إن كانت الخطايا تتساوي فلماذا لا نرتكب الفواحش؟!



ليس هناك ثمة شك أننا كبشر نري أن هناك درجات من الخطية، فالسرقة أقل شرا من القتل، وهذا الأخير أدني منه لو كان مقترنا بإغتصاب وهكذا. ولكن السؤال الذي يثور هنا: هل تتساوي الخطايا من حيث جسامتها في نظر الله أيضا؟ أم أن هناك من الخطايا ما له ثقل أكثر من غيرها في ميزان عدله؟ وإن كانت الخطايا لا تتضارع لدي الله من جهة وطئتها فماذا عن النصوص الكتابية التي تعلمنا بأن من عثر في واحدة من وصايا الناموس فقد أجرم فيه كله "لأن من حفظ الناموس وإنما عثر في واحدة، فقد صار مجرما في الكل" (يع 2 : 10)؟

قبل أن نشرع في تبيان أن الخطايا لا تتساوي في نظر الرب أيضا، وجب علينا في مستهل بحثنا هنا التأكيد علي أن الخطايا تتعادل في نظر الله من الناحية القضائية باعتبارها جرما سواء صغرت أم كبرت، إذا أنها موجهة أولا وأخيرا ضد قداسته، وهي كسرا لقوانينه وتمردا علي مشيئته. ولا ينبغي لنا أن ننسي أن خطية آدم كانت أمرا أقل فداحة من خطايا كثيرة يرتكبها البشر، إلا أنها كانت كافية لاستحقاقه الموت (وقد مات آدم حقا في اللحظة التي تعدي فيها علي وصية الرب روحيا بإنفصاله عن الله، وجسديا إذ بدأ الموت يعمل في جسده فصار جسده مائتا). وخطية واحدة مهما كانت تفاهتها كفيلة أن تصلب رب المجد، فأجرة الخطية دائما وأبدا هي الموت. كما أن خطايا السهو والجهل باعتبارها أقل وطأة من الخطايا العمدية والمجترحة عن معرفة كانت تتطلب ذبائح كفارية للتكفير عنها دونا عن تلك المقترفة عمدا مما يدل علي أنها لازالت خطايا في نظر الرب تحتاج إلي تكفير. ومن ثم فنحن نري عدم كتابية تعليم الكنيسة الكاثوليكية بأن هناك خطايا عرضية وأخري مميتة، وأن هذه الأخيرة – دون الأولي – هي التي نتعدي فيها علي الوصايا الثقيلة في الناموس عن وعي وعمد، وقد دعيت مميتة لأنها تقطع النفس عن النعمة المُقَدِسة وتحضر الموت إلي النفس. والسبب في عدم قبولنا ذلك التعليم هو أن كل الخطايا مميتة وتحضر الموت إلي النفس، ولكن النفس التي تقدست بدم المسيح وبالروح القدس لا يمكن أن تفقد نعمتها إذا ما أخطأت بل تؤدب هنا لكي لا تدان مع العالم أما إذا استمرءت الخطية فهذا لا يدل سوي علي أنها لم تنل أي نعمة.

وبالمناسبة فإن السبب في أن الكثير من أن الكنائس الإنجيلية لا تري أن هناك فروق في الخطايا لدي الله من حيث فظاعتها هو أنهم يعتقدون أن الإصلاح رفض مثل هذا التصنيف الكاثوليكي للخطايا، ولكن هذا الاعتقاد غير دقيق لأن هناك من المصلحين من نادي بأن هناك درجات في الخطية ولكنهم طبعا لما يتبنوا التصنيف الكاثوليكي ذاته، بل رأوا أن كل الخطايا مميتة ولكنها لا تفقدنا النعمة. فمثلا يقول سبرجن أن "الخطايا الصغيرة تقود إلي الكبيرة". وجون كالفن ذكر أن "هناك أمر آخر ينبغي أن نراعيه وهو أن بعض الخطايا تكون مجرد جنح والأخري جرائم وآثام مريعة". أما مارتن لوثر فقد فاه قائلا "وعلي أي حال لو أن شخص لا يشعر أن ضميره مثقل بمثل هذه أو بخطايا أعظم ..".

