة السفر بأكمله (لونجمان). فيهوه "قدوس، قدوس، قدوس". وهذه القداسة تظهر في كراهيته الشديدة لشرور إسرائيل مما سيجلب عليهم الدينونة. كما أنها تظهر أيضًا في حفظه للعهد الذي أقسم للآباء. ورغم أن إشعياء يرى نفسه مع الشعب من حيث الشر واستحقاقه للدينونة، إلا أن الرب يقدس فمه بجمرة من على المذبح. وهذا أيضًا يخبرنا عن عمل نعمة الله في استبقاءه بقية لنفسه رغم الدينونة. وعليه، فالفكر اللاهوتي في السفر ينبع من مشهد دعوة إشعياء للخدمة.

ورغم أن رسالة إشعياء تتضمن خلاص الرب لشعبه، ومن ثم استبقاءه لنفسه بقية، إلا أن خدمة إشعياء في مجملها هي خدمة دينونة. وهذا يتضح من إرسالية الرب له في نفس مشهد دعوته. نقرأ "ثم سمعت صوت السيد قائلاً: من أرسل؟ ومن يذهب من أجلنا؟ فقلت: هآنذا، أرسلني. فقال: اذهب وقل لهذا الشعب: اسمعوا سمعًا ولا تفهموا، وأبصروا إبصاروا ولا تعرفوا. غَلِّظ قلب هذا الشعب وثَقِّل أذنيه وأطمس عينيه، لئلا يبصر بعينيه ويسمع بأذنيه ويفهم بقلبه، فيرجع ويُشفى" (٦ : ٨ – ١٠). إن باقي السفر يخبرنا كيف أن شعب الرب لم يلتفت لتحذيراته حتى جاءت عليهم دينونتي السبيين الأشوري والبابلي. فرغم أن المملكة الشمالية سُبيت على يد ملك أشور عام ٧٢٢ ق. م. لم تتعظ المملكة الجنوبية من ذلك فجاء عليها السبي البابلي عام ٥٨٦ ق. م.

السفر والنقد الأعلى

قسم رجال النقد الأعلى (نقاد ليبراليون) السفر إلى ثلاث أقسام نسبة إلى ثلاث كتاب مختلفون: سفر إشعياء الأول في أورشليم حول السبي الأشوري في الأصحاجات ١ – ٣٩. سفر إشعياء الثاني في زمن السبي البابلي في الأصحاجات ٤٠ – ٥٥. سفر إشعياء الثالث بعد السبي البابلي في الأصحاجات ٥٦ – ٦٦. أحد الأسباب لهذا التقسيم هو اختلاف المصطلحات المستعملة في الأقسام الثلاثة والذي يدل على ثلاث كُتاب مختلفين. سبب آخر هو أن سفري إشعياء الثاني والثالث يتناولان أحداث في القرن السادس قبل الميلاد، وهي أحداث السبي البابلي والعودة منه. بينما عاش إشعياء قبل ذلك بقرن ونصف. مما يعني أن رجال النقد الأعلى ينكرون الطبيعة المعجزية للسفر في كونه يتنبأ بأحداث مستقبلية.

وفيما يتعلق بالسبب الأول، فإن هذا الاختلاف في المصطلحات بين أقسام السفر يمكن إرجاعه إلى اختلاف الموضوع الذي يتم معالجته. واختلاف زاوية المعالجة أو التركيز. والنمو الشخصي للنبي. هذا فضلاً عن وجود مصطلحات ثابتة بين الثلاثة أقسام كدليل لتلك الوحدة مثل "صهيون" و"قدوس إسرائيل". أيضًا، اقتبس كتبة العهد الجديد من الثلاث أقسام للسفر ونسبوا تلك النصوص لإشعياء. أخيرًا وليس آخرًا، لا يوجد أي مخطوطات تؤيد هذا الزعم الليبرالي بأن إشعياء لم يكتب سوى الأصحاحات ١ – ٣٩. بالنسبة للنقطة الثانية فسنعالجها لاحقًا.

الخلفية التاريخية للسفر: ثلاث أزمات تاريخية تواجه شعب الرب المتمرد

تدور نبوة إشعياء حول ثلاث أزمات تاريخية يتعرض لها شعب الرب. كما نعلم فإن مملكة إسرائيل كانت في ذلك الوقت منقسمة إلى مملكتين: مملكة إسرائيل في الشمال، ومملكة يهوذا في الجنوب. كانت الإمبراطورية الأشورية في صعود وقت إشعياء النبي. بسبب التهديد الذي تعرضت له المملكة الشمالية من أشور، تحالفت الأولى مع أرام (سوريا). أي لدينا هنا تحالف أرامي إسرائيلي (المملكة الشمالية فقط). سعى كل من أرام بقيادة رصين والمملكة الشمالية (يدعوها إشعياء أفرايم لأنه أكبر سبط بها) بقيادة فقح إلى ضم المملكة الجنوبية إليهما ضد أشور. وعندما رفضت المملكة الجنوبية الإنضمام إلى التحالف صعد كل من فقح ملك إسرائيل ورصين ملك أرام إلى يهوذا (المملكة الجنوبية) واقتحماها وقتلا الآلاف منها وسبيا آلافًا آخرين (٢ أخ ٢٨ : ١ – ٨). وحاصرا أورشليم (عاصمة المملكة الجنوبية) لكنهما لم يستطيعا اقتحامها (٢ مل ١٦ : ٥). كل هذا في محاولة منهما لإجبار آحاز على الإنضمام إلى ذلك التحالف (إش ٧ : ١ – ٢، ٢ مل ١٦ : ٥). وبسبب خوف آحاز من ذلك سعى إلى التحالف مع أشور. فأرسل آحاز يستنجد بملك أشور، تغلث فلاسر، ليخلصه من الهجوم الأرامي الإسرائيلي (٢ مل ١٦ : ٧ – ٩، ٢ أخ ٢٨ : ١٦). الملفت للإنتباه أن هجوم فقح ورصين على يهوذا كان دينونة من الرب على المملكة الجنوبية (٢ مل ١٥ : ٣٧، ٢ أخ ٢٨ : ١ – ٦). أراد الرب لآحاز أن يتوب عن وثنيته وتمرده عليه.

في ظل هذا السياق يأتي تحذير الرب على فم إشعياء إلى آحاز الملك ليحترز ويهدأ فيتكل على الرب إلهه وليس على أشور (إش ٧ : ٤). ثم يقدم الرب عرضًا لآحاز على فم نبيه إشعياء بأن يطلب آحاز آية من الرب "أُطلب لنفسك آية من الرب إلهك. عَمِّق طلبك أو رَفِّعُه إلى فوق. فقال آحاز: لا أُطلب ولا أجرب الرب" (إش ٧ : ١٠ – ١٣). ورغم رفض آحاز هذا العرض المغري إلا أن الرب يشاء في سلطانه أن يعطيه على أية حال آية "ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل". وقبل أن يكبر هذا الصبي، عمانوئيل، تأتي دينونة الرب على فقح ورصين (إش ٧ : ١٠ – ١٦). لكن علينا هنا ملاحظة أن نبوة عمانوئيل هي نبوة مُرَكَّبَة؛ لها إتمام قريب وآخر بعيد. الإتمام القريب في عهد آحاز بخلاصه من أرام وإسرائيل. والإتمام البعيد هو بمجئ عمانوئيل الأعظم، ربنا يسوع المسيح، ليس فقط كالمخلص من الهجوم الأرضي، بل ومن السبي الروحي أيضًا بعمل كفارته (للمزيد عن هوية عمانوئيل أنظر مقال آخر بعنوان: "من هو عمانوئيل؟"). هذه هي الأزمة التاريخية الأولى.

بعد موت تغلث فلاسر ملك أشور (الذي استعان به آحاز)، تحرك كل من شملناصر وسرجون، ملكا أشور (اللذان خلفا تغلث فلاسر في الحكم)، ضد المملكة الشمالية، فتم تدميرها وسبيها. وهو الحدث المعروف بالسبي الأشوري عام ٧٢٢ ق. م. تأتي نبوات الأصحاحات ٨ – ٣٥ للتحذير من هذا السبي الأشوري الوشيك. ثم أثناء ملك حزقيا، وفي عهد سنحاريب ملك أشور، قاومت مملكة يهوذا وأممًا أخرى مملكة أشور. فقامت هذه الأخيرة بتدمير يهوذا ومحاصرة أورشليم إلا أن سنحاريب لم يستطع اقتحامها. حذر إشعياء حزقيا من التحالف مع الأمم والاحتماء بهم بدلاً من طلب المعونة من الرب. ولكن حزقيا، على عكس آحاز أبيه، وثق في كلام الرب المعلن له على فم إشعياء (ص ٣٧)، فنجا من يد سنحاريب. وهذه هي الأزمة التاريخية الثانية. إلا أن حزقيا فيما بعد سعى للتحالف مع بابل حتى يضمن ملكه. فما كان من إشعياء سوى أن يعلن له دينونة الرب على يهوذا بسبي أورشليم وحمل الكنوز الملكية إلى بابل (٣٩ : ٦ – ٧). الأمر الذي يعد مدخل للحديث عن الأزمة التاريخية الثالثة في السفر.

مرة أخرى، فإن الأصحاحات ٣٦ – ٣٩، والتي تتحدث عن حصار أورشليم بواسطة ملك أشور في أيام حزقيا ثم نجاة أورشليم ومرض حزقيا إلخ، هي بمثابة حزء انتقالي من السبي الأشوري للملكة الشمالية (الأصحاحات ٨ – ٣٥) في القرن الثامن ق. م.، إلى السبي البابلي للملكة الجنوبية (الأصحاحات ٤٠ – ٦٦) في القرن السادس ق. م.، وهي الأزمة التاريخية الثالثة في السفر. إن ما بين إشعياء ٣٩ و ٤٠ ما يقرب من قرن ونصف من الزمان. أي أن النبوة المتعلقة بالسبي البابلي والعودة منه لم تتم أحداثها في حياة إشعياء، بل بعد أكثر من قرن من استشهاده. وتخص السبي البابلي الذي سيأتي على المملكة الجنوبية عام ٥٨٦ ق. م. في هذه الأصحاحات (٤٠ – ٦٦) يخاطب إشعياء المسبيين في بابل ليقدم لهم تعزية الرب ووعده بخلاصهم وإرجاعهم إلى أرض يهوذا "عزوا عزوا شعبي يقول إلهكم. طيبوا قلب أورشليم ونادوها بأن جهادها قد كمل. أن إثمها قد عُفي عنه. أنها قبلت من يد الرب ضعفين عن كل خطاياها" (إش ٤٠ : ١ – ٢).

تقسيم السفر

إن الخلفية التاريخية السابقة تسهل علينا تقسيم السفر. ولعل التقسيم الأكثر سلاسة وسهولة للسفر هو الآتي:

١ – ١٢ الدينونة الوشيكة على إسرائيل في السبي الأشوري
١٣ – ٣٥ سلاسل من الأقوال النبوية الموجهة للدينونة على الأمم
٣٦ – ٣٩ جزء تاريخي انتقالي من النبوة المتعلقة بالسبي الأشوري إلى النبوة الخاصة بالسبي البابلي
٤٠ – ٦٦ الرجوع من السبي البابلي والبركة المستقبلية على البقية

الأسلوب الأدبي للسفر

كما رأينا فإن السفر لا تجمعه رواية تاريخية واحدة. بل هو تجميع من الأقوال النبوية حول دينونة الله وخلاصه تتخللها أحداث من حياة النبي (الأصحاحات ٦ – ٨)، وأحداث متعلقة بحزقيا وحصار أورشليم (الأصحاحات ٣٦ – ٣٩). وفيما عدا هذه الأجزاء التاريخية فإن السفر مكتوب بأسلوب التوازي للشعر العبري. هذا التوازي بين شطرتي البيت أو بين الأبيات وبعضها يكون بغرض: تأكيد المعنى، أو لتكميله والإضافة إليه، أو للتضاد والمقابلة.

الخلفية اللاهوتية للسفر

إن سفر إشعياء لا يمكن أن يُفهم بصورة جيدة إلا في ضوء التوراة. فسياق السفر هو محاكمة الشعب المتمرد في ضوء العهد التوراتي بين الرب وبينهم. فالرب وشعبه هنا هما خصمين. وإشعياء هو المحامي الذي يدافع عن العهد التوراتي "الرب يدخل في المحاكمة مع شيوخ شعبه ورؤسائهم" (٣ : ١٤). أما الشهود فهم السماء والأرض "اسمعي أيتها السموات، واصغي أيتها الأرض لأن الرب يتكلم" (١ : ٢). إن إشعياء هنا يلمح إلى عهد الرب مع شعبه عندما أخرجهم من أرض مصر وأشهد عليهم حينها السموات والأرض "أُشهد عليكم اليوم السماء والأرض أنكم تبيدون سريعًا عن الأرض التي أنتم عابرون الأردن إليها لتمتلكوها. لا تطيلون الأيام عليها، بل تهلكون لا محالة" (تث ٤ : ٢٦، ٣٠ : ١٩، ٣٢ : ١). وهذا ما حدث تمامًا. فلأنهم سلكوا كما يسلك سائر الأمم الذين طردهم الرب من أمامهم، في الوثنية والزنى والمظالم الاجتماعية، حتى أن إشعياء يصفهم بأنهم مثل سدوم وعمورة (١ : ٩ – ١٠، ٣ : ٩، ١٣ : ١٩)، طردهم الرب أيضًا إلى أشور وبابل. طبقًا للخلفية التوراتية أيضًا فإن خلاص الرب لشعبه من السبي هو خروج جديد "ويبيد الرب لسان بحر مصر ... وتكون سكة لبقية شعبه التي بقيت من أشور، كما كان لإسرائيل يوم صعوده من أرض مصر" (١١ : ١٥ – ١٦، أنظر أيضًا الكثير من الإشارات الأخرى التي يستعملها إشعياء عن الخروج ٤٣ : ١٦ ، ٥١ : ٩ ، ١٠). وإبقاء الرب لنفسه بقية في العائدين من السبي البابلي يجد خلفيته أيضًا في أسفار التوراة التي تخبرنا عن العهد الأبدي بين الرب والآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب، بأن يعطيهم نسلاً كثيرًا ومُلكًا أبديًا في أرض الموعد. لماذا لم يهلك الرب كليًا هذا الشعب المتمرد (كما فعل مع سدوم وعمورة مثلا)؟ بسبب عهده مع الآباء. إذًا، فحين يدينهم الرب مرسلاً إياهم إلى السبي، وحين يبقي لنفسه بقية منهم، فإنه يفعل كل ذلك طبقًا للعهد الذي دخل فيه مع آبائهم.

صفات الله في السفر

الرب القدوس: يقول لونجمان أن رؤية إشعياء ليهوه القدوس عالٍ وهدب ثوبه الملكي تملأ الهيكل وهتاف الملائكة "قدوس قدوس قدوس"، شكلت باقي أجزاء السفر: "ففي جميع أنحاء السفر، كان لقب إشعياء المفضل لله هو ‘قدوس إسرائيل’ ١ : ٤ ، ٥ : ١٩ ، ٢٤ ، ١٠ : ١٧ ، ٢٠، ١٢ : ٦ ، ١٧ : ٧ ، ٢٩ : ١٩ ، ٢٣ ، ٣٠ : ١١ - ١٢ ، ١٥ ، ٣١ : ١ ، ٣٧ : ٢٣ ، ٤٠ : ٢٥ ، ٤١ : ١٤ ، ١٦ ، ٢٠ ، ٤٣ : ٣ ، ١٤ – ١٥ ، ٤٥ : ١١ ، ٤٧ : ٤ ، ٤٨ : ١٧ ، ٤٩ : ٧ ، ٥٤ : ٥ ، ٥٥ : ٥ ، ٦٠ : ٩ ". إن الرب القدوس لا يستطيع أن يسكن وسط شعب نجس فأرسلهم للسبي. طردهم من جنته (أرض الموعد) كما طرد آدم من قبلهم عندما تمرد عليه.

الرب صاحب السلطان: يخبرنا إشعياء، ولا سيما في الجزء المتعلق بسبي بابل والعودة منه، بأن الرب ليس كآلهة الأمم البكم. بل كلي العلم والسلطان. إنه يعلم ما سيحدث في المستقبل لأنه هو الذي قرر ذلك في سلطانه. فقبل ظهور كورش على ساحة التاريخ الفدائي بما يقرب من قرن ونصف، يتنبأ إشعياء بأن الرب سيستخدمه لإعادة شعبه إسرائيل إلى أورشليم (٤٤ : ٢٨، ٤٥ : ١). في نصوص أخرى يتحدى الرب آلهة الأمم الوثنية إن استطاعوا الإخبار أو التنبؤ بالمستقبل ٤١ : ٢٢ ، ٢٣ ، ٤٢ : ٩ ، ٤٣ : ٩ ، ٤٤ : ٧ ، ٨ ، ٤٥ : ٢١ ، ٤٦ : ٩ ، ١٠ ، ٤٨ : ٣ – ٨. فكما أنذر الرب بمجئ السبي الأشوري وحدث فعلاً بعد وقت قصير (الأوليات)، يخبر بالآتيات أيضًا. إن هذه الطبيعة النبوية للسفر، ولا سيما في الجزء المتعلق بالسبي البابلي ٤٠ – ٦٦، دفعت رجال النقد الأعلى (كما أسلفنا)، الذين ينكرون المعجزت، بالقول بأنه هناك أكثر من كاتب للسفر. فلم يكن من الممكن بالنسبة لهم أن يتنبأ إشعياء عن السبي البابلي والعودة منه وإستخدام الرب لكورش قبل حدوث هذه الأمور بأكثر من قرن. إلا أنهم ينكرون أمرًا في نسيج هذه النصوص: إن يهوه يخبر بالمستقبليات لأنه صاحب السلطان عليها ومقررها. أزل هذه الطبيعة النبوية ولن يبقى في النص شيئًا.

سلطان الله واضح أيضًا في كونه الذي يوجه الضربات لشعبه المتمرد "والشعب لم يرجع إلى ضاربه، ولم يطلب رب الجنود" (٩ : ١٣). أنظر أيضًا (١ : ٤ – ٩، ٢٦ : ١١ ، ٥٧ : ١٧). سلطان الله يظهر أيضًا في الدينونة الموجهة ضد الأمم والممتدة طيلة الأصحاحات ١٣ – ٣٥. وهذا هو السبب في أن إشعياء يورد هذه النبوات المطولة ضد الأمم. أي لكي يلتفت شعب إسرائيل نفسه إلى سلطان الرب في الدينونة والخلاص.

المسيح في السفر

ربما لا يوجد سفر آخر في العهد القديم يضارع إشعياء في كم النبوات المباشرة وغير المباشرة التي يوردها عن المسيح. فلم يسمى إشعياء من فراغ بـ "النبي الإنجيلي". كما أن سفره يوصف بأنه "الإنجيل الخامس". فالمسيح فيه يهوه قبل التجسد (قارن إش ٦ : ١ مع يو ١٢ : ٣٧ – ٤١). وهو عمانوئيل المولود من العذراء (٧ : ١٤). والملك ابن داود ورئيس السلام (٩ : ٦ – ٧). والغصن (٤ : ٢، ١١ : ١). والنبي والكاهن والملك الممسوح المرسل ليبشر المساكين ويشفي منكسري القلوب ويطلق المأسورين إلى الحرية (٤٨ : ١٦ ، ٦١ : ١). وهو العبد المتألم (٤٢ : ١ – ٩، ٤٩ : ١ – ١٣، ٥٠ : ٤ – ١١، ٥٢ : ١٣ – ٥٣ : ١٢). النصوص الأربعة السابقة يطلق عليها "أربعة ترانيم عبد الرب". إلا أن هناك من ينكرون أن العبد المتألم هو المسيح يسوع.

من هو العبد المتألم؟

هناك نصوص تقول صراحة أن العبد المتألم هو إسرائيل أو يعقوب مثل ٤٩ : ٣. وأن هذا العبد هو أعمى وأصم (٤٢ : ١٩ – ٢٠)، الأمر الذي لا يمكن أن ينطبق على المسيح. مما دفع البعض لاختزال مفهوم العبد المتألم فقط في شعب إسرائيل (آخرون قالوا أنه كورش الفارسي). إلا هناك نصوص متعلقة بالعبد المتألم لا يمكن أن تنطبق على إسرائيل. على سبيل المثال، فالعبد المتألم هو الذي سَيُضْرب ويُسحق ويُجرح من أجل ذنوب شعب إسرائيل كما نقرأ في أصحاح ٥٣. لاحظ صيغة الجمع في هذا النص. فالمتحدث هنا هو الجماعة "معاصينا ... آثامنا ... كلنا كغنم ضللنا ... إثم جميعنا" (٥ ، ٦). بالمقابلة مع ذلك لاحظ أن هذا العبد "لم يعمل ظلمًا ... لم يكن في فمه غش ... عبدي البار" (٩ ، ١١). وأنه ذبيحة إثم (١٠). والذبيحة تكون كاملة وبلا عيب. إن هذه الأوصاف الكاملة لا يمكن أن تنطبق على شعب إسرائيل الذي أسرد إشعياء التفاصيل الدقيقة في وصف شروره كسدوم وعمورة جديدين.

فضلاً عن ذلك، يستعمل إشعياء لغة يربط بها بين السيد الذي رآه "جالسًا على كرسي عالٍ ومرتفع (رام ونيسا)" (إش ٦ : ١)، وبين الخادم المتألم الذي "يعقل، يتعالى ويرتقي (يرام ونيسا) ويتسامى جدًا" (إش ٥٢ : ١٣). إن العبد المتألم في إش ٥٢ – ٥٣ هو ذاته الملك المرتفع في إش ٦ وإن كان في صورة اتضاعه على الصليب.

نستنتج من ذلك أن العبد المتألم هو كل من إسرائيل والرب يسوع معًا. بكلمات أخرى، فإن العبد المتألم هو شعب إسرائيل ويسمو عن شعب إسرائيل في نفس الوقت أيضًا. فشعب إسرائيل هو العبد الفاشل والأعمي والأصم والعاصي. بينما الرب يسوع المسيح هو العبد البار الذي جاء لينجح في كل ما فشل فيه الشعب. فالمسيح هو الإسرائيلي الحق. ولكن، يثور سؤال هنا: كيف نميز بين النصوص التي تشير إلى إسرائيل كعبد والنصوص التي تشير إلى المسيح كعبد؟ أعتقد الحل يكمن في أن أي نص يشير إلى وجود نقص أو فشل أو خطية في العبد المتألم فهو لا يمكن أن يشير إلى المسيح.

العبد المتألم والبقية

نستطيع أن نفهم لماذا يوصف المسيح بأنه العبد المتألم نظرًا لآلامه الكفارية النيابية. لكن ما ليس واضحًا هنا هو لماذا يوصف شعب إسرائيل بالعبد المتألم؟ يقول لونجمان أن السبب في كون شعب إسرائيل هو العبد المتألم هو أن البقية الأمينة تعود من فترة ضيق (السبي البابلي). إلا أنه مع كل أسف فإن هذه البقية العائدة سيكون لها خطاياها أيضًا كما نقرأ في أصحاحي ٥٨ و ٥٩. وهذا في حد ذاته يجعل قارئ سفر إشعياء يتطلع إلى بقية حقيقية أكثر أمانة وتقوى. إن البقية الحقيقية ليست شئ آخر سوى المسيا المتألم نفسه كما يقول لونجمان. المسيح إذًا هو العبد المتألم الحق، وإسرائيل الحق، والبقية الحقة.

كورش وعبد الرب

إن كل شئ في سفر إشعياء يشير إلى المسيح. فالخادم المتألم الحق هو المسيح. والبقية الأمينة بالحق هي المسيح. كورش الملك الفارسي بدوره أيضًا يشير إلى المسيح. فمع أن كورش يلعب دورًا هامًا في عودة البقية إلى أرض يهوذا إلا أن دوره يبهت أمام العبد الحقيقي الرب يسوع المسيح. فإن كان الرب يدعو كورش "راعيي" و"مسيح الرب"(في حدود المهمة التي عينه الرب لها) إلا أن كورش ليس سوى صورة باهتة للراع الحقيقي والمسيح الحق الذي سيخلص الشعب ليس فقط من السبي البابلي، بل من سبي خطاياهم أيضًا. يقول دانيال هايز:

"على الرغم من أنه في إشعياء ٤٤ – ٤٥ كان كورش، ملك بلاد فارس، يلعب دورًا رائدًا في خطة يهوه التي تتكشف شيئًا فشيئًا، فإن التركيز المستقبلي الآن ينتقل إلى ما وراء كورش (الذي يتلاشى) إلى عبد الرب. سيكون عبد الرب هو الشخصية الحاسمة في تحقيق الاستعادة المستقبلية وجميع ‘الأشياء الجديدة’ التي خطط لها الرب".

نخلص من ذلك، أنه وإن كان السبي البابلي دينونة حقيقية على الشعب، وإن كانت العودة من السبي البابلي نعمة من الرب، فإن السبي الأكبر هو الخطية. والنعمة العظمى هي الخلاص من دينونتها وسلطانها.

خاتمة

تتخلل السفر الكثير من النصوص عن الحالة الأبدية السعيدة. أبرزها نصوص مثل أن الذئب يسكن مع الخروف والفطيم يمد يده إلى جحر الأفعوان والأسد يأكل التبن كالبقر ١١ : ٦ – ٨ ، ٦٥ : ٢٥. هذه النصوص لا يمكننا روحنتها أو جعلها مجازية وإلا لاضطررنا أن نجعل النصوص التي تتحدث عن الدينونة التي أتت بالفعل في السبيين الأشوري والبابلي بدورها نصوصًا مجازية. هذه الوعود ستتحقق حرفيًا في الملك الألفي السعيد لربنا يسوع المسيح عندما يتوج على نفس الأرض التي رفضه وصلبته. وهكذا، فإن كان السفر يبدأ بالدينونة على إسرائيل، ويتعرض لدينونة الأمم، إلا أن النهاية سعيدة لإسرائيل وللأمم بل وللخليقة غير العاقلة أيضًا. بين وديان الدينونة هذه ومرتفعات الخلاص تلك يسير بنا إشعياء في هذه الرحلة الممتعة إلى أن يصل بنا إلى "السموات الجديدة والأرض الجديدة" التي يصنعها الرب (٦٦ : ٢٣).

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس