كيف تقرأ سفر عاموس

"عاموس ليس مجرد نداء أخلاقي، بل إعلان عن قضاء إله قدوس على شعب نكث عهده. العدالة هنا ليست قضية اجتماعية فقط، بل قضية عهد بين الله وشعبه." (مايكل هورتون)

"كان إعلان عاموس ضد الكاهن الكاذب أماصيا بمثابة نسخة مختصرة من رسالة الدينونة التي وجهها النبي للأمة بأكملها" (راجع ٧ : ١٠ - ١٧)" (جون والتون)


مقدمة

يختلف الباحثون حول طبيعة مهنة عاموس. إذ من خلال مقارنة النظير الأوغاريتي ugratic للكلمة العبرية "نوكيد" في (١ : ١)، والمترجمة "راعي"، استنتج الباحثون الأكاديميون أن هذا المصطلح يشير إلى مربي أغنام أو مالك قطعان ينتمي إلى الطبقة الغنية وليس إلى مجرد راعي غنم فقير كما كان يُعقتد سابقًا. إلا أنه من ناحية أخرى، سواء كان عاموس غنيًا أو فقيرًأ، فإن هذا لن يؤثر كثيرًا على فهم السفر. فهو مثلاً لم يكن من الكهنة. ولم يكن نبيًا جاء من مدرسة الأنبياء. الأمر الذي يسلط الضوء على سلطان الله في اختياره من ناحية وأصالة دعوة عاموس من قبل الرب. كما أنه من ناحية أخرى يضع عاموس في مقابلة مع فساد المنظومة الدينية (الكهنة) وتواطئها مع السلطة السياسية في بيت إيل.

الخلفية التاريخية للسفر

تنبأ عاموس في أيام كل من يربعام بن يواش (يربعام الثاني وهو غير المؤسس للمملكة الشمالية في عهد يربعام الأول) ملك إسرائيل (٧٩٣ - 
٧٥٣ ق.م.)، وعزيا ملك يهوذا (٧٩٢ - ٧٤٠ ق.م.). وقد تميزت هذه الفترة على المستوى المحلي برخاء اقتصادي كبير للمملكة الشمالية وبسلام وتعاون اقتصادي بين المملكتين الشمالية والجنونبية. أما على المستوى الإقليمي فقد صاحب ذلك ضعف في ممالك مصر وبابل ولا سيما أشور بصفة مؤقتة. استعادت أشور قوتها بعد حوالي أربعين سنة على يد تغلث فلاسر. الأمر الذ يفسر النجاح العسكري والاقتصادي الذي تمتعتا به المملكتين ولا سيما الشمالية نظرًا لعدم وجود تهديدات خارجية. لكن سبب آخر لهذا النجاح الاقتصادي كما يرى برجمان كان هو الممارسات السياسية والاجتماعية الظالمة من الأغنياء ضد الفقراء. في خلفية هذا كله، جاء عاموس النبي من المملكة الجنوبية ليتنبأ ضد فساد المملكة الشمالية بملكها وكهنتها وأغنياؤها.

أسلوب وبناء السفر

تتحرك الأقوال النبوية في سفر عاموس ضمن بنية أدبية ولاهوتية واضحة متدرجة من الخارج إلى الداخل، ومن العموم إلى الخصوص، ومن الدينونة إلى بصيص رجاء. هذه الحركة ليست عشوائية، بل تُظهر مهارة نبوية عميقة في التدرج والتصعيد، وتُعبّر عن منظور لاهوتي حاد للعدالة الإلهية. إذ نجد عاموس يتنبأ ضد ثمانية أمم محيطة بإسرائيل في شكل دائري. يبدأ عاموس بالأمم البعيدة عن إسرائيل ثم يقترب إلى الداخل شيئًا فشيئًا إلى أن يصل ليهوذا ثم أخيرًا إسرائيل. وكأن عاموس يصوب سهام نبوته على شكل من أشكال الرماية بحيث تكون إسرائيل هي مركزه. إسرائيل هي الأخيرة والأوسع وصفًا في الدينونة، رغم كونها "شعب الله".هذه البنية تُستخدم كفخ بلاغي: بحيث أن المستمع يفرح بدينونة الأعداء، ثم يُفاجأ لاحقًا بأن الدينونة الكبرى عليه هو.

تتحرك الأقوال النبوية أيضًا في سفر عاموس من تحذير مشروط إلى إعلان حتمي بالدينونة العادلة. يبدأ عاموس بإدانة الأمم، ثم يضيق الدائرة نحو يهوذا وإسرائيل، مستخدمًا الصيغة التهديدية: "من أجل ثلاثة ذنوب... بل أربعة، لا أرجع عنه" (٣ : ١ ، ٦ ، ٩). والصيغة السابقة تستخدم للتصعيد. ومع تكرار عبارة: "فلم ترجعوا إليّ، يقول الرب" (٦ : ٤ - ١١)، يتضح أن الشعب رفض فرص التوبة، وإذ بالنبوة تتحول إلى حكم قاطع: "استعد للقاء إلهك يا إسرائيل" (٤ : ١٢). في القسم الأخير من السفر، تُعلن الرؤى الرمزية مثل الزاوية (٧ : ٧ - ٩) وسلة الصيف (٨ : ١ - ٢) أن الدينونة ليست فقط وشيكة، بل محقة ولا رجعة فيها. هذا التحوّل ليس فقط أسلوبًا أدبيًا، بل أيضًا يحمل رسالة لاهوتية حاسمة: حين تُرفض دعوة التوبة، تصبح النبوة قضاءً واقعًا لا رجعة فيه.

لعل أفضل تقسيمة وجدتها للسفر هي للاهوتي مارك روكر وهي كالآتي:

‎١. مقدمة (١ : ١ - ٢) ٢. ثمانية نبوءات ضد الأمم (١ : ٣ - ٢ : ١٦) ٣. خمس كلمات نبوية (الإصحاحات ‎٣ - ٦) ٤. خمس رؤى نبوية (٧ : ١ - ٩ : ١٠) ٥. خاتمة واعدة بالبركة والتجديد لإسرائيل (١٩ : ١١ - ١٥) ‎

السفر والعلاقة العهدية بين الرب وشعبه

يقول اللاهوتي دانيال ج. هايز "في جوهر الأمر، من خلال إدراجهم (إسرائيل) في قائمة الأمم الأجنبية التي سيتم الحكم عليها، فإن يهوه يعامل إسرائيل كأمة أجنبية". إن قداسة الله ومن ثم دينونته لا تُفَرِّق بين أمة وأخرى. فالجميع سواسية في ميزان عدله وقداسته. ومع ذلك، وكما يرى مارك روكر، فبينما رأى عاموس خطايا الأمم نابعة من أفعالهم في وقت الحرب (٣ : ١ ، ٦ : ١ ، ٩ : ١ ، ١١ : ١ ، ١٣ : ١ ، ١ : ٢)، فقد أظهر إسرائيل على أنه مجرمًا بإنتهاك العلاقة العهدية بينه وبين الرب "إياكم فقط عرفت من جميع قبائل الأرض، لذلك أعاقبكم على جميع ذنوبك" (٣ : ٢).

خطايا الظلم الاجتماعي التي انتقدها عاموس

يشمل سفر عاموس العديد من الانتقادات القوية للمظالم الاجتماعية التي كانت سائدة في إسرائيل. مثل الظلم ضد الفقراء، حيث يوضح ‏ في ٢ : ‎٦ - ٧ ‎ أن الشعب كان "يبيعون البار بالفضة، والمسكين من أجل حذاء، ليطحنوا رأس الفقراء في التراب ويحرفوا ‏مسالك البائسين". كما ينتقد الفساد في النظام القضائي، فيقول في ٥ : ١٠ - ١٢‎ "يكرهون الموبخ في الباب، ويأبون من يتكلم ‏بالاستقامة... وتظلمون الفقير في الباب"، مما يشير إلى غياب العدالة وارتفاع الرشوة. كذلك، يعبر عاموس عن الانحراف عن ‏العبادة الحقيقية في ‏‎٥ : ٢١ - ٢٣ حيث يقول: "أبغضت، سأبغض عيدكم، ولا أُسرُّ بجمعاتكم... لا أقبلها"، مؤكدًا أن العبادة الحقيقية لا ‏بد أن ترتبط بممارسة العدالة الاجتماعية.‎ ‎كما يشير إلى استغلال النساء والضعفاء في ‏٤ : ١ "أنتم الذين تؤذون الفقراء وتذلون ‏المساكين". وفي ‏‎٦ : ٤ - ٦ ‎ يوبخ الأغنياء الذين يعيشون في الترف "تغنون مع صوت مزمار" بينما لا يهتمون بمعاناة الفقراء، ‏مؤكدًا اللامبالاة تجاه معاناة الفقراء.‎ ‎وأخيرًا، في ٨ : ٤ - ٦‎ ينتقد استغلال العمال قائلاً: "أنتم الذين تبتاعون الفقير من أجل الفضة... ‏وقد ضبطتم الميزان الفاسد". كانت رسالة عاموس واضحة: إن الله لا يرضى عن العبادة الفارغة في حين أن الشعب يتجاهل أو ‏يظلم من هم في حاجة‎.‎

كيف وازن عاموس بين العدالة الاجتماعية والعدالة الإلهية

يتعامل عاموس مع مسألة العدالة الاجتماعية والدينونة الإلهية بطريقة متوازنة لا تقتصر فقط على الدعوة إلى العدالة الاجتماعية كما يفعل الكثير من اللاهوتيين الليبراليين في يومنا هذا. بل يؤكد أيضًا على الدينونة الإلهية الحتمية على أساس الظلم الاجتماعي والفساد الروحي. في ضوء تركيز اللاهوتيين الليبراليين المعاصرين على العدالة الاجتماعية، واهتمامهم بالآثار الاجتماعية الوقتية المترتبة على تلك المظالم، وفي نفس الوقت الإهمال المتعمد بالحق المتعلق بالخلاص من الدينونة الإلهية، يختلف نهج عاموس عن ذلك. إذ تتضمن رؤيته توجيهًا قويًا نحو التوبة والرجوع إلى الله كجزء أساسي من العدالة. ويمكننا تلخيص الأمر كالآتي:

١- العدالة الاجتماعية كجزء من إرادة الله. لا يفصل عاموس بين العدالة الاجتماعية و العدالة الإلهية. فهو لا ينظر إلى العدالة الاجتماعية بمعزل عن العلاقة مع الله، بل يربطها ارتباطًا وثيقًا بالدعوة إلى التوبة والرجوع إلى الله. يقول: "ولكن ليجْرِ الحقُّ مثل المياه، والبرُّ مثل مجْرَى واديٍ عظيمٍ." (٥ : ٢٤).

٢- الدعوة للتوبة والرجوع إلى الله: في عاموس ٤ : ٥ - ٦، يدعو النبي الشعب إلى التوبة قائلاً: "اطلبوا الرب فتحيوا"، في إشارة إلى ضرورة الرجوع إلى الله إذا كانوا يرغبون في النجاة من الدينونة. هذا يُظهر أن العدالة الاجتماعية لا يمكن أن تُفصل عن التوبة الروحية و الرجوع إلى الله كشرط للغفران والتطهير من الظلم.

٣- الدينونة الإلهية كأمر لا مفر منه في حالة عدم التوبة: على عكس تجاهل اللاهوتيين الليبراليين لدينونة الله وغضبه، إذ يركزون فقط على الآثار الفردية والمجتمعية للمظالم الاجتماعية التي أساسها روحيًا في الأساس، أي الخطية، لا يتجاهل عاموس الدينونة الإلهية التي تنتظر الشعب إذا استمروا في الظلم الاجتماعي والروحي. فالمظالم الاجتماعية هي خطايا روحية في المقام الأول موجهة ضد قداسة الله وتؤول إلى الدينونة الإلهية في حالة عدم التوبة. كما نجد في عاموس ٤ : ١ و ٦ : ١ إشارات واضحة إلى الدينونة التي ستطال الأمم وإسرائيل بسبب فسادهم وتجاهلهم لنداءات الله. الدينونة هي النتيجة الطبيعية للإستمرار في الظلم، ولا يمكن أن تكون العدالة الحقيقية قائمة دون وجود الدينونة ضد الشر.

٤ – الآثار المترتبة على المظالم الاجتماعية ليست مجرد ردود أفعال: يُعَلِّمُ السفر بوضوح أن دينونة الله للشر ليست مجرد ردود أفعال في نظام مغلق تحكمه الأفعال وردود الأفعال بمعزل عن سلطان الله. بل إن الآثار المترتبة للشر هي دينونة الله المباشرة التي تأتي من يده على الأشرار "أم يُضرَب بالبوق في مدينة، والشعب لا يرتعِد؟ أو تكون بليّة في مدينة، والرب لم يصنعها؟ (٣ : ٦). انظر أيضًا (٣:٧، ٤:٦، ٤:١١، ٥:٨، ٥:٩).

المسيح والإنجيل في السفر

المسيح كالديان العادل:
يركز سفر عاموس بشدة على العدالة الاجتماعية وإدانة الظلم والفساد. وهذه الدعوة للعدالة تتحقق بالكامل في المسيح، الذي سيأتي كقاضي عادل في الدينونة الأخيرة (عا ٥ : ١٨ - ٢٠، مت ٢٥ : ٣١ - ٤٦)

المسيح هو الإسرائيلي الحق الذي يبحث عنه السفر: 
في سفر عاموس خان الإسرائيليون العهد مع الرب وظلموا أحدهم الآخر. وهذا يخلق نوعا من التوقع والجوع إلى إسرائيلي يستطيع أن يحفظ العهد مع الرب ويمارس المحبة والبر تجاه القريب. المسيح هو الإسرائيلي الحق الذي يدعو إلى المحبة والعدالة تجاه القريب. وهو الذي يتمم العهد الموسوي الذي كسره الإسرائيليون، وهو ما يتماشى مع رسالة عاموس.

المسيح الملك والوعد بالخلاص واستعادة المملكة:
في عاموس ٩ : ١١ - ١٢، يتحدث النص عن إعادة بناء "خيمة داود الساقطة" واستعادة شعب الله: "فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أُقِيمُ مَظَلَّةَ دَاوُدَ السَّاقِطَةَ، وَأُصْلِحُ شُقُوقَهَا، وَأُقِيمُ رَدْمَهَا، وَأَبْنِيهَا كَأَيَّامِ الدَّهْرِ". يُستخدم هذا المقطع في أعمال الرسل ١٦ : ١٥ - ١٨ للإشارة إلى عمل المسيح في تأسيس مملكة الله الروحية، التي تشمل اليهود والأمم. وهذه نبوءة عن الخلاص الذي يقدمه المسيح للجميع.

أخيرا، رغم أن الرسالة الغالبة على السفر هي الدينونة، إلا أنه يختم بالرجاء والنعمة في مجئ الملك والمخلص يسوع المسيح. هذه الرسالة الثنائية بالغضب والرحمة هي ذاتها رسالة الصليب. فالله في السفر هو القاضي الذي أرسل إليهم العقاب وفي نفس الوقت هو المخلص الذي سينقذهم من الدينونة ٩ : ١١ - ١٢. وهذا ما حدث في الصليب إذ أخذ الله عقاب غضبه من ابنه عوضًا عنا.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

هل إله العهد القديم غاضب بلا محبة وإله العهد الجديد محب بلا غضب؟