والعلة في كون الخطية مهما بلغت من التفاهة والضآلة أمرا بغيضا يستوجب الموت تكمن في قداسة الله وبره المطلقان. فالله لا يتهاون مع فعل واحد من الشر حتي ولو كان مجرد فكر في القلب "فكر الحماقة خطية" (أم 24 : 9)، وليس ذلك فقط بل إن"من يعرف أن يعمل حسنا ولا يعمل فذلك خطية له" (يع 4 : 17)، فمجرد عدم فعل الصلاح هو خطية. فلو ضايقنا أو اضطهدنا أحدهم فليس علينا فقط أن لا نرد الشر بمثله بل أن نطعمه إذا جاع ونسقه إذا عطش لو تيسر لنا فعل ذلك (رو 12 : 20). وهذا يدفعنا للقول أن هناك روح للوصية ينبغي الإنتباه لها والعمل بمقتضاها، فليس فقط أن نأبي الفواحش من الإثم بل أيضا الخطايا الأقل وطأة والمتضمنة في تلك الفواحش الأكثر جسامة التي نهانا الرب عن فعلها. والأكثر من ذلك فإن قداسة الله تستلزم ما هو أكثر من مجرد عدم كسر الوصية: اتيان البر وإتمام مشيئته. ولا شك أن ذلك نتيجة منطقية لكون الله كلي القداسة لا يتهاون حتي مع أشباه الشرور.

وهذا هو السبب الذي جعل الرب يسوع المسيح في عظته علي الجبل يضاهي بين خطايا صغيرة وأخري عضال. وقد يبدو أن الرب يسوع ساوي بينهما ولكنه في الحقيقة لم يكن هدفه ذلك، بل أراد القول أن الخطايا الكبيرة تشمل خطايا صغيرة أيضا، وأن من رغب في الإمساك عن الخطية عليه أن يُحْجِم عنها بصغيرها وكبيرها، وأن هناك روح للوصية ينبغي أن تراعي عند حفظها. وليس كما كان يفعل اليهود فيحفظون حرف الوصية دون أن يراعوا جوهرها الذي يقتضي الإمتناع عن كل أشكال المعصية، الضئيل منها والجسيم. فالزني ليس فقط الإرتكاب الحرفي للفعل بل يشمل مجرد الرغبة والنظرة والفكرة والشروع. والقتل ليس فقط هو ازهاق روح بل هو مجرد الرغبة والتفكر بهذا الأمر. وبما أن القتل العمد لا يحدث دون أن يكون هناك مشاعر غضب وكراهية وحنق واعتداد بالذات وتصلف واحتقار لسلطان الله علي الحياة مصاحبة للفعل، إذا فعندما يقول الرب لا تقتل، فهو يقول ضمنا لا تغضب باطلا ولا تكره إلي آخر كل تلك الأشياء. وفي الحقيقة فإن هذا هو ما قصده يعقوب أيضا بقوله "لأن من حفظ كل الناموس، وإنما عثر في واحدة، فقد صار مجرما في الكل" (يع 2 : 10)، وذلك لأن هناك روح واحدة في الناموس لا يمكن تجزئها أوتفتيتها. وأن من يكسر وصية واحدة من الصعب أن لا يكون قد تعدي علي مجموعة وصايا أخري معها، بل وحتي من يقترف إثما واحد فقد تعدي علي الناموس كله الذي يظهر صفة القداسة المطلقة لدي الله.

علي أن هذا لا يتناقض مع كون هناك درجات للخطية لدي الرب. تماما مثل الفرق بين الشرارة والشعلة والسعير، فجميعها نار، ولكن شدتها تختلف، ولظاها يزداد ويقل بحسب استعارها. والله في قداسته لا يمكن إلا وأن يكون عادلا، فحاشا له أن يساوي بين الخطايا وبعضها، وإن كانت جميعها جرائم تجلب كل واحدة منها حكم الموت علي مرتكبها، إلا أنه يراها بحسب فداحتها. وبالتالي فإن رؤية الله لاختلافات في جسامة الخطايا وبعضها لهو ضرورة منطقية لصفاته المتوازنة. فهو قدوس بحيث أن كل تعد علي وصاياه في نظره خطية مميتة، وهو عادل في قداسته بحيث أنه يري تميزا بين كل تعد علي وصاياه. وألا يتأكد لنا ذلك أيضا من كونه عادلا في بره إذ يكافئ الأبرار بحسب أعمالهم الصالحة، ويكرم الذين يكرمونه بحسب اكرامهم له؟! فلماذا لا يكون عادلا في غضبه ودينونته وقداسته أيضا؟ لو تساوت الخطية لدي الرب من حيث فداحتها كيف يظل الرب عادلا عندما يجعل عقاب الطغاة قتلة شعوبهم ومغتصبي الأطفال والأنبياء الكذبة متساويا مع سارقي الخبز أو المهملين في عملهم أو النمامين أو السائقين الغير الملتزمين بالحد الأقصي للسرعة ولا سيما لو كان أولئك السفاحين قد أفلتوا من العدل الأرضي؟ هل ستكون دينونتهم علي قدم المساواة مع الخطاة أصحاب الأخلاق؟ وإن اقتص العدل الأرضي من هؤلاء الجناة مرتكبي تلك الفواحش ألا يحق ويصبح من الضروري للرب أن يجازيهم أيضا بحسب  جسامة أفعالهم الردية؟! أليس من المنطقي إذا أن تكون الخطية علي درجات من الفداحة تستلزم درجات من الغضب والدينونة؟!

ثم أن هناك عدة أسئلة أخري تثور، من أين جاء الإنسان والمجمتعات بفكرة تدريج العقوبة بحسب جسامة الجريمة المقترفة؟ أليس أن الإنسان مخلوق علي صورة الله ومثاله في البر وقداسة الحق؟ فلو كان عقاب سارق الخبز الجائع لدي الله يتساوي مع عقاب القاتل أو المغتصب فأين نجد البر وقداسة الحق لدي الله؟ وعلي فرض أنه ليس هناك علاقة بين تدريج العقوبة لدي الإنسان وبين الله، كيف يكون الإنسان أبر من الله ويجازي كل جريمة بحسب درجة جسامتها بينما يغفل الله هذا الأمر ويعتبر كل الخطايا سواسية؟

وإن كان المشرعين الأرضيين يغلظون العقوبات علي الجرائم الأكثر خطورة من غيرها حتي يكون ذلك رادعا لمن قد يستخفون بقصاص العدالة، أليس من الأولي جدا أن يكون ذلك صحيحا فيما يتعلق بموقف الله من الخطية؟ وإن تعادلت الآثام في نظر الله أليس ذلك تصريحا بارتكاب الكبائر مادامت العقوبات في النهاية واحدة؟ ألا يتقوي ضمير الضعفاء من المؤمنين حينئذ فيقدمون علي الزني بحجة أنه يتساوي مع النظرة الشهوانية؟ فمادامت النظرة الشهوانية تتساوي مع فعل الزني، فما الفرق لدي الله إذا بين من ينظر ليشتهي ومن يرتكب الزني الحقيقي؟؟ ألا يصير السؤال إن كانت الخطايا تتساوي فلماذا لا نرتكب الفواحش حينئذ منقطيا؟؟ وهنا تكمن خطورة هذا الفكر الذي يساوي بين الخطايا من حيث جسامتها وعقوبتها لدي الله إذ يعمل بمثابة المحفز علي ارتكاب الخطايا الأكثر فداحة.

ولو لم يكن هناك تدرج في الخطايا من حيث الجسامة لصح مثلا للأزواج أن يطلقوا زوجاتهم لمجرد النظرة الشهوانية بحجة أن هناك نظرة شهوانية قد ارتكبت، وبما أن تلك النظرة الشهوانية تتساوي مع ارتكاب فعل الزنا إذا فالطلاق لمجرد النظرة الشهوانية لهو أمر مباح. وقياسا علي ذلك أيضا فبما أن الزان يصير واحد مع الزانية فبالتالي من ينظر نظرة شهوانية يصير واحدا مع من يشتهيها "أم لستم تعلمون أن من التصق بزانية هو جسد واحد، لأنه يقول: ويكون الإثنان جسدا واحدا" (1 كو 6 : 16). إذا فلا يمكن أن تكون تلك الخطايا متساوية في نظر الرب وإلا لكانت النتائج المترتبة علي ذلك مما لا يقبله عقل أو منطق.

وبالإضافة إلي تلك الحجج المنطقية التي سوقناها هنا نري أيضا أن هناك الكثير من الأدلة الكتابية التي تعزز هذا الفكر:

1 – الخطية في العهد القديم ثلاثة أنواع (خر 34: 7): خطية (وبالعبرية خطا) وتعني "اخطاء الهدف" وهي بذلك لا تشمل فقط الأشياء التي ينبغي الإمتناع عنها، بل أيضا الأمور التي يلزم فعلها، وهي تصف ما كان يُقترف من الخطايا الغير عمدية، أي الزلات. وقد تكون عن جهل "وإذا أخطأ أحد وعمل واحدة من جميع مناهي الرب التي لا ينبغي عملها ولم يعلم كان مذنبا وحمل ذنبه" (لا 5 : 17). ثم هناك أيضا المعصية (وبالعبرية بيشا) وهي الخطايا العمدية أي التي يتوافر فيها النية والقصد، وبلا شك فهي تشمل التعريف الأول بأنها "عدم اصابة الهدف" ضف إلي ذلك أنها مقترنة بالنية المسبقة، الأمر الذي يدل علي حالة التمرد لدي مقترفها، وقد ترجمت بهذا المعني في قوله "احترز منه واسمع لصوته ولا تتمرد عليه لأنه لا يصفح عن ذنوبكم لأن اسمي فيه" (خر 23 : 21). وأخيرا فهناك الإثم (وبالعبرية أفون)، وهو يشمل كلا من الأمرين السابقين، فهو تعمد عدم اصابة الهدف ، أما العنصر الذي يتميز به الإثم فهو الإستمراء في فعله، فمن يجترح الاثم هو من يداوم علي فعل شر بعينه، والمثال علي ذلك هو "إن راعيت إثما في قلبي لا يستمع لي الرب" (مز 66 : 18)، وقد ذكرت بعض القواميس أن كلمة "أفون" تعني "انحراف" أو "فساد" مما يدل علي كثرة الشر في الإثم. والذبائح كانت تقدم عن الخطية (الخطا) فقط أما الإثم والمعصية (بيشا وأفون) فلم يكن لهما ذبائح نظرا لجسامتهما. وقد اعترف داود بإرتكابه لهذه جميعها عندما أخطأ بزناه مع بثشبع ثم قتل زوجها "اغسلني كثيرا من اثمي، ومن خطيتي طهرني، لأني عارف بمعاصي وخطيتي أمامي دائما" (مز 51 : 2 – 3)، لهذا كان داود مدركا بأنه لا ينفع معه ذبيحة "لأنك لا تسر بذبيحة. وإلا فكنت أقدمها. بمحرقة لا ترضي" (16)، لكن الرب نقل عنه خطيته (2 صم 12 : 13).

2 – ليس فقط أن الخطايا تختلف فيما بينها من حيث جسامتها، بل أن الله يري فرقا بين كم الخطايا المرتكبة من فرد لآخر، فمثلا كان عير أكثر شرا من اخوته "فكان عير بكر يهوذا شرير في عيني الرب فأماته" (تك 38 : 7)، وعن منسي الملك الشرير يقول أيضا "وعبر بنيه في النار في وادي ابن هنوم وعاف وتفاءل وسحر واستخدم جانا وتابعة وأكثر عمل الشر في عيني الرب لإغاظته"، والوحي هنا يعقد مقارنة بينه وبين السابقين واللاحقين له من الملوك فكان أكثر شرا منهم جميعا. ثم أن هناك من الشعوب من فاقت أثامه شعبا آخر من حيث الكثرة: "لأني علمت أن ذنوبكم كثيرة وخطاياكم وافرة أيها المضايقون البار الآخذون الرشوة الصادون البائسين في الباب" (عا 5 : 12). لفظة "وافرة" جاءت في الأصل العبري "أتسوم" وتعني "قوة" وقد ترجمت نفس اللفظة في مواضع كثيرة بنفس المعني مثل قوله "لأنها طرحت كثيرين جرحي وكل قتلاها أقوياء" (أم 7 : 26). وترجمت أيضا بمعني "عظيم" كما ورد في (عد 22 : 6)، وبهذا فإن تلك الخطايا كانت جسيمة وكثيرة في نفس الوقت. وفي حديث الرب مع ابراهيم نجد ما يفيد بأن الرب لديه مكيال للخطية يقيس به كثرتها "وفي الجيل الرابع يرجعون إلي ههنا، لأن ذنب الأموريين ليس إلي الآن كاملا" (تك 15 : 16). وعندما قرر الرب أن يدينهم كان قد مضي علي قوله لإبراهيم أربع مئة سنة. وقد ذكر دانيال ما يعني ذلك "وفي آخر مملكتهم عند تمام المعاصي يقوم ملك جافي الوجه وفاهم الحيل" (دا 8 : 23). أما في العهد الجديد فقد وبخ الرب يسوع المسيح اليهود قائلا لهم "فأنتم تشهدون علي أنفسكم أنكم أبناء قتلة الأنبياء. فاملأوا أنتم مكيال آبائكم" (مت 23 : 31 – 32)، و"أن كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس سوف يعطون عنها حسابا يوم الدين" (مت 12 : 36). وأخيرا قول الرسول بولس في هذا الصدد "يمنعوننا عن أن نكلم الأمم لكي يخلصوا حتي يتمموا خطاياهم كل حين. ولكن قد أدركهم الغضب إلي النهاية" (1 تس 2 : 16).

3 – بعض الخطايا لها صراخ تطلب من الرب الإنتقام أكثر من غيرها "صوت دم أخيك صارخ لي من الأرض" (تك 4 : 10) فقد دفن هابيل وشربت الأرض دماه ومع ذلك فإن دماه كانت تصرخ إلي عدل الرب. وخطايا الشذوذ الجنسي لسدوم وعمورة أيضا كان لها صراخ مما يدل علي شدة وطأتها لدي الرب "وقال الرب: ان صراخ سدوم وعمورة قد كثر وخطيتهم قد عظمت جدا. أنزل واري هل فعلوا بالتمام حسب صراخها الآتي إلي وإلا فأري" (تك 18 : 20 – 21) وهذا يتأكد أيضا من قول الملاكان "لأننا مهلكان هذا المكان إذ قد عظم صراخهم أمام الرب فأرسلنا الرب لنهلكه" (تك 19 : 13). ومع كون خطايا سدوم وعمورة لها صراخ هكذا إلا أن المدينة التي ترفض رسالة الإنجيل المقدمة بواسطة الرسل خطيتها أعظم من تلك التي كانت لسدوم "الحق أقول لكم: ستكون لأرض سدوم وعمورة يوم الدين حالة أكثر احتمالا مما لتلك المدينة" (مت 10 : 15). ويحدثنا يعقوب أيضا عن صراخ خطية ظلم الفقير وابخاس أجرته "هوذا أجرة الفعلة الذين حصدوا حقولكم المبخوسة منكم تصرخ وصياح الحاصدين قد دخل إلي أذني رب الجنود" (يع 5 : 4)، وذلك لأن وصيته كانت "لا تظلم أجيراً مسكيناً وفقيراً ... في يومه تعطيه أجرته ولا تغرب عليها الشمس لأنه فقير وإليها حامل نفسه لئلا يصرخ عليك إلى الرب فتكون خطية" (تث 24: 14، 15).

4 – علم المسيح أن هناك وصايا لها ثقل في الناموس أكثر من غيرها "وتركتم أثقل الناموس: الحق والإيمان والرحمة" وهذا بالمقابلة مع الوصايا الطقسية الأخري الأقل ثقلا. وهنا لا يريد الرب أن يمتنع اليهود عن تنفيذها ولكن أن يعطوا أولوية لروح الناموس الأدبية المتمثلة في الحق والإيمان والرحمة. وهذا يتأكد أيضا بقول الرب "فمن نقض احدي هذه الوصايا الصغري وعلم الناس هكذا يدعي أصغر في ملكوت السموات. وأما من عمل وعلم فهذا يدعي عظيما في ملكوت السموات" (مت 5 : 19). وبين تلك الوصايا الثقيلة هناك واحدة أكثرهم ثقلا وعظمة "تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك" (مت 22 : 38)، لهذا وصفت عبادة الأوثان بأنها رجاسة (تث 7 : 25). وليس غريب إذا أن يقول موسي فور نزوله من الجبل ورؤيته للشعب يعبد العجل الذهبي عن ذلك أنه "خطية عظيمة" (خر 32 : 21). وإن وجدت وصية أولي وعظمي فلابد أن عدم حفظها يكون أيضا خطية أولي وعظمي.

5 – دينونة إعثار من يؤمنون بالرب ستكون أشد من غيرها من الخطايا، فخطية ابنا عالي الكاهن كانت في نظر الرب "عظيمة جدا" (1 صم 2 : 17) لأنهم جعلوا شعب الرب يستهينون بتقدمة الرب. فكانت النتيجة أن الرب أدب عالي الكاهن تأديبا شديدا وأمات ولديه حفني وفينحاس (31 – 36). وقد علم الرب يسوع المسيح أن دينونة الإنسان الذي تأتي بواسطته العثرة ستكون شديدة "وقال لتلاميذه: لا يمكن إلا وأن تأتي العثرات، ولكن ويل للذي تأتي بواسطته. خير له لو طوق عنقه بحجر رحي وطرح في البحر من أن يعثر أحد هؤلاء الصغار" (لو 17 : 1 – 2). لهذا عزم بولس الرسول في قلبه قائلا "لذلك إن كان طعام يعثر أخي فلن آكل لحما إلي الأبد لئلا أعثر أخي" (1 كو 8 : 13). وكذلك أيضا ستكون دينونة الكتبة والفريسيين الذين أعثروا الدخلاء أقسي من غيرهم إذ يقول الرب يسوع أنهم سيكونون مستحقين لجهنم أكثر من غيرهم "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون. لأنكم تطوفون البحر والبر لتكسبوا دخيلا واحدا، ومتي حصل تصنعونه ابنا لجهنم أكثر منكم مضاعفة" (مت 23 : 15). وقد ذكر الرب في العدد السابق أن الكتبة والفريسيون سيأخذون "دينونة أعظم".

6 – تدرجت العقوبات القضائية في ناموس موسي بحسب شدة الخطية المقترفة، فبينما لم يُطلب من السلطة القضائية أن توقع القضاء علي من يشتهي ما لأخيه سواء كان أمرأته أو بيته أو بهائمه (خر 20 : 17) ، تفاوتت الأخري فيما بينها، فالزني (والذي يشمل الشهوة) مثلا له قضاء بحسب ما شرع موسي "وإذا زني رجل مع إمرأة، فإذا زني مع امرأة قريبه، فإنه يقتل الزاني والزانية" (لا 20 : 10). أما عقوبة السرقة فقد كانت رد أضعاف المسلوب "إذ سرق انسان ثورا أو شاة فذبحه أو باعه يعوض عن الثور بخمسة ثيران وعن الشاة بأربعة من الغنم" (خر 22 : 1). بينما عقوبة كل من ضرب الأب والأم والخطف فقد كانتا القتل "ومن ضرب أباه وأمه يقتل قتلا. ومن سرق إنسانا وباعه أو وجد في يده يقتل قتلا" (خر 21 : 16 – 17). وكذلك كانت عقوبة خطايا الشذوذ الجنسي فقد وصفت بأوصاف تدل علي جسامتها، فالشذوذ الجنسي هو "رجس" بحسب قوله "ولا تضاجع ذكرا مضاجعة امرأة. انه رجس" (لا 18 : 22)، لذلك كانت العقوبة "وإذا اضطجع رجل مع ذكر اضطجاع امرأة، فقد فعلا كلاهما رجسا. إنهما يقتلان. دمهما عليهما" (لا 20 : 13). ومضاجعة البهائم نعتت بأنها "فاحشة" إذ يقول "ولا تجعل مع بهيمة مضجعك فتتنجس بها. ولا تقف امرأة أمام بهيمة لنزائها. إنه فاحشة". (لا 18 : 23)، لهذا كان القصاص "وإذا جعل رجل مضجعه مع بهيمة فإنه يقتل والبهيمة تميتونها. وإذا اقتربت امرأة إلي بهيمة لنزائها، تميت المرأة والبهيمة. إنهما يقتلان. دمهما عليهما" (لا 20 : 15 – 16). في حين أنه في نفس الأصحاح (لا 20) ذكرت خطايا أخري أقل وطأة من ذلك علي أنها "رذيلة" ، والبعض الآخر "نجاسة".

7 – كقاعدة عامة فإن الزرع يتناسب مع الحصاد، والتأديب يكون متساوقا مع الإثم المجترح، ولكن قد يسمح الله في سلطانه لرحمته أن تتدخل فلا يجاز عبيده بحسب آثامهم. ويتأكد لنا هذا من قول صوفر "الله يغرمك بأقل من اثمك" (أي 11 : 6) بمعني أن الله لا يعاملنا بحسب ما تستوجب خطايانا من دينونة ولكنه يترأف علينا إذ يعاقبنا بأقل مما يستحق إثمنا، كما يقول المرنم أيضا "لم يصنع معنا حسب خطايانا ولم يجازنا حسب آثامنا" (مز 103 : 10)، ويقول عزرا أخيرا "وبعد كل ما جاء علينا لأجل أعمالنا الرديئة وآثامنا العظيمة، لأنك قد جازيتنا يا إلهنا أقل من آثامنا وأعطيتنا نجاة كهذه" (عز 9 : 13). كل الشواهد السابقة تشير إلي أن الله يزن تأديبه لشعبه وأولاده بما يتناسب مع شرورهم مما يعني أن الخطية في نظره تتدرج بحسب فداحتها، ومع ذلك وفي أوقات كثيرة يؤدبنا الرب أقل بكثير مما نستأهل وفي هذا أيضا فإنه يزن تأديبه ويجعل كفته أخف بكثير من كفة آثامنا.

8 – وإن كان الله كثيرا ما لا يجازي حسب فداحة الآثام نظرا لتدخل مراحمه، فإنه علي عكس المبدأ السابق فقد يري أن خطايا بعينها لا يمكن أن تغفر، الأمر الذي يدل علي أن لتلك الخطايا وزرها وغلاظتها. والخطية التي لا تغفر زمنيا وأبديا هي التجديف علي الروح القدس، ونري أن تلك الخطية لا يمكن أن تحدث الآن بل كانت خاصة فقط باليهود الذين عاصروا الرب يسوع وروأ معجزاته ونسبوها لبعلزبول رئيس الشياطين إذ قالوا "أنه ببعلزبول يخرج الشيطاين" فمن ثم جاء هذا القول للرب يسوع كرد علي اتهامهم له "لذلك أقول لكم كل خطية وتجديف يغفر للناس وأما التجديف علي الروح القدس فلن يغفر للناس" في حين أن الوضع مختلف بخصوص التجديف علي ابن الإنسان "ومن قال كلمة علي ابن الإنسان يغفر له وأما من قال علي الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي" (مت 12 : 31 – 32). وذكر بولس أيضا أن هناك فئة من الخطاة بعينهم لا يرثون ملكوت الله حتي ولو اعترفوا بأنهم مؤمنين "أم لستم تعلمون أن الظالمين لا يرثون ملكوت الله؟ لا تضلوا: لا زناة ولا عبدة أوثان ولا فاسقون ولا مأبونون ولا مضاجعوا ذكور يرثون ملكوت الله" (1 كو 6 : 9 – 1).

علي أنه قد تغفر احدي الخطايا في السماء ولا تغفر علي الأرض فيميت الرب من يقترفها (لاحظ قول الرب: فلن يغفر له في هذا العالم ولا في الآتي)، لذلك علم يوحنا الرسول بأنه "توجد خطية للموت .. وتوجد خطية ليست للموت" (1 يو 5 : 16 – 17)، وبالتالي فلا فائدة للصلاة من أجل أولئك الذين يمرضون للموت كما تقول نفس تلك القرينة الكتابية. والخطية التي تستوجب الموت يحددها الله في سلطانه، مثلما حدث مع حنانيا وسفيرة (أع 5)، ومثل الأخ الكورنثي المستبيح الذي كان يزني مع أمرأة أبيه فحكم الرسول بأن "يسلم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم يسوع المسيح" (1 كو 5 : 5)، ومثل أولئك الذين استخفوا بمائدة الرب فكانت النتيجة أنه كان بينهم "كثيرون ضعفاء ومرضي وكثيرون يرقدون" (1 كو 11 : 30). وبالمناسبة فإن العدد الأخير يدل علي التدرج في التأديب لدي الرب بحسب ما يري أن الحالة تقتضي.

9 – وهناك ظروف معينة متي توافرت في الخطية تزيد من جسامتها، كمعرفة من يرتكبها بالجرم الذي يرتكبه ويصر عليها "أولئك يكونون بين المتمردين علي النور" (أي 24 : 13)، وهذا ما حدث فعلا مع بيلاطس الذي كان متيقنا من براءة الرب يسوع المسيح وأن رؤساء اليهود أسلموه حسدا إذ شهد قائلا "إني برئ من دم هذا البار"، ناهيك عن التحذير الذي أرسل له من زوجته "إياك وذلك البار لأني تألمت اليوم كثيرا في حلم من أجله"، وهو نفسه قد اعترف أنه لم يجد فيه علة مما يشتكون به عليه. لهذا صارحه الرب بحقيقة تصلفه وعناده مع النور قائلا "لذلك الذي أسلمني إليك له خطية أعظم" (يو 19 : 11)، والرب هنا يقصد اليهود الذين أسلموه إلي بيلاطس، ومع كون إثمه هو عظيم إلا أن إثم رؤساء الكهنة الذين أسلموه إليه كان أعظم، لأنهم كانوا يعرفون النبوات والأوقات وكانت لديهم شهادة بره ومعجزاته وشهادة المعمدان ولأنهم حقدوا عليه بشدة ودبروا له المكائد لكي يميتوه. ومن هذا المنطلق فإن المسيحيين الذين لديهم نور الروح القدس في داخلهم ونور الكلمة خارجهم والإمكانات الروحية الكثيرة المتاحة لهم في شخص المسيح وكل الوعظ الذي سمعوه تكون خطاياهم عظيمة في نظر الله. "فإنه إن أخطأنا باختيارنا بعدما أخذنا معرفة الحق، لا تبقي بعد ذبيحة عن الخطايا" (عب 10 : 26). ويقول أيضا "وأما ذلك العبد الذي يعلم ارادة سيده ولا يستعد ولا يفعل حسب ارادته، فيضرب كثيرا. ولكن الذي لا يعلم ويفعل ما يستحق ضربات يضرب قليلا" (لو 12 : 47 – 48). يا لها من حقيقة مرعبة!!

10 – وأخيرا فقد ميز العهد الجديد بين بعض الخطايا التي تؤثر أكثر من غيرها علي الجسد. فاللسان مع كونه عضو صغير إلا أن الرسول يعقوب يقول عنه "فاللسان نار. عالم الإثم. هكذا جعل في أعضاءنا اللسان، الذي يدنس الجسم كله، ويضرم دائرة الكون، ويضرم من جهنم" (يع 3 : 6). كما أن خطية الزني مع كونها مثل باقي الخطايا خارجة عن الجسد إلا أنها الوحيدة التي تعتبر خطيئة إلي الجسد ذاته "اهربوا من الزنا. كل خطية يفعلها الإنسان هي خارجة عن الجسد، لكن الذي يزني يخطئ إلي جسده" (1 كو 6 : 18). فهي تجلب عليه الأمراض وتهدر طاقته، وقبل كل هذه تشوه الوحدة مع الرب، فإن من التصق بالرب فهو روح واحد، ولكن من التصق بزانية فهو جسد واحد معها. فكيف يمكن للخطايا أن تتساوي إن كانت تأثيراتها تتفاوت؟ فليحفظنا الرب من هذا الفكر الغير كتابي!!

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس