داود والمسيح


تخبرنا الأسفار التاريخية (صموئيل والملوك وأخبار الأيام) عن حياة داود العامة والمعلنة ، بينما يكلمنا سفر المزامير عما جال في خاطرة من أفكار وما جاش في قلبه من مشاعر فنقرأ عن صراعاته الداخلية ومناجاته للرب في الضيق ولحظات يأسه ولحظات إيمانه. وبحسب ما تخبرنا به الكتب المقدسة عن شخصية داود نجد أنها تتميز كثيرا عن باقي شخصيات الكتاب المقدس في كونها شخصية متعددة المواهب ، فهو ملك مسح من الرب وقاد الشعب في انتصارات عديدة ، وهو نبي تنبأ عن مجئ المسيح ، وهو مرنم وشاعر فنظم الكثير من الأشعار الروحية والإنسانية ، وكما يقول ف.ب.ماير عن داود "قد يفوقه إبراهيم في الإيمان ، وموسي في قوة الشركة المركزة مع الله ، وإيليا في غيرته النارية ، ولكن لم يكن أحد من هؤلاء متعدد المواهب كابن يسي" .

وعندما يقول الكتاب أن داود كان رجلا حسب قلب الله ، فإن هذا إشارة إلى حياته العامة وإلي تنفيذه إرادة الله كملك بعكس شاول الذي عصي ارادة الله الصريحة ، وذلك لأن حياة داود بلا شك شابتها بعض الشوائب ، فلا يمكن تطبيق هذا القول علي حياة داود بتفاصيلها. وخطايا داود كانت : الزني والقتل ، إحصاءه للشعب ومن ثم تعرضه لتأديب الرب ، تهاونه في تربية أبناءه ، تعدد الزوجات ، ويأسه من مراحم الرب وهروبه إلى ارض الفلسطينيين وتعاونه معهم ، ولكن رغم كل ذلك يبقي داود واحدا من أعظم أبطال الإيمان علي الإطلاق.

وقبل أن نتأمل في حياة داود كأحد الشخصيات التي ترمز إلي الرب يسوع المسيح علينا أن نلاحظ أولا أنه علي الرغم من أن داود يشير كرمز إلي الرب يسوع من نواح عديدة سنبينها لاحقا ، إلا أن الرب يسوع يقف متفردا لا يساويه أحد ولا تضاهيه شخصية أخري مهما سمت ، فالجميع يقصرون عن إبراز العظمة والجمال والكمال الذي في ربنا يسوع المسيح ، فهو معْلم بين ربوة وكالتفاح بين شجر الوعر.

1- راعي بيت لحم

لا تسجل لنا الكتب المقدسة الكثير عن تلك السنوات الهادئة في مطلع حياة هذا الشاب اليافع ، ولكننا نعلم أن الهدوء كان طابعها ، فقد كان يقضي الساعات الطويلة إلى جوار تلك الغنيمات القليلة التي أوكله أبيه يسي برعايتها ، وليس في صحبته إلا قيثارته التي كان يلعب عليها نغماته الساحرة والتي كانت تستريح إليها نفس شاول المضطربة ، والتي كان أيضا ينشد عليها مزاميره العظيمة. ولا ينبغي أن نستهن بتلك السنوات الهادئة من حياته والتي تكاد تخلو من الأحداث ، وذلك لأن لها أعظم الأثر عليه كرجل إيمان وقائد لأمة العبرانيين. فكثيرا ما يتكلم الله إلى قلوبنا في تلك اللحظات الهادئة من حياتنا بأمور ربما لا يمكن أن ندركها في وسط خضم وصخب الحياة ، وكثيرا أيضا ما يقودنا الله لان نتأمل في نعمته ومراحمه وسلطانه ، فنقرأ عن موسي الذي قضي أربعين سنة يرعي غنم حميه يثرون ، ثم نقرأ عن اثر تلك السنوات في نفس موسي فيما بعد فيقول الكتاب "وأما الرجل موسي فكان حليما جدا اكثر من جميع الناس الذين علي وجه الأرض" (عدد12) ، ثم نقرأ أيضا عن السنوات التي قضاها بولس في العربية . ولعلنا نقرأ عن اثر تلك الدروس الروحية التي تعلمها داود أثناء رعايته للغنم في بيت لحم في سفر المزامير ، فمن المرجح جدا ان مزموري 19 ، 23 قد كتبا أثناء تلك السنوات الهادئة من حياته ، فلعله يكون قد جلس إلى جوار الأغنام التي أخذ يراقبها عن كثب فرأي صورة لرعاية الرب له مثل رعايته هو لهذه الأغنام فكتب مزمور 23 "الرب راعي فلا يعوزني شئ ، في مراع خضر يربضني ، إلي مياه الراحة يوردني..." ، ولعله أيضا عندما جلس في إحدي أمسيات صيف بيت لحم ليتأمل صفاء سماءها والنجوم التي انتثرت في الفضاء الفسيح وقد أخذت تنشر لمعانها ، فسمعها تتحدث بمجد الله وكتب لنا مزمور 19 "السماء تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه ، يوم إلي يوم يذيع كلاما وليل إلي ليل يبدي علما..".

من المرجح أيضا أن داود كتب تلك المزامير التي تخلو لغتها من الألم إبان  تلك السنوات الهادئة في شبابه (مز 8 ، 19 ، 23 ، 29) ولعله أيضا تعلم في تلك الأوقات الرمي بالمقلاع حتي برع في ذلك ، وأنه أيضا كان يمارس العزف علي قيثارته في سويعات النهار بينما كان يراقب قطيع أبيه الصغير.

وقياسا علي ذلك فإني أشعر أنه لزاما علي أن أحض نفسي وأحضك أنت أيضا أيها القارئ العزيز أن لا نهمل تلك اللحظات الهادئة التي نخلو فيها يوميا بإلهنا ، فإن الرب يريد أن يهمس إلى قلبك فيها وأن يسمو بك إلى مستوي أعظم في إعلاناته عن شخصه.

وعلي الرغم من أن داود كان متعدد المواهب ، فكان عازفا موهوبا حتي أن ألحانه كانت تريح نفس شاول المضضربة فيما بعد ، وكان شاعرا قديرا فكتب أعظم الأشعار ، بل أن يوسيفوس يقول أن داود كان يعلم اللاويين الترتيل ، وكان أيضا يصنع الآلات الموسيقية بنفسه (وهذا ما تؤيده كلمة الله في سفر عاموس 6 : 5 حيث يقول المخترعون لأنفسهم آلات الغناء كداود) ، إلا انه لم يجد غضاضة في رعاية غنم أبيه يسي ، فرجل له مثل هذه المواهب ربما يجد من العسير علي نفسه أن يعمل مثل هذا العمل المتواضع ، إلا أننا لا نجده يتذمر أو يشكو مرة واحدة أو يقل أن رعاية الأغنام ليست دعوته أو المهنة التي يفضلها ، بل إننا نجده يعرض حياته للخطر من أجل القطيع حتي أنه صارع أسد ودب من أجله ، ألا يذكرنا هذا بالحبيب المبارك الذي لم يحسب خلسة أن يكون معادلا لله ، الذي كان موضوع مسرة الآب منذ الأزل ، لم يجد هو أيضا غضاضة في أن يحل في جسد محاط بالضعف ومحدود ، ولا أن يحيا في عالما فاسد يرزح تحت الألم والمعاناة ، أو أن يعمل كنجار مع أبيه في الجسد ، ويختار تلاميذه من العامة ، لم يكن له بيت ليستريح فيه ، بل كانت راحته في شفاء المرضي وإخراج الشياطين وتعليم الجموع. لم يطلب مجد نفسه يوما ، بل كان دائما يطلب مجد الآب. كان التواضع هو سمة حياته ، فلم يتذمر أبدا ولم يستعل أبدا علي أقل الأعمال الدنيوية ، بل ونراه يصراع العدو من أجلنا أيضا فيسلم للموت نفسه علي صليب العار واللعنة ، ولكن ها هو له كل المجد يجلس الآن عن يمين الآب حيث ملائكة وسلاطين وقوات مخضعة له.

2- مسيح الرب

لم يحسب داود مستحقا للحضور للوليمة التي عملت لصموئيل النبي عندما جاء الي بيت لحم ، فلم يدعه أبيه للحضور بل تركه مع الغنيمات القليلة ليرعاها. ويبدو أن داود لم يكن محل اعجاب من أهل بيته ، فقد نسب إليه رعاية الغنم وهي غالبا ما كانت تنسب إلي من هم أقل شئنا في العائلة في ذلك الوقت مثل العبيد والنساء ، فأتي صموئيل النبي ليمسح الملك الجديد كما كلفه الرب فعبر يسي بنيه السبعة أمام النبي ووجد أن "الرب لم يختر هؤلاء" فسأل صموئيل "هل كمل الغلمان؟" فقال "بقي بعد الصغير وهوذا يرعي الغنم" هكذا كان داود في نظرهم أنه الصغير الذي يرعي الغنم ، فقال له الرب "قم امسحه لأن هذا هو" ، فأخذ صموئيل قرن الدهن ومسح داود في الوسط وحل روح الرب عليه منذ ذلك الحين فصاعدا. ويقول يوسيفوس أن صموئيل همس في أذن داود وأخبره بمعني هذه المسحة ، ويتسائل ف.ب.ماير "هل اقترب فم النبي من أذن ذلك الشاب وهمس فيها قائلا "ستكون ملكا" ، لقد رُفض أبناء يسي السبعة ، وهذا إشارة إلي رفض الله لإستخدام الكمالات الجسدية ، ومُسح داود المعين من الرب ، وهكذا فإن الله ليس لديه مانع أن يختار أبطاله من وراء الغنم ويمسحهم ، أو ربما وهم يخبطون حنطة تحت البلوطة ، أو وهم يصلحون شباكاهم.

يقول ف.ب.ماير أيضا أنه يبغني ملاحظة أن داود كان فيه روح الله قبل ذلك الوقت ، ولكن ما حدث له هو مسحة الروح إعدادا له للخدمة ، فالكتاب المقدس يميز دائما بين نعمة الروح القدس المجددة ونعمته التي تفرز للخدمة ، لقد تجدد التلاميذ يقينا قبل يوم الخمسين ولكنهم كان يجب أن يبقوا داخل الأبواب المغلقة حتي ينالوا قوة من الأعالي لتجديد الآخرين.

وفي هذا نري إشارة إلي ربنا الحبيب الذي أحتقر ورفض من اليهود ولكنه كان مختار الله "هوذا عبدي الذي أعضده ، مختاري الذي سرت به نفسي ، وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم" ، فهذه المسحة التي مُسحها داود في الخفاء تشير إلي تلك التي مسحها سيدنا سرا في المقاصد الأزلية "روح الرب علي لأنه مسحني لأبشر المساكين ، أرسلني لاشفي المنكسري القلوب ، لأنادي للمأسورين بالطلاق وللعمي بالبصر ، وأرسل المنسحقين في الحرية" ، ثم إن توقيت مسحة داود وإختيار الرب له ليملك علي إسرائيل ذو دلالة أيضا ، فالرب إختار داود مسيحه في أعقاب زمن القضاة والذي كان الطابع المميز له هو "وفي تلك الأيام لم يكن ملك في إسرائيل فكان كل واحد يعمل ما يحسن في عينيه" ، فقد سبق مجئ داود حالة من الفساد والفوضي الروحية ، وهذا يصور لنا أيضا الحالة المتردية التي كانت تنتظر وتتوق إلي إشراق نور نعمة المسيح علي هذا العالم الفاسد "كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتيا الي العالم".

ثم عاد داود بتواضع إلي رعاية الغنم ولم يتذمر عليها ولم يُظهر أي كبرياء بعد أن مسح ليصبح ملكا من صموئيل النبي ، ولكنه ظل منتظرا للوقت المعين من قبل أبيه ، إذ أنه كان لابد أن يعود إلي مراعي بيت لحم حتي ما يصارع الدب والأسد ليتدرب علي مصارعة جليات. ومرت علي داود سنوات كثيرة لم يتحقق له فيها المُلك عمليا بل ظل ملكا ممسوحا ذو ملك مؤجل ، ولا شك أنه تساءل كثيرا عن متي سيأتي ذلك الوقت الذي فيه يصبح ملكا فعليا ويتحقق له وعد الله.

3- المخلص العظيم

 لو قُدّر لنا أن نري داود في الجسد عندما راح ليتفقد سلامة اخوته الثلاثة ، لا يخيل لي أبدا أن هذا الشاب الجميل ، الأشقر مع حلاوة العينين ، الشاعر ذو الأحاسيس الرقيقة والنغمات العذبة ، يمكن أن يخوض غمار الحرب حيث لا يُسمع الإ صوت صليل السيوف التي لا تشفق علي هذا أو ذاك ، ولكن هذا الجمال الخارجي لم يكن إلا عنوانا للجمال الداخلي الذي كان يحويه قلب هذا الشاب اليافع. فها هو يتقدم ليتحدي ذلك الأغلف الذي عير صفوف الله الحي ، وليس في يديه القويتين التي تعلمتا الحرب من الرب سوي مقلاعا وفي اليد الأخري عصا ، وحول رقبته  كنف الراعي التي كان يحمل فيها مستلزمات رعاية الغنم ، ولكن في جعبته الروحية سهام خبرة إيمانية قديمة حين قتل الدب والاسد ، ولم يهمه أبدا منظر هذا الأغلف المرعب ، فقد كان داود يؤمن بأن مصير هذا الأغلف لن يكون أفضل من الدب والأسد ، وبالفعل يلتقط داود خمسة حجارة ملس من الوادي ويضع إحداها في المقلاع ليصوبها في جبهة هذا الأغلف التي كانت المكان الوحيد المكشوف في جسده حتي ارتز الحجر في جبهته ، وسقط علي الارض وأخذ سيفه وقطع رأسه به.

وأبرز ما في هذه الملحمة البطولية لداود هو إيمانه ، فلاشك انه لمع بشدة بسبب موضوعه وأساسه ودافعه :
  1. كان إيمانه في الله وليس في ذاته : لم يخف من العملاق الاكبر منه مرات كثيرة في الحجم ولم يكن يمتلك أي أسلحة سوي مقلاعه وخمسة حجارة ملس من الوادي.
  2. كان ايمانه مؤسسا علي حماية الله له في الماضي ، فلم يحتم وراء ترس ولم يكن له حامل سلاح ، بل وثق في الله الذي كان معه عندما قتل الدب والأسد
  3. كان إيمانه صحيحا فلم يكن لمنفعه شخصية أنانية بل كان لمجد الله ، فالقضية كانت قضية الله وشعبه "من هو هذا الأغلف الذي يعير شعب الله الحي"
وإنتصار داود علي جليات ليس إلا صورة مصغرة من الإنتصار الأعظم الذي حققه مخلصنا وربنا يسوع علي الشيطان "إذ محا الصك الذي كان علينا في الفرائض ، الذي كان ضدا لنا ، وقد رفعه من الوسط مسمرا إياه بالصليب ، إذ جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارا ، ظافرا بهم فيه" (كو 2) :
  • أبطل داود تعييرات جليات ، والرب يسوع أبطل تعييرات الشيطان وشكايته علي الإنسان عندما برره
  • استرد داود كرامة الإسرائيليين فقتل الفلسطيني جهارا ، والرب يسوع أشهر الرياسات والسلاطين جهارا علي الصليب حيث كانت كل الخليقة تشهد هذا النصر العظيم "من هو الإنسان حتي تذكره وابن آدم حتي تفتقده ، وتنقصه قليلا عن الملائكة وبمجد وكرامة تكلله" (مز 8 : 4 – 5)
  • جرد داود جليات من سيفه وقوته وهزمه ، والرب يسوع جرد الريسات والسلاطين أيضا عندما أبطل سلطانهم وهو الموت
 ومن هذه اللحظة فصاعدا أصبح داود بطلا لدي الشعب محبوبا جدا من الجميع.

4- رجل الآلام

من اللحظة التي هتفن فيها النساء "ضرب شاول ألوفه وداود ربواته" حلت الآلام علي رأس داود ، إذ أنها نفس تلك اللحظة التي تسللت فيها روح الغيرة والحقد وكراهية شاول لداود. تحمل داود الكثير من الآلام: أولا آلام المقاومة والرفض من شاول ، فكان شاول يطارده ويتهممه وحاول قتله مرات كثيرة وتدبير المكائد له لإهلاكه علي أيدي الاعداء عندما طلب منه مئة غلفة من الفلسطيين لكي يزوجه إبنته. وتحمل ثانيا آلام الخيانه علي أيدي من أحسن إليهم ، فعلي الرغم من أنه أحسن إلي شاول كثيرا بتخليصه إياه من أيدي الفلسطيين الذين كانوا سيفتكون به وبالشعب علي يدي جليات لكن داود خلصهم جمعا ، ثم أنه تعرض للخيانة أيضا علي أيدي رجال قعيلة الذين خلصهم من الفلسطيين ثم دبرو له مكيدة لتسليمه لشاول ولكن الرب أنقذه من أيديهم. وثالثا تحمل آلام الوحدة والإنفصال فإضطر للهروب إلي الفلسطينيين فكان وحيدا وسط الأعداء منفصلا عن مقدس الرب الذي كان يحبه ، ولهذا نجد داود في مزمور 56 والذي كتبه عندما هرب من شاول إلي الفلسطينيين ، يقول "لامام المغنيين علي الحمامة البكماء بين الغرباء" ، فالحمامة البكماء هنا هي لحن غناء المزمور وهي تشير إلي داود في عدة أشياء 1- في براءته ونظافه يده ، لم يفعل داود شئ يستحق أن يتألم من أجله ولكنه كان بريئا مثل تلك الحمامة 2- في تحمله للآلام في صمت ، فتلك الحمامة كانت بكماء ، لم تفتح فاها وكانت بلا دفاع عن نفسها وهكذا كان داود يدافع عن نفسه لدي الرب فقط 3- في عدم مقاومته للشر بالشر ، وقع شاول تحت يد داود مرتين وكان يمكنه أن ينتقم منه ، وقد حثه رجاله علي ذلك ولكن داود ترك النقمة للرب. وكما تحمل داود آلام المقاومة والخيانة والوحدة والإنفصال فقد تحمل الرب يسوع المسيح أيضا آلام المقاومة والخيانة ، فقاومه اليهود وأسلموه حسدا ، وخانه أحباءه الذين أحسن إليهم ، وباعه يهوذا بثلاثين من الفضة ، وأنكره بطرس ثلاث مرات ، وكل هذه كانت بمثابة طعنات غادرة في قلبه المحب ، والرب يسوع أيضا تحمل آلام الوحدة فترك من الأحباء وحيدا في ساعات الصلب ، بل وترك من الآب السماوي أيضا عندما وضع عليه كل إثم البشرية جميعا "الهي الهي لماذا تركتني". وإن كان داود في تحمله للآلام مثل الحمامة البكماء ، فإن الرب يسوع كان مثل الحمل الوديع ، كان بريئا ووديعا مثل الحمل ولم يفتح فاه أمام جازيه بل سيق صامتا أمامهم ، وكما أن داود لم يكن فيه روح الانتقام فإن مسيحنا أيضا لم يرد أن ينتقم بل صلي من أجل صالبيه وطلب الغفران لأجلهم.

والمؤمن في تحمله للألم ينبغي أن يتمسك بأثار خطوات سيده فتكون يده نظيفه عن كل شر "فلا يتألم أحدكم كقاتل أو سارق أو فاعل شر أو متداخل في أمور غيره". وشكوانا يجب أن تكون للرب أولا ، وألا نطلب الإنتقام لأنفسنا بل علينا ان نصلي من أجل مقاومينا ومضطهدينا إذ أن هذا ما علمنا إياه سيدنا ، ثم إذا تحملنا الألم علينا أيضا أن لا نتذمر بل نسلم لمن يقضي بعدل.

5- الملك المتوج

ها داود يتوج أخيرا بعد أن كان مَلِكا بلا مُلك لكثير من السنين ، قُوِم فيها من كثيرين ، وقضي منها أوقات كثيرة منعزلا وهاربا ومطاردا. ولاشك أنه تساءل كثيرا أثناء تلك السنوات العصيبة من حياته متي سيتمم الله له الوعد بالملك ، بل وربما يكون قد فقد الأمل في تحقق وعد الله له كما نفهم من قوله "إني سأهلك يوما بيد شاول". ولكن كما وعده الله هكذا فعل له ، حتي وإن تطلب إتمام هذا الأمر سنين كثيرة.

وقد مُسِحَ داود ثلاث مرات ، المرة الأولي علي يد صموئيل وهو راع صغير في بيت لحم ، ثم مسح أيضا ملكا من رجال يهوذا علي يهوذا فقط بعد موت شاول وإنتصاره علي الفلسطينيين ، ومسح أخيرا من شيوخ إسرائيل علي كل إسرائيل بعد سبع سنوات ونصف من ملكه في حبرون. والرب يسوع المسيح مسح ثلاث مرات أيضا : مسح سرا في المقاصد الأزلية "منذ الأزل مسحت" (ام 8) وعندما اعتمد في نهر الأردن واستقر عليه روح الله في هيئة حمامة ، ثم مسح ثالثة عندما صعد إلي السماء وجلس عن يمين الآب "مسحك الله بزيت الإبتهاج أكثر من شركاءك".

إن وعود الله لنا قد تتطلب بعض الوقت لكي تتحقق بصورة كاملة ، وكما استغرق الأمر في حالة داود الكثير من الإنتظار والإختبارات بل وخبرات الفشل أحيانا قد يكون هذا أيضا هو ما ينتظرنا نحن في مرات كثيرة. فعلينا إذا أن ننتظر الرب لأنه يسير وفق خطة محكمة وتوقيتات دقيقة. فشعب إسرائيل في البرية قضي سنوات كثيرة حتي ما يتحقق له وعد الدخول في الأرض وإمتلاكها "قليلا قليلا أطردهم من أمامك إلي إن تثمر وتملك الأرض". فلا نفشل ، ولا نسمح للتجارب بأن تحجب عنا وعود الله لنا أو تشككنا فيها ، بل نظل منتظرين ولا نبرح من تلك الأرض التي سيتحقق لنا فيها وعد الله بالبركة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس