فَأَمْسَكَهُ وَأَبْرَأَهُ وَأَطْلَقَهُ


وَإِذْ جَاءَ إِلَى بَيْتِ أَحَدِ رُؤَسَاءِ الْفَرِّيسِيِّينَ فِي السَّبْتِ لِيَأْكُلَ خُبْزاً كَانُوا يُرَاقِبُونَهُ. وَإِذَا إِنْسَانٌ مُسْتَسْقٍ كَانَ قُدَّامَهُ. فَسَأَلَ يَسُوعُ النَّامُوسِيِّينَ وَالْفَرِّيسِيِّينَ: «هَلْ يَحِلُّ الإِبْرَاءُ فِي السَّبْتِ؟» فَسَكَتُوا. فَأَمْسَكَهُ وَأَبْرَأَهُ وَأَطْلَقَهُ. ثُمَّ سَأَلَ: «مَنْ مِنْكُمْ يَسْقُطُ حِمَارُهُ أَوْ ثَوْرُهُ فِي بِئْرٍ وَلاَ يَنْشِلُهُ حَالاً فِي يَوْمِ السَّبْتِ؟» فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُجِيبُوهُ عَنْ ذَلِكَ.
(لو 14 : 1 - 6)

  
هذه واحدة من سبعة معجزات شفاء أجراها الرب يسوع في يوم السبت كما تسجل لنا الأناجيل الأربعة (مر 1 : 21 ، لو 4 : 38 ، 6 : 6 ، 13 : 14 ، يو 5 : 9 ، 9 : 14). وقد أجريت في بيت أحد رؤساء الفريسيين الذي قد دعا الرب ليأكل خبزا عنده يوم السبت. وبينما نجد الإصحاح الثالث عشر يختم بمشهد رفض أورشليم للمخلص المرسل إليها لكي يجمعها كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولكنهم صلبوا رقابهم ، نجد هذه الحادثة في بداية الأصحاح الرابع لتؤكد ليس فقط علي غلاظة قلوبهم وصلابة رقابهم بل أيضا علي كرههم وحسدهم له إذ قد أعدوا له  فخا لكي يستدرجوه فيه كما سنتأمل في السطور القادمة.

لم تكن هذه هي المرة الوحيدة التي دُعي فيها الرب ليدخل أحد البيوت. ففي مناسبة أخري لم يمتنع أن يدخل بيت رجل التصق اسمه بالبرص حتي أنه دعي سمعان الأبرص وذلك عندما كان في بيت عنيا ، ولم يمنعه تاريخ هذا الرجل  الذي ارتبط بالبرص – ولكن يقال أن الرب شفاه لذلك قدم له هذه الدعوة كنوع من الإعتراف بالجميل – من قبول دعوته والدخول تحت سقفه. ثم نجده في مناسبة أخري يدعو هو نفسه للدخول والمكوث في بيت زكا العشار قائلا له "اسرع وانزل يا زكا لأنه ينبغي أن أمكث اليوم في بيتك". وهنا نجد الدعوة تقدم من رجل لا يفرق عن ذينك السابقين في شئ ، فكما أن الأبرص منبوذ ومكروه ولا يقترب منه أحد ناهيك عن وصمة العار التي لصقت به رغم شفاءه حتي أن لقبه صار الأبرص ، وكما أن العشار أيضا سئ السمعة بسبب جشعه وقسوته وخيانته لاخوانه المواطنين الذين يأخذ أموالهم ويعطيها للعدو الروماني المحتل ، كذلك كان هذا الفريسي. فمع كونه رجل دين له مكانته في المجتمع إلا أن هذا لم يجعله محبوبا بل كان شخصا منفرا بسبب تزمته وتعصبه ورياءه وتعاليه عن باقي أفراد الشعب. ولم تكن السمعة السيئة لهذا الرجل الفريسي هي عامل الطرد الوحيد لرجل نزيه لا يريد أن يلطخ نفسه بمثل هذه الرفقة ، ولكن ما زاد الطين بلة هو الفخ الذي نُصب لذاك الذي ارتضت قدماه الطاهرتان أن تطئا بيت هذا الرجل الآثم المتآمر. فكما نفهم من النص أن الدعوة كانت بدخول بيت هذا الرجل والأكل فيه ، وكان هذا المستسق داخل البيت أيضا ، ولم يكن بأي حال من الأحوال لهذا الأخير أن يدخل بيت الفريسي لو لم يُسمح له بذلك من أصحاب البيت ، ولعله كان قريب لرب البيت أو قريب لأحد المدعويين وجاء معه ليستشفي ، إلا أن تقديم الدعوة للرب في يوم السبت ومجئ هذا الإنسان المستسق قدامه ومراقبة اليهود له كما تخبرنا الآيات أعلاه ، يمكن أن تؤخذ جميعها كقرائن لتفضح مكيدة حيكت ضد الرب يسوع لكي يجدوا ما يشتكوا به عليه ، إذ أنهم كانوا يعلمون جيدا طبيعة الرب وأنه لابد أن مشاعره سترق ويتحنن عليه ليشفيه وبذلك يكون كسر السبت ويستحق المحاكمة.

يقول د. هاموند أن هذه لسيت أخلاق الضيافة علي الإطلاق أن تدع أحد وتدخله تحت سقف بيتك ومن ثم يصبح في حمايتك لتشتكي عليه وتتهمه في نهاية المطاف! ولكن هؤلاء الناموسيين كانوا مثل الصيادين الذي قد نصبوا الفخ للطير وأخذوا ينتظرون في صمت محتفظون بهدوئهم حتي يسقط فيه ، لذلك فعندما سألهم الرب "هل يحل الإبراء في السبت؟" سكتوا. آثروا الهدوء ولم ينبسوا ببنت شفة لكي لا يتورطوا في أي قول حتي تنجح خطتهم ضده. وكان الامر واضح جدا حتي أنه لم يريدوا أن يعترفوا بعكس ما أرادوا فعله. ولكن رغم علم الرب بالمكيدة ضده وبمبراقبتهم له وبإختراقهم لأعراف الضيافة ، إلا أن ذلك لم يقف حائلا ضد تدفق نهر نعمته تجاههم. فلسنا فقط نجده يعلمهم ويوضح لهم الحق بخصوص السبت ، بل نراه أيضا يشفي الإنسان الذي كان جزءا من المكيدة المدبرة ضده. فبعد أن حطم الرب كل حججهم بسؤاله لهم عن إمكانية الإبراء في السبت بإعتبار ذلك عمل رحمة لا يكسر السبت ، نلاحظه يتوجه لشفاء المستسق إذ يقول لوقا "فأمسكه وأبرأه وأطلقه". وإن كانت الظروف المحيطة بالمعجزة تبرز لنا الجو المشحون بالكراهية والرياء والرفض والمكر تجاه ربنا يسوع المسيح وكيف أن كل هذه لم تحول دون عمله الإلهي بالرحمة مع هذا المستسق ، إلا أننا نريد أن نتأمل في عمل الرب مع هذا المريض ليس لسبب سوي أننا نستطيع أن نري أنفسا كخطاة أصابنا مرض الخطية العضال كما حدث مع ذلك المستسق. وعمل الرب معه هو صورة لما يعمله معنا الرب روحيا لكي يخلصنا ، لهذا سنتحدث عن هذه الأفعال الثلاثة: أمسكه وأبرأه وأطلقه كل علي حدة.

فَأَمْسَكَهُ

لم يستطع هذا الجو الملبد بغيوم البغضاء أن يثبط من عزيمة ذاك الذي جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك ، بل نراه في تواضعه يولي اهتمامه المقدس بهذا الإنسان المريض فيمسك به. وهذا التعبير ليس حشوا في كلمة الله ، بل إن الوحي يريد أن يعلمنا شيئا من خلاله. فلا شك أن تورم الأجزاء المصابة في جسده بسبب تجمع الماء تحتها جعل منظره غير مشجع علي الإقتراب منه وملامسته ، ولكن ليس لدي الرب ، فقد اقترب منه ولامسه وأمسك به.  وسواء كان صحيحا أم لا كما يقول البعض أن الرب أمسك بيده وأخذه جانبا بعيدا عن الضجيج والعيون التي تراقبه لتتصيده ، فإن ما يهمنا هنا هو إمساكه الذي يعبر عن التقوية والمساعدة والإنقاذ. فلا شك أن المرض أنهكه وأضعفه ، كما أنه من المحتمل جدا أن هذا الجسد الضعيف حوي في داخله روحا خائرة ، فاحتاج إلي من يمسك به جسديا وروحيا. لهذا أمسكه الرب لكي يسند ضعفه الروحي والجسدي. ولم يأت الرب ليمسك بهذا المستسق وحده بل أتي أيضا ليمسك بنا أجمعين ويقيمنا من موتنا وضعفنا الروحي بسبب الخطية. فلأن الضعف الروحي استشري في كل الكيان الإنساني ولم تنفع أي من محاولات البشر لإصلاح أنفهسم كان لزاما أن يأتي الرب ويأخذ جسدا بشريا مثلنا ليمسك بضعفنا ومرضنا الروحيين بفداءه المجيد.

يقول كاتب العبرانيين "أنه حقا ليس يمسك الملائكة ، بل يمسك نسل إبراهيم" (عب 2 : 16). ترجمت هذه الآية في بعض الترجمات الإنجليزية " أنه لم يأخذ علي نفسه طبيعة الملائكة بل نسل إبراهيم" ، ولكن ترجمتنا العربية هنا أكثر دقة في إلتزامها بحرفية النص. فالفعل اليوناني "يمسك" المستخدم هنا والذي ينطق (epilambanetai) يعني بحسب قاموس سترونج "يمسك لتقديم المساعدة" ، لهذا جاء النص مبنيا علي هذا المعني في بعض الترجمات الإنجليزية اللأخري "أن المسيح جاء لا ليساعد الملائكة ، بل ليساعد نسل إبراهيم". أو كما يقول بارنز أنها تعني "أن تمسك بيد أحد للمساعدة والإقتياد" وهو نفس الفعل المستخدم في حالة الرب مع المستسق هنا. ونجده أيضا في قوله "لا كالعهد الذي عملته مع آبائهم يوم أمسكت بيدهم لأخرجهم من أرض مصر. لأنهم لم يثبتوا في عهدي وأنا أهملتهم يقول الرب" (عب 8 : 9). وإن أخذنا في الإعتبار المعاني في القرائن الكتابية السابقة يصبح المعني الكامل لقول كاتب العبرانيين هنا "أن المسيح لم يأخذ طبيعة ملائكية لمساعدتهم هم بل أخذ الطبيعة البشرية لنسل ابراهيم ليمسك بهم ويساعدهم". ولأن الرسول هنا كان يكتب للعبرانيين فكان المناسب إذا أن يشير إلي إبراهيم وإلي نسله ، ولأنه أيضا مع ابراهيم قد صنع العهد وأنه في نسله تتبارك جميع أمم الأرض. وفي الحقيقة فإن الرب يسوع أخذ طبيعة البشر عموما وليس فقط طبيعة نسل إبراهيم. وهذا لم يحدث مع الملائكة بل تركهم يسقطون نهائيا بدون قابلية لتوبتهم ، فلم يمسكهم من السقوط في الهوة ، ولكن ليس الحال مع نسل إبراهيم أو جنس آدم الذي أمسكه الرب يسوع ومنعه من السقوط في الهاوية نهائيا بل دبر وتمم له فداء. وكما يخبرنا العدد السابق أنه " إذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضا كذلك فيهما لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس ويعتق أولئك الذين خوفا من الموت كانوا جميعا كل حياتهم تحت العبودية" يخبرنا أيضا هنا أنه اتخذ طبيعة نسل إبراهيم "لكي يشبه اخوته في كل شئ ، لكي يكون رحيما ، ورئيس كهنة أمينا فيما لله حتي يكفر خطايا الشعب. لأنه فيما هو قد تألم مجربا يقدر أن يعين المجربين". أي أنه أخذ طبيعة نسل ابراهيم لكي يشبه اخوته فيستطيع أن يقربهم إلي الله. آه أيها القارئ العزيز ما أحوجنا إلي ذلك العمل الكفاري المجيد الذي عمله ربنا يسوع المسيح علي الصليب لكي يمسك بأيدينا ويقتادنا في عمانا الروحي ، ويمسك بنا ويقيمنا من سقوطنا في الخطية ، ويمسك أقدامنا من الإنحدار إلي تفتة التي وسعت فاها.

وَأَبْرَأَهُ

الإستسقاء مرض مؤلم يحدث فيه تجمع للماء تحت أجزاء مختلفة من الجسم ويسبب انتفاخ لها. ويقول بعض المفسرين أنه من المرجح أن الحالة هنا كانت بسبب تراكم الماء بين الأمعاء وغشاء البطن. ولا يهم كثيرا ما هو الجزء المصاب من جسده ، فيكفينا أن الرب بعد أن أمسكه وأشعره بقوته ومحبته من خلال ذلك أبرأه كليا. وبحسب قاموس سترونج فإن الفعل المستخدم عن الإبراء يمكن أن يعني أيضا "يجعله كاملا" ، وليس هذا بغريب فهو "الصخر الكامل صنيعه". وهو أيضا صاحب السلطان المطلق علي كل الأمراض ولا يوجد مرض يستعصي عليه. فهو الذي قال كلمته قديما للماء لكي يجتمع إلي مكان واحد تحت السماء ، وهو الذي جعل للبحر تخوما لكي لا يتعداه ، وهو الذي جعل مياه بحر سوف سورا للعبرانيين عن اليمين وعن اليسار لعبورهم ، وهو الذي أوقف انحدار مياه نهر الأردن عند عبورهم إياه ، وهو الذي هديء عجيج أمواج البحر في وجه تلاميذه ، فليس بغريب أن يكون له سلطان علي الماء الذي تجمع في غير الأماكن المخصصة له في جسد هذا السقيم. شفي الرب اختلال وظائف جسم هذا الرجل ، فعاد كما كان.

ولم يكن الوَصَب الذي يشعر به المريض بسبب هذا الإنتفاخ هو المشكلة الوحيدة ، بل إن فقدان الماء بسبب تجمعه في الأجزاء الغير مخصصة لذلك سبب له حالة من العطش الدائم لتعويض تلك الخسارة. ففي كل مرة يشرب الماء يخسره فيعاود احساسه  بالعطش من جديد يلح عليه. إنها حلقة مفرغة من العطش. ولكن بمجرد ما أبرأه الرب عاد كل شئ إلي طبيعته فتبددت حالة الأوار الدائم التي كان فيها. وفي ذلك رمزا لحالة الظمأ الروحي التي يعاني منها الإنسان بسبب إنفصاله عن الله. إذ أنه في الإنفصال عن الله تموت الروح وتختل وظائفها مثل اختلال وظائف الجهاز المسؤول عن دورة الماء في جسد المستسق. والإنسان في جهله غير مدرك أن الإحساس بالعطش الروحي المستمر الذي يعاني منه لا يملأه سوي الله ، يحاول أن يطفئ هذا الظمأ بشتي الأمور. فتراه مثلا يحاول تعويض خسارته الروحية بملأ نفسه من أهواء العالم فيتخذ لنفسه ألف زوجة ، ليس الواحدة تلو الأخري ، ولكن كان له ألف زوجة في نفس الوقت ، وما إن يكتشف أن هذا لم يخمد نيران جفافه الروحي حتي تسمعه يصرخ "باطل الأباطيل. قال الجامعة. الكل باطل" (جا 12 : 8). أو قد تصادفه وقد أخذ يملأ جيوب جلبابه القصير أموالا ليست من حقه مخدوعا ومدفوعا بمحبته للمال ، وإذ به يستيقظ من غفلته الروحية التي خسر فيها سمعته ومحبة الناس له بل وأصعب شئ هو خسارته لنفسه التي باعها بثمن بخس للسيد محبة المال علي إثر تلك الدعوة المقدسة بأن يسرع وينزل من علي الشجرة. وما إن يدخل المخلص بيته ويمكث معه تجده يصرف ماء محبة المال خارجه معطيا نصف أمواله للمساكين وأربعة أضعاف لمن ظلمه (لو 19 : 8). أو ربما حاول الإنسان ملء هذا الشغور الداخلي بأن يكون متقدما في الديانة علي كثيرين من أترابه  عن طريق ممارسة تقليدات أباءه الدينية بغيرة وتشددا أكثر من الآخرين ، ولكن بعد أن سقطت القشور من عينيه عرف أن ما ظنه ربحا كان في حقيقته خسارة ونفاية (غل 1 : 14 ، في 3 : 7). عزيزي القارئ إن هناك مرض مستعص في الروح يجعلها في حالة مستمرة من التوتر وعدم الإكتفاء ، وكلما حاولنا معالجة عدم الإكتفاء هذا بدون مداواة الداء نفسه لظللنا في هذه الحلقة المفرغة للأبد. الإعتلال هو الإنفصال عن الله الذي سببته الخطية ، وأعراض هذا المرض هو عدم الإرتواء الروحي. وإن حاولنا معالجة الإنفصال عن الله بشئ آخر سوي الرجوع إلي إليه في المسيح يسوع لزاد هذا من إحساسنا بالألم وجعل مشكلتنا أكثر تعقيدا. آه أيها الخاطئ ليتك تكف عن كل محاولاتك في إسعاد نفسك بعيدا عن الله الذي خلقك لنفسه ولن تجد نفسك راحة إلا فيه كما يقول القديس أغسطينس. قال الرب يسوع "كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضا. ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا ، فلن يعطش إلي الأبد. بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلي حياة أبدية" (يو 4 : 13 – 14).

وَأَطْلَقَهُ

أطلق الرب يسوع المستسق بعد أن شفاه ، فربما لو كان تركه بين الفريسيين لقبضوا عليه بتهمة الإستشفاء في السبت ، أو لعلهم كانوا قد حجزوه كدليل ضد السيد علي كسره للسبت كما يظنون ، أو ربما دفعهم حقدهم لتزييف الحقيقة واقناع الرجل بإنكار المعجزة والتشكيك في قداسة الرب كما فعلوا مع المولود أعمي (يو 9). لكن ذاك الذي قال لاحقا "دعوا هؤلاء يذهبون" (يو 18 : 8) وبقي هو في المشهد مواجها ومتحديا للشر بشجاعته المقدسة المعهودة ، يفعل نفس الشئ هنا فيطلق المريض المتعاف ، فقد نال نعمه الآن وأصبح من خاصته. ويظل هو هناك لكي يلقنهم الدروس الروحية الواحد تلو الآخر كاشفا رياءهم وقساوتهم. وما أبعد الفارق بين حال هذا الإنسان الذي كان جزءا من المؤامرة وجاء في هذه المناسبة لا لأنه يريد الشفاء – إذ أننا لا نقرأ أنه طلب الشفاء من الرب – بل للإيقاع بالرب في الفخ الذي نصبوه له ، وبين حاله بعد أن نال الشفاء. فلم تحول هذه النوايا السيئة دون شروق شمس البر التي كان في أجنحتها الشفاء ، لقد كان تعرضه لأشعة الشفاء الخارجة من سيدنا كافيا لأحداث تغييرا عجيبا في قلبه ، فخرج من لدن الفريسيين طافرا كواحد من عجول الصيرة (مل 4 : 2). فهذا الذي قال في القديم أن يشرق نور من ظلمه هو نفسه الذي أشرق في قلبه بنور المحبة والنعمة والشفاء والحرية.

لقد أطلق المستسق بعد شفاءه حرا من أغلال سقامه ، ومعتقا من علاقاته بهؤلاء الأشرار ، بل وأعظم الكل أطلق حرا من الشر الذي دفعه أن يكون جزءا من هذا الفخ تجاه سيدنا الحبيب. فلا شك أن المحبة التي وجدها في السيد في مقابل كونه جزءا من مكيدة شريرة ضده عمل عمله المجيد في جَنَانه. لقد صار هذا الإنسان خليقة جديدة. ولسنا بأي حال من الأحوال أفضل من هذا المستسق في شرنا ضد الله عزيزي القارئ. فنحن أيضا بشرنا ارتضينا أن نكون جزءا من المؤامرة العالمية للشيطان في مقاومته الله بإتخاذنا لهذا الجانب. لأن من ليس معه فهو عليه (مت 12 : 30). وكما أرسل المستسق جسديا وروحيا إلي الحرية فإن الرب يسوع المسيح يستطيع بل ويريد أن يطلقنا من قيود المرض الروحي الذي أتخمت منه أرواحنا بفعل الشهوات التي تغذت بالأمور الأرضية ، وانتفخت منه أيضا بفعل الكبرياء العامل في النفس. والرب يسوع المسيح يهب لنا حرية من الداخل والخارج كما وهب ذلك الإنسان العليل. فهو يمنحنا أولا حرية داخلية ويكسر قيود الخطية في القلب ، لأن كل من يعمل الخطية هو عبد للخطية ، وكل من يحرره الإبن فبالحقيقة يكون حرا (يو 8 : 34). إنه يحطم قيد كل عادة شريرة تملكت من النفس والجسد ، فتفقد الخطية بريقها وسلطان لذاتها علينا ، بل والأكثر من ذلك تصير لنا الإرادة والقوة لعمل البر. ويطلق أيضا الضمير الموسوم من قيود الإنغماس في الشر فيصير لنا ضميرا قادرا علي الإستجابة لتحريضات القداسة فينا. وأذهاننا أيضا يرسلها في الحرية من سحق ربط الظلمة التي كانت تغط فيها فيصير لنا فكر المسيح المحب القدوس. ثم أنه يحررنا من الخارج أيضا فلا يصبح للعالم بما فيه من علاقات شريرة ونظام معاد لله أي سلطان علينا ، فالصداقات الشريرة تصبح بلا معني بالنسبة لنا وتفقد رونقها ، بل وحتي الأوساط الدينية الكاذبة مثل ذلك المجتمع الذي كان فيه المستسق يُفضح إحتيالها ورياءها فنذهب لملازمة العاملون الحقيقيون في ملكوت الله (را 2 : 8).

وما إن يطلق الطبيب العظيم واحدا من أسري الخطية صحيحا ومتعافيا يتوجه إلي التسعة والتسعون الباقين في البيت الذين يحتاجون إلي شفاءه الروحي لكي يكلمهم بكلمة الحياة. فها هو الرب غير يائس أو محبط أو خائف أو مغتاظ من شرورهم يسألهم ثانية "من منكم يسقط حماره أو ثوره في بئر ولا ينشله حالا في يوم السبت؟ فلم يقدروا أن يجيبوه عن ذلك". كان سكتوتهم في المرة الأولي قبل أن يروا المعجزة خبثا لإتمام مؤامرتهم ضده ، لكن لا شك أن سكتوهم كان له دلالة مختلفة في المرة الثانية بعد أن رأوا الحب يتدفق رغم البغضة ، والحق يعلن عن نفسه في وجه الباطل ، والخبث يتواري خجلا أمام الطيبة والتواضع والبساطة العجيبة للرب يسوع. آه إن يشبه كثيرا سكوت البحر الخادع الغادر قبل هيجانه ، وهدوءه المُخْضَع بعد أن هدأت كلمات السيد لججه وألجمت عجيجه وسحقت كبرياءه. إنه سكوت المنهزم أمام عمل النعمة وسلطان كلمتها ومنطقها ونورها. ويا ليت هذا الوقت يكون هو وقت سكوت كل بر ذاتي فينا وشر ومقاومة وكبرياء تجاه المخلص. ليته يكون سكوت التواضع أمام ذلك السكوت المقدس الذي صار من سيدنا الحبيب كنعجة صامتة أمام جازيه ، بل وسكوته الرهيب عندما أسلم الروح الطاهرة مستودعا إياها بين يدي الآب المبارك. إن المخلص يريد أن يُمْسِكك ويُبْرِأك ويُطْلقك عزيزي القارئ ، فهل سمحت له؟


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس