هل قاوم لوثر وكالفن عالم الفضاء كوبرنيكوس؟


ينسب البعض إلي كل من لوثر وكالفن أنهما قاوما العلم متمثلا في كوبرنكيوس ونظريته الخاصة بمركزية الشمس. وأنهما فعلا ذلك مدفوعين بإيمانهما بأن الكتاب المقدس يعلم بمركزية الأرض وثباتها وأن الشمس والنجوم هي التي تدور حولها. ولكن ما هي حقيقة هذا الإدعاء؟ هل حقا قاوما كالفن ولوثر عالم الفضاء كوبرنيكوس أم أنها مجرد إدعاءات تنسب لهم؟

لوثر والعلم

بحسب ما ذكره البروفسير المسيحي دونالد هـ. كوب أستاذ الفيزياء بجامعات أوروبية وأمريكية (وسنقتبس منه الكثير هنا) فإن المفارقة الغريبة التي لا نسمع عنها كثيرا هو أن لوثر دُعي كوبرينيكوس اللاهوت، وكوبرنيكوس دُعي لوثر العلم. [1] كان لوثر دكتورا في اللاهوت، ودرس المنطق وعلم النفس وعلم الفلك الكروي والميتافيزيقا والرياضيات وعلم الحساب، وكان مطلعا بصورة جيدة علي نظريات الموسيقي والمنظور والفلسفة الطبيعية والأخلاقية والسياسة والإقتصاد.

كان يقدر الإختراعات الميكانيكية في عصره، ورأي أنه لا غبار في استخدام الطب "إنه الرب الإله الذي خلق كل الأشياء وهي صالحة. فمن المسموح إستخدام الطب لأنه خليقة لله". أقر بعلم الفضاء إلا أنه رفض علم التنجيم، وأبدي قلقه من اهتمام ميلانكثون صديقه بهذا العلم. وكان مستعدا أيضا لقبول ما توصل إليه علماء الفضاء من أن القمر أصغر وأدني النجوم. ولم يري أن ذلك يتعارض مع قول الكتاب بأن "الشمس والقمر نورين عظيمين"، إذ أرجعه إلي أن الكتاب المقدس يتحدث عن الظاهرة كما تبدو للعين المجردة.

آمن لوثر بأن العالم علي أعتاب مرحة جديدة، ليس فقط من التغيير الديني، ولكن من التقدير للطبيعة، جاء في "حديث المائدة" (وهي أحاديث لوثر مع تلاميذه علي مائدة العشاء في بيته) يقول "نحن علي أعتاب فجر جديد، لأننا بدءنا في استعادة المعرفة الخارجية للعالم التي فُقدت في آدم. فنحن نرصد المخلوقات الآن بصورة صحيحة. ولكن بنعمة الله فنحن بالفعل ندرك عجائب الصلاح الإلهي والقدرة في أرق زهرة".

لوثر وكوبرنيكوس

ما جاء في حديث المائدة في الرابع من يونيو عام 1539 كان الآتي:

"يُذكر أن منجم أراد إثبات أن الأرض تتحرك، وليس السماء والشمس والقمر. كما لو أن هناك شخص راكبا علي عربة (تجرها حيوانات) وتخيل أنه واقفا في مكانه بينما الأرض والأشجار هي التي تتحرك. فقال لوثر: وهذا ما يحدث الآن. كل من يريد أن يكون حكيما الآن لابد أن يفعل شيئا من إختراعه. هذا ما يريد هذا الشخص فعله إذ يرغب في قلب علم الفضاء رأسا علي عقب .. أنا أؤمن بالكتب المقدسة، فيشوع أمر الشمس أن تقف وليس الأرض".

ولنا علي قول لوثر عدة ملاحظات:

أولا هذا الكلام قيل قبل طباعة كتاب كوبرنيكوس 1543، أي أن هناك فرق أربعة سنوات بين ما قاله لوثر ثم صدور كتاب كوبرنيكوس بعد ذلك. إلا أن لوثر سمع عن ذلك حتي قبل صدور الكتاب، لأن آراء كوبرنيكوس كانت تذاع بكثرة في الثلاثينات من القرن السادس عشر. وقام أحد تلاميذ لوثر بتسجيل تعليقه علي ذلك أثناء العشاء وسمي بحديث المائدة وقد طبع عام 1566 بعد عشرون سنة من وفاة لوثر. ثانيا: لفظة علم التنجيم كانت تستخدم بالتساوي مع علم الفضاء في وقتها ولم يقصد بها الحط من قدر كوبرنيكوس. ثالثا: هناك تلميذ آخر قام بتسجيل ما ذكره لوثر بطريقة مختلفة "هذا المغفل يرغب في قلب علم الفضاء". هذه النسخة هي الأكثر إنتشارا إلا أن الباحثون يشكون في صحتها. رابعا: لوثر لم يذكر كوبرنيكوس بالإسم صراحة. وحتي لو فإن هذا يعتبر لفظا عاديا بالنسبة للغة القاسية التي استعملها لوثر في بعض الأحيان. فلم تكن إذا تصريحات لوثر هنا حملة منظمة ضد كوبرنيكوس بأي حال من الأحوال بل مجرد ملاحظات عفوية علي العشاء، لم يسمع عنها العالم سوي بعد عشرين سنة من وفاته. وتصريحات لوثر العفوية هذه اكتسبت سوء السمعة تلك – علي غير حق طبعا – بعد أن قام أول عميد لجامعة كورنيل أندرو ديكسون وايت بصقلها ونشرها في كتابه "تأريخ الصراع بين العلم واللاهوت في المسيحية".

كان السبب في اعتراض لوثر علي نظرية كوبرنيكوس هو أن الأخير كان يتحدي الرسوخ والحس العام السائد في يومه، وأنه لم يكن يوجد دليلا صلبا علي صحة النظرية الكوبرنيكية. فالشخص في تلك العربة هو في حالة من السكون بالنسبة للعربة، بينما يكون الشجر في حالة من الحركة بالنسبة له.

ماذا عن أتباع لوثر؟

يوهانس كيبلر عالم الفضاء الذي صاغ قوانين حركة الكواكب واكتشف أن الكواكب تدور في مدارات بيضاوية الشكل كان لوثريا تقيا ولم يري تعارضا بين اللوثرية والكتاب المقدس. علي العكس، وجد أمر يشوع للشمس بأن تقف (يش 10 : 12 – 13 ) يمكن شرحه بما يسمي باللغة الظاهراتية للكتاب المقدس، أي أن الكتاب المقدس يتحدث بلغة الظاهرة كما تبدو للعين، مستخدما بذلك مبادئ التفسير اللوثرية، فالشمس بدت أنها وقفت، إلا أنها في الحقيقة كانت الأرض. أما عن القول بأن ميلانكثون تلميذ لوثر قاوم النظرية الكوبرنيكية عندما خلف لوثر في رئاسته لجامعة ويتنبرج، فهو غير صحيح ولا يوجد دليل عليه. علي العكس من ذلك فإن ميلاكنثون غير رأيه عندما علم أن نظرية كوبرنيكوس قد تكون صحيحة.

جون كالفن

ذكر وايت أيضا أنه في نفس الوقت الذي هاجم فيه لوثر اكتشاف كوبرنيكوس حول حركة الأرض كان هناك أيضا من المصلحين من قام بهجوما آخر: كالفن. وهذا نص ما قاله وايت "بينما أدانت اللوثرية حركة الأرض، كان هناك أيضا أفرع من الكنيسة البروتستانتية لم تتواني عن فعل ذلك. فأخذ كالفن المبادرة في تفسيره لسفر التكوين وأدان كل الذين أكدوا علي أن الأرض ليست مركز الكون. وحسم المسألة بالإقتباس المعتاد بالآية الأولي من المزمور التاسع والثلاثون وتساءل: من يجرأ علي أن يضع سلطة كوبرنيكوس فوق سلطة الروح القدس"؟

بحسب ما ذكر اللاهوتي كيث ماثيسون، فمع أن كالفن ذكر في عظة له تعليقا علي الأصحاحين العاشر والحادي عشر من كورنثوس الأولي ما يدل علي أنه كان يؤمن بمركزية الأرض وذلك في قوله: "من يقول أن الشمس لا تتحرك وأن الأرض هي التي تتحرك وتدور؟"، إلا أن كالفن لم يهاجم كوبرنيكوس إطلاقا ولم يستعمل أية آيات كتابية في الهجوم علي مركزية الشمس. ولا يوجد أي دليل علي أن كالفن هاجم كوبرنيكوس. ولكن ما حدث هو أنه تم نسبة هذه العبارة بصورة خاطئة بواسطة باحثون مثل برتراند راسل وتوماس كون إلي كالفن بدون أي إشارة أو مراجع إلي المكان الذي قالها فيه. [2]

اكتشافات كوبرنيكوس لم تحظي بالقبول إلا بعد اكتشافات جاليليو (1564–1642) ، وبعد صياغة قوانين حركة الكواكب بواسطة يوهانس كيبلر (1571–1630)، وبعد الشرح الفيزيائي للحركة الكوكبية بالنسبة للقصور الذاتي والجاذبية بواسطة اسحق نيوتن (1642–1727). اكتشافات كوبرنيكوس لم تُقبل بين ليلة وضحاها بل أخذت وقتا طويلا. ليس لأن الكنيسة قاومتها بل لأن الدليل حينها لم يكن كاملا.

مركزية الأرض هي فكرة بطلمية في الأساس، علم بها بطليموس قبل الميلاد وظلت سائدة في الكنيسة طيلة خمسة عشر قرنا.

جاليليو

يُشاع أن الكنيسة سجنت جاليليو لمناداته بمركزية الشمس. وهذا غير صحيح إذ يقول توماس شيرماكر اللاهوتي والفيلسوف المسيحي والباحث في علم الاجتماع الديني في مقال له بعنوان "مسألة جاليليو" أن هذا الأخير لم يلام لانتقاده الكتاب المقدس ولكن لعصيانه للأوامر البابوية. وأنه كان ضحية عجرفته وغيرة زملائه وسياسة البابا أوربان الثامن Urban VIII. بل علي العكس مما هو شائع عن جاليليو فقد كان مؤمنا بالكتاب المقدس وحاول اثبات أن النظرية الكوبرنيكية متوافقة مع كلمة الله. [3]

بالإضافة إلي ذلك يقول الدكتور العالم جوناثان سارفاتي في كتابه Refuting Evolution في الفصل السابع بعنوان "علم الفلك" أن أول من عارض جاليليو في دفاعه عن مركزية الشمس كانت المؤسسة العلمية نفسها. فالنظام العلمي البطلمي المكرس بشدة إلي فكرة مركزية الأرض هو الذي كان سائدا إلي الثورة الكوبرنيكية. وذكر أيضا عن مصادر أخري أن أكثر من حارب جاليليو هم الطلبة الأرسطيين بالجامعات ، إذ أن فكرة مركزية الشمس التي نادي بها كوبرنيكوس ودافع عنها جاليليو هددت سلطانهم العلمي. ضف إلي ذلك أن النظام اليسوعي بكونه أعلي هيئة ثقافية وعلمية بالكنيسة الكاثوليكية لم يحارب نظرية مركزية الشمس بل بحثوا بها أكثر وكانوا يعلمونها بالصين بعد خمسون سنة. [4]

ما هي اللغة الظاهراتية للكتاب المقدس؟

أما عن حديث الكتاب المقدس عن غروب وشروق الشمس فلا يمكن اعتباره مصادقة علي نظرية مركزية الأرض التي ضحدتها الإكتشافات العلمية في مطلع عصر النهضة وخاصة علي يد كوبرنيكوس وجاليليو. ولكن ذكر الكتاب المقدس لغروب أو شروق الشمس هو رصد للظاهرة كما تبدو للعين المجردة، وهو ما يعرف باللغة الظاهراتية للكتاب المقدس Phenomenological Language . وهذا أيضا ما يفعله خبراء الأرصاد الذين هم علي دراية تامة بنظرية مركزية الشمس عندما يقولون لنا في النشرات الجوية عن مواعيد شروق الشمس وغروبها. وإلا فهل يمكن أن نقول أن خبراء الأرصاد لا زالوا يؤمنون بالنظرية البطلمية القائلة بمركزية الأرض وأن الشمس هي التي تدور حولها؟ قطعا لا! ولكنهم يفعلون نفس ما فعله الكتاب المقدس فقط بالحديث عن الظاهرة كما تبدو لنا. [5]

وأخيرا نختم بما قاله الفيلسوف الأمريكي إدوين بيرت (نقلا عن دونالد كوب):

"من السليم أن نقول أنه حتي لو لم يوجد هناك وازع ديني ضد العلم الكوبرنيكي، فإن عقلاء أوروبا، ولا سيما ذوي التوجه التجريبي، لكانوا قد دعوا ذلك دعوة جامحة لقبول ثمار غير ناضجة لخيال جامح .. لو كان العلماء التجريبيين المعاصرين قد عاشوا في القرن السادس عشر لكانوا أول من سخروا من العلم الجديد للكون (ويقصد ما نادي به علماء مثل كوبرنيكوس في ذلك الوقت)"



[1] Luther and Science by Donald H. Kobe (professor of physics at the University of North Texas)

[2] Luther, Calvin, and Copernicus — A Reformed Approach to Science and Scripture by Keith Mathison

[3] The Galileo affair: history or heroic hagiography? By by Thomas Schirrmacher

[4] Refuting Evolution—Chapter 7 By Jonathan Sarfati
http://creation.com/refuting-evolution-chapter-7-astronomy

[5] Knowing Scriptures by R. C. Sproul, page 81 – 82

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس