أهمية التمييز بين الكلمة غير المكتوبة والكلمة المكتوبة فيما يتعلق بسلطة الكتاب المقدس


كثيرا ما نسمع عبارة أن الكنيسة هي التي كتبت الكتب المقدسة، وهي أيضا التي جمعت الأسفار القانونية وأضفت عليها تلك السلطة بعد أن ميزت بينها وبين الأسفار غير القانونية. وبالتالي، حسب ادعاء أولئك، يصير للكنيسة سلطة مساوية لسلطة الكتاب المقدس. ويصير للتقليد الآبائي أيضا سلطة مساوية للأسفار القانونية الستة والستون، بما أنها منتج الكنيسة أيضا والتي من حقها أن تضفي على ما تراه السلطة القانونية الملزمة. 


لكن هذا الإدعاء يخفق في إدراك أن كلمة الله كانت موجودة قبل أن يتم تدوينها في الأسفار القانونية. الكتاب المقدس، بعهديه، كان موجودا في صورة شفوية منطوقة، بواسطة الأنبياء والرسل، قبل تدوينه. التدوين، بعمل الروح القدس المُوحِي، حول الرسالة المنطوقة إلى رسالة مكتوبة. هذه الرسالة التي كانت منطوقة فقط وصارت مكتوبة، هي التي ولدت الكنيسة وأوجدتها. صحيح أنه من منظور ما أن الكنيسة، بأنبيائها في العهد القديم ورسلها في العهد الجديد، هي التي كتبت الحق الكتابي، لكن من منظور آخر أكثر جوهرية، لم يكن هذا التدوين اختراع لشئ جديد لم يكن موجود من قبل. بل كان موجودا ولكن في صورة شفوية منطوقة.

هذا الأمر دعا المصلحون البروتستانت إلى التمييز بين الكلمة غير المكتوبة والمكتوبة verbum agraphon et engraphon . يعرف قاموس ريتشارد ميولر لليونانية واللاتينية هذا التمييز كالآتي:

كلمة الله Verbum Dei؛ كما ميزتها البروتستانتية القويمة، لها أربعة معاني أساسية ومترابطة: (1) كلمة الله الأبدية، أي الأقنوم الثاني في الثالوث، الابن؛ (2) الكلمة المتجسد، يسوع المسيح، الوسيط الإلهي البشري للخلاص؛ (3) كلمة الكتاب المقدس الموحى بها، وهي حكمة الله المعطاة في شكل يسهل الوصول إليه للبشر، ولكن مع ذلك مترسخة في الكلمة الأبدية وحكمة الله، أي الله الابن، والتي ارتكزت تاريخياً على المسيح الكلمة المتجسد؛ (4) الكلمة الداخلية للروح، أو الشهادة الداخلية له، والتي تشهد للقلب الإنساني فيما يتعلق بحقيقة الكلمة المكتوبة أو الخارجية. علاوة على ذلك، وفيما يتعلق بالكلمة الخارجية، ميز الإسكولائيون البروتستانت، بين الكلمة غير المكتوبة، أي المنطوقة بواسطة الله إلى الأنبياء والرسل، وبين الكلمة المكتوبة أو المسجلة في الوحي والتي أنتجها كاتبو الكتاب المقدس البشريون تحت وحي الروح القدس. هذا التمييز الأخير أمر حاسم في الحجة اللاهوتية البروتستانتية بأن الكنيسة لا تسبق ولا تضمن الكتب المقدسة، بل أن الكنيسة مولودة من كلمة الله. في الواقع التاريخي، كان هناك دائمًا شعب لله قبل الكلمة المكتوبة. لكن مفهوم الكلمة غير المكتوبة، الذي يشكل كل من دعوة شعب الله وأساس الكلمة المكتوبة، يحاجج بأولوية الكلمة على الكنيسة. يأخذ المفهوم أيضاً في الحسبان القرون التي تم سردها في سفر التكوين قبل أي كتب مقدسة، والذي دعت خلاله كلمة الله وقادت شعب الله. [1]

يوضح ماثيو باريت أنه رغم كون ظهور الكنيسة قبل الكتب المقدسة، من الناحية التاريخية، إلا أنه هذا في حد ذاته لا يعني سلطة الكتاب المقدس الروحية مستمدة من سلطة الكنيسة، وبالتالي مساوية لها. إن الكنيسة، من منظور ما، أسبق تاريخيا من الكلمة المكتوبة. لكن وجود الكلمة غير المكتوبة السابق للكنيسة، يعطي للكتاب المقدس سلطة روحية أعلى من سلطة الكنيسة. أو على حد كلمات باريت نفسها:

نحن لا نريد أن ننكر الحقيقة الواضحة المتمثلة في أنه من الناحية الزمنية، جاءت الكتب المقدسة بعد تأسيس شعب الله (على سبيل المثال ، تم دعوة إسرائيل من مصر قبل أن تستقبل الوصايا العشر، والكنيسة اجتمعت في أعمال الرسل قبل استلام الرسائل من الرسل، أو على الأقل العهد الجديد بأكمله). بقدر ما يكون هذا صحيح، إلا أنه لا يستتبع ذلك أن سلطة الكتاب المقدس مشتقة من الكنيسة. إن مثل هذا المنطق يفشل في التمييز، كما فعل المصلحون بحق، بين الكلمة غير المكتوبة والمكتوبة .. لقد كان الله هو نفسه الذي أسس شعبه، وقد فعل ذلك من خلال التحدث إليهم بكلمات، الكلمات التي جاءت بهم إلى حيز الوجود في المقام الأول، ثم دُوِّنَتْ في نهاية المطاف .. لم يكن كلام الله قوياً فحسب، بل كان خلاقاً، منجزا بالضبط التأثير الذي قصده. لم يضفي شعب الله على كلماته السلطة. بل على العكس تماما. كان الله هو الذي تنفس كلماته الخاصة، الكلمات التي دعت مختاريه لنفسه وجمعتهم معًا، فقط لمنحهم كلمة مكتوبة لها قيمة دائمة. لذلك، عندما يتعلق الأمر بأسفار الكتاب المقدس، فإن الله، وليس شعبه، هو الذي أضفى على الكتاب المقدس السلطة. كما قال لوثر بوضوح: الكتاب المقدس هو الرحم الذي تولد منه الحقيقة الإلهية والكنيسة. [2]

بناء على هذا التمييز أيضا، بين الكلمة غير المكتوبة والكلمة المكتوبة، يذهب ج. ف. فيسكو لأبعد من ذلك بالقول أنه لو لم يكن هناك كلمة الله، ما كانت هناك كنيسة. وهذا صحيح تماما، وإن كان يبدو أنه من الناحية الظاهرية أن الكنيسة هي جاءت لنا بالمكتوب. إلا أن الأمر في جوهره، هو أن كلمة الله، في صورتها المكتوبة أو غير المكتوبة، هي التي وولدت وأنتجت وأحدثت الكنيسة. يقول فيسكو:

بدون كلمة الله لن تكون هناك كنيسة، وبالتالي، لا يمكن للكنيسة الرومانية الكاثوليكية أن تدعي أنها خلقت الكلمة وبالتالي فهي تملك سلطة تحديد الأسفار القانونية أو الادعاء بأن تقليد الكنيسة يضارع الكتاب المقدس في سلطته. [3]

وكنتيجة منطقية مترتبة أيضا على تدوين الكلمة المنطوقة بواسطة وحي الروح القدس، يقول فيسكو أن هذا لا يعني أن الكتاب المقدس ليس كتاب تأريخ ميت أو جامد. على العكس، إن صوت الله الحي المنطوق قديما، والذي ولد الكنيسة وأوجدها، هو ذات الصوت الحي والمحيي في الكتاب المقدس:

بعبارة أخرى، لا يدعو اللاهوتيون الذين وضعوا اعتراف إيمان ويستمينستر إلى أن الكتاب المقدس نفسه رسالة ميتة، أو كتاب يحتوي على أطروحات غابرة يمكن تأكيدها أو نفيها. بالأحرى ، الكلمة المكتوبة هي وسيلة أو أداة لكلمة الله التي يتحدث بها باستمرار إلى الكنيسة. [4]

بناء على ذلك، إن كانت الكنيسة من الناحية الظاهرية تسبق الكتاب المقدس تاريخيا، إلا أنه، ومن الناحية الجوهرية، فإن الكتاب المقدس ذاته، في صورته المنطوقة وغير المكتوبة، سبق الكنيسة زمنيا وأتى بها إلى حيز الوجود. وعليه، فسلطان الكتاب المقدس، كلمة الله التي كانت منطوقة وصارت مكتوبة، أعلى من سلطة الكنيسة. وتستمد هذه الأخيرة سلطتها من الأول (الكتاب المقدس). 



[1] Muller, Richard A. Dictionary of Latin and Greek Theological Terms: Drawn Principally from Protestant Scholastic Theology. Baker Academic, 2017.‏ 
[2] Barrett, Matthew. God's Word Alone---The Authority of Scripture: What the Reformers Taught... and Why It Still Matters. Zondervan Academic, 2016, p.365‏ 
[3] Fesko, John Valero. The theology of the Westminster standards: historical context and theological insights. Crossway, 2014, p.62 
[4] Ibid. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس