كيف تقرأ رسالة غلاطية


إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ، بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، آمَنَّا نَحْنُ أَيْضًا بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، لِنَتَبَرَّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ لاَ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ. لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا. (٢ : ١٦)
لَسْتُ أُبْطِلُ نِعْمَةَ اللهِ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِالنَّامُوسِ بِرٌّ، فَالْمَسِيحُ إِذًا مَاتَ بِلاَ سَبَبٍ! (٢ : ٢١)

تمهيد

غلاطية هي ثاني رسالة في الترتيب بين رسائل العهد الجديد. ومع هذا فهناك الكثير من باحثي العهد الجديد يرون أنها الأولى من حيث تاريخ كتابتها. بل ويختلف الباحثون أيضًا حول ما إن كانت قد كُتبت إلى سكان شمال المقاطعة الأصليون (والمنحدرون من أصول قلطية Celtic) أم إن كانت موجهة إلى سكان الجنوب وهم ينتمون إلى المقاطعة سياسيًا فقط، وليس عرقيًا، وذلك بسبب توسيع الرومان للحدود السياسية للمقاطعة. مسألتي تاريخ الكتابة والجمهور متداخلتان. وطبقًا لكبار باحثي العهد الجديد المعاصرين، مثل شراينر وكوستنبرجر وستوت، فإن الرسالة موجهة إلى سكان الجنوب وقد كُتبت تقريبًا عام ٤٩ م. أيًا كان الرأي الذي نتخذه حول زمن الكتابة والجمهور فإن هذا لن يؤثر على الموضوع.

ما هو الأسلوب الأدبي للرسالة وكيف تختلف عن باقي رسائل بولس؟

يمكننا القول أن رسالة غلاطية تتفق مع باقي رسائل بولس في شئ وتختلف معها في شئ آخر. من حيث الإتفاق، فإن غلاطية، كسائر رسائل بولس، تنقسم إلى مقدمة وجسد الرسالة وخاتمة. أما من حيث الاختلاف، فبينما يبدأ بولس رسائله بالشكر والصلاة من أجل من يكتب لهم، نجده هنا يستهل موضوعه مباشرة بنقد لاذع للغلاطيين نظرًا لأن خطأهم لا يغتفر. يعتمد الأسلوب الأدبي في الرسالة أيضًا على طرح مجموعة من المتاضادات. فهناك إنجيل وإنجيل آخر. والإيمان في مقابل الأعمال. والنعمة في مواجهة الناموس. والحرية والبنوية كلتاهما في مقابلة مع العبودية. والروح القدس وثماره والجسد وأعماله. والختان في مواجهة الخليقة الجديدة. وأخيرًا أركان العالم المؤسسة على الملموس والاستحقاق كضد للمسيحية التي تعلم بالنعمة. ورغم الأسلوب اللاذع لبولس في الرسالة (١ : ٦ ، ٣ : ١ – ٥) هناك فقرات تفيض بالحنو الأبوي (٤ : ١٢ – ١٦ ، ١٨ – ٢٠).

ما هي أقسام الرسالة؟

تنقسم الرسالة إلى ثلاثة أقسام رئيسية متساوية تقريبًا من حيث المساحة: قسم تأريخي ١ – ٢ يقص علينا بولس فيه دعوته وإرساليته وتعاملاته مع المعتبرين من الرسل (الثلاثة الكبار بطرس ويعقوب ويوحنا). وقسم تعليمي ٣ – ٤ يشرح فيه بولس لماذا لا يمكن الخلاص بأعمال الناموس ولا سيما الاختتان. ثم قسم تطبيقي ٥ – ٦ للرد على الادعاء بأن الخلاص بالإيمان وحده يؤدي إلى الفوضوية. والرسالة ككل يمكن دمجها تحت بند عقيدة الخلاص (السوتيريولوجي). وهي تشبه رسالة رومية في الكثير من محتواها بل وهناك من الباحثين من يرى أن الرسالتين كتبتا في نفس التوقيت.

من هم خصوم بولس وما هي مناسبة كتابة الرسالة؟

إن خصوم بولس في هذه الرسالة هم المتهودون الذين على ما يرجح كانوا مرسلين يهود من كنيسة أورشليم جاءوا إلى كنائس مقاطعة غلاطية (كان لغلاطية مجموعة من الكنائس وليس كنيسة واحدة). وقد ادعوا: أولاً بأن بولس لم يأخذ رسوليته مباشرة من الرب بل من الرسل. أي أن سلطته اشتقاقية من سلطان الرسل الأصليون (١ : ١ ، ١ : ١١ – ٢ : ٢١). وثانيًا أنه يبشر بإنجيل لا يتطلب الختان ليرضي البشر (١ : ١٠). وثالثًا بأن الأمم في حاجة أن يتمموا ناموس موسى، ولا سيما الختان، لكي يخلصوا (١ : ٦ – ٩ ، ٣ : ١ – ٥). لقد طعن المتهودون في رسولية بولس ونواياه لكي يقوضوا رسالته. فكتب بولس رسالته لكي يواجه هذه الأكاذيب ويرد الغلاطيون عن إنحرافهم وراء ذلك.

كيف واجه بولس خصومه؟

نستطيع القول أن الموضوع الرئيسي هنا هو مواجهة ادعاءات المعلمين الكذبة ومن ثم إنقاذ الغلاطيون من براثنهم. كما أسلفنا فإن إدعاءات المتهودون تناولت كل من شخص بولس ورسالته. في القسم الأول يدافع بولس عن مؤهلاته كرسول. في القسم الثاني، يؤسس على ما سبق فيقوم بالتعريف بالإنجيل الصحيح، ألا وهو أن الخلاص بالنعمة من خلال الإيمان، وذلك في مواجهة الإنجيل الآخر. وفي القسم الثالث يرد بولس على الاعتراض بأنه لو كان الخلاص بالإيمان فقط فإن هذا يؤدي إلى الفوضوية، بالقول أن الذين أخذوا الروح بالإيمان، فإن الروح سيقدسهم أيضًا وسيثمر فيهم ثمارًا صالحة.

يبدأ بولس في مواجهة خصومه بالدفاع عن رسوليته. فهو رسول لا بواسطة بشر أيًا كانوا، بل بيسوع المسيح والله الآب (١ : ١). وأنه لا يسعى لإرضاء البشر لأنه يرفض إختتان الأمم (١ : ١٠). وإنجيله ليس بحسب إنسان، ولم يقبله من أحد، ولم يتعلمه، بل بإعلان مباشر من يسوع المسيح (١ : ١١ – ١٢). وليس فقط أن بولس يربط بين رسوليته وإنجيله، فهو لم يعطى أي منهما من البشر بل من الله مباشرة. بل ويربط بين إيمانه ودعوته كرسول، فقد أخذهما كلاهما من الرب في نفس الوقت (١ : ١٣ – ١٦ مع أعمال ٩). وعندما تسلم بولس إنجيله لم يستشر لحمًا ودمًا وإن كان قد أخذ مصادقة المعتبرين من الرسل (١ : ١٦ – ٢ : ٩). كما أن صعود تيطس الأممي معه إلى ذلك الاجتماع للرسل دون حاجة أن يختتن هو اعتراف ومصادقة منهم بصحة الإنجيل الذي ينادي به بولس وعدم حاجة الأمم للإختتان (٢ : ١ – ٤).

فضلاً عن ذلك، فإن حادثة أنطاكية، والتي قام فيها بولس بتوبيخ بطرس بسبب مراءاته، تدل على أن بولس كان على قدم المساواة مع أولئك المعتبرين (٢ : ١١ – ١٤). توبيخه لبطرس وخضوع بطرس لهذا التوبيخ كلاهما يؤكدان أنه مساويًا لهم. كما أن ذلك يؤكد أن بولس لديه الإنجيل الصحيح الذي لا يتطلب أن يتهود الأمم لكي يخلصوا.

في الأعداد ٢ : ١٥ – ٢١ ، والتي ترد بين علامات تنصيص في الترجمات الإنجليزية، يواصل بولس توبيخه لبطرس بالقول أنه رغم كونهم يهود وليسوا كالأمم خطاة إلا أنهم يعرفون أن الإنسان لا يتبرر بأعمال الناموس بل بالإيمان بيسوع المسيح. بل هم كيهود تبرروا بإيمان يسوع المسيح وليس بأعمال الناموس. وما يعلِّم به المتهودون، بأن الخلاص بالإيمان والأعمال معًا، مناقض لتعليم المسيح في أن الأكل لا ينجس (على عكس ما فعل بطرس)، وأنه يعد بغفران الخطايا على أساس ذبيحته الكاملة. وإلا فالمسيح خادم للخطية إن كان المتهودون على حق. ولكن حاشا! لقد قام بولس بهدم الفكر الذي يعلم بأن الإنسان يخلص بالناموس وإن أعاد بناء ما قد هدمه فإنه يُظْهِرُ نفسه كمتعدٍ. وبموت المسيح مات بولس بالنسبة للناموس إذ ماتت مطالب الناموس أيضًا في الصليب. وبولس ميت للناموس لكن يحيا للمسيح المقام الذي أحبه وأسلم نفسه لأجله. وليست هذه محاولة من طرف بولس لإبطال نعمة الله بل بالحري لتثبيتها وإلا فالمسيح مات بلا سبب.

بهذه الفقرة الإنتقالية يأخذنا بولس إلى القسم الثاني من رسالته وهو القسم التعليمي.

يستهل بولس القسم التعليمي بتوبيخ لاذع إذ يصف الغلاطيون بأنهم أغبياء، وكأنه تم سحرهم بواسطة المعلمين الكذبة. إذ قد رُسم يسوع المسيح أمام أعينهم مصلوبًا من خلال الإنجيل الذي بشرهم به. إن صلب المسيح يعني تحمله للعنة الناموس وإيفاء مطالبه. والإشارات إلى كفاية كفارة المسيح تملأ الرسالة (١ : ٤ ، ٢ : ٢٠ ، ٢١ ، ٣ : ١ ، ١٣). وهذا هو الدليل الأول على صحة إنجيله. ثانيًا، فإن الغلاطيون قد أخذوا (نعمة) الروح القدس لا بأعمال الناموس بل بخبر الإيمان. ثالثًا، إبراهيم كمثال آمن بالله قبل أن يختتن وحسب له برًا. وبناء عليه، فنسل إبراهيم الحق ليسوا هم أبناء إبراهيم بالجسد بل بالإيمان. ليس ذلك فقط، بل البركة الموعودة للأمم في إبراهيم تعني أن الأمم سيخلصوا بدورهم بالإيمان أيضًا. رابعًا، كل من يريد أن يتمم الناموس عليه أن يتممه بحذافيره، بكل كبيرة وصغيرة فيه. وبما أن الناموس يوجه لعنة لكل من لا يثبت في جميع وصاياه، إذًا فالذين يسعون لكي يتبرروا بالناموس هم في الحقيقة تحت لعنته. إنهم يؤكدون حكم الناموس فيهم دون أن يدركوا. وجدير بالذكر هنا أن نربط بين لعنة الناموس وبين قول بولس أنه لو بشر ملاك أو شخص آخر بغير ما بشر به فليكن "أناثيما" أي "ملعونًا". وهنا اللعنة التي يقصدها بولس لعنة هلاك أبدي. فكلمة "أناثيما" هي المقابل اليوناني للعبري "حرم" أي "يدمر ويهلك". خامسًا، بما أن الناموس يلعن كل من لا يثبت في جميع وصاياه، وبما أنه لا يوجد من يستطيع أن يتمم كل الناموس، فإن الناموس ذاته (في العهد القديم) يعلم بالحياة الأبدية بالإيمان "ولكن أن ليس أحد يتبرر بالناموس عند الله فظاهر: لأن البار بالإيمان يحيا" (٣ : ١١).

سادسًا، وكما هو الحال لدى البشر عند كتابتهم وصية أو عقد (عهد)، فإن لا شئ لاحق يمكن أن يبطلها أو يحرفها. هكذا عهد النعمة الأبدي سبق إعطاء الناموس (٣ : ١٥ – ١٨). وبالتالي فمجئ الناموس بعد أربعمئة وثلاثين سنة لا يستطيع أن يبطل عهد النعمة السابق عليه. أما الناموس فقد أعطي لكي يثبت عجز الإنسان وحاجته للنعمة. سابعًا، أعطي الناموس مرتبًا بيد ملائكة وبوساطة موسى (٣ : ١٩ – ٢٠). بينما لم يكن هناك وساطة في عهد النعمة بين الله وإبراهيم لأن ضامنه ومتممه هو الله نفسه. ثامنًا، قبل أن يأتي المسيح، كان البشر، يهود وأمم، مستعبدين تحت أركان العالم، ولكن جاء المسيح تحت الناموس، لكي يفتدي الذين تحت الناموس، لننال التبني (٤ : ١ – ٧). يشير بولس هنا إلى طاعة المسيح الإيجابية كمن أطاع الناموس نيابة عنا. وقد أشار سابقًا إلى الطاعة التسليمية بقوله أن المسيح تحمل عنا لعنة الناموس أي عندما صُلب.

يختم بولس هذا القسم بتوبيخ للغلاطيين الذين يريدون العودة إلى عبودية الناموس متخذًا من قصة إبراهيم رمزًا. كان لإبراهيم إبنين؛ إسحق الذي وُلد من سارة وبطريقة معجزية حسب الوعد. وإسماعيل الذي وُلد من هاجر بقوة الجسد. بينما ترمز سارة وأبناءها إلى الأحرار الذين تحرروا من عبودية الناموس. ترمز هاجر وأبناءها إلى المستعبدين تحت الناموس. وكما أمر الرب أن تُطرد الجارية وأبناءها لأنهم لا يستطيعون أن يرثوا مع الحرة وأبناءها. على الغلاطيون إذًا أن يرفضوا المتهودون الذين ينادون لهم بالعبودية.

عند حديث بولس عن التبرير بالإيمان، دائمًا ما يستشعر اعتراض البعض بأن ذلك التعليم يؤدي إلى الفوضوية Antinomianism . وبولس يعالج هذا الأمر صراحة في رسالة رومية في جملته الشهيرة "ولكن أنبقى في الخطية لكي تكثر النعمة". وفي غلاطية يرد على هذا الادعاء أيضًا وإن لم يقل صراحة أنه يفعل ذلك. لهذا يقدم بولس في القسم التطبيقي الأخير تحريضات على الثبوت في الحرية والسلوك في الروح. إن الإنقياد تحت الروح القدس لهو دليل على كون المرء ليس تحت الناموس. أعمال الجسد ظاهرة وتدل على عدم الإنقياد بالروح. وثمار الروح واضحة وتثبت الإنقياد به. ثم يتبع بولس ذلك بتحريضات متفرقة على اليقظة الروحية واحتمال المشقة مع الآخرين وفعل الخير للجميع ولا سيما أهل الإيمان.

ما هي العلاقة بين موضوع الرسالة وألوهية المسيح؟

كما رأينا، فإن مؤهلات بولس كرسول كانت محل هجوم من المعلمين الكذبة. لهذا اضطر للدفاع عن رسوليته. وقد دافع عن كل من رسوليته ومن ثم إنجيله بالقول أنهما ليسا من إنسان بل من يسوع المسيح نفسه. إذ أكثر من مرة في الأصحاح الأول من الرسالة يضع المسيح في مقابلة مع البشر. فرسوليته لم تأتي من إنسان بل من يسوع المسيح (١ : ١). والإنجيل الذي يبشر به لم يتعلمه من بشر بل بإعلان من يسوع المسيح (١ : ١١ – ١٢). وبولس في إصراره على التبرير بالإيمان فقط، بدون الختان أو أعمال الناموس، لا يسعى في كسب رضا الناس، بل فقط أن يكون عبد صالح ليسوع المسيح (١ : ١٠). في النصوص السابق الإشارة إليها وضع بولس يسوع المسيح كـ الله في مقابلة مع البشر. في النصوص التالية من نفس الإصحاح، يضع المسيح بالتساوي مع الآب أيضًا ثلاث مرات في إشارة قوية لمساواة الرب يسوع بالآب. فرسوليته مؤسسة على إرسالية كل من الآب والإبن له (١ : ١). كما أن الآب والابن كلاهما يمنحان النعمة والسلام (١ : ٤). أيضًا، أفرز الله بولس ودعاه لكي يعلن فيه ابنه المساوي له في الجوهر (١ : ١٥ – ١٦)، فهل يعلن الله للبشر كائن آخر سواه؟ لم تكن ألوهية الرب يسوع المسيح محل شك أو جدل في سياق رسالة بولس إلى أهل غلاطية، بل التبرير بالإيمان. لذلك نجد بولس، وهو قيد الدفاع عن إنجيله الخاص بالتبرير بالإيمان ومن ثم رسوليته، يفترض ألوهية المسيح بشكل لا يمكن إغفاله. وهذا كفيل بالرد على الادعاء بأن ألوهية المسيح لم تكن عقيدة الكنيسة الأولى بل تطورت عبر القرون، ولا سيما أن كثيرون من علماء العهد الجديد يعتبرون رسالة غلاطية هي أول سفر كُتِبَ من أسفار العهد الجديد.

ما هي أعمال الناموس؟

يخبرنا بولس في الرسالة أن الغلاطيون أرادوا أن يتبرروا من خلال أعمال الناموس (٢ : ١٦ ، ٣ : ٢ ، ٥ ، ١٠). ويرى أنصار المنظور المحدث لبولس، والذين يتزعمهم في الوقت الحاضر إن تي رايت، أن أعمال الناموس تشير إلى العلامات الطقسية التي ترسم الحدود العرقية لشعب إسرائيل. أي ليست أعمال الصلاح والتبرر أو أعمال الناموس بصفة عامة، لكن الوصايا الطقسية للناموس ولا سيما الختان، والتي كان غرضها تقديس وحفظ إسرائيل عرقيًا. وبهذا فإن أنصار المنظور المحدث يرون أن القضية هنا متعلقة بالإنتماء إلى الكنيسة أكثر ما هو متعلق بالتبرير الفردي أما الله. أي أن بولس يعلم بأن الأمم ليس عليهم أن يختتنوا لكي ينتموا إلى جماعة الله. وعلى الرغم من أن هناك شئ من الحق في هذا التعليم، لكن يظل في مجمله غير قويم. بكلمات أخرى، صحيح أن المتهودون علموا بضرورة الاختتان. وصحيح أن الاختتان ساهم في حفظ إسرائيل عرقيا وروحيًا. وصحيح أن من يتبرر أمام الله ينضم إلى جماعة الله أيضًا. إلا أن المقصود هنا هو أعمال الناموس بصفة عامة كوسيلة للتبرير القضائي أمام الله.

ويوجد في النص ما يؤكد بوضوح أن بولس يعني محاولة التبرير أمام الله بأعمال الناموس بصفة عامة وليس فقط الناموس الطقسي ولا سيما الاختتان. على سبيل المثال، ففي ذات السياق الذي يرد فيه مصطلح أعمال الناموس ٣ : ٢ ، ٥ ، ١٠ يقول بولس "جميع الذين هم من أعمال الناموس هم تحت لعنة، لأنه مكتوب: ملعون كل من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به" (١٠). ليس فقط أن بولس يشير بوضوح إلى "جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس" بل نجد أيضًا في صميم حجته أن الذي يختتن مطالب بأن يتمم الناموس بأكمله.

ما هي أركان العالم؟

ربما سيتوقف قارئ رسالة غلاطية أمام مصطلح "أركان العالم" الذي يستعمله بولس في ٤ : ٣ وفي ٤ : ٩ بعد إجراء تغييرًا عليه (الأركان الضعيفة الفقيرة). يستعمل بولس أيضًا هذا المصطلح مرتين في رسالة كولوسي ٢ : ٨ ، ٢٠. ورغم اختلاف الباحثون حول المقصود بهذا المصطلح، إلا أننا في ضوء كلتا القرينتين يمكننا القول أن المقصود بأركان العالم هو ديانة الإنسان الطبيعي، سواء يهودي أو أممي، والمؤسسة على ممارسة الطقوس المادية والاستحقاق الناتج عن تلك الممارسات والأعمال. إن هذا ما أراد الغلاطيون العودة إليه بتصديقهم المعلمين الكذبة. يوضح ماكآرثر هذا الأمر:

"مصطلح ‘أركان’ مأخوذ من كلمة يونانية تعني ‘صف’ أو ‘رتبة’، وكانت تُستخدم للحديث عن الأشياء الأساسية والتأسيسية مثل حروف الأبجدية. وفي ضوء استخدامه في عدد ٩، فمن الأفضل أن ننظر إليه هنا على أنه إشارة إلى العناصر والطقوس الأساسية للديانة البشرية .. يصف بولس كلاً من الديانتين اليهودية والأممية بأنهما بدائيتين لأنهما (ديانة) بشرية فحسب، ولا ترتفع أبدًا إلى مستوى الإلهي. تركزت كل من الديانة اليهودية والديانة الأممية على أنظمة [عقيدية] من صنع الإنسان للأعمال [الطقسية والصالحة]. لقد كانت مليئة بالنواميس والطقوس التي يجب القيام بها من أجل تحقيق القبول الإلهي. كل هذه العناصر البدائية غير ناضجة، مثل سلوكيات الأطفال تحت عبودية ولي الأمر."

تطبيق

لا يتردد بولس في أن ينطق باللعنة على المعلمين الكذبة. إن أي شخص يحرف الإنجيل هالك. وهذا كفيل بأن يجعلنا ندرك خطورة هؤلاء المعلمين وحالتهم الروحية. فهم هالكون ينادون بالهلاك.

لم يكن خطأ المتهودون هو استبعاد الإيمان أو إلغاء أي قيمة له. بل بإضافة الأعمال إليه. وهذه هي ديانة الإنسان الطبيعي (أركان العالم) القائمة على الاستحقاق. حتى لو اعتقدت أن الإسهام الأكبر في الخلاص هو من طرف المسيح ونحن لا نسهم سوى بالقليل فأنت تفسد عمل المسيح. الخلاص بالإيمان وحده لأن الإيمان يتكل على كفاية المسيح وحده.

العقيدة السليمة أمر خطير وليست شيئًا ثانويًا كما يدعي البعض في يومنا هذا. العقيدة السليمة ضرورية للخلاص. والعقيدة الخاطئة تؤدي إلى الهلاك. نحن لا تأتي للمسيح بمعزل عن العقيدة السليمة، بل من خلالها. العقيدة السليمة تأتي بنا إلى المسيح الحق، والعقائد الخاطئة تؤدي بنا إلى أضاد المسيح.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس