كيف تقرأ سفر مراثي إرميا


كَيْفَ جَلَسَتْ وَحْدَهَا الْمَدِينَةُ الْكَثِيرَةُ الشَّعْبِ! كَيْفَ صَارَتْ كَأَرْمَلَةٍ الْعَظِيمَةُ فِي الأُمَمِ. السَّيِّدَةُ في الْبُلْدَانِ صَارَتْ تَحْتَ الْجِزْيَةِ!
(مراثي ١ : ١)
إِنَّهُ مِنْ إِحْسَانَاتِ الرَّبِّ أَنَّنَا لَمْ نَفْنَ، لأَنَّ مَرَاحِمَهُ لاَ تَزُولُ. هِيَ جَدِيدَةٌ فِي كُلِّ صَبَاحٍ. كَثِيرَةٌ أَمَانَتُكَ. نَصِيبِي هُوَ الرَّبُّ، قَالَتْ نَفْسِي، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَرْجُوهُ.
(مراثي ٣ : ٢٢ – ٢٤)


الخلفية التاريخية واللاهوتية

تقع أحداث السفر في أورشليم في الفترة ما بين السبي البابلي ٥٨٦ والعودة منه ٥٣٨ ق. م. وهي ليست أحداث بقدر ما هي توابع لحدث كبير. الحدث هو سقوط أورشليم وهدم سورهما وحرق هيكلها على يد نبوخذ نصر البابلي. وهذا يعني أن الخراب لم يكن خرابًا ماديًا فقط بل خرابًا روحيًا في المقام الأول. فالهيكل منهدم مما يعني أن الرب لم يعد وسط شعبه. والشعب مطرود خارج جنته التي هي أرض الموعد ومكان سكنى الرب. على أن هذا الخراب لم يأتي بغتة على أورشليم. بل تنبأ به إرميا قبل ذلك ولكن قوبلت نبوته وتخذيراته بالرفض بواسطة أهل يهوذا. إن موقف أهل يهوذا يذكرنا بموقف آدم بعد أن أخطأ وطُرد من الجنة. فإسرائيل (المملكة الجنوبية) هو آدم جديد خان العهد مع الرب فَطُرِدَ من جنته إلى السبي. خيانة العهد تلك كانت الخطايا التي ارتكبوها كباقي الأمم والتي نهاهم عنها الرب. ولكن كما كان هناك رجاء لآدم الذي طُرد من الجنة على أساس الذبيحة، يوجد أيضًا رجاء ليهوذا المطرود على أساس الأمانة العهدية للرب "كثيرة أمانتك". تأتي مرثاة إرميا في هذا المشهد الملئ بالخراب والذي يُعَبَّرُ عنه بقوة في الأصحاح الرابع الذي يصور لنا فيه أهوال الحصار البابلي لأورشليم.

الأسلوب الأدبي

يتفق سفر المراثي مع سفر أيوب في كونهما رثاء. إلا أن آلام أيوب فردية وغير معروف سببها. بينما آلام إرميا هي آلام مملكة يهوذا جميعًا وسببها هو الخطية. السفر عبارة عن خمسة أشعار لرثاء سقوط أورشليم وخراب هيكلها. تتكون كل مرثاة من ٢٢ بيت بحيث أن كل بيت يبدأ بحرف من الأبجدية العبرية بالتسلسل. الأصحاح الثالث ثلاثة أضعاف ذلك أي ٦٦ بيتًا بحيث أن كل حرف من الأبجدية يُستخدم ثلاث مرات متتاليات وبالتسلسل. الأصحاح الخامس مكون أيضًا من ٢٢ بيت ولكنه لا يتبع تسلسل أبجدي. والتسلسل الأبجدي يشير إلى كمال تغطية الموضوع. إنه رثاء أورشليم من الألف إلى الياء. لقد اكتملت أحزانها وأوجاعها. وهو أشبه بالرثاء الجنائزي. فتارة نجد أورشليم أرملة تبكي أبناءها وبناتها (ص١). بينما في أجزاء أخرى نجد إرميا ينوح على أورشليم نفسها كميت (ص٣).

ورغم أننا لا نقرأ أي صوت مباشر للرب في السفر، إلا أن رثاء إرميا لأورشليم هو في الحقيقة رثاء الرب لها. فكما رأينا في سفر إرميا تتداخل لغة النبي مع لغة الرب بحيث يصعب تحديد من هو المتكلم. للدرجة التي دفعت بعض الباحثين لإطلاق تسمية "الإله الباكي" على الرب في سفر إرميا. ألم يرثي الرب يسوع نفسه أورشليم في العهد الجديد (مت ٢٣ : ٣٧)؟ إنه رثاء الرب إذًا لأورشليم على لسان إرميا.

ويتكون أسلوب الرثاء بصفة عامة من: شكوى، ثم تصريح بالاتكال على الرب، ثم تضرع. وهذا يعني أنه في سفر المراثي، شأنه في ذلك شأن المزامير، يوجد حركة من الألم والرثاء إلى الرجاء. فبينما يبدأ السفر بالأحزان والأهوال، مرورًا في منتصفه بالذروة حيث الحديث عن أمانة الرب العهدية، إلى أن يصل في آخر أصحاح إلى اعتراف بالخطية وصلاة لطلب الرحمة من الرب. ومع ذلك فإن العبارة الأخيرة في السفر تكاد تغلب عليها روح البؤس والاحباط في المرنم وكأن الأحزان استبدت به مرة أخرى.

غرض السفر

نتسائل، كأفراد أو جماعة، عن سبب الألم الذي حل بنا. ومما لا شك فيه فقد تسائل يهود المملكة الجنوبية عن سبب الخراب الذي حلّ بهم. والغرض الرئيسي من السفر هو القول أن مملكة يهوذا تستحق ما جاء عليها من دينونة بسبب خطاياها وبسبب أنها لم تلتفت لتحذيرات الرب لتتوب عن تلك الخطايا. فالرب عادل في دينونته (١: ٥، ٨، ١٨، ٢٠). وهذا يعني أن الدينونة كانت بفعل الرب وليست فقط مطامع نبوخذ نصر في الإستيلاء على مملكة يهوذا. السفر في مجمله إذًا تأمل وتبصر في تعاملات الله مع شعبه.

المسيح في السفر

من الجدير بنا هنا ملاحظة أن إرميا لم يكن نبيًا فقط، بل كان أيضًا كاهنًا للرب من عناثوث. وإرميا في كونه نبيًا للرب ينقل للشعب نفور الرب من خطاياهم. إنه يعلن لهم ما في قلب الرب تجاههم وتجاه آثاماهم. وفي كونه كاهنًا للرب أيضًا فإنه يتألم ويرثي لخطايا شعبه وبؤسهم باكيًا ونائحًا عليهم وعنهم بالنيابة عن الرب. وفي هذا يشير إرميا إلى رئيس الكهنة الأعظم يسوع ولا سيما عندما رثى أورشليم قرب نهايته خدمته بسبب رفضها إياه ومن ثم خرابها الوشيك على يد الرومان عام ٧٠ م. (مت ٢٣ : ٣٧). ونجد الرب يسوع في السفر ليس فقط متألمًا من الخطايا، بل متألما عنها أيضًا. لقد كان رجاء مملكة يهوذا وعودتها من السبي مضمونان على أساس العهد مع إبراهيم والذي ضامنه هو الرب يسوع نفسه. لقد دفع الرب يسوع المسيح ثمن ذلك العهد والذي على أساسه أبقى الرب لنفسه بقية عائدة من السبي. فضلاً عن ذلك، وفي ضوء تقصير يهوذا في طاعة الرب، فإن السفر يتطلع إلى الإسرائيلي الحق، وهو الرب يسوع، الذي يحفظ كل وصايا الناموس بدون أدنى تقصير.

تقسيم السفر
ص١ : أحزان أورشليم الأرملة
ص٢ : غضب الله على أورشليم وتحذيراته التي تمت
ص٣: أمانة الله العهدية: إرميا يتألم لأجل أورشليم ويشاركها بؤسها متكلاً على أمانة الله العهدية
ص٤ : وصف لأهوال حصار أورشليم على يد البابليين
ص٥ : اعتراف بالخطية وصلاة لأجل طلب الرحمة

تطيبق

سفر مراثي إرميا هو نموذج للتعبير عن الألم والرثاء. إنه أمر كتابي أن نسكب شكوانا أمام الرب. وليس فقط كنوع من التنفنيث ولكن بالأولى للإعتراف بضعفنا وخطايانا ولطلب الرحمة والإتكال على الرب.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس