تفنيد حلقة كيف نفهم الإختيار في ضوء محبة الله للدكتور ماهر صموئيل


(1)

يبدأ الدكتور ماهر حديثه (انقر هنا لمشاهدته) بالقول أنه لا يزال تلميذ ولا يدعي أنه هضم كل ما يقوله الكتاب. وأنه من الكبرياء أن يظن أنه هضم كل ما يقوله الكتاب. وأنه ليس في موضع الذي يحكم حكمًا نهائيًا قاطعًا. ولا يدعو أي شخص أن يتبعه فيما يقوله، بل يفحصه. 

الجدير بالذكر أن له فيديو سابق يقول فيه أن ليس من حق الرجل المسيحي العادي أن يدلي برأيه في موضوع الإختيار، لأنه لا يملك علم الهيرمانوتيكس (علم التفسير). واضح طبعًا أن الدكتور ماهر يرى أنه من النخبة الأكاديمية التي تمتلك الهيرمانوتيكس وبالتالي من حقه أن يدلي برأيه حول هذا الأمر. 

المهم أنه في كلتا الحالتان السابقتان، يسلب الدكتور ماهر صموئيل من الكتاب المقدس وضوحه. فهو إما يحتاج إلى رجل الدين الأكاديمي الذي يمتلك أدوات التفسير. أو أما أنه لا يمكن أن يُهضم، طعبًا لأن الكتاب أعظم من ذلك، وبالتالي فالنتيجة هي أنه لا يمكن أن تكون واثقًا من تعليم بعينه لأنك لم تهضم الكتاب بعد. بكلمات أخرى، الدكتور ماهر لا يقدم تعليم أو حق، لكن مجرد اجتهاد. لذلك تجده يؤكد أنه تلميذ ماهضمش الكتاب المقدس. إنه نوع من اللاأدرية اللاهوتية كما هو واضح في كلامه ولا سيما في قوله أنه ليس في موضع أن يحكم حكمًا نهائيًا. يقول أن الكتاب عظيم، وهو حقًا كذلك، لكنه يقصد بهذه العظمة عدم الوضوح أو عدم وجود إمكانية الإلمام بالحق العام به، وهذا تزييف، إنه حق يراد به باطل. 

كما أننا لا نريدك أن تحكم أنت يا دكتور ماهر، بل أن تنقل لنا فقط أحكام كلمة الله. ألم تكن هذه نصيحة بولس لتيموثاوس "الكتب المقدسة القادرة أن تحكمك للخلاص"؟ وقبل أن تقول لي أنه يقصد الخلاص وليس الإختيار، سأجيبك أن الموضوعان مترابطان تمامًا، بل أنه موضوع واحد من أبعاد مختلفة، والدكتور ماهر صموئيل نفسه لاحقًا يدرك هذا الإرتباط جيدًا ويسعى إلى تفكيكه. 

كما أنه بذلك المنطق إذًا، رجال الله الأتقياء على مر العصور، آباء الكنيسة، والمصلحون، واقرارات الإيمان المصلحة (إقرار الإيمان المعمداني 1689 والبلجيكي وهايدلبيرج واليهلفيتك وويستمينستر ودورت وغيرها الكثير)، جميعهم متكبرين لأنهم تبنوا مواقف واضحة. إذا فخلاصة هذه التقوية الزائفة (بأننا تلاميذ لم نهضم الكتاب) هو اتهام للكتاب بالغموض، وللمواقف الواضحة بأنها كبرياء. 

الدكتور ماهر لا يدعوك أن تقبل ما يقوله، ونحن نشجع الجميع على تبني هذا الموقف لأننا نرى أن الدكتور ماهر غير كتابي، لكن الفكرة أنه يريد إثارة التفكير، وليس التعليم. وهل هذه طبيعة وظيفة "المعلم الكتابي"؟ صحيح أن الرب يسوع المسيح كان يثير أسئلة، لكن ليس ليقول أنه لا يوجد حق ثابت، وأن كل شيء في النهاية مجرد اجتهادات، مثلما يحاول الدكتور ماهر صموئيل فعله، بل لكشف حقائق معينة، وإظهار تناقاضات لدى اليهود الذين كان يخاطبهم. عندما يجلس معلم كتابي، ليتحدث عن تعليم كتابي مثل الإختيار، فهو ليقول لنا ما تعلمه كلمة الله، وليس لإثارة الأسئلة، وكأن الهدف هو التفكير، وليس التعليم، أو أن كلمة الله غير واضحة تثير فقط الأسئلة فينا ولا تعلمنا شيء. 

ثم ردًا على قول أ. يوسف في بداية الحلقة بأن هناك من انزعجوا وغضبوا عندما علّمهم عن عقيدة الإختيار الكالفيني (قبل أن ينبذها)، يقابل الدكتور ماهر هذا التصريح، بأن بولس يقول في غلاطية أن هناك معلمون كذبة يزعجون الغلاطيون بإنجيل آخر. فممكن أوي تكون بتزعج الناس بسبب إنك بتقول كلام غريب، كلام لا يتفق مع كلمة الله. والدكتور ماهر صموئيل يريد أن يقول من طرف خفي هنا أن من انزعجوا من عقيدة الإختيار الكالفينية كانوا على حق، فهي بالنسبه له إنجيل آخر. 

لكن يبدو أن الدكتور ماهر صموئيل فاته أن الوضع الطبيعي للإنسان هو أنه ينزعج من الحق "الذين يحجزون الحق بالإثم" (رو 1)، وأنه يستبدل الحق بالكذب "استبدلوا حق الله بالكذب" (رو 1 : 25). والرب يسوع المسيح نفسه، الحق المتجسد، صُلب بواسطة الإنسان الباطل الذي ينزعج من الحق فيريد قمعه واستبداله بل وصلبه. لقد فات الدكتور ماهر أن جوهر المسيحية، أي الصليب، كما يقول بولس، عثرة وحماقة وخزي وفضيحة للإنسان الطبيعي (سكاندالون). لهذا يقول بولس أن الناس "لم يقبلوا محبة الحق حتى يخلصوا" (2 تس 2 : 10). صحيح أن هذه الآية الأخيرة تتكلم عن رفض رسالة الإنجيل، إلا أنها، كباقي الآيات التي أوردناها، تصف الوضع الطبيعي العام لللإنسان، أنه لا يحب الحق. 

بل والأكثر من ذلك، أننا نقرأ في العهد القديم أن الشعب يدعو أنبياء الرب لكي يكلموهم بالباطل "الذين يقولون للرائين: لا تروا، وللناظرين: لا تنظروا لنا مستقيمات. كلمونا بالناعمات، أنظروا مخادعات" (إش 30 : 10). وفي العهد الجديد أيضًا "لأنه سيكون فيه وقت لا يحتملون فيه التعليم الصحيح، بل حسب شهواتهم الخاصة يجمعون لهم معلمين مستحكة مسامعهم" (2 تي 4 : 3). 

إن موضوع الإختيار الكالفيني مزعج يا دكتور ماهر ليس لأنه إنجيل آخر، بل لأنه يعلي سلطان الله فوق إرادة الإنسان، وهذا أمر لابد أن يكون مزعج للإنسان الطبيعي الذي كانت شهوته منذ جنة عدن الحكم الذاتي autonomy وهذا هو ذات الكلام الذي ذكرته في مقالك "أصل الحكاية" والذي قلت فيه بالحرف الواحد أن أصل الحكاية هو أن الإنسان يريد الإستقلال الذاتي. وإن كان هذا الأمر مزعج للإنسان الطبيعي فنتوقع أن يكون كذلك بالنسبة لك لكونك تتبنى الفلسفة الأنسية Humanism الواضحة في منهجك وتأكيدك في مرات كثيرة أن الله أعاد لنا إنسانيتنا المفقودة (والحق هو أنه أعطانا أكثر من ذلك: صورة يسوع)، ووصفك أيضًا للتقديس بأنه تطور للشخصية. 

ولماذا (الدكتور ماهر مخاطبًا أ. يوسف) تفترض أن الحق دائمًا يزعج، المسيح قال إن الحق ممكن يزعج، بس قال كما إن الحق يحرر. 

طبعًا الحق يحرر، ولكنه وهو يحرر يزعج أيضًا. مثل الدواء المر. لكن ليس كل من ينزعج من الحق يقبله. بل، كما قلنا الوضع الطبيعي للإنسان الباطل هو رفض الحق، لأن قبول الحق يعني قبول الله الذي هو الحق، وهذا ما لا يريده الإنسان. الإنسان يريد فقط الإستقلال والحكم الذاتيين كما قلنا. 

(2)

رأينا في الجزء السابق اللأدرية اللاهوتية التي يدعو إليها الدكتور ماهر صموئيل. وهنا سنتناول الفوضوية التعليمية والكنسية التي ينادي بها بقوله أن المعلم مجرد خادم لنا، وأن التعليم شيء محل قبول أو رفض. 

يقول الدكتور ماهر: "أنا مش ملزم إطلاقًا أني أتبع كالفن أو غيره، إطلاقًا .. أنا أحترم كل المعلمين .. لست ملتزمًا إطلاقًا أي إلتزام أخلاقي، ولا إلتزام عقلي منطقي، ولا إلتزام نفسي، إني أتبع أي واحد منهم، إطلاقًا، كل المعلمين هم خدام من الله لي ولك، فهم لخدمتنا، لا ليكونوا سادة يسودون علينا وعلينا أن نتبعهم .. فعلى المؤمن ألا يستقبل كلام معلم معين بطريقة تخليه يشعر إنه عنده التزام أخلاقي إنه يتبعه". 

صحيح يا دكتور، حضرتك لست ملزمًا أن تتبع كالفن، لكن أن تكون بروتستانتي هو أن تكون تحت إلتزام لاهوتي وأخلاقي ونفسي وروحي وعقلي أن تتبع المنهج البروتستانتي المؤسس على فكر المصلحين أمثال كالفن ولوثر والعشرات من اللاهوتيين العظماء الذين وضعوا إقرارت الإيمان المُصْلَحَة التي تدين لها الحركة الإنجيلية إلى يومنا هذا. لك الحق في أن تتبع كالفن أو جايكوب أرمينيوس (مؤسس الأرمينية) أو شلايرماخر أبو الليبرالية (والذي أرى أنك تتبعه بحق). لكن أن تكون بروتستانتي متسق مع منهجك هو أن تتبع كالفن والمصلحين جميعًا، وإقرارات الإيمان المصلحة التي علّمت بدون أي لبس أو غموض أن الله اختار البعض للخلاص. أن تقول أنك إنجيلي، هو أن تكون تحت التزام أخلاقي بالشفافية والأمانة أن يكون انتماءك للحركة الإنجيلية التي علّم بها كالفن والآلاف غيره وعلى منهجه. وإلا فلتعلن لنا عن منهجك صراحة. أنت تحت التزام أخلاقي ولاهوتي أن تفصح عن منهجك يا دكتور ماهر وأن تكون متسقًا مع إدعاءك بأن إنجيلي. 

ثم أن كالفن هذا الذي تتحدث عنه وكأنه مجرد خادم رأيه لا يلزمنا، لم ينبت كنبتة شيطانية لا جذور لها، لكن فكره جاء في تمام الإتساق مع ما علّم به الآباء. أَصَرَّ كالفن على أنه يمكن الدفاع عن المبادئ الإنجيلية من تاريخ الكنيسة؟ كان أغسيطنوس هو أكثر آباء الكنيسة تفضيلاً لدى كالفن والذي اقتبسه 1708 مرة في كتاباته. ومع أن كالفن لم يقتبس من كتابات الآباء بالتساوي إلا أنه اعتبر كريسوستوم وأغسطينوس وبيرنارد حلفاء لاهوتيون له. يا دكتور ماهر، لقد كان منهج المصلحون Ad fontes أي إلى المنابع اللاهوتية القديمة. لم يستحدث كالفن (أو المصلحون) أي شيء جديد، لكنهم أعادوا اكتشاف الإنجيل وعمل النعمة (الكالفينية تُسَمَّى تعليم النعمة) الذي كان قد توارى خلف صكوك الغفران والطقوس والفساد الكنسي. إن من يتبع المصلحون، يتبع الآباء أيضًا. وبالتالي فأنت تحت التزام لاهوتي وتاريخي وأخلاقي ونفسي ومنطقي يا دكتور ماهر أن تسير وتقود رعيتك على خطى آباء الكنيسة والمصلحون والكنيسة التاريخية بأكملها. 

ثم ما معنى أن المعلمين خدام لنا؟ ما أستطيع أن أفهمه من كلمات الدكتور ماهر هنا هو دعوة للتحريض ضد التعليم والمعلمين. والدكتور ماهر صموئيل هنا كعادته يأخذ جزء من الحق ليخفي به جزءًا آخر أكثر خطورة. صحيح أن المعلمون هم خدام للرب ولنا، لكن هذا لا يعني أننا في حل أن نرفض تعليمهم لنا، ولا سيما إن كانوا قامات كبيرة شهد التاريخ لها مثل كالفن. هل تريد أن تقول لنا يا دكتور ماهر أن ننبذ فكر كالفن لأنه خادم لنا، ونتبع النفايات الأنسية الليبرالية والأيديولوجيات العفنة التي تطرحها علينا؟ هل تريد لنا يا دكتور ماهر أن نرفض كالفن الذي غيّر وجه المسيحية في الغرب بل والحضارة الإنسانية المعاصرة، بفكره الكتابي المحافظ، والذي يتبعه آلاف الكنائس وملايين المؤمنين حول العالم، لكي نتبنى حثالة الفكر الليبرالي الذي تستورده من الوجوديين أمثال كيركجارد وهايديجر، ومن الليبراليين أمثال القسيسة فليمنج روتلدج التي امتدحت كتابها وهي تعلّم بعالمية الخلاص، ومن سي إس لويس الذي ينكر البدلية العقابية ويؤمن بالصلاة للموتى والمطهر وخلاص البوذي دون أن يؤمن بالمسيح؟ 

ما يحاول الدكتور ماهر هنا عمله هو احلال واستبدال. يقول لك أنك لست تحت أي إلتزام أن تتبع كالفن، ثم يقدم لك نفسه كالبديل الذي عليك أن تتبعه. ذلك لأنه يدعي لاحقًا في الحلقة أن المنطق يدعم موقفه، وبالتالي فأنت تحت إلتزام عقلي ومنطقي ولاهوتي أن تتبع ما يقوله. 

كما أن طعن الدكتور ماهر صموئيل في مكانة المُعَلِّم يأتي بالإتساق مع ما ذكره في مرات سابقة كثيرة بأن الوعظ والتعليم والعقيدة غير هامة. فإن كان الوعظ والتعليم والعقيدة أمورًا غير هامة، فالمعلم أيضًا بدوره غير هام، هو مجرد خادم "لنا"، لا سطلة له، ولست تحت أي إلتزام بالخضوع له، تمامًا مثلما أنه لا سلطة للوعظ والتعليم والعقيدة. 

لكن، ألم يعلمنا الكتاب المقدس أن هناك مواهب وترتيبات في الكنيسة ينبغي أن يُخْضَعُ لها مثل المعلمين؟ "فوضع [عَيَّنَ] الله أناسًا في الكنيسة، أولاً رسلاً، ثانيًا أنبياء، ثالثًا معلمين" (1 كو 12 : 28). يحرض بولس أيضًا أن يُخضع للشيوخ كمن يحكمون: "أما الشيوخ المدبرون حسنًا فَلْيُحْسَبُوا أهلاً لكرامة مضاعفة، ولا سيما الذين يتعبون في الكلمة والتعليم" (1 تي 5 : 17). مدبرون في اليونانية هي proistemi وتعني أيضًا "يحكمون" وكما تُرجمت في الترجمات الإنجليزية المحافظة who rule . أخيرًا يطالب كاتب العبرانيين صراحة من يخاطبهم في رسالته قائلاً: "أطيعوا مرشديكم [قادتكم، والمعلم قائد] واخضعوا، لأنهم يسهرون لأجل نفوسكم، كأنهم سوف يعطون حسابًا" (عب 13 : 17). 

الدكتور ماهر يتحدث عن المعلمين وكأنه لا يوجد ثوابت لا ينقلها المعلمون لنا، وأن كل شيء يقولونه محل للقبول والرفض. طبعًا هذا هراء. فالمعلمين مسؤولون أمام الرب أن يُسَلِّموا لنا ما تسلموه هم دون الحذف منه أو الإضافة إليه. فكما أن الرب يسوع المسيح لم يتكلم من نفسه بل بما سمعه من الآب (يو 14 : 10)، وإن كان روح الحق لا يتكلم من نفسه بل بما سمعه من المسيح (يو 16 : 13)، وإن كان بولس سَلّم ما تسلّمه من الرب كما هو (1 كو 23 : 11)، وإن كان تيموثاوس مُطَالب بتسليم التعليم كما سمعه من بولس إلي الجيل اللاحق وأن الجيل الذي تسلم الحق من تيموثاوس عليه أن يسلمه إلى الجيل الذي يليه، وهكذا ينتقل التعليم إلى أربعة أجيال (2 تي 2 : 2)، يصبح هناك ضرورة للإقرار بوجود تعليم ثابت ينتقل عبر الأجيال عن طريق المعلمين الذين لهم سلطة التعليم. تعليم لا يمكن التفاوض فيه. لكن الدكتور ماهر صموئيل يقول أن المعلم خادم لك وأنت لست تحت إلتزام من أي نوع للخضوع له. دعوة للفوضوية الكنيسة واللاهوتية. 

(3)

رأينا في الجزء الأول، المنهجية اللاأدرية (الممتزجة بالتقوية الزائفة) التي يدعو لها الدكتور ماهر بقوله أنه تلميذ لم يهضم الكتاب المقدس بعد (جاعلاً الكتاب المقدس غامض لا يمكن فهم حقه العام أو الإلمام به). وفي الجزء الثاني تحدثنا عن الفوضوية التعليمية بأن المعلم خادم لك وأنك لست تحت أي إلتزام للخضوع له. وهنا نرى محاولة لتفكيك الحق المسيحي. فصل التعليم عن الكتاب، وفصل التفسير عن التعليم، وفصل كل آية تتحدث عن الإختيار عن باقي الآيات التي تتحدث عنه، والفصل بين الحق وفهمنا له. 

يواصل الدكتور ماهر صموئيل حديثه قائلاً: "إحنا ما عندناش كتاب مقدس كإنه كتاب لاهوت. فتفتح أول صفحة تلاقي فهرس، بيقولك عقيدة الإختيار، عقيدة العشاء الرباني، عقيدة الخلاص، عقيدة المجيء الثاني .. بس عندنا كتاب عجيب فعلاً، اتكتب على مدار 1500 سنة، كتبوه 40 كاتب، في أماكن مختلفة بأفكار مختلفة، فيه الحكمة وفيه الأدب وفيه الشعر وفيه التعليم. كتاب رهيب، غريب في تكوينه. المعلمين بيعملوا اللاهوت. وفيه فرق بين إنك تعمل لاهوت، وإنك تفسر آية .. الآية، أنت تتعامل مع الجزئيات، اللاهوت يصنع تعليمًا عامًا، كليًا، بيديليك تعليم شامل وكامل. فهو بيعدي على الجزئيات، ومن الجزئيات الكثيرة، يصل إلى الكليات. يصل من الخاص الصغير، يصل العام. فهو بيقرا من التكوين للرؤيا، وبيقرا كتابات اللي سبقوه، وبيقرا الناس بتقول إيه .. ومن القماشة العريضة الكبيرة دي، يروح مفصلك عقيدة أو تعليم. هذا علم يا يوسف. هذا علم. علم التفصيل. تفصيل العقيدة. ده العلم اللي هو صناعة اللاهوت .. بس المشكلة بقي لما يجي التعليم ده، مرات بيبقى زي frame ، زي إطار، زي software بينزلي وبيسطر عليّ، فبقرا بيه كل الكتاب المقدس، وهنا الخطورة الشديدة .. عايز أقول في النهاية كالفن مش معصوم، سبرجون مش معصوم، العصمة للكتاب وليس للمعلمين .. ودائمًا فهم المعلم نسبي، وفهم التلميذ نسبي. المطلق هو الحق الكتابي، لكن استيعابنا ليه وفهمنا نسبي ومتغير". 

في هذه الجزئية يقول الدكتور ماهر أن التعليم (والعقيدة واللاهوت) هو علم اصطانعي وليس شيء أصيل في الكتاب المقدس كآياته. التعليم أو اللاهوت بالنسبة له، منتج بشري، أو قماشة فكرية لاهوتية يتم تصنيعها من رقع يتم تجميعها من الشرق والغرب. أي أنه شيء دخيل، يتم إقحامه على الكتاب المقدس وليس أصيلاً فيه. الكتاب المقدس به آيات تحتاج إلى تفسير، أما اللاهوت أو التعليم (كالإختيار) فهو شيء مُصَنَّع وليس طبيعي كالتفسير، يقوم به رجل اللاهوت عندما يضع آيات إلى جوار بعضها ليكوّن منها تلك القماشة العريضة. 

إن قول الدكتور ماهر بأن التعليم أو اللاهوت الكتابي العام ليس سوى علم اصطناعي دخيل، هو استنكار من طرفه أنه يمكن أن يكون هناك حق عام واضح في الكتاب المقدس، وهذا ما قصده بالـ frame كشيء يتم اقحامه من الخارج على الكتاب. ويستنكر أيضًا أن يكون هناك حق عام واضح متعلق بتعليم معين، وهذا ما قصده بأن الكتاب المقدس ليس كتاب لاهوت به فهرس موضوعات! بمعنى أنه لو قمت بتجميع الآيات التي تتكلم عن الإختيار (طبعًا هو يرى فقط أنها تلك التي يُذكر فيها الإختيار بحصر اللفظ دون المفهوم) هيهات أن تخلص منها بتعليم نظامي مترابط منطقيًا ومتعدد الجوانب. لهذا تجده لاحقًا في الحلقة يحاول تشويه وتفكيك وتعويم مفهوم الإختيار، بأنه سياسي مرة، ومادي في مرة أخرى، وإختيار لمهمة أو وظيفة في مرة ثالثة، وهكذا. الإختيار هو أي شيء إلا أن يكون إختيار للخلاص. وكل هذا ليقول لك استحالة أن تخلص إلى تعليم نظامي شامل ومترابط من مجرد وضع الآيات إلى جوار بعضها. طبعًا هذا اتهام للكتاب المقدس بأنه عشوائي وغامض ومفكك، مجرد آيات متراصة ومتناثرة لا رابط بينها، لا نظام أو منطق يجمع تلك الآيات في صورة موضوع متسق ومتشابك (تعليم نظامي). وأي إطار لاهوتي لك، هو شيء دخيل وليس أصيل في الكتاب المقدس، أي أنه لا يوجد نظام تعليمي عام متسق في الكتاب المقدس. وإن وجد هذا الإطار فهو شيء دخيل من ترقيعك أنت. 

إن الدكتور ماهر يتهم الكتاب المقدس مجددًا بالغموض، بل والتفكك وعدم الترابط والإتساق، ذلك لأنك لا تستطيع أن تَخْلُصُ منه بإطار لاهوتي عام واضح، وأن أي إطار لاهوتي هو دخيل عليه لأنه لا يوجد به نظام لاهوتي وعقيدي أصيلاً ولصيقًا به. ذلك لأنه كتاب عظيم ورهيب كما يقول الدكتور ماهر. وهذا، مرة أخرى، حق يراد به بطل. صحيح أن الكتاب المقدس متنوع من حيث من كتبوه وأزمنة كتابته وأساليبه الأدبية، وصحيح أنه كتاب عظيم ورهيب، إلا أن هذا لا يعني أنه ليس به إطار أو نظام عام أصيل فيه. ولا يعني أن تنوعه سَيَحُولُ دون وجود نظام عقيدي منطقي به. ذلك لأنه كُتِبَ للبشر ليخاطب العقل الذي حباهم به الله. كما أن معطي العقل والمنطق، لا يُعْقَلُ أن يأتي كتابه غير نظامي أو غير متبرابط في فكره العام. فضلاً عن ذلك، أن نقول أن هناك نظام لاهوتي عقيدي كتابي متسق، لا يعني بالضرورة أنه شيء مصطنع أُقْحِمَ عليه من، بل نظام أصيل ولصيق به تم اكتشافه. 

يتحدث الدكتور ماهر صموئيل عن كل من التفسير واللاهوت وكأنه لا علاقة بينهما، أو أنهما عالمان منفصلان تمامًا. وهذا غير صحيح بالمرة. فالعلاقة بين اللاهوت التفسيري Exegetical Theology واللاهوت النظامي Systematic Theology هي علاقة تكافلية لا يمكن أن يستغني أحدهما فيها عن الآخر. فلا يمكن أن تعمل لاهوت نظامي جيد إلا من خلال تفسر الآيات (التي تقوم بتجميعها ووضعها إلى جوار بعضها البعض) بصورة جيدة. ومن ناحية أخرى، أن تقوم بتفسير الآيات الكتابية بصورة صحيحة، هو أن تراها في ضوء الحق الكتابي العام. فتفسير أي نص لا يخضع للقرينة المباشرة القريبة فقط، بل أيضًا للقرينة الكتابية العامة. يقول اللاهوتي العظيم جويل بيكي: "في الوقت نفسه، يعتمد كل من الشرح exegesis والتفسير hermeneutics على علم اللاهوت النظامي. كلما فهم المفسر التعاليم الكبرى في الكتاب المقدس كنظام متماسك، كلما فهم وفسر أجزائه الفردية بشكل أفضل". إن اللاهوت الكتابي العام، أو الإطار اللاهوتي العام، يعمل كالبوصلة التي ترشد المفسر إلى التفسير الصحيح إن أخطأ الإتجاه. ولهذا فلا غنى للمفسر عن أن يكون له نظرة أو إطار عام للحق الكتابي وعقائده. 

أما عن قول الدكتور ماهر بأن المُعَلِّم عندما يقوم بعلم اللاهوت: "فهو بيقرا من التكوين للرؤيا، وبيقرا كتابات اللي سبقوه، وبيقرا الناس بتقول إيه .. ومن القماشة العريضة الكبيرة دي، يروح مفصلك عقيدة أو تعليم. هذا علم" .. وكأن مراجعة المعلم أو اللاهوتي لمن سبقوه أو من يعاصروه تهمه، أو شيء غير مشرف، أو تدل على أن هناك صنعة أو حرفة، علم التفصيل أو بالأحرى علم الترقيع كما تكاد تشعر من الطريقة التي يصف بها الدكتور ماهر علم اللاهوت. وكأن اللاهوتي أو المعلم هو في أفضل حالاته ترزي يخيط رقع من هنا ومن هناك إلى جوار بعضها ليصنع منها قماشة عريضة. لكن يبدو أن الدكتور ماهر صموئيل أغفل أن تفسير الكتاب، وتعليم اللاهوت، لابد أن يتم وسط جماعة الحق، ممن سبقونا ويعاصروننا مِنْ رجال الله الذين تعلموا بمسحة الروح التي فيهم. إن الطعن في أهمية وخطورة الرجوع لما علم به رجال الكنيسة قديمًا وفي الحاضر لهو استهانة بالمعلمين، بل إنه طعنًا في الإستنارة التي وعده بها الروح القدس أنه سيعطيها لكنيسته عبر التاريخ. كما أنه جحود للمواهب التي عينها الروح لبناء جسد المسيح، تلك المواهب التي من بينها المُعَلّم أو اللاهوتي. اللاهوت أو التفسير لا يمكن أن يحدث في فراغ، لكن لابد أن يتم في مجتمع الكنيسة التاريخية والمعاصرة، وإلا سيكون الإنحراف التعليمي مصيرنا. 

يرى الدكتور ماهر صموئيل أن التعليم أو اللاهوت شيء بشري اصطناعي، وليس إلهي، وبالإتساق مع هذا فهو يعتقد أنه "لا يوجد تعليم معصوم". لكن الكتاب المقدس نفسه يقول أن هناك تعليم (فضلاً عن قوله أن هناك معلمين منحهم الروح للكنيسة). يستعمل العهد الجديد كلمتين يونانيتين هما "ديداسكاليا" و"ديداخيه" بمعنى تعليم أو عقيدة. الكلمتان، طبقاً لقاموس ماونس، تُستعملان بمعنى "محتوى" و"فعل" التعليم. في الترجمات الإنحيلزية (مثل ESV و NIV) تنوعت الترجمة للكلمتين مابين عقيدة doctrine وتعليم teaching . تُرجمتا كلتا الكلمتان في ترجمة فانديك "تعليم"، ولم يستخدم فانديك كلمة "عقيدة" إطلاقاً. الفكرة التي نريد إبرازها هنا هي أن العهد الجديد لا يوصينا فقط بتعليم آخرين، لكن يقدم لنا محتوى عقيدي معين ينبغي التعليم به. الكلمتان تأتيان بالتوازي في قول بولس لتشيران إلى عقيدة (أو تعليم) ينبغي الحفاظ عليها: "ملازما للكلمة الصادقة بحسب التعليم [ديداخيه]، لكي يكون قادراً أن يعظ بالتعليم [ديداسكاليا] الصحيح ويوبخ المناقضين" (تي 1 : 9). العقيدة هي التعليم، حتى ولو لم تُذْكَر كلمة عقيدة في فانديك. يظل المعنى موجود في النص الأصلي. لهذا فأن يطعن أحدهم في أهمية أو أصالة وعصمة كل من العقيدة والتعليم وخطورتيهما هو أن يطعن في الكتاب المقدس نفسه، ذلك لأن التعليم هو شيء في نسيج الكتاب المقدس نفسه ولا يمكن فصله عنه. 

تحدث الدكتور ماهر عن الإطار أو الـ frame الذي يعتنقه رجل اللاهوت بصورة مسبقة ويقحمه على الكتاب المقدس، وكأن حديثه عن الإختيار طيلة الحلقة بعيد عن هذه الشبهة ولا تنطبق عليه. لكن الدكتور ماهر وقع في نفس الخطأ الذي يحذر منه، وإصبع الإتهام الذي يوجهه للمعلمين الكتابيين يدين ما يعلّم به هو شخصيًا. فقد أقحم أجندته الليبرالية الأنسية Humanism على الحق الكتابي، وذلك بإعطاء الإنسان السلطة العليا في تقرير مصيره واقصاء سلطان الله من الصورة تمامًا، تعظيم سلطان الإنسان على حساب سلطان الله. الإنسان من حقه أن يختار الله، ولكن الله ليس من حقه إن يختار من سيخلصهم. الحرية إذًا للإنسان وليست الله. طبقًا له، يظل عمل المسيح تحت رحمة الخاطيء يقبله أو يرفضه أو حتى يركله. أي أن عمل المسيح يظل غير فعال إلى أن يقبله الخاطيء فيصبح حينها فعالاً. وهذه أجندة أنسية Humanist تعظم الإنسان على حساب الله وعمل المسيح. ناهيك طبعًا عن الأُطُر الكثيرة وغير الكتابية التي يقحمها الدكتور ماهر صموئيل على الحق الكتابي. مثل أشباه العلوم النفسية، كأن يصف القداسة على أنها تطور للشخصية، وعندما وصف الخطية توصيفات سيكولوجية (في مقاله أصل الحكاية) بانها أنانية ودوران حول الذات. ويقحم الفلسفة على الحق الكتابي مثلما استخدم سابقًا فلسفة مارتن هايدجر ليشرح بها الصليب قائلاً أنه "خبرة إنسانية". وأقحم أيضًا اللاهوت الليبرالي الشمولي على المسيحية عندما قال (في سلسلة الله في الأدب العربي) أن رابعة العدوية وُلدت الولادة الثانية، وأن قدماء المصريين أو من عرف الله وآمن باليوم الآخر (مقال التدين الشكلي والتشوه النفسي)، وأن من يتوب دون أن يدرك الإيمان المسيحي سيخلص (في لقاءه مع القس خالد غبريال). إن ما يقوله الدكتور ماهر صموئيل يفشل في اجتياز المعايير التي وضعها هو ليدين بها غيره. ولكن حتى لا يسيء أحد فهمنا، نريد التنويه على أن المسيحي الكتابي المُصلح ليس ضد أي مصدر معرفي خارج الكتاب المقدس، لكن ضد الإستخدام الماجستيري لذلك المصدر المعرفي الخارجي وإعلاءه فوق الكتاب. الكتاب المقدس هو القاضي الذي يحكم في كل شيء، وأي مصدر معرفي آخر هو بمثابة الخادم أو رجل الضبطية للكتاب المقدس. 

بقيت ثمة ملاحظة أخيرة. صحيح أن فهم المسيحي الكتابي للحق يتغير عبر الوقت، لكنه هذا التغيير إيجابي وليس سلبي كما يحاول أن يقول الدكتور ماهر. إنه التغيير الناتج عن النمو والتعمق في كلمة الله (كو 1 : 10)، وليس التغيير الجذري بمعنى أن ما أؤمن به الآن مختلف جذريًا عما آمنت به في بداية إيماني. وإن صَحَّ ما يقوله الدكتور ماهر بأن المسيحي يظل يعاني من التغيير السلبي في معرفته للحق، فما فائدة مناقشتنا لأية قضية لاهوتية الآن؟ وبناء على هذا يظل المسيحي غير متيقن من عقيدته أو لاهوته إلى لحظة وفاته طالما أن معرفته للحق قابلة لذلك التغيير السلبي، وبالتالي لا يلزمنا ما يقوله الدكتور ماهر عن الإختيار لأنه قابل للتغيير الجذري. 

(4)

في الأجزاء السابقة، رأينا المنهجية اللاأدرية للدكتور ماهر صموئيل بقوله أنه تلميذ لم يهضم الكتاب بعد جاعلاً بذلك الكتاب المقدس غامض أو لا يمكن الإلمام بحقه العام، ورأيناه أيضًا يدعو إلى ما يمكن تسميته بالفوضوية التعليمية بقوله أن المُعَلِّم الكتابي هو مجرد خادم لك وأنت غير ملزم بما يقوله بل كل ما يعلِّمه لك محل قبول أو رفض، ورأينا أيضًا محاولته تفكيك العلاقة بين الكتاب المقدس والتعليم من ناحية وبين التفسير واللاهوت من ناحية أخرى، وفي هذا الجزء نتحدث قليلاً عن التجديد وعلاقته بالإختيار وعن سبق التعيين المزدوج. 

يقول الدكتور ماهر صموئيل: "أنا مؤمن كل الإيمان إنه فيه إختيار .. لكن أن يُختزل الإختيار إلى أن الله اختار أناسًا ينجيهم من الهلاك، بغض النظر عن حتى رغبتهم .. لأن هو ميت، فهو هيحييه وهيخلصه، وكمالة التعليم ده: واختار أناسًا للهلاك .. ومحدش يقولي إطلاقًا أنا لا أؤمن بالـ double election .. وكل الناس المحترمين اللي بنتعلم منهم زي جون بايبر، زي آر سي سبرول، لازم يؤمن بالـ double election .. لأنه بالمنطق لو عندك 100 واختارت 50 واحد منهم للنجاة by default انت اختارت 50 للهلاك". 

التصريح السابق يدل إما عن سوء فهم أو سوء شرح من طرف الدكتور ماهر فيما يتعلق بتعليم الإختيار. أولاً في كونه يرى أن الإختيار (ومن ثم الخلاص) يكون ضد إرادة "المختار". وهذا سوء فهم جوهري، بل وتشويه لعقيدة التجديد المرتبطة بالإختيار. تجديد الخاطيء لا يكون ضد إرادته أو رغمًا عنها against his will، بل من خلالها through his will. الروح القدس يخلق الرغبة والإرادة لدى الخاطيء فيتوب عن شروره واضعًا ثقته في عمل المسيح. شتان الفرق بين الصورة المشوهة التي يرسمها الدكتور ماهر عن التجديد، وبين الصورة الكتابية كما يُعَلِّمُ بها المنهج المُصْلَح. الصورة الأولى هي أن الخاطيء يخلص رغمًا عن إرادته، الصورة الثانية هي أن هناك عملية تجديد للقلب، وتغيير جذري في طبيعته فيرتغب فيما كان يكرهه، ويُعْطَى الإرادة التي تستطيع أن تقبل وتتوب وتؤمن. ورغم أن الدكتور ماهر يدرك جيدًا أن التعليم المُصْلَح يقول أن الله يحيي الخاطيء من خطاياه، وبالتالي من المفترض ألا تشكل مسألة الإرادة أية معضلة، إلا أنه لا يزال يستنكر أن يكون أساس الإختيار والتجديد هو أن الله يقيم الخاطيء من موته الروحي. وكأن الله يحتاج أن يستأذن الميت روحيًا قبل أن يقيمه من موته الروحي، أو أنه من الممكن حتى فعل ذلك. وهل إستأذن الرب آدم قبل أن ينفخ في أنفه نسمة حياة يا دكتور ماهر؟ هل كان على الرب يسوع مثلاً أن يستأذن لعازر أو إبن أرمة نايين قبل أن يقيمهما من الموت؟ وهل في إقامة الخاطيء من موته الروحي أي شر أو شيء سلبي حتى يستنكر الدكتور ماهر أن يفعل الرب ذلك بدون إذن الإنسان الشرير؟ فضلاً عن ذلك، فإن الدكتور ماهر صموئيل يفترض أن هناك من يريدون الخلاص أو العلاقة مع الله، وهذا غير كتابي لأن الكتاب المقدس أعلن صراحة في عهديه أنه "ليس من يطلب الله" (مز 14 : 2 ، رو 3 : 11). هذا ما نقصده بالموت الروحي يا دكتور ماهر، أن لا أحد يريد الله، لأن الإنسان يحب ظلمته واستقلاله. 

الأمر الثاني الذي إما أن يكون قد أُسِيءَ فهمه أو شرحه من طرف الدكتور ماهر صموئيل حول عقيدة الإختيار (طبقًا للتعليم المصلح) هو سبق التعيين المزدوج double predestination . التعليم المُصْلَح لا يقول أن الله إختار أناس للخلاص وآخرون للهلاك، لكنه يقول أنه إختار أناس للخلاص وترك الآخرون لإختيارهم. وإن كان الله قد عَيَّن منذ الأزل أنه سيعاقب الأشرار على شرورهم، فهذا لا يعني بالضرورة أنه اختار مَنْ سيهلكون. ذلك هو معنى سبق التعيين المزدوج، إنه لا يعني إطلاقًا أن الله إختار بصورة إيجابية أناس للهلاك. يشرح المعلمان الكتابيان جون مكارثر وريتشارد مايهيو هذا الأمر بدقة: 

"بينما يقرر الله بالفعل خلاص البعض ودينونة الآخرين، هناك عدم تناظر ضروري في هذه القرارات. على سبيل المثال، يُلاحَظُ عدم التناظر ذلك في رومية 9 : 22 - 23، حيث يستخدم بولس صيغة المبني للمعلوم للتحدث عن [مدى] تدخل الله في الإختيار ("آنية للرحمة قد سبق فأعدها للمجد") وصيغة المبني للمجهول للتحدث عن [مدى] تدخله في هلاك ("آنية غضب مُهَيَّأة للهلاك"). عندما اختار الله البعض وليس البعض الآخر للخلاص، لم ينظر إليهم على أنهم محايدون أخلاقيًا، ولكن كمخلوقات ساقطة بالفعل. هذا لا يعني أنهم خُلقوا وسقطوا بالفعل، لكن لأن قضاء الله أزلي وبالتالي قبل بدء الزمن. عوضًا عن ذلك، فمنذ الأزل، وقبل أن يُخلق أي شخص، تصور الله أو فكر في كل الناس في ضوء سقوطهم في آدم، وبالتالي كمخلوقات خاطئة. في حالة المختارين، يتدخل الله بصورة نشطة، واضعًا محبته فيهم، مقررًا تعيين المسيح كمخلص لهم ومرسلاً الروح القدس لإحيائهم من الموت الروحي إلى الحياة الجديدة في المسيح. إلا أنه، في حالة غير المختارين، لا يتدخل، بل ببساطة يجتاز عنهم، مقررًا تركهم في حالة خطيتهم ثم معاقبتهم على خطاياهم. فبينما يكون الله هو السبب الفعال لبركة المختارين، فهو ليس السبب الفعال لبؤس غير المختارين، بل إنه يُعَيِّنهم للهلاك بأسباب ثانوية. وهكذا، فإن المختارين ينالون الرحمة، لأنهم لا يعاقبون كما تستحق خطاياهم، ولكن غير المختارين ينالون العدل، لأنهم يدانون بحق كما تستحق خطاياهم. لا يمكن أن يُتهم الله بالظلم في أي من الحالتين السباقتين، لأن الجميع مذنبون ولأنه غير ملزم بإظهار النعمة لأي شخص". 

أما بالنسبة لما يعتقده كل من سبرول وبايبر حول عقيدة سبق التعيين المزدوج. فإن الدكتور ماهر إما أنه أساء فهم ما قاله سبرول أو أنه أساء شرحه. سبرول لا يؤمن أبدًا أن الله اختار أناس للهلاك بنفس المعنى الذي اختار به الله إيجابيًا أناس للخلاص. وتلخيص ما يعلّم به سبرول كالآتي. يقول سبرول أن هناك موقفان حول سبق التعيين المزدوج: الموقف الأول هو 1- الإيجابي/الإيجابي positive/positive . ويُسمى أيضًا بالمنظور المتناظر symmetrical view . وهو أن الله اختار وعَيَّنَ إيجابيًا منذ الأزل الذين سيخلصون ويعمل في قلوبهم إيجابيًا للإيمان، وفي نفس الوقت اختار وعَيَّنَ إيجابيًا منذ الأزل الذين سيهلكون ويعمل فيهم بالتساوي إيجابيًا للشر حتى يضمن هلاكهم. إلا أن هذا ليس التعليم المصلح (الكالفيني) لعقيدة سبق التعين المزدوج. الموقف الثاني من سبق التعيين المزدوج هو: 2- الإيجابي/السلبي positive/negative ، ويُسمى أيضًا بالمنظور غير المتناظر asymmetrical view . وطبقًا لهذا المنظور الكالفيني المصلح، فإن الله إختار إيجابًا الذين سيخلصهم ويخلق في قلبهم الإيمان، ولكنه إختار أن يتجاوز أو يعبر عن آخرون دون أن يخلصهم ودون أن يخلق أو يعمل في قلوبهم للشر ومن ثم الهلاك. وهذا الرأي الأخير حول سبق التعيين المزدوج هو الذي يعلّم به سبرول واللاهوت المصلح. 

وفيما يتعلق بما يؤمن به جون بايبر، رغم أن بايبر أكد صراحة (على موقعه الإلكتروني) أن الله لا يُحَوِّلُ إنسان صالح إلى إنسان شرير، بمعنى أن الإنسان شرير بطبعه وليس أنه صالح أو حتى محايد والله يقوم بتحويله بقرار فعال إلى إنسان شرير مما يؤدي إلى هلاكه (وهو تقريبًا نفس ما قاله سبرول حول هذه الجزئية)، إلا أني أرى أن ما قاله بايبر لا يعبر عن المنهج المصلح. بل يبدو لي أنه نوعًا من الكالفينية المفرطة hyper-Calvinism . 

في الحقيقة، لا يوجد إقرار إيمان مُصْلَح واحد ينص على أن الله يختار إيجابيًا أناس للهلاك. خُذْ مثلاً إقرار إيمان دورت الذي صيغ خصيصًا للرد على الأرمينية التي تنكر تعليم الإختيار طبقًا للمنهج المصلح: 

"إن ما يفسِّر لنا على نحو مميَّز نعمة الاختيار الأزليّة وغير المُستحَقة، ويمتدحها في أعيننا، هي شهادة الكتاب المقدس الصريحة بأنه ليس الجميع، بل البعض فقط هم المختارون، بينما تمَّ في القضاء الأزلي العبور عن البعض الآخر، الذين قضى الله، بحسب مسرته السياديّة، ومُطلَقة العدل، والتي بلا لوم، ولا يمكن أن تتغيّر، بأن يتركهم في البؤس العام، الذي أغرقوا أنفسهم فيه بإرادتهم، وألا يمنحهم إيمان الخلاص ونعمة التغيير؛ لكنه قضى، من خلال سماحه لهم في دينونته العادلة بأن يتبعوا طرقهم الخاصة لإظهار عدله في النهاية، بأن يدينهم ويهلكهم إلى الأبد، ليس فقط لأجل عدم إيمانهم، بل أيضًا لأجل جميع خطاياهم الأخرى. هذا هو قضاء الرفض الذي لا يجعل الله هو مصدر الخطية بأي حال من الأحوال (الشيء الذي يُعَد حتى التفكير فيه تجديفًا)، بل يُعلن أنه ديَّان مهيب، وبلا لوم، وعادل ومنتقم منها". (بند 15، ترجمة خدمات ليجونير). 

نفس الأمر تؤكده إقرارات الإيمان الأخرى، ولا سيما البلجيكي وويستمنيستر. وهذا أمر بيديهي، الله ليس في حاجة إلى التدخل لكي يعمل شرورًا في قلب البشر الخطاة تضمن هلاكهم. بل إن هذا هو الوضع الطبيعي للإنسان، كراهية الله والإستقلال عنه ومن ثم الدينونة الأكيدة. مرة أخرى، يقول سبرول: 

"هناك مشكلة مزعجة متعلقة بعقيدة سبق التعيين، وهي أن الله لا يختار خلاص الجميع. إنه يحتفظ بنفسه للحق في أن يرحم من يرحم. ينال بعض البشر الساقطين نعمة ورحمة الاختيار. بينما يعبر الله عن الباقون تاركًا إياهم في خطاياهم. ينال غير المختارين العدل. ينال المختارون الرحمة. لا أحد ينال ظلمًا". 

(5)

في الأجزاء السابقة تحدثنا عن المنهجية اللاأدرية للدكتور ماهر، وعن أن الإختيار الكالفيني لا يعني أن الله اختار أناس للخلاص وآخرون للهلاك، بل اختار الله أن يخلص البعض وفي نفس الوقت اختار أن يتجاوز آخرون تاركًا إياهم لإختيارهم. وفي هذا الجزء نتحدث قيلاً عن سلطان الله في محبته، وأنه غير مُلْزَم بأن يقدم لغير المختارين نفس القدر والنوعية من المحبة التي أجزلها للمختارين، وأيضًا عن الطرق الثلاث التي يمكن أن نتناول بها إرادة الله. 

يواصل الدكتور ماهر صموئيل حديثه: "فأنا بعترض على ده لأنه بيدخلني في ثلاث مشاكل. المشكلة الأولى هي مشكلة مع النصوص، إنه عندي نصوص كتير أوي بحس إنها تتعارض مع هذا المفهوم، زي مثلاً هكذا أحب الله العالم .. الله يريد أن جميع الناس يخلصون .. وهو لا يشاء أن يهلك أناس .. عندي كم رهيب من الآيات اللي مافهاش المفهوم ده خالص. الحاجة التانية .. بتضطر الأشخاص اللي بيؤمنوا بهذا التعليم إلى تشويه النص .. فمثلاً واحد زي آرثر بينك .. تعالى شوف الآيات دي بتتفسر إزاي: هكذا أحب الله العالم (عالم المختارين) .. الله الذي يريد أن جميع الناس يخلصون (الناس المختارين)، لا يشاء أن يهلك أناس بل أن يقبل الجميع (جميع الختارين) .. إنت ازإي إديت لنفسك الحق، عشان تثبت الـ frame بتاعك وتجعل الكتاب متسق مع بعضه، بناء على قناعة بأنه لا يمكن يكون متناقض مع بعضه .. لكن الأمرين دول مش بنفس خطورة الفكرة التالتة وهي تشويه صورة الله. لأنه هذا التعليم مش زي ما انت قلت بس بيخلي الناس تشعر (ولها الحق أن تشعر) أن الله ظالم. يعني مثلاً، مع كل احترامي، للمعلم العظيم جون بايبر، سؤل سؤال: هل تؤمن أن الله اختار ناس للهلاك، فقال ماعنديش مانع أن أؤمن بهذا إن كان لا يتعارض مع صلاح الله وعدله .. أن كل الكتاب يعلن أن الله صالح وعادل، وعندما يختار ناس ليلقيهم في الجحيم يبقى أكيد صالح وعادل .. طبعًا ما جاوبش ع السؤال" 

على ماذا يعترض الدكتور ماهر؟ على مفهوم مشوه عن سبق التعيين ولا يعبر عن الموقف الكالفيني المصلح؟ أم يعترض على إمتياز الله وحقه وسلطانه في أن يختار من يشاء للخلاص؟ ثم ماذا عن الرقم 3 مع الدكتور ماهر؟ أيضًا عندما اعترض على البدلية العقابية قال أن لديه ثلاث مشاكل معها! 

بالنسبة للمشكلة الأولى، وهي الآيات التي تتكلم عن محبة الله للعالم أجمع وإرادته خلاص العالم. يمكننا أن نذكر عدة نقاط بإختصار. أولاً إدعاء الدكتور ماهر يفترض نوع واحد من المحبة ونوع واحدة من إرادة الله. الله يحب جميع البشر، لكن هذا لا يعني أنه يحبهم بنفس القدر أو النوعية التي أحب بها مختاريه من قبل تأسيس العالم. ثانيًا لا ينبغي هنا التركيز على محبة الله وإغفال سلطانه. فمحبة الله ليست خَنَوع أو تحت أي إلتزام خارجه. محبة الله ذات سلطان، وسلطان الله مُحب. الله غير ملزم بتوجيه نفس القدر والنوع من المحبة لجميع البشر، وإلا الله لصار الله تحت إلتزام أو مديونية خارجية. ولا سيما أن الإنسان المتمرد على الله والكاره له لا يستحق محبته، ومن ثم فمحبة الله في كل الأحوال هي نعمة. والنعمة ليست إلتزام. 

ثمة تمييز هام ينبغي أن نقوم به حول إرادة لكي نفهم قول بولس (والآيات التي لها نفس المعنى) أن الله يريد أن جميع الناس يخلصون (1 تي 2 : 4). يقول سبرول أننا يمكن أن نتكلم عن إرادة الله بثلاث طرق. إرادته القضائية decretive will وهي قرارات الله السرية وقضاءه، وإرادته الأدبية preceptive will وصاياه الأخلاقية التي يريد البشر فعلها، وإرادة مسرته will of disposition أي توجهه attitude . عندما نتناول قول بولس أن الله يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون، ليس من الضروري أن تكون إرادة الله بالمعنى الأول، بل إنها لا يمكن أن تكون بالمعنى الأول. ويمكن أن تكون إرادة الله بالمعنيين الآخرين. إن قول بولس أن الله يريد أن جميع الناس يخلصون هو مشيئته الأدبية. هو وصية وأمر له أن يتوب ومن ثم يخلص جميع البشر (أع 17 : 30). وهو أيضًا إرادة مسرته أو توجهه، فهو لا يسر بموت الشرير، لكن برجوعه عن خطاياه فيحيا (حز 18 : 23). إلا أنها ليست إرادته القضائية التي قررها. لأنه إن كان ما يقصده بولس (خلاص جميع الناس) هو إرادة الله القضائية، فما الذي يمنعه؟ إن كانت الإجابة هي حرية إرادة الإنسان. حينها يمكن توجيه الإعتراض المنطقي: إذًا فإرادة الإنسان أقوى من إرادة الله. ستقول لي أيضًا: الله يحترم حرية الإرادة. سأجيبك حينها: إذًا الله يحترم حرية إرادة الإنسان ولكن لا يحترم حرية إرادته هو والتي في نفس الوقت هي قضاءه وأحكامه! إن إعتبار المقصود بإرادة الله هنا إرادته القضائية سيؤدي حتمًا إلى الإعتقاد بعالمية الخلاص. 

نأتي للمشكلة الثانية المتعلقة بتشويه النص. بداية فإن الدكتور ماهر لم يفند الحجج المفحمة التي أوردها آرثر بينك على سلطان الله في الخلاص، واكتفى فقط بالإعتراض على تفسيره بأن "أحب الله العالم" تشير إلى عالم المختارين. ومع هذا، ورغم القامة اللاهوتية الكبيرة لآرثر بينك، إلا أني أرى أن يو 3 : 16 تشير إلى محبة الله في الصليب بصفة عامة للبشر جميعًا. ورغم أن جون مكارثر يتفق مع آرثر بينك في فحوى ما يقوله بالتأكيد على سلطان الله، وأن الله ليس تحت إلتزام أو أنه مُطَالَبُ بمحبة الجميع بنفس القدر، أو أنه مضطر طبقًا لمبدأ ما للعدل أن يساوي في محبته للجميع، إلا أنه يختلف مع بينك في تفسيره للآية بأنها تعني "عالم المؤمنين". وبدلاً من ذلك يرى مكآرثر أنها تصريح عن موقف الله تجاه البشر جميعًا. لكن يظل مع ذلك أن مكآرثر يؤمن أن محبة الله للمختارين مختلفة عن محبته للعالم أجمع أو لغير المختارين. 

فضلاً عن ذلك، فهذا النص يعلّم بسلطان الله في الخلاص، إذ يقول في نفس قرينة حديث الرب مع نيقوديموس أن "الريح تهب حيث تشاء، وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب، هكذا كل من ولد من الروح" (يو 3 : 8). فقول الرب "الريح تهب حيث تشاء" يدل بوضوح على سلطان الروح في إختياره وعمله. وهذه الحقيقة أوضحها يوحنا في أصحاحه الأول: "الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله" (يو 1 : 13). لاحظ مقدار التأكيد على إرادة الله وسلطانه في هذه الآية الآخيرة، وفي نفس الوقت التأكيد على عدم وجود أي دور للإنسان في الولادة من الله، مما يؤكد سطان النعمة. وهو ذات الأمر الذي استنكره الدكتور ماهر عندما قال أن المؤمنون بالإختيار الكالفيني يستندون على أن الخاطيء ميت بالذنوب والخطايا ويحتاج لإحياءه روحيًا. 

ما يحاول قوله الدكتور ماهر هنا هو أن الإعتقاد بسلطان نعمة الله في الإختيار حتمًا سيؤدي إلى إساءة تفسير نصوص الكتاب. وهذا غير صحيح. فكما رأينا جون مكارثر لا يتفق مع بينك في تفسيره ويؤمن أن محبة الله في يو 3 : 16 هي للبشر جميعًا وليس لعالم المختارين. مما يدل على أنه ليس هناك عيب في النظام العقيدي الكالفيني. 

بالنسبة للمشكلة الثالثة والأخيرة، ألا وهي تشويه صورة الله، فهو إدعاء أبعد ما يكون عن الحقيقة. فكما أثبتنا في هذا الجزء، والجزء السابق، أن سلطان الله في الإختيار لا يطعن في عدله، لان العدل يعني أن الإنسان يستحق الموت والدينونة، ولا يطعن في محبته، لأن الله يحب الأشرار رغم أنهم يكروهنه ويقدم لهم نعمة عنايته في الخليقة ونعمة كفارته في صليب المسيح. بل إننا يمكننا أن نحتج بأن عدم الإيمان بسلطان الله في الإختيار ومن ثم الخلاص، يعني العكس من ذلك، أي التأكيد على سلطان الإنسان في الخلاص، وهذا هو التشويه الحقيقي لصورة الله. فنعمة الله لم تعد كذلك، بل أصبح الفضل لإرادة الإنسان في القبول بل وفي البحث عن الله. لكن الكتاب المقدس يقدم الكثير من الأوصاف لحالة الإنسان تصور مشكلته من أبعاد مختلفة، مما يثبت الفضل العظيم للنعمة في خلاصه وليس لإرادته. فهو ميت روحيًا يحتاج إلى من يقيمه (مت 8 : 22، لو 15 : 24 ، أف 2 : 1، أف 5 : 14)، ومريض روحيًا أعجز المرض الروحي إرادته (إش 1 : 5، إر 3 : 22، مت 13 : 15 ، مر 2 : 16 - 17)، وأعمي روحيًا لا يستطيع أن يرى قباحته بسبب الخطية ولا يستطيع أن يرى جمال الله ومشيئته الصالحة (2 كو 4 : 4، 2 كو 3 : 14، يو 12 : 40)، وعبد مكبل بقيود الخطية لا يستطيع أن يحرر نفسه بل يحتاج إلى من يحرره (يو 8 : 34). عندما تكون حالة الإنسان هكذا روحيًا، فإن كل الفضل في خلاصه يعود لسلطان نعمة الله، وليس لرد فعله أو استجابته أو إرادته كما يزعم الدكتور ماهر. 

إن إنكار تعليم الإختيار يشوه صورة سلطان الله ونعمته، عن طريق نسبة المقدرة والفعالية للإنسان، بنزع الفعالية من عمل المسيح وجعلها متوقفة على إرادة الإنسان. فضلاً عن ذلك، فإن الدكتور ماهر علّم أكثر من مرة بسلطان الله على الطبيعة والتاريخ (في جملته المنتشرة: استبعدوا الله لكن الله لم ينسحب ..)، إلا أنه يستنكر أن يكون لله سلطان في الإختيار. إذًا فالدكتور ماهر يؤمن بسلطان مجتزأ لله وليس مطلق. 

(6)

في هذه الجزئية يطرح الدكتور ماهر صموئيل بعض الأفكار شديدة الخطورة، وتتلخص في فصل النجاة من الجحيم عن الخلاص (قال صراحة أنه يريد فك الإشتباك بين الخلاص والنجاة من الجحيم)، وفي فصل الإختيار عن الخلاص، وفي محاولة حشر تعليم الإختيار تحت عقيدة الكنيسة، وفي اعتقاده بالشمولية. 

ولنبدأ بالفكرة الأكثر خطورة، وهي فصل النجاة من الهلاك عن الخلاص. بحجة أن مفهوم الخلاص أكبر من مجرد النجاة من الهلاك يدعي الدكتور ماهر أنه يمكن بذلك فصل النجاة من الجحيم عن الخلاص. لهذا يقوم بمحاولة تفكيك وتعويم وتشويه وتوسيع مفهوم الخلاص، بحيث أنه أصبح خلاص سياسي (طبقًا لتفسيره لـ لو 1 : 68 – 77)، وخلاص زمني أو مادي (بحسب ما يرى أن 1 تي 4 : 10 تعلمه، وبحسب أع 27 : 43). لكن لم يقدم الدكتور ماهر حتى مفهوم عام أو مشترك بين هذه جميعها، بل اكتفى أن ينفي عنها أي معنى خلاصي متعلق بالنجاة من الجحيم. اكتفى بتحطيم وتعويم مفهوم الخلاص من غضب الله والجحيم. وهذا كما قلنا سابقًا أنها منهجية لاأدرية شكوكية تقوم بتحطيم المفاهيم التعليمية الراسخة لتمرير أجندة ليبرالية من خلف ذلك. 

لكن الخطأ المنطقي واللاهوتي القاتل الذي ارتكبه الدكتور ماهر صموئيل هنا هو أنه استغل علاقة معقدة بين المفهوم والمصطلح في الكتاب المقدس لِيُعَوِّم بل ويحطم تعليم الخلاص من الجحيم. في الكتاب المقدس يُعَبَّرُ عن المفهوم الواحد بأكثر من مصطلح، والعكس من ذلك قد يُستخدم مصطلح واحد ليشير إلى أكثر من مفهوم. والحل إذًا يكمن في القرينة. فليس كل خلاص هو الخلاص من الدينونة (رغم كون ذلك مفهوم مركزي)، بل قد يشير المصطلح إلى مفهوم آخر غير ذلك. كما أن الخلاص من الدينونة لا يرد بحصر اللفظ فقط، بل يرد كمفهوم أيضًا، مثل التبرير والغفران والحياة الأبدية والمصالحة. وليس كل إختيار يكون للخلاص، فهناك فعلاً إختيار لمهمة وإختيار لمقام، إلا أن الإختيار للخلاص لا يرد فقط بحصر اللفظ لكن المفهوم نفسه يرد بتعبيرات أخرى، مثل محبة الله للبعض من قبل تاسيس العالم "لأنه وهما لم يولدا بعد .. أحببت يعقوب وأبغضت عيسو" (رو 9). سبق المعرفة، وهي تعني سبق المحبة قبل تاسيس العالم (رو 8 : 29)، إذ أن المعرفة هنا تعني المحبة المسبقة (هو 12 : 4 – 5، عا 3 : 2). أيضًا التعيين للحياة الأبدية (أع 13 : 48). وفي كون الإيمان عطية الله مما يعنى أن الذين يؤمنون قد أُعْطُوا إيمانًا لأنهم مختارين (اف 2 : 8، في 1 : 28 – 29)، وكلمة "ذلك" في أف 2 : 8 تعود على كل ما سبق مما يشمل الإيمان. الملكوت المعد للبعض منذ تأسيس العالم (مت 25 : 34)، الذين أسماءهم مكتوبة في سفر الحياة منذ تأسيس العالم (رؤ 13 : 8 ، 17 : 8). إذًا فهو ليس إختيار لمهمة أو لمقام كما يدعي الدكتور ماهر، بل إختيار للخلاص وإن لم يرد بحصر اللفظ. 

في بعض الآيات التي اقتبسها الدكتور ماهر، يرد فيها مصطلح خلاص، لكن المفهوم في كل واحدة منها مختلف عن الآخر. صحيح أن الكتاب المقدس يتحدث عن الخلاص من الضيق الزمني، وصحيح أن الكتاب المقدس يتحدث عن خلاص إسرائيل من أعدائهم، بل ويمكننا أيضًا أن نضيف مفاهيمًا أخرى للخلاص مثل الخلاص من الجيل الملتوي (أع 2 : 40)، إلا أنه هذا لا يعني أنه لا يوجد خلاص من الجحيم، وذلك هو الخلاص الأهم على الإطلاق، لأنه الخلاص من غضب الله. لهذا فخطأ الدكتور ماهر هنا فادح، يصل إلى حد التعليم الكاذب الخطير، إذ يقلل من أهمية الخلاص من الجحيم، بعدم تمييزه بل وبخلطه مع الخلاص الأرضي. 

لكن، ليس من الضروري أن ترد كلمة الخلاص بحصر اللفظ لكي نعتبر الآية تحدثنا عن الخلاص الأبدي، بل يكفي وجود مفهوم النجاة من الجحيم والموت الأبدي. خذ بعض الأمثلة التي يوضع فيه الخلاص كالنجاة من الجحيم في مقابلة الهلاك: التوبة ومن ثم الخلاص توضع في مقابلة مع الموت ومن ثم الهلاك: "إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون" (لو 13 : 3). نفس الأمر يفعله بطرس بقوله: "لا يتباطيء الرب عن وعده كما يحسب قوم التباطيء، لكنه يتأنى علينا، وهو لا يشاء أن يهلك أناس بل أن يقبل الجميع إلى التوبة" (2 بط 3 : 9). أيضًا، وضع الرب يسوع الحياة الأبدية في مقابلة مع الهلاك: "لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو 3 : 16). صحيح أن الحياة الأبدية تعني نوعية تلك الحياة وجودتها، أي أنها ذات حياة المسيح التي قام بها من الموت quality، إلا أنها لا تعني ذلك فقط، بل تعني أيضًا طولها longevity ، والدليل هنا هو وضعها في مقابلة مع فكرة الهلاك. وذلك يتأكد لنا أيضًا من العدد التالي: "لأنه لم يرسل الله إبنه ليدين العالم بل ليخلص به العالم" (يو 3 : 16). فالحياة الأبدية في مقابلة مع الهلاك (يو 3 : 16)، وفي مقابلة مع الدينونة (يو 3 : 17). يتحدث يهوذا صراحة عن الخلاص من النار: "خلصوا البعض بالخوف مختطفين من النار" (يه 23). 

فضلاً عن ذلك، فمفهوم النجاة من الهلاك في نسيج تعاليم كتابية أخرى، مثل التبرير، وغفران الخطايا، وهذه ليست عقائد ثانوية في الكتاب المقدس، بل مركزية. وأن تقول أن الخلاص ليس بالضرورة الخلاص من النجاة هو أن تغفل مفهوم مركزي جدًا للخلاص. نحن لا ننكر أبدًا أن مفهوم الخلاص شامل وكبير، فهو خلاص من قوة الخطية، و من نظام العالم الشرير، و من سطوة الشيطان، و من دينونة الخطية. إلا أن هذا الأخير يظل مفهوم مركزي جدًا وتهميش الدكتور ماهر للخلاص من الدينونة، بل وتعويمه وتحطيمه، خطأ جوهري يمس صميم الإيمان المسيحي. وهذا التهميش قام به الدكتور ماهر بأكثر من صورة. عندما قال (في مقاله أصل الحكاية) أن الجحيم هو حجر صحي للأشرار باعتبارهم مرضى وليس أنه مكان عقاب الأشرار. وتساءل أيضًا (في حوار آخر مع أ. يوسف) ما المانع أن تكون مدة العقوبة مؤقتة. وقام بتمويع وتستطيح وتخفيف مفهوم الخطية (في مقاله أصل الحكاية أيضًا) بتعريفها على أنها أنانية أو دوران حول الذات، مع إغفال تام لكونها تعدي على ناموس الله يستوجب الدينونة الأبدية في الجحيم. 

بالإضافة إلى ذلك، فمن بين المعاني التي يذكرها قاموس BDAG لكلمة يخلص sozo هو: أن يخلص أو يحفظ من خطر أو هلاك فائق، يخلص أو يحفظ من الموت الأبدي. أيضًا قاموس HELPS Word-Studies يعرف الكلمة على أنها: ينقذ من الخطر إلى الأمان، تُستخدم أساسًا لإنقاذ الله للمؤمنين من عقوبة الخطيئة وقوتها. 

ثمة بعض الملاحظات الأخيرة. الأولى هي محاولته إدراج، أو بالأحرى إقحام، عقيدة الخلاص تحت عقيدة الكنيسة: "الكاليفينة بتحط الإختيار في السوتوريولوجي، أنا عايز أحط الإختيار في الإكليزيولوجي". وهذه أشبه بمحاولة أصحاب تعليم المنظور المحدث لبولس بوضع التبرير أيضًا تحت تعليم الكنيسة وليست الخلاص (وهي في جوهرها نفس محاولة الدكتور ماهر بفصل الإختيار عن الخلاص). إذ يرون أصحاب ذلك المذهب أن التبرير إنتماء لجماعة وليس إعلان قضائي، وهذا ما قاله إن تي رايت عن التبرير: "التبرير ليس عن السوتوريولوجي (عقيدة الخلاص) بقدر ما هو عن الإكليزيولوجي (عقيدة الكنيسة)، ليس عن الخلاص بقدر ما هو عن الكنيسة". الجدير بالذكر أن الدكتور ماهر في الحلقة الثانية عن الإختيار ذكر أيضًا ما معناه أن الخلاص أن يدخل المرء للجماعة أو الـ category بالإيمان لكن يبقى فيها بالجهاد أو الأعمال. وهذا في حد ذاته كفيل بإظهار أن التعليم الذي يدعو له الدكتور ماهر في حقيقته هو إنجيل مزيف يكون فيه الخلاص بالأعمال. 

الملاحظة الثانية هي قوله أن الكالفينية لا تشجع على الكرازة، وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة. خذ مثلاً وليم كاري الملقب بأبو الإرساليات الحديثة، كان كاليفينيًا حتى النخاع، ولم تعوقه كاليفينيته عن الكرازة إطلاقًا. بل إن إيمانه بسلطان الله في الإختيار كان أكبر محفز له في الكرازة لكي يكون أداة في إحضار المختارين إلى الله. وعلى العكس من ذلك، إن كان الخلاص متوقف على إرادة الإنسان، وإن كان عمل المسيح يظل تحت رحمة الخاطيء في قبوله أو رفضه، فأي رجاء إذًا في الكرازة إذ أن الكتاب يعلَم بأن الجميع أموات بالخطية وأعداء لله رافضين له وأنه ليس هناك من يطلب الله؟ 

الملاحظة الثالثة والأخيرة هي قوله: "مفيش قُطْر في العالم مفيش لحظة في تاريخ البشرية، لم ينجي الله فيها أناسًا من الجحيم، على أساس انكسار قلبهم، وثقتهم في نعمة الله من نحوهم، لجأوا إليه، وهو نجاهم على أساس ذبيحة المسيح .. على أساس عمل المسيح اللي هيجي، هيخلصهم من الهلاك" (دقيقة 56 في الحلقة الأولى). والدكتور ماهر صموئيل يؤمن ويعلم بالشمولية Inclusivism ، وهي التعليم الكاثوليكي بأن المجتهدين والتائبين في مختلف الديانات الذين يؤمنون بالله سيخلصوا في النهاية على حساب عمل المسيح حتى رغم كونهم لم يسمعوا عن المسيح أثناء حياتهم على الأرض. وهذا يأتي بالإتساق مع تعليمه في مناسبات أخرى بأن رابعة العدوية وُلِدَتْ الولادة الثانية (سلسة الله في الأدب العربي)، وأن قدماء المصريين أول من عرف الله وآمن باليوم الآخر (مقال التدين الشكلي والتشوه النفسي)، وأن كل من يتوب دون أن يدرك التعليم المسيحي سيخلص (لقاءه مع القس خالد غبريال)، وأن الله لن يدين الناس لأنهم لم يؤمنوا بالمسيح (في حوار سابق مع أ. يوسف)، وأن الحديث عن الله ينبغي أن يسمو عن الطائفة والدين (في لقاء آخر مع أ. يوسف)، وأن المغني العسيلي يكرز بالسماء المفتوحة (عندما اقتبس كلمات أغنيته شايفك مكسور). كل هذه تدل على أن الدكتور ماهر صموئيل ذهب إلى أكثر من مجرد إنكار الإختيار الكالفيني إلى أن وصل لدرجة الشمولية Inclusivism ، أي عدم ضرورة المعرفة عن شخص المسيح للخلاص. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس