تساؤلات حول قابلية الرب يسوع المسيح للخطأ


هل كان يمكن أن يخطئ المسيح؟ لكي نجيب عن هذا السؤال يلزمنا أن نجيب عن عدة أسئلة أخري. أولا: هل كانت تجربة الرب يسوع المسيح بغرض إثبات محبته لله وثقته فيه، أم بغرض إثبات كفاءته كمُخَلِّص؟ ثانيا: هل إجتاز الرب يسوع المسيح التجربة بإعتباره إنسان فقط، أم بإعتباره إنسان وإله معا؟ ثالثا: هل هناك فرق بين القدرة الطبيعية لصناعة القرار، وبين القدرة الأدبية علي إرتكاب الشر؟ إجابتنا علي هذه الأسئلة الثلاثة ستحدد إجابة السؤال الأول.

ولنبدأ في معالجة هذه الأسئلة الواحد تلو الآخر. أولا هل كانت تجربة الرب يسوع المسيح بغرض إثبات محبته لله وثقته فيه، أم بغرض إثبات أهليته كمُخَلّص؟ الفرق بين الإثنين هو الدافع الذي إجتاز من أجله الرب يسوع المسيح التجربة بالمقارنة مع آدم. فهذا الأخير وُضِعَ تحت الإختبار من الله في جنة عدن ليمتحنه في طاعته ومن ثم محبته وثقته فيه. إلا أن الأمر كان مختلفا بالنسبة للرب يسوع. يقول الرب يسوع المسيح: "كما أن الآب يعرفني وأنا أعرف الآب. وأنا أضع نفسي عن الخراف" (يو 10 : 15). هذه المعرفة الأقنومية العميقة التي لا نستطيع سبر غورها بين الآب والإبن تحتم علينا القول أن الرب يسوع المسيح عندما إجتاز تجربته في البرية كان الآب السماوي يعرف مطلق المعرفة محبة الإبن وثقته وخضوعه. وأن هذه المعرفة الأقنومية المتبادلة بين الآب والإبن تجعلنا نقول أيضا أن الإبن نفسه كان يعرف جيدا ثقته ومحبته وطاعته المطلقة للآب. كما أن أقنوم الإبن لم يكن مضطرا أن يكون تحت وصية واختبار مثل آدم في جنة عدن. بل أخلي نفسه من تلقاء نفسه وجاء إلي الأرض وارتضي أن يكون تحت الناموس. كان الإنسان–الإله يسوع المسيح تحت الناموس. "ولما جاء ملء الزمان أرسل الله إبنه مولودا من إمرأة، مولودا تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس، لننال التبني" (غل 4 : 4 – 5).

وإن لم تكن تجربة الرب يسوع المسيح بغرض إختباره كشخص؟ فما كان غرضها إذا؟ كان غرض تجربة الرب يسوع المسيح في البرية هو إثبات كفاءته كمُخَلِّص. وذلك لأننا نعلم أنه كشخص، وكأقنوم إلهي، لم يكن أبدا تحت الفحص أو الإختبار لذاته هو. بل إختباره جاء في إطار إرساليته إلي العالم ليكون المخلص. يقول كاتب العبرانيين: "لأنه لاق بذاك الذي من أجله الكل وبه الكل، وهو آت بأبناء كثيرين إلي المجد، أن يُكَمِّل رئيس خلاصهم بالآلام" (عب 2 : 10). فالمسيح هنا خضع لتكميله بالآلام ليكون رئيس خلاصنا. وهكذا فقد كانت التجارب الأدبية للرب يسوع المسيح لتكميله كرئيس الخلاص وليس لإظهار حقيقة محبته وطاعته لله كما كان الحال مع آدم. وفي هذا يقول آثر بينك: "ألم تكن إنسانية المسيح مخلوقة؟ نعم، ولكنها لم توضع أبدا تحت الإختبار، فلم يكن لها وجودا مستقلا أبدا. من اللحظة الأولي للحَمْل بها في رحم العذراء، فقد أُخِذَتْ إنسانية المسيح في إتحاد بألوهيته، وبهذا فلم يكن ليخطئ". ]1[ مجرد خضوع الرب يسوع المسيح للتجارب في حد ذاته تطلب إتضاعا من الرب يسوع، الإقنوم الثاني. تخيل أن الخالق عُومِلَ كالمخلوق الذي تحت الوصاية والإختبار!

السؤال الثاني الذي علينا أن نجيب عليه هنا هو: هل إجتاز الرب يسوع المسيح التجربة بإعتباره إنسان فقط، أم بإعتباره إنسان وإله معا؟ طبعا اللاهوت لا يُجِرِّب ولا يُجَرَّب أدبيا (يع 1 : 13). الناسوت فقط هو الذي يُجَرَّب. ونفترض جدلا كما قال واين جرودم، أن طبيعة الرب يسوع المسيح البشرية وُجِدَتْ وحدها دون طبيعته الإلهية، هل كان من الممكن أن يخطئ المسيح؟ نعم، لكن طبيعة الرب يسوع المسيح البشرية لم توجد لحظة واحدة (منذ الحمل بها في رحم العذراء) بمعزل عن طبيعته اللاهوتية. ومع أن ناسوت الرب يسوع المسيح هو الذي جُرِّب، إلا أن من جُرِّب أيضا كان هو "الله–الإنسان" يسوع المسيح. تماما مثل القول أنه مع أن الناسوت هو الذي تألم ومات، إلا أن من مات هو الله–الإنسان. لهذا مع إعتراف جرودم أنه في حالة أن وجدت الطبيعة البشرية وحدها (وهذا إفتراض محض) كانت ستكون غير معصومة، أي قابلة للخطأ، إلا أنه يستنتج في نهاية المطاف أن إتحاد اللاهوت بالناسوت يجعل من الغير وارد أبدا أن المسيح كانت لديه قابلية للخطأ: "لذلك، إن كنا نتساءل، إذا كان حقا من الممكن ليسوع أن يخطئ، يبدو أننا لابد أن نستنتج أن ذلك لم يكن ممكنا. إتحاد الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية في شخصه الواحد منع تلك الإمكانية". ]2[

المشكلة في الإدعاء بأن المسيح كان يمكن أن يخطئ هو أنه يركز علي الطبيعة البشرية وحدها. ولكن الصحيح هو التعامل مع "الشخص الواحد" يسوع المسيح الله–الإنسان The God-Man . والقول بغير ذلك هو نسطورية. الإفتراض بأن المسيح كان قابل للخطأ لأنه إنسان مثلنا (أو مثل آدم) يؤدي إلي تجزءة لشخص الرب يسوع المسيح الواحد وفصل طبيعتيه المتحدتان مع بعضهما البعض إتحادا أبديا. وهو ليس سوي إغفال لكونه الله الظاهر في الجسد الذي ما كان ليخطئ أبدا. أما القول أن المسيح إجتاز التجربة بإعتباره الله–الإنسان يمنعنا من القول أنه كان يمكن أن يخطئ، لأنه يركز لا علي طبيعته اللاهوتية فقط، ولا علي طبيعته البشرية فقط بحجة أنه إنسان مثلنا، بل يأخذ في الإعتبار كلا الطبيعتين. ويبقي السؤال: هل واجه الرب يسوع المسيح التجربة في البرية بإعتباره الإنسان يسوع المسيح فقط أم بإعتباره "الله–الإنسان يسوع المسيح"؟

يقول آر. سي. سبرول "أعتقد بما أن المسيح كان إنسان بالكامل، كان من الممكن له أن يُخْطِئ".[3] ولكني أختلف مع سبرول في هذا إختلاف التلميذ مع معلمه الذي يكن له الإحترام ويعترف بفضله في الكثير مما تعلمه. وعدم إتفاقي مع سبرول هو أنه يتعامل مع القضية ليس من منظور إتحاد اللاهوت بالناسوت، لا كالله–الإنسان يسوع المسيح، بل كالإنسان يسوع فقط. ونحن نتفق مع سبرول في أن طبيعة الرب يسوع المسيح البشرية كانت محايدة أدبيا كما كان آدم قبل سقوطه. ويشرح سبرول ذلك بأن الرب يسوع المسيح كان لديه ما أسماه أغسطينوس "القدرة علي الخطأ" (posse peccare) و"القدرة علي عدم الخطأ" (posse non peccare) اللتان كانتا لآدم قبل أن يسقط. ثم يقول سبرول أن "الشيطان لم يكن يحاول أن يجعل الله يخطئ. لقد كان يحاول أن يجعل طبيعة المسيح أن تخطئ، حتي لا يصير مؤهلا لأن يكون المخلص". ولست أعلم ما إذا كان الشيطان نسطوريا أم لا بتعامله مع ناسوت المسيح فقط. ولكن دون أدني شك كان الشيطان يتعامل مع "الله–الإنسان" يسوع المسيح، سواء أدرك أو لم يدرك، وسواء رضي بذلك أم لم يرضي. وإن جاز لي أيضا أن أستعمل لغة أغسطينية، أقول أن إتحاد اللاهوت بالناسوت في شخص الرب يسوع المسيح جعله يكون "غير قادر أن يخطئ" (non posse peccare). لاحظ في التعبير اللاتيني الأخير كيف جاء النفي قبل مصطلح القدرة "غير قادر". طبعا لا أحد يختلف علي أن الطبيعة الإلهية للرب يسوع المسيح لم تعضد الطبيعة البشرية أثناء إجتياز التجربة. بمعني أن الرب يسوع المسيح لم ينجح في التجربة لأن طبيعته الإلهية ساعدت طبيعته البشرية، ولكن لأن الناسوت في حد ذاته كان كفوا لمجابهة التجربة دون تعضيد من اللاهوت. إلا أنه لم يكن ممكنا بأي حال من الأحول أن يكون هناك إمكانية بأن يخطئ الرب يسوع المسيح الذي كان (ولا يزال) لاهوته متحدا بناسوته. وإذا كان قصد سبرول من عبارته "أنه من الخطأ الإعتقاد بأن طبيعة المسيح الإلهية جعلت من المستحيل لطبيعته البشرية أن تخطئ" هو أن اللاهوت لم يعضد الناسوت في التجربة، فنحن نتفق معه في ذلك. أما إذا كان قصده أن الرب يسوع المسيح كان سيظل غير معصوم حتي مع إتحاد اللاهوت بالناسوت، ففي هذا نختلف معه جذريا. ويؤكد أيضا جرودم هذا الأمر: "القوة الأدبية لطبيعته الإلهية كانت هناك كنوع من 'المُسَانَدَة الخلفية' التي كانت ستمنعه من الخطأ في أي حالة (وعليه فنحن نستنتج أنه لم يكن ممكنا أن يخطئ) إلا أنه لم يتكل علي قوة طبيعته الإلهية لِتُسَهِّل له مواجهة التجارب .."

وهذا يأت بنا إلي السؤال الثالث: هل هناك فرق بين القدرة الطبيعية لصناعة القرار وبين القدرة الأدبية علي إرتكاب الشر؟ نعم، والفارق بين الإثنين كبير. ما نقصده بالقدرة الطبيعية هنا وجود الأدوات الرئيسية التي تمكن الإنسان من إتخاذ قرار، مثل الوعي والإرادة والعاطفة. وما نقصده بالإرادة الأدبية، هو ما إذا كانت تلك الأمور المحايدة (الوعي والإرادة والعاطفة) تستطيع إرتكاب الشر من عدمه. الإنسان الطبيعي (الغير مجدد)، بحسب التقليد المصلح، يمتلك إرادة طبيعية تمكنه من أن يحب ويكرم ويتفاعل مع من حوله، إلا أنه لا يريد، بل ولا يستطيع، أن يحب الله ويكرمه ويتفاعل معه. فالإنسان الطبيعي لا يقدر أن يفعل الصلاح، لأنه لا يريد: "ليس من يعمل صلاحا، ليس ولا واحد"، لماذا؟ لأنه "ليس من يفهم، ليس من يطلب الله" (رو 3 : 11). العكس صحيح بالنسبة للمسيح. فهو يمتلك القدرة الطبيعية علي صناعة القرار بأن يتفاعل ويرغب ويذهب ويجئ، إلا أنه لا ليس لديه القدرة الأدبية علي الخطأ. الإنسان الطبيعي ليس لديه قدرة علي فعل البر، الرب يسوع المسيح ليس لديه قدرة علي فعل الشر. ولكن كلاهما لديه القدرات والمقومات الطبيعية لإتخاذ القرار. وإتجاه القرار يختلف بحسب نوع القدرة الأدبية. يؤكد جون بايبر ما نقوله هنا: "يوجد قدرة طبيعية، والتي لابد أن يمتلكها [المسيح] حتي يكون مسؤولا وإنسانا ، وقدرة أدبية، والتي لم يمتلكها". ]4[

والسبب في أن الرب يسوع المسيح لم تكن لديه القدرة الأدبية علي الخطأ هو كونه الله–الإنسان. إتحاد طبيعته اللاهوتية بطبيعته البشرية جعل من المستحيل له أن يخطئ. إذ كيف يخطئ الله؟ إلا إذ إنفصل فيه اللاهوت عن الناسوت. وحاشا له، فلاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة، حتي في موته ثلاثة أيام وثلاثة ليال، بل ظل اللاهوت متحدا بالجسد الراقد في القبر. ولم يري ذلك الجسد الطاهر فسادا. فإن كان من غير الممكن أن يفسد الجسد لسبب إتحاد اللاهوت به، فكيف كان من الممكن أن يخطأ المسيح الذي كان لاهوته متحدا بناسوته إتحادا تسمو طبيعته عن العقول؟

ملاحظات ختامية

هناك بعض الحجج الأخري القيمة التي يمكن أن تعزز تعليم العصمة، مثل القول أنه لو كان من الممكن أن يخطئ الرب يسوع المسيح أثناء وجوده علي الأرض، فما الذي يمنعه الآن؟ وإن كان هناك ما يمنعه الآن، إذا فهناك شئ قد تغير فيه. ولكن حاشاه فهو هو "أمس واليوم وإلي الأبد". وهذه الحجة تأخذ في إعتبارها أيضا كونه الله–الإنسان. فلاهوته (المتحد بناسوته) يمنعه من أن يتغير.

كل هذا لا يمنع أن التجارب التي تعرض لها الرب يسوع المسيح كانت حقيقية وليست تمثيلية. فقوة الشخص (أو الجيش) الذي يتعرض لهجوم لا تعني أن الهجمة التي تعرض لها غير حقيقية. أما كيف نصالح بين عصمة الرب يسوع المسيح كالله الظاهر في الجسد وبين واقعية التجربة وشراستها وضراوتها فهذا سر لا نعلمه. وهذا بحثا آخر في حد ذاته، لكن يكفينا هنا أن نؤكد علي عدم قابليته للخطأ.

نريد أن نتحفظ هنا علي قول جون فريم بأن "المسيح صارع، إلا أنه لم يُذْعِن للخطية". ]5[ وذلك لأن الصراع يأتي نتيجة تنازع الرغبات. ولا يوجد في الكتاب المقدس ما يدل أبدا علي أن المسيح صارع أمام تجربة أدبية. ففي تجربته علي الجبل نقرأ عن حسمه وحزمه الشديد في مواجهة الهجمات الشيطانية. دون تردد أو خوف أو تشكك. أما في صراعه في جثسيماني فأري أن لم يكن لوجود رغبات متنازعه فيه، حاشا له، ولكن لأنه – جل إسمه – لم يكن ليتخيل أبدا أنه ستأتي عليه ساعة يحتجب فها وجه الآب الكريم عنه، بل إنه سيختبر غضبه المريع في ساعات الظلمة الحالكة المقبلة. وقول الرب "يا أبتاه، إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس، ولكن كما أريد أنا بل كما تريد أنت" (26 : 39) يؤكد لنا أنه لم يكن يريد الكأس، أي كأس الغضب، وإحتجاب وجه الآب عنه، لكنه في النهاية يريد ما يريده الآب.

بالرغم أننا لا نستطيع أن نشكك في نوايا من ينادون بأن الرب يسوع المسيح كان قابلا للخطأ، وأنهم يفعلون ذلك بغرض التأكيد علي بشرية الرب يسوع المسيح الحقة، والتحصن ضد أي شبهة دوسيتية يمنكها أن تلمح من بعيد أو قريب بأن الرب يسوع المسيح لم يكن مثلنا في بشريته (فيما خلا الخطية)، إلا أنهم يفعلون ذلك علي حساب إتحاد اللاهوت بالناسوت. ونكرر مرة أخري، نحن نقول أن الرب يسوع المسيح كان غير قادر علي الخطأ، ليس أن طبيعته اللاهوتية هي التي جعلته ينتصر علي التجارب، أو أنها أمدت طبيعته البشرية بقوة خارقة، لا فهذا لم يحدث، ولكن لأن إتحاد اللاهوت بالناسوت يجعل من المستحيل وجود أي فرصة للخطية. ينبغي أن يكون تعاملنا مع الرب يسوع المسيح من هذا المنطلق، أنه الله الظاهر في الجسد.

وأخيرا نشكر الله أن الرأي الغالب، كما يقول كل من جون ماكرثر وريتاشرد مايهيو، هو العصمة ]6[. طبعا كون الأمر حق أم باطل لا يتحدد بناء علي قرار الأغلبية، إلا أن إتجاه معظم رجال الله للأخذ بهذا الأمر شئ لا ينبغي أن يُستهان به. بل هو أمر مشجع أن نعرف أن معظم أنبياء الرب ينادون بعدم قابلية الرب يسوع المسيح للخطأ.





[1] The Impeccability of Christ by A. W. Pink
https://www.monergism.com/impeccability-christ
[2] Systematic Theology, An Introduction to Biblical Doctrine by Wayne Grudem, pages 533-535, Zondervan, 1994
[3] Could Jesus Have Sinned? R. C. Sproul
https://www.ligonier.org/blog/could-jesus-have-sinned/
[4] Was It Possible for Jesus to Sin? John Piper
https://www.desiringgod.org/interviews/was-it-possible-for-jesus-to-sin
[5] Salvation Belongs to the Lord, an Introduction to Systematic Theology John M. Frame P&R Publishing 2006, page 123
[6] Biblical Doctrine, A Systematic Summary of Bible Truth, General Editors John MaCarthur & Richard Mayhue, Crossway 2017

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس