نعم ... الهرطقات يمكن أن تكون خلاصية أيضًا


إن من يرصد وضع البروتستانتية الشرقية من حوله يمكنه أن يلحظ التوجه المسكوني الاختزالي الذي تتسم به الآن. ونستطيع رصد هذا التوجه في عدة ظواهر. أولاً عدم الاكتراث، بل وفي أحيانٍ كثيرة عدم الفهم، لجوهر حركة الإصلاح التي تمركزت حول عقيدتي التبرير بالإيمان وحده وسلطة الكتاب المقدس وحده. ثانيًا، الدعوات المسكونية بالوحدة، أو التعاون على أي مستوى، مع الطوائف الطقسية بحجة أنها تعتنق تعاليمًا قويمة عن الثالوث وشخص المسيح الواحد وطبيعتيه المتحدان فيه دون إنفصال أو اختلاط. ثالثًا، هناك قطاع كبير من البروتستانت لا يضيرهم شئ سوى الهجوم على الثالوث، وألوهية المسيح، والقيامة الجسدية. بينما لا يكترثون أن عقيدتي الخلاص وسلطة الوحي، يتم الهجوم عليهما ليلاً ونهارًا، بواسطة من يتبنون تعاليمًا قويمة عن الثالوث وألوهية المسيح (مثل الطقسيين). رابعًا، أصبحنا نسمع كثيرًا مصطلحات مثل "المسيحية المجردة" (نسبة إلى سي إس لويس)، ودعوات لاطائفية للإلتفاف حول قانون إيمان نيقية.

وقد يسأل سائل: ما المشكلة في (مسكونية) نيقية أو في أن يكون للمرء عقائد قويمة أو في دعوات المحبة والوحدة؟ هذا السؤال سنجيب عليه بتفصيل أكثر في السطور التالية. لكننا نستطيع أن نقدم إجابة سريعة عن ذلك بالقول أننا مع المسكونية والوحدة والمحبة طالما كانت متمركزة حول الحق، والحق كله، أو على الأقل كل الحقائق الجوهرية. وأننا نقر بإيمان نيقية بكل جوارحنا طالما ليس المقصود بذلك هو استثناء الإصلاح البروتسانتي وإرجاع ساعة التاريخ اللاهوتي والكنسي إلى ما قبل الإصلاح. وأننا نؤكد على كل ما يعتبره الكتاب المقدس حقائق خطيرة، كالثالوث وألوهية المسيح والميلاد العذراوي والصلب والقيامة الجسدية والبدلية العقابية والتبرير القضائي بالإيمان وحده والخطية الأصلية. وهذا يدفعني للقول بأن الغرض مما أكتبه هنا هو لفت النظر إلى أن الهرطقات ليست فقط ما يتعلق بالثالوث وألوهية المسيح. بل هناك هرطقات خلاصية.

إن الهرطقة يمكن أن تكون متعلقة بطبيعة الله أو الثالوث (ثيولوجي بروبر). مثل ادعاء السابيليانية بأن الأقانيم مجرد أشكال أو حالات لظهور الله. أو متعلقة بألوهية المسيح وشخصه الواحد وطبيعتيه غير المنفصلتان وغير الممتزجتان في نفس الوقت (كريستولوجي). مثل الآريوسية والنسطورية والأوطاخية. أو متعلقة بالخلاص (سوتيريولوجي)، من خلال إنكار الحاجة له، أو بإنكار حصرية المسيح، أو بمزج الناموس بالنعمة. مثل البيلاجية والسوسينية والناموسية (لدى الطوائف الطقسية). أو متعلقة بالكتاب المقدس بإنكار وحيه وسلطته (بيبليولوجي). مثل الليبرالية اللاهوتية. صحيح أن إنكار وحي وسلطة الكتاب المقدس لا يعني بالضرورة إنكار الإيمان، إلا أن الإنكار المتعمد لوحي وسلطة الكتاب المقدس في أغلب الأحوال، إن لم يكن دائمًا، يكون بغرض اعتناق هرطقات خلاصية.

لكن، وبكل أسف، فإن البروتستانتي الشرقي المعاصر غالبًا ما يضيره النوع الأول فقط بينما يبدو سعيدًا للتعايش مع الباقي، ولا سيما الهرطقات السوتيريولوجية. ورغم أنه لا يوجد اهتمام عام بعقيدة الثالوث لدى البروتستانتية الشرقية الحالية، إلا أن هذا في حد ذاته لا ينفي التوجه المسكوني الذي نستطيع رصده في الإلتفاف حول عقيدة الثالوث وألوهية المسيح مع إهمال وتهميش عقيدة التبرير القضائي بالإيمان وحده (كمثال على ذلك).

إن الإهتمام البروتستانتي غير المتوازن بعقيدتي الثالوث وألوهية المسيح، مع إغفال تعاليم أخرى خطيرة، ولا سيما ما يتعلق بالخلاص، يعكس توجهًا مسكونيًا. وينم عن منظومة عقيدية غير متوازنة. ويدل على فهم غير ناضج لقانون الإيمان النيقاوي القسطنطيني. ويشير إلى عدم اتساق أو إلتزام بروح الإصلاح البروتستانتي. ولا يلتفت لما علّم به بولس عن أن الهرطقة يمكن أن تكون سوتيريولوجية (متعلقة بعقيدة الخلاص). وأخطر الكل فإن ذلك الإهتمام غير المتوازن بين الحق المتعلق بالله، والحق المتعلق بعمله الفدائي، هو تمزيق للنسيج الواحد للإنجيل.

عقيدة الخلاص كانت في خلفية دفاع الآباء عن الحقائق المتعلقة بالثالوث وألوهية المسيح

يظن البعض أن عقيدتا الثالوث وألوهية المسيح أخطر ما في المسيحية، لأن الآباء الأوائل دافعوا عنهما فقط. أو لأن الكنيسة الجامعة (المسكونية) الأولى إلتفت فقط حول هذين التعليمين. وبالتالي فإنه لا يضارعهما تعاليمًا أخرى في المسيحية من حيث الخطورة. إلا أن هذا الاعتقاد ينم عن سوء فهم لإقرارات الإيمان التي أنتجتها المجامع المسكونية الأربعة الأولى ولا سيما نيقية وخلقدونية. لم يكن الغرض الوحيد من الدفاع عن الثالوث وألوهية المسيح، وطبيعتيه المتحدتان دون اندماج أو انفصال في شخصه الواحد، هو فقط تحصين تلك العقائد الكتابية الهامة في حد ذاتها. بل كان هناك غرض آخر، ألا وهو تحصين وتأمين عقيدة الخلاص لكونها مؤسسة على طبيعة الله. إن الدفاع عن عقيدتي الثالوث وما يتعلق بالمسيح، ليس فقط مهم جدًا لأنها حقائق كتابية خطيرة ومركزية في ذاتها، بل مهم جدًا أيضًا على مستوى آخر لأن تشويهها يؤثر على الإنجيل بصورة خطيرة. وقد فهم الآباء هذا الارتباط الخطير بصورة جيدة جدًا.

ونستطيع أن نستشف هذا الفهم للإرتباط بين طبيعة الله وطبيعة عمله لدى الآباء من بعض أقوالهم. على سبيل المثال، قال أثناسيوس "كلمة الله، ربنا يسوع المسيح ... صار ما نحن عليه، لكي يحضرنا لنكون نحن ما هو عليه بالفعل". يقول أيضًا جريجوريوس النيزنزي (أحد الآباء الكبادوك الثلاثة): "ما لم يأخذه [في التجسد] لم يشفه". أي لو لم يأخذ الله الابن، طبيعة بشرية كاملة، ما كان في الإمكان تخليص الإنسان. إن قولا كل من أثناسيوس وجريجوريوس النيزنزي يعبران بقوة عن الترابط بين ما نعتقده عن المسيح (ومن ثم الثالوث) وما نعتقده عن كفارته. وهذا الإدراك بين الحق المتعلق بالله والمسيح من ناحية، وبين حق الإنجيل من ناحية أخرى، شَكَّلَ الخلفية اللاهوتية لدى الآباء في الدفاع عن عقيدتي الثالوث وألوهية المسيح. وليس كما يمكن أن يُساء الفهم بواسطة البروتستانتي الشرقي المعاصر، أن الحق المتعلق بالله هام، والحق المتعلق بعمله غير هام. وأن ما أجمعت الكنيسة الأولى عليه فقط هام، بينما ما اختلف حوله في القرون الوسطى غير هام (أي اختلاف المصلحون مع كنيسة روما).

لهذا يقول أيضا فرانسيس يونج (مؤرخ كنسي معاصر): "إن الكثير من الخلافات العقائدية في القرون المبكرة، لا سيما النقاشات الكريستولوجية (العقائد المتعلقة بشخص المسيح)، أوعز بها في نهاية المطاف افتراضات مسبقة عن الخلاص والتي خلقت ولاءات عميقة، على الرغم من أنه بالكاد صُرِّحَ بها في بعض الأحيان" (يونج ٢٠١٠).

كنيسة القرون الوسطى كانت لها تعاليم قويمة عن الثالوث والمسيح وتعاليم مشوهة عن الخلاص

عندما دافع آباء الكنيسة عن عقيدتي الثالوث وألوهية المسيح كانت عقيدة الخلاص في الخلفية. وعندما جاء المصلحون، أُحْضِرَت عقيدة الخلاص إلى الطليعة. الآباء ساعدونا في تأمين وحماية عقيدة الخلاص من خلال الدفاع عن ألوهية المسيح والثالوث. فظهر المصلحون ليبنوا على هذا الأساس ويعلمونا ما معنى الخلاص بالضبط. فأكدوا على عقائد مثل البدلية العقابية والتبرير القضائي والخطية الأصلية والتمييز بين التبرير والتقديس (بالإضافة إلى صياغتهم الدقيقة للبيبليولوجي في وجه تعاليم روما غير الصحيحة).

ورغم أن كنيسة القرون الوسطى كانت لها عقيدة قويمة عن الثالوث وألوهية المسيح، إلا أن المصلحون رأوا أن تعاليمًا أخرى خطيرة ومركزية تم ‏تشويهها، ألا وهي كفاية عمل المسيح والتبرير بالإيمان وحده والفساد الجذري. ‏إن هذه الخطورة لتعليم التبرير بالإيمان وحده، وما يصاحبه من عقائد أخرى، عبر عنها كل من لوثر وكالفن بقولهما أن التبرير بالإيمان وحده هو الأساس الذي تقوم أو تسقط عليه الكنيسة، وأنه المحور الذي تدور عليه المسيحية. كما أن خطورة عقيدة الفساد الجذري تفسر لنا أيضًا لماذا وصف إقرار إيمان دورت البيلاجية بأنها "هرطقة". والبيلاجية، تعليم غير قويم يخص طبيعة الإنسان (أنثروبولوجي) بإنكار الخطية الأصلية، واعتبار أن النعمة عامل مساعد فقط وليست ضرورية. فالهرطقة، طبقًا للمصلحين، ليست فقط ما يمس طبيعة الله وشخص المسيح، كما يعتقد الكثيرون من البروتستانت اليوم، بل كل ما يمس عمل ‏الله الفدائي أيضًا. ‏

ولكن الأمور التي رأى المصلحون خطورتها ومن ثم دافعوا عنها، التبرير بالإيمان وحده، والفساد الجذري، وثبات القديسين، هي ذات الأمور التي يبدو البروتستانتي المعاصر سعيدًا للتعايش مع إنكارها من حوله. فالكنيسة الطقسية لم تزل تعلّم بالتبرير بالإيمان والأعمال معًا. ولم تزل تنادي بأن غسل الخطية الأصلية يحدث في مياه المعمودية. وأنه من الكبرياء أن يتيقن المرء من خلاصه. ولم تزل تنادي بشفاعة القديسين والكهنوت الطقسي والإستحالة. كما أنه هناك من الليبراليين البروتستانت من يطعنون في البدلية العقابية والخطية الأصلية والتبرير القضائي ويروجون لوجود خلاص خارج المسيحية. في الوقت نفسه يضير البروتستانتي المعاصر فقط الهجوم على طبيعة الله والثالوث وألوهية المسيح. لقد تم تدجين وترويض البروتستانتية الشرقية المعاصرة بحيث ترسخ فيها أن الهرطقة فقط ما يمس الثالوث وألوهية المسيح والقيامة الجسدية.

ألاّ يضيرك من الهجوم على الحق سوى الذي تتفق عليه الطوائف الكبرى، مثل الثالوث وألوهية المسيح، ومفهوم عام عن الخلاص، هو أن تتنكر للإصلاح البروتستانتي.

في الإنجيل يتضافر الحق المتعلق بالله والحق المتعلق بعمله تضافر يستحيل فصله

لماذا دافع الآباء عن كل ما يتعلق بطبيعة الله؟ ولماذا اهتم المصلحون بعقيدة الخلاص؟ الإجابة هي أن كل من الحق المتعلق بطبيعة الله، والحق المتعلق بطبيعة الفداء، يتضافران معًا في الإنجيل بصورة لا يمكن فصلها.

الله في ذاته واحد الجوهر موجود في ثلاثة أقانيم. وهذا حق عن الله قبل الخلق والتجسد، بل وبدونهما أيضًا. أي سواء خلق الله أو لم يخلق، وسواء تجسد أو لم يتجسد، يظل جوهرًا واحدًا في ثلاثة أقانيم. وليس لأن عمله الفدائي ثالوثي (الآب أرسل الابن، والابن تجسد ومات وقام، والروح حل على الكنيسة لتطبيق الفداء) يكون الله ثالوث. بل إن عمل الله يعكس طبيعته الثالوثية. أي أن عمل الله يعكس طبيعته، وطبيعته تؤسس لعمله. إن الله صنع ما صنعه في الخلق والفداء لأنه واحد في جوهره وثالوث في أقانيمه. كما إننا لدينا هذا الإنجيل الثمين لا لسبب آخر سوى لكون الله ما هو عليه، أي جوهر واحد صالح غير محدود موجود في ثلاثة أقانيم متمايزون.

بينما يستمد عمل المسيح الكفاري قيمته من شخصه، فهو الله الابن المُرْسَل من الآب للتجسد والفداء، إلا أنه بدون عمل المسيح لا نستطيع أن ننتفع بشخصه أي انتفاع. ولا يمكن أن يكون لنا قدومًا إلى الآب إلا من خلال الابن المتجسد الفادي. ولا يمكن أن نُبَارَك بحلول الروح فينا إلا من خلال المقام الذي منحه لنا الابن بعمله. إن السبيل إلى الشركة مع الاب والابن والروح القدس هو الإنجيل. إن كل من طبيعة الله الثالوثية واحدة الجوهر، وعمل الأقانيم في الخلق والفداء، متضافران في الإنجيل بصورة يستحيل الفصل بينهما. تطبيقًا لذلك، مهما كانت لنا عقيدة قويمة عن جوهر الله الواحد الموجود في ثلاثة أقانيم، ومهما كانت لنا عقيدة سليمة عن ألوهية يسوع المسيح، لا يمكن أن ننتفع من هذا الحق إلا من خلال عقيدة سليمة وصحيحة عن عمل المسيح الكفاري.

على سبيل المثال، أحدهم له كتاب عنوانه "الثالوث القدوس قبل نيقية" يدافع فيه عن عقيدة الثالوث، ونفس هذا الكاتب من ألد أعداء البدلية العقابية والخطية الأصلية وسولا سكريبتورا والإصلاح البروتستانتي بأكمله. ماذا ينفعه إيمانه القويم حول الثالوث بينما يعتنق البيلاجية ويرفض الكفارة العقابية ويؤمن بالتأله؟ وفي حين نمدحه على إيمانه القويم بالثالوث وألوهية المسيح، إلا أننا لا نستطيع إلا وأن نحذره أن هذا لن ينفعه شيئًا إن ظل على رفضه لباقي التعاليم الخلاصية. ما من شك أنه يرى البدلية العقابية والخطية الأصلية والتبرير القضائي كهرطقات بغيضة. إلا أننا كإنجيليين، لا يمكن أن نمدحه على إيمانه القويم بالثالوث وألوهية المسيح، بينما نتغاضى عن التعاليم المشار إليها كأمور ثانوية أو فرعية يمكن الإختلاف عليها ونظل معتقدين أننا جمعيًا مسيحيين. إن هذا هو الحادث مع كثيرين من البروتسانت اليوم. يظنون أننا يمكن أن نختلف حول معنى الخلاص ونظل مسيحيين فقط إن كنا نتفق حول الثالوث وألوهية المسيح وأن المسيح مات وقام.

لكن، أن يضيرك الهجوم على الثالوث وشخص المسيح فقط دون أن يضيرك الهجوم على عمله، إنما يدل على سوء فهم حول طبيعة الإنجيل نفسه الذي يتضافر فيه الحق المتعلق بطبيعة الله مع الحق المتعلق بطبيعة عمله في نسيج واحد يستحيل فصله أو تمزيقه. كما أنه لا سبيل لإكرام الثالوث، دون إكرام ما عمله الثالوث في الفداء. تذكر أن معرفتنا بالله، وعلاقتنا به، مؤسستين بصفة جوهرية، على عمله في الخلق والفداء. ومن ثم، لا نستطيع أن يكون لنا علاقة أو معرفة حقيقية بالله، الواحد في جوهره والثالوث في أقانيمه، دون أن يكون لنا معرفة سليمة بما صنعه الله في الفداء.

إن أهمية الثالوث، وأهمية عمله الكفاري (في إرسال الآب وفداء الابن وسكنى الروح)، يسيران جنبًا إلى جنب بالنسبة لنا كبشر خطاة. ما نعتقده عن طبيعة الله وصفاته (الثيولوجي بروبر)، هو أساس ما نؤمن به عن الخلاص (سوتيريولوجي). وما نعتقده عن الخلاص يفترض عقيدة قويمة عن الله. الأولى تقود إلى الثانية، والثانية مؤسسة على الأولى. لكن التفريط في أحدهما، سواء كان لاهوت قويم عن الله، أو عقيدة خلاصية سليمة، هو تفريط في المسيحية بأكملها.

الهرطقة يمكن أن تكون خلاصية أيضًا

على خلاف ما يعتقده البروتستانتي الشرقي المعاصر، أن الهرطقة متعلقة فقط بكل من الثيولوجي بروبر (الثالوث)، وبـ الكريستولوجي (ألوهية المسيح وشخصه الواحد وطبيعتيه)، يشرح د. مايكل ريكاردي بطريقة مميزة كيف أن بولس له رأي مختلف حول هذا الأمر. يقول ريكاردي إن مجرد تغيير طفيف في ترتيب العلاقة بين الإيمان والأعمال، الأمر الذي أدى تقويض عمل المسيح (هرطقة خلاصية)، دفع بولس لوصف المتهودين بأقسى الأوصاف. يقول بولس:

إِنِّي أَتَعَجَّبُ أَنَّكُمْ تَنْتَقِلُونَ هَكَذَا سَرِيعًا عَنِ ٱلَّذِي دَعَاكُمْ بِنِعْمَةِ ٱلْمَسِيحِ إِلَى إِنْجِيلٍ آخَرَ! لَيْسَ هُوَ آخَرَ، غَيْرَ أَنَّهُ يُوجَدُ قَوْمٌ يُزْعِجُونَكُمْ ‏وَيُرِيدُونَ أَنْ يُحَوِّلُوا إِنْجِيلَ ٱلْمَسِيحِ. وَلَكِنْ إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ نَحْنُ أَوْ مَلَاكٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا»! كَمَا سَبَقْنَا فَقُلْنَا أَقُولُ ‏ٱلْآنَ أَيْضًا: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُبَشِّرُكُمْ بِغَيْرِ مَا قَبِلْتُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا»!‏ (غل ١ : ٦ - ٩)

يعلق ريكاردي على هذا النص البولسي:

"كتب بولس ذلك عن خطأ المتهودين، والذي، إذا تأملت فيه، لوجدته، طبقًا لبعض التقييمات، خلافًا عقيديًا رفيعًا (دقيق). فكر في ‏كل شيء مشترك بين المتهودون وبين الإيمان المُسَلَّمُ مرة إلى القديسين. لقد آمنوا بإله واحد موجود أبديًا في ثلاثة أقانيم: الآب ‏والابن والروح القدس. لقد آمنوا بألوهية المسيح وبشريته. لقد آمنوا أنه كان مسيا إسرائيل إتمامًا للعهد القديم. لقد آمنوا بالبدلية العقابية – ‏أن المسيح تحمل عقاب غضب الله على خطايا شعبه عندما مات على الصليب، حتى يتحرروا من عقاب الخطية وقوتها (وذات يوم من ‏وجودها). وآمنوا أنه دُفن وأنه قام في اليوم الثالث. وآمنوا أن التوبة والإيمان بالمسيح ضروريان للغاية لمغفرة الخطايا وللشركة مع الله ‏في السماء. إن هذا كثير من العقائد المهمة حقًا التي فهموها بشكل صحيح!‏".

إن كان هذا هو الحال مع الغلاطيين، فأين المشكلة بالضبط؟ يشرح ريكاردي هذا الأمر:

"مشكلتهم الوحيدة تتلخص في الأساس حول ما إذا كانت الأعمال الصالحة هي سبب الخلاص أم نتيجة له. هل كان حفظ الناموس هو ‏أساس الخلاص أم مجرد دليل على الإيمان المُخَلِّص؟ هل نَخْلُصُ بالإيمان وحده أم بالإيمان بالمسيح بالإضافة إلى ممارساتنا الدينية؟ الآن، ‏نقطة الخلاف هذه كانت، باعتراف الجميع، بسبب تمييز لاهوتي دقيق! ومع ذلك، لا يزال بولس يستخدم أقسى لغة لإدانتهم على أخطائهم. ‘إنجيل آخر’ ‏‏(١ : ٦). ‘ليس إنجيل حقيقي على الإطلاق’ (غل ١ : ٧). ‘ليكن أناثيما’ – مدانًا في الجحيم (غل ١ : ٨ ، ٩). ‏‏’مقطوعون من المسيح’ (غل ٥ : ٤). ‘سيحتملون دينونتهم’ (غل ٥ : ١٠). ‘أتمنى أن يقطعوا أنفسهم’ (غل ٥ : ١٢). كلمات قوية ‏بالنسبة لخلاف على ترتيب مراحل الخلاص ‏ordo salutis‏!"

إن ما يمكن أن نصفه نحن بأنه هرطقة خلاصية، عبر عنه بولس بمصطلحات أخرى. مثل إنجيل آخر. وأنه ليس إنجيل من الأساس، أي ليس مسيحية. وأن من ينادي بأن الإنسان يتبرر بالإيمان والأعمال معًا هو أناثيما، أي ملعون. كل هذه التعبيرات السابقة التي استعملها بولس، عن الذين قالوا أن الإنسان يخلص بالإيمان والأعمال معًا، وليس الإيمان وحده (كما أكد المصحلون)، تعني أن ما علّم به المتهودون في رسالة غلاطية هو هرطقات خلاصية. كما أن ما قد يعتبره البروتستانتي الشرقي المعاصر اختلافًا فرعيًا حول الخلاص، أي هل نتبرر أمام الله لأننا عملنا الصلاح أم أننا نعمل الصلاح لأننا تبررنا بالفعل، رآه بولس على أنه صميم الإنجيل وذات المسيحية ومن ثم السبيل إلى الشركة مع الثالوث الأقدس. لهذا يقول بولس أن المتهودون تبطلوا عن المسيح، وسقطوا من النعمة. أن تنفصل عن المسيح، بإنكار كفاية وكمال عمله، هو أن تنقطع عن الثالوث. أن يكون لك عقيدة خاطئة عن الخلاص، هو أن تحرم نفسك من الشركة الثالوثية.

تحفظ وبعض الأسئلة الختامية

نحن مدينين بشديد الفضل لمجمع نيقية وصياغته للحق الثالوثي. كما أننا نفعل حسنًا إن أصغينا للوصايا الكتابية بالوحدة الكنسية ومحبة بعضنا البعض. مهما أبرزنا أهمية الأمور السابقة لا يمكن أن نكون قد بالغنا في ذلك. لكن للحق أبعاد أخرى لا يمكن أن نغفلها. فنيقية يخلو من التفاصيل الخلاصية الهامة التي فرضتها علينا تحديات لاهوتية خطيرة لاحقة، ولا سيما تلك التي قام الإصلاح البروتستانتي بصياغة ردود دقيقة عليها (كالتمييز بين التبرير والتقديس). أن تقول أن المسيحية هي الثالوث وألوهية المسيح ومفهوم عام عن الخلاص، أما باقي الأمور يمكن الاختلاف عليها، هو أن تقوم بإرجاع ساعة التاريخ الكنسي إلى ما قبل الإصلاح.

نحن لا نحاول أبدًا التقليل من عقيدتي الثالوث أو ألوهية المسيح، أو عن عدم لزوم الدفاع عنهما، إطلاقًا. ولا نسعى أبدًا لإبخاس نيقية حقه. لكن فقط لفت النظر إلى ما يمكن تسميته ‏بالنسخة البروتستانتية النيقاوية الاختزالية. وهي بروتستانتية لا يهمها عقيدة الخلاص من قريب أو من بعيد، كما فهمها ودافع عنها المصلحون. لكن فقط الثالوث وألوهية ‏المسيح ومفهوم عام بالصلب والقيامة. نسخة أرجعت ساعة التاريخ الكنسي إلى ما قبل الإصلاح البروتسانتي، إلى نيقية وما قبله. ‏نسخة مجردة من المسيحية أو حد أدنى منها يمكن أن تتفق حوله الطوائف الكبرى. نسخة تم تدجينها بتصدير فكرة أننا يكفينا أن نؤمن بالثالوث وألوهية المسيح ومفهوم عام عن موته وقيامته، وفي نفس الوقت يمكننا الاختلاف على معنى فداء المسيح ونظل مسيحيين.

لكن، ما فائدة أن تؤكد على ألوهية المسيح والثالوث بينما لديك مفهوم خاطيء عن الخلاص؟ مثل إنكار كل من التبرير (القضائي) بالإيمان وحده والخطية الأصلية؟ ما فائدة أن تؤمن أو تدافع عن تلك التعاليم المركزية بينما لا يضيرك أن توضع أعمال البر الذاتي إلى جوار النعمة؟ إن تعاليم مثل الثالوث وألوهية المسيح لن تأخذك بعيدًا إن لم تؤمن بكفاية وحصرية ومركزية وضرورة عمل المسيح الكفاري. كما أن دفاعك، كبروتستانتي، عن الثالوث وألوهية المسيح ومفهوم عام عن صلبه وقيامته، وفي نفس الوقت تغفل بصورة متعمدة الدفاع عن معنى ما عمله الثالوث في الفداء، ينم عن الكثير من المشاكل لديك.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس