هل يُفهم من كلمات بولس في آريوس باغوس أن الأثينيون عبدوا الله الحي الحقيقي؟



أَنَّنِي بَيْنَمَا كُنْتُ أَجْتَازُ وَأَنْظُرُ إِلَى مَعْبُودَاتِكُمْ، وَجَدْتُ أَيْضًا مَذْبَحًا مَكْتُوبًا عَلَيْهِ:«لإِلهٍ مَجْهُول». فَالَّذِي تَتَّقُونَهُ وَأَنْتُمْ تَجْهَلُونَهُ، هذَا أَنَا أُنَادِي لَكُمْ بِهِ. 
(أع 17 : 23)




قد يبدو لنا من الوهلة الأولى أن بولس قصد القول في أعمال (17 : 23) أن الأثينيون عبدوا الله الحي الحقيقي الذي عبده كل من اليهود والمسيحيين. لكن إن أخذنا في الإعتبار بعض الملاحظات يتضح لنا أن بولس لم يعني ذلك. 

أول كل شئ، فإن كلمة "تتقونه" وردت في بعض الترجمات الإنجليزية "توقرونه" Reverence ، وفي ترجمات أخرى عربية وإنجليزية: "تعبدونه". وعرّفها أيضاً أحد قواميس اللغة اليونانية القديمة كالآتي: "أن تحيا أو تتصرف تقوياً أو دينياً". مما يدل على أنه قد يُقصد بها "سلوكاً دينياً". ففي نهاية المطاف، لا يوجد شئ في النص يدل على أن ما جعل بولس يقول ذلك، هو أو صلاة أو أعمال صالحة أو عبادة قلبية معينة قام بها الأثينيون أكثر من مجرد بناءهم مذبح يحمل نقش: "لإله مجهول".

الإستخادم الآخر الوحيد لهذه الكلمة اليونانية (eusebeo) التي ترجمت "تتقونه" في العهد الجديد جاء أيضا على لسان بولس (نفس قائل الكلمات السابقة): "ولكن إن كانت أرملة لها أولاد أو حفدة، فليتعلموا أولا أن يوقروا أهل بيتهم ويوفوا والديهم المكافاة، لأن هذا صالح ومقبول أمام الله" (1 تي 5 : 4). وهنا تشير الكلمة إلى نوع من الإكرام أو التوقير. ففعل التوقير هنا غير موجه لله، ولكن لبشر. طبعا القرينة هي التي تحدد المعنى النهائي. لكن يظل أن الفعل استخدم تجاه الله والبشر.

فضلا عن ذلك، هناك كلمة يونانية أخرى (sebo) يستخدمها العهد الجديد للإشارة لعبادة يهوه، سواء بواسطة اليهود، أو سواء بواسطة الأمم الدخلاء الذين تهودوا دون أن يكملوا باقي عملية التهود (الختان). يقول قاموس بيل ماونس "(sebo) تعني: يعبد. استخدمت مرتين في الأناجيل (مت 15 : 9 ، مر 7 : 7) حيث يُقتبس العهد القديم، وفي هذه الحالات تشير مباشرة إلى عبادة الله. كل باقي استعمالات العهد الجديد لتلك الكلمة موجودة في سفر الأعمال. في (أع 18 : 13) استخدمت عن عبادة الله، وفي (19 : 27) عن عبادة الإلهة الوثنية أرطاميس. في باقي سفر الأعمال (sebo) تصف الأمم الذين يعبدون أو يخافون إله اليهود وهكذا فهم مرتبطون بالمجمع (13 : 43 ، 50 ، 16 : 14 ، 17 : 4 ، 17 ، 18 : 7). هؤلاء الأمم يُدعون: خائفو الله". وبناء على ذلك فعندما وصف العهد الجديد عبادة الأمم (المتهودون، خائفو الله) للإله الحي الحقيقي استخدم كلمة أخرى غير تلك المستعملة في قول بولس "الذي تتقونه وأنتم تجهلونه". 

في قول بولس "لإله مجهول" تغيب أداة التعريف من أمام كلمة "إله". فهي ليست "الإله المجهول". كما أن وجود مذبح هذا الإله المجهول وسط باقي مذابح الآلهة الأخرى، أمر في حد ذاته يعني أن الأثينيون آمنوا بتعدد الآلهة، وبإمكانية أن يوجد هذا الإله المجهول إلى جوار الآلهة الوثنية الأخرى. ونقلا عن ألبرت بارنز، فإن جيروم قال في تفسيره لـ (تي 1 : 12) أن النقش الأساسي على المذبح كان هكذا: "لآلهة آسيا، أوروبا، وأفريقيا، للآلهة غير المعروفة والغريبة". يقول أيضا بول (Poole): "البعض يقولون أنه كان هناك نقش أكثر عمومية: لآلهة آسيا، أوروبا، وأفريقيا، وللآلهة غير المعروفة والغريبة. مع أن النقش الذي يقتبسه الرسول في صيغة المفرد، فقد يكون شائعا أيضا: لأن الأثينيون الذين رحبوا بكل أنواع الآلهة خوفا من أن يكون هناك أحد الآلهة الذين لم يسمعوا عنه، فلأجل أمنهم الأعظم، كما تخيلوا، خصصوا مذبحا لمثل هذا".

كان المدخل التبشيري لبولس مع اليهود هو مسيانية يسوع في العهد القديم، ومع الأمم هو الخالق الذي يُستدل على وجوده من الإعلان العام. يقول شرح JFB تعليقا على قول بولس تتقونه وأنتم تجهلونه: "إن موضوعه، ليس كما في المجامع، مسيانية يسوع، ولكن الإله الحي، في مقابلة .. تعدد  آلهة اليونان". بولس لا يقول أن الأثينيون كانوا يعبدون نفس الإله الذي كان ينادي به بولس، لكن مجرد مدخل كرازي، يقول لهم من خلاله أن الإله المجهول الذي قدموا له بعض التوقير الديني، هو الذي خلق كل شئ.

هل معنى هذا أن بولس كان يكذب، أو يستخدم أشياء غير صحيحة لتبشير الوثينيين؟ إطلاقا. من منظور ما كل نشاط ديني للإنسان هو محاولة لتوقير ما أسماه كالفن "الإحساس بالإله"، وإن كانت تلك المحاولات توجه لغير الإله الحي الحقيقي. بناء الأثينيون مذبجاً لإله مجهول هو صدى خارجي لذلك الإحساس الداخلي. فطبقا لرومية 1 ، فإن هذا الإله الحي الحقيقي ليس مجهول لأي إنسان "إذ معرفة الله ظاهرة فيهم لأن الله أظهرها لهم، لأن أموره غير المنظورة ترى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته، حتى أنهم بلا عذر" (رو 1 : 19 - 20). إذا، فما أراد بولس فعله، هو استخدام ذلك الإحساس الداخلي بالإله، والذي عبر عنه الأثينيون ببناؤهم مذبح لإله مجهول، لتبشيرهم بهذا الإله، الذي يعرفونه طبقا للإعلان العام، لكن يجهلونه طبقا للإعلان الخاص. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس