تحليل لمقال "مسيح العالم كله" لمتى المسكين


لعله يأتي غريبًا على مسامع الكثيرين أن الأب متى المسكين نادي بعالمية الخلاص (يونيفيرساليزم). ولعل الأمر يزداد غرابة إن قلنا أن الأب متى مزج بين عالمية الخلاص والإنجيل الاجتماعي. لكن هذا ما جاء بالضبط مقاله "مسيح العالم كله" مفصحًا عنه. وقد نُشر المقال في مجلة مرقس يناير ١٩٧٠، ثم نُشر عام ٢٠١٣ في كتيب بعنوان مسيح العالم كله يضم مقال آخر ومن إصدار مطبعة دير القديس أنبا مقار – وادي النطرون.

السطور التالية هي استعراض وتحليل لفكر الأب متى حول هذا الأمر مع بعض الردود عليه.

بداية، نحن لا نستطيع إلا وأن نمدح الأب متى على محاولته لإبراز الطبيعة العالمية والكونية لعمل المسيح. فهو قد صالح السماء بالأرض. وصالح الأرضيين مع بعضهم البعض، بحيث لم يعد هناك فرق بين أسود وأبيض، أو بين غني فقير، أو بين متعلم وجاهل. كما أننا نمدحه أيضًا على تأكيده على التضمينات الاجتماعية لرسالة الإنجيل، أو بصورة أدق ثمار الإيمان بالإنجيل. إلا أن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد لديه. بل يصل إلى اعتناق عقيدة عالمية الخلاص (جميع البشر سيخلصون في النهاية). محولاً رسالة الإنجيل إلى رسالة للعدالة الاجتماعية بصورة جوهرية.

يبدأ الأب متى مقاله، في مناسبة الميلاد، ليس فقط بالتأكيد على الرسالة اللاهوتية لأنشودة بولس في كو ١ : ١٥ – ٢٠، بل وعلى الإنسانية أيضًا. على أن ما يقصده الأب متى بالجانب الإنساني لأنشودة بولس المشار إليها سيتضح فيما بعد أنه العدالة الإجتماعية، والتي هي نتيجة أو تطبيق لتعليمه بالمسيح العالمي أو كما يدعوه هو بـ "مسيح العالم كله".

أول ما يمكن أن يصطدم به المسيحي الكتابي في هذا المقال هو أنه يضع ما يعلّم به بولس في هذا النص في مقابلة مع فهمنا التقليدي لمسيح بيت لحم. إنه نوع من التفكيكية المستترة، أي أن النص لا يعني ما اعتاد أن يعنيه للمسيحيين عبر العصور لهذا يقدم لك الأب متى المعنى غير التقليدي لمجيء المسيح:

"بولس الرسول يتجاوز هنا في وصفه للمسيح كل معرفتنا التقليدية وألفاظنا المألوفة التي طالما تغنينا بها عن المسيح المولود في بيت لحم. كلمات الرسول هنا لازمة لنا هنا وفي هذه المناسبة لتهز أساسات التفكير المنطقي، ولتوقظ وعي الإنسان المسيحي، حتى يتعرف أكثر على مسيحه المولود في بيت لحم، مسيح العالم كله". (ص ٣)

ويبدو هنا أن الأب متى يضع صورة مسيح بيت لحم المنتشرة لدى العامة، أي المسيح اليهودي لتلك القرية الصغيرة، في مقابلة مع المسيح العالمي أو الكوني الذي يعلّم به بولس. أو ما يظن الأب متى أن بولس يعلّم به. بكلمات أخرى، إنه يقدم لك مسيحًا عالميًا كبيرًا في مقابل المسيح المَحَلِّي الكنسي الطائفي المعتاد. لكن الطبيعبة الكونية لعمل المسيح مختلفة جذريًا عن تلك العالمية التي يقصدها الأب متى.

يدعو الأب متى قارئه للتعرف على المسيح العالمي الحقيقي الذي يظن أن بولس ينادي به في مقابلة المسيح المعتاد الذي يخص الكنيسة والأسرة التقية فقط:

"لقد حان الوقت أن نتعرف على مسيح العالم كله. كلنا عرفنا مسيح الأسرة الملتئمة حول أب تقي وأم تقية، كلنا عرفنا مسيح الجمعية ومسيح الكنيسة المجتمعة حول كاهن صالح". (ص ٥)

إلا أن الفقرة التالية تخبرنا عن طبيعة هذا المسيح العالمي الذي يحاول الأب متى إقحامه على فكر بولس:

"وقد حان الوقت أن نعرف مسيح الشارع، مسيح الناس، الناس كل الناس الذين عرفوه والذين لم يعرفوه، مسيح الأشرار والأبرار الصالحين والطالحين، في كل مدينة وقرية، في كل شعب وأمة، في كل أنحاء العالم ... مسيح العالم كله". (ص ٥)

وهنا يختلط الحابل بالنابل في تصريحات الأب متى. فبينما المسيح فعلاً متاح للجميع، وأنه أكثر من كافٍ للجميع، وأنه ليس تمييز فيه بين شعب وآخر أو ولون وآخر، إلا أن الأب متى بقوله أولاً أن المسيح هو مسيح الأشرار والأبرار يعني أن فاعلي الإثم لهم نصيب في المسيح. بل والأكثر من ذلك، أن المسيح هو مسيح من لم يعرفوه أو يسمعوا عنه "الذين عرفوه والذين لم يعرفوه". وإن وضعت هاتين الفئتين إلى جوار بعضهما، أي فاعلي الشر، والذين لم يعرفوه، يتأكد لنا أن ما يقصده الأب متى هو خلاص الجميع (عالمية الخلاص أو اليونيفيرساليزم). فلا يهم سلوكك، ولا يهم موقفك الإيماني أو العقيدي من المسيح، بل ما يهم هو موقف المسيح نحوك، كما سيأتي الذكر. فتصبح النتيجة المنطقية أن فاعلي الشر الذين لم يسمعوا عن المسيح لهم نصيب فيه وسيخلصون به.

وما يقصده الأب متى بمسيح العالم كله يتعدى المفهوم الكاثوليكي بـ الشمولية Inclusivism . أي أن المتدينون من الديانات الأخرى، الذين لم يسمعوا عن المسيح، ويستجيبون بأفضل ما لديهم من معرفة دينية لإعلان الله لهم، سيخلصون على حساب عمل المسيح رغم أنهم لم يسمعوا عنه أو يؤمنوا به. على الأقل، طبقًا لهذه العقيدة الشمولية، فإن أولئك يمارسون نوع من الصلاح، ولديهم مفهوم ما عن الله. إلا أن الأب متى يقول أن المسيح هو مسيح فاعلي الشر، ومن لم يعرفوه، بل والملحدين كما سيأتي الذكر. لم يبقى سوى أن يقول الأب متى أن الشيطان سيخلص. ويبدو لي، رغم أن لا أستطيع الجزم بذلك، أن هذا ما قصده من قوله في مطلع المقال أن المسيح صالح "السمائيين والأرضيين". من هم السمائيين الذين يقصدهم الأب متى؟

ثم يسوق الأب متى بعض الأمثلة على كون المسيح لا ينبغي أن يكون سجينًا لأسرة (يهودية أو مسيحية آمنت به) أو سجينًا لتلاميذه، أو سجينًا لمباديء وأفكار وآراء، أو حتى سجينًا لأماكن ومقدسات. لكن كل هذه الأمثلة التي ساقها الأب متى بها الكثير من المغالطات.

ففي حديث الرب يسوع عن من هي أمه ومن هم إخوته (مت ١٢ : ٤٨ - ٤٩)، فإن من أشار إليهم المسيح بيده كانوا تلاميذه الأتقياء الذين عرفوه وآمنوا به وماتوا من أجله. وليس فاعلي الشر والذين لم يسمعوا عن المسيح كما ادعى الأب متى سابقًا، وكما سياتي الذكر. وفي (لو ٩ : ٤٩) حين منع التلاميذ شخص يُخرج الشياطين ولكنه لا ينتمي لهم، فإن هذا الشخص كان يُخرج الشياطين بإسم الرب يسوع المسيح "رأينا واحد يخرج الشياطين بإسمك فمنعناه". ومع أن رفض التلاميذ لذلك الشخص كان نوعًا من الحزبية من طرفهم، إلا أنه كان يؤمن بنفس المسيح الذي آمنوا به، وكان له نفس السلطان الذي أعطاه الرب إياهم. هو فقط لم يكن معروفًا للتلاميذ. وهذا عكس كلام الأب متى أن المسيح مسيح النجسين والذين لا يعرفوه.

وفي توبيخ بولس للكورنثوسيين (١ كو ١ : ١٢ - ١٣) كانوا أولئك مسيحيون آمنوا بالرب يسوع عن طريق كرازة بولس (أع ١٨ : ١ - ١٨)، وكانوا أغنياء في المواهب الروحية التى أعطاها لهم الروح. صحيح أن أخلاقياتهم بصفة عامة ككنسية لم تكن تليق بمؤمنين، إلا أنهم عرفوا الرب يسوع وآمنوا به. وليس كما يدعي الأب متى أن المسيح هو مسيح الفاسقين الذين لم يسمعوا عنه ولا عرفوه.

بالنسبة لحديث الرب يسوع مع السامرية عن العبادة في (يو ٤ : ٢٠ - ٢٣)، فإن المسيح لم يرفض أن يبقى سجينًا لأماكن ومقدسات، كما يدعي الأب متى، بل أراد الإشارة إلى نفسه كهيكل الله الأعظم، بالمقابلة مع هيكل أورشليم، ومع الجبل الذي كان يعبد فيه السامريون. ففي نهاية المطاف فإن أولئك الساجدين سيسجدون للآب، بالروح القدس، وفي الحق، الذي هو الرب يسوع المسيح. وليسوا وثنيون أو نجسين كما يُفهم من كلام الأب متى.

وفيما يتعلق بالمثالين الأخيرين الذان ساقهما الأب متى، فإن مثل السامري الصالح (لو ١٠ : ٣٠ - ٣٦) ليس المقصود به أن الأشرار والذين لم يسمعوا عن المسيح سيخلصون، ولكن ردًا على سؤال من هو القريب. فكانت إجابة الرب يسوع أن القريب هو الإنسان أيًا كان. الغريب أن الأب متى يستعمل الإرسالية العظمى (مت ٢٨ : ١٩) لإثبات عقيدته بعالمية الخلاص. فلأن الرب أمر تلاميذه بالكرازة في أقصى الأرض، فإن هذا سببًا كافيًا لدى الأب متى ليكون الخلاص عالميًا. إلا أنا ما أغفله الأب متى هو أن الرب أمر تلاميذه بأن يكرزوا بإنجيله ويشهدوا له. وهذا ليصصدم مع الادعاء بأن المسيح مسيح من لم يسمعوا عنه.

إن الحق الكتابي يعلمنا أنه لا يوجد أي نوع من أنواع التمييز فيمن هم في المسيح، فالجميع واحد بغض النظر عن عرقهم أو لون بشرتهم أو مستواهم الاجتماعي أو جنسهم. إلا أن هناك تمييز خطير بين من هم في المسيح، أي المؤمنين به عن وعي، وبين من هم خارجه، أي الذين لا يؤمنون به.

إن المسيح لدى الأب متى هو من وُلد من أجل العالم كله، ومن مات من أجل العالم كله:

"مسيح العالم كله وُلد من أجل من العالم كله لأنه أحب العالم كله، ومن أجل كل العالم سُفِكَ دمه ‘وهو كفارة لخطايانا، ليس لخطاينا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضًا’ (١ يو ٢ : ٢)، فدمه لا يمكن أن يساوي أقل من العالم كله". (ص ٧)

وهنا أيضًا يضع الأب متى أبو قرش على أبو قرشين. ما يقصده يوحنا هنا ليس أن المسيح افتدى الجميع، النجسين الذين سيظلوا على نجاستهم إلى يوم مماتهم، والذين لم يعرفوه وسيظلوا كذلك إلى يوم وقوفهم أمام عرشه الأبيض العظيم. بل ما يقصده يوحنا هنا أن المسيح افتدى الكنيسة شعبًا له من بين كل شعوب العالم. وهذا أمر يمكن أن نتفهمه جيدًا إن عرفنا المشكلة التي واجهتها الكنيسة الأولى بدخول الأمم إلى الإيمان (راجع أعمال ١٠، والمقابلة التي يصنعها بولس دائمًا في رسالة رومية بين اليهودي واليوناني). إذ أن شعب الله كان مقتصرًا في القديم على اليهود فقط. دخول الأمم إلى الكنيسة شَكَّلَ صدمة لليهود وآثار التحزب بين الفريقين. لهذا أكد الرسل في العهد الجديد على أن جسد المسيح يشمل كل من اليهود والأمم بدون تمييز. من هذا المنطلق وحده، إذًأ، فإن المسيح يكون عالميًا، أي له كنيسة مختارة من بين الشعوب.

بل إننا لنا الجرأة أن نقول أن الرب يسوع ليس فقط مسيحًا عالميًا، اختار لنفسه كنيسة من بين شعوب العالم، بل أيضًا مسيحًا كونيًا. فقد صالح الله بالإنسان، والإنسان مع نفسه، والإنسان بأخيه، والإنسان بالخليقة غير العاقلة، والخليقة مع بعضها البعض. إلا أن هذا لا يعني إطلاقًا أن الجميع سيخلصون في النهاية. وإلا فأن هذا ليصطدم مباشرة مع تعليم الرب يسوع المسيح عن الجحيم وهلاك الأشرار وعن ضرورة الإيمان بشخصه. إن الرب يسوع المسيح هو أكثر من علّم عن الجحيم. بل وأكثر الصور رعبًا عن الجحيم في العهد الجديد جائت على لسان المسيح نفسه.

ليس فقط أن يسوع أكثر من تحدث عن الجحيم في الكتاب المقدس، بل وتحدث عن الجحيم أكثر من السماء. يقول د. أ. كارسون في شرحه للموعظة على الجبل: "[يسوع] نفسه تحدث عن الجحيم ضِعْف حديثه عن السماء". يضيف آر سي سبرول: "تقريبا كل التعاليم الكتابية عن الجحيم جاءت على شفتي يسوع" (أساسيات الإيمان المسيحي). كيف يمكن للأب متى إذًا أن يصالح هذه الحقائق مع عقيدته بعالمية الخلاص وبمسيح طيب لا يدين بل يموت فقط من أجل العالم؟

ثم يتبع الأب متى اقتباسه لـ (١ يو ٢ : ٢) ببعض الأسئلة البلاغية:

"فلماذا نحصر حب المسيح ونكتمه، ونحكم أنه لا يكفي، إلا لنا ولمن يتبعنا فقط؟ لماذا نحتكر دم المسيح لأنفسنا فقط، ونمنعه عن الآخرين الذين لا يتبعوننا وكأننا اشتريناه بتقوانا أو بمبادئنا وحكمتنا ... لماذا نرى خطايانا تُغسل في دم المسيح مجانًا وبسهولة، وننكر على الآخرين باعتداد وعناد هذا الاغتسال والتطهير؟ مع أن المسيح لم يجعلنا قوَّامين على شرف دمه ولا نحن أكثر من مغتسلين، والدم قيل عنه بصراحة شديدة ووضوح كافي أنه كفارة ليس لخطاينا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضًا" (١ يو ٢ : ٢). (ص ٧)

على الرغم أن الأب متى يحاول هنا الحديث بأسلوب به بعض الغموض، إلا أنه في نفس الوقت جاء غموضه كاشفًا عن عقيدته العالمية. إن الأب متى يرفض عدم احتكار المسيح ومنعه عن "الذين لا يتبعوننا". ولا يحق لنا، طبقًا له، أن ننكر على غير المسيحيين الاغتسال والتطهير. مرة أخرى، نحن نؤكد على أن المسيح متاح للجميع، لكن المسيحي فقط هو من آمن بالمسيح عن وعي. ولا أحد يرفض مجيء غير المسيحيين للاغتسال والتطهير، مهما كانت درجة نجاستهم. لكن المشكلة هي عندما يصرون على نجاستهم رغم عرض الإنجيل الذي يجلب الطهارة والخليقة الجديدة لهم. إنهم يتمسكون بربوبيتهم على حياتهم في مقابل ربوبية المسيح. ولا يوجد قوّامون على دم المسيح، لكن كل مسيحي مؤتمن على الإنجيل الذي به يخلص أي إنسان. لأنه بدون الإيمان الواعي برسالة الإنجيل لا يمكن أن يخلص إنسان.

وهكذا، فإن ادعاءات الأب متى المسكين، يختلط فيها الحابل بالنابل. ويفرط في استعمال مغالطة رجل القش بتوشيه المسيحية القويمة.

إلا أن أكثر العبارات كشفًا لعقيدة الأب متى بعالمية الخلاص هي العبارة التالية:

"هل آن الأوان أن نعرف مسيح الماديين والملحدين والمستهترين من شباب الدنيا الذين لم يجدوا مسيحهم في كنيسة أو في أب صالح أو قدوة طيبة، المسيح الطيب الذي يحيا لهم وبينهم ويحمل خطيتهم، أخذوا يبحثون في الطبيعة أو في الغريزة أو المخدر علهم يجدون سلامهم المفقود". (ص ٨)

أكثر ما يذهلني في العبارة السابقة هو الثقة الغريبة التي يتحدث بها الأب متى. يبدو من كلامه أننا مغيبون وصلتنا نسخة مزيفة من المسيحية فيحاول هو، بما له من استنارة لا تمتلكها الأغلبية، أن يفيقنا بأنه آن الأوان أن نعرف حقيقة المسيح الذي نجهله. فهو مسيح الماديين والملحدين والمستهترين والمدمنين والفاسقين. مسيح فاعلي الشر والنجسين ومنكري وجود الله. "المسيح الطيب"! كيف يمكن أن يكون هذا؟ إن الذين للمسيح الآن هم من كان ماضيهم هكذا، ملحدون أو ماديون أو مستهترون أو مستبيحون، أيًا كانوا. وكما يقول بولس نفسه "وهكذا كان أناس منكم (زناة وفاسقون وطماعون وسكيرون وعبدة أوثان وشتامون) لكن اغتسلتم بل تقدستم بل تبررتم بإسم الرب يسوع وبروح إلهنا" (١ كو ٦ : ١١). أما الذين يظلون على نجاستهم إلى النهاية فيقول عنهم الكتاب "لأن خارجًا الكلاب والسحرة والزناة والقتلة وعبدة الأوثان، وكل من يحب ويصنع كذبًا" (رؤ ٢٢ : ١٥).


ثم ما معنى قول الأب متى "الذين لم يجدوا مسيحهم في كنيسة أو في أب صالح أو قدوة طيبة"، هل المسيح مجرد مثال يُتَّبَع، أم مُخَلِّص من دينونة الخطية وسلطانها؟ هل المسيح أن ترى سلوك طيب في شخص ما، أم رسالة الإنجيل؟ وهل الملحد ألحد لأنه لم يجد صورة المسيح في أبيه أم لأنه يرفض سلطان الله على حياته "قال الجاهل في قلبه ليس إله"؟ إن الأب متى يجعل الملحد ضحية، وليس مذنب يرفض الله ويطمس إعلانه الواضح في الخليقة. لقد جعل الأب متى من الخاطيء ضحية من حوله. وهذا يتضح أكثر لاحقًا عندما يقول أن فحوى الإنجيل هو العدالة الاجتماعية.

إن ما يقوله الأب متى هنا هو أن المسيح يوجد خارج الكنيسة "الذين لم يجدوا مسيحهم في كنيسة". وهذا على عكس ما أكده الآباء الذين يتشدق بهم هو "أنه لا خلاص خارج الكنيسة". كيف يمكن أن يصالح الأب متى مذهبه الأرثوذكسي السرارئي، أي القائم على ممارسة الأسرار الكنسية التي تمنح الكنيسة بواسطتها نعمة الخلاص، مع ادعاءه بأن هناك من سيخلصوا خارج الكنيسة؟


وكاتب هذه السطور يؤمن أنه فعلاً لا خلاص خارج الكنيسة. لكن ليس بالمعنى الذي يقصده الطقسيون. أي أنه لا خلاص خارج الكنيسة لكون نعمة الخلاص تمنح من خلال الأسرار الكنسية. لكن ما أقصده أنا من القول لا خلاص خارج الكنيسة هو أن الكنيسة مؤتمنة على الكرازة بالإنجيل، ومؤتمنة على رعاية القطيع وإطعامه. ولهذا فلا يوجد خلاص ولا نمو بعيد عن الكنيسة. فإن وجد خلاصًا خارج الكنيسة لكان هذا معناه أنه خلاصًا بدون إنجيل وبدون مسيح. وأي خلاص هذا؟

على أن الأب متى لا ينادي فقط بعالمية الخلاص، بل يمزج ذلك بما يمكن أن نسميه لاهوت التحرير أو الإنجيل الاجتماعي:

"هل آن الأوان أن نعرف أن مسيح هؤلاء وأولئك، المسيح المتألم المرفوض والمهان، التائه في شوارع المدينة وأزقتها ‘أُخرج عاجلاً إلى شوارع المدينة وأزقتها وأَدخل إلى هنا المساكين والجُدع والعرج والعمي ...’ ". ثم يضيف الأب متى: "مسيح المرفوضين بمقتضى القوانين، والأنظمة والتشريعات، والمعتبرين أنهم خارج الحدود وخارج السياجات". (ص ٨)

إن معنى ما يقوله الأب متى هنا هو أن المسيح جاء بصفة رئيسية، لا ليرفع عقوبة الخطية، لكن ليتضامن مع المهمشين والمنبوذين والمحتقرين والمرفوضين. من هذا المنطلق فهو مسيح للعالم كله. غرضه هو المقهورين اجتماعيًا وسياسيًا. ما يقوله الأب متى هنا هو إبخاس وتشويه وتحريف للإنجيل. المسيح لم يأتي ليتضامن مع المتألمين، ولا لكي يشاركهم الألم (بصفة أساسية)، ولكن ليحمل عنا آلام الخطية وعقوبتها (مت ١ : ٢١، ٢٠ : ٢٨، مر ٢ : ١٧، ١ تي ١ : ١٥).


ثم ماذا يقصد الأب متى بقوله "أعضاء المسيح المهانة المفضوحة في أنحاء العالم كله، التي عرتها الخطية وعراها الظلم وعراها العقل البشري، فتبرأت منها الكنيسة، مع أنها جزء من الكنيسة ... فهي جزء من المسيح"؟ (ص ٩). أعضاء المسيح التي تبرأت منها الكنيسة مع أنها جزء من الكنيسة والمسيح؟! يبدو أن ما يقصده هنا أيضًا الأب متى أن أعضاء المسيح هم فاعلي الإثم خارج الكنيسة. بغض النظر عن الخوض في صحة مواقف الكنيسة نحو غير المؤمنين، إلا أنه لا يمكن أن يُحسب فاعلي الإثم أعضاء ضمن جسد المسيح! إن من ينتمون إلى المسيح هم فقط من آمنوا به فتغيروا عن سيرتهم الباطلة التي تقلدوها من الآباء.

يتابع الأب متى رسالته بعالمية الخلاص والإنجيل الاجتماعي:

"هل آن الأوان أن نستكمل معرفتنا بشكل المسيح الحقيقي الذي يجمع كل هذه البشرية في نفسه وبالأخص هذا الجزء منه، القبيح في نظرنا، المستهتر والنجس والشنيع في أعيننا، الذي به وبالرغم من وجوده، يبقى المسيح جميلاً كما هو، طاهرًا كما هو، قدوسًا بلا عيب! ألم يُصلب من أجل الكل؟ "ألم يحمل خطايانا في جسده" (١ بط ٢ : ٢٤) على الخشبة؟ ألم يغسل العالم كله بدمه لما تخضَّبَ به جسده، وجسده نحن والبشرية كلها؟ "ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا" (رو ٥ : ٨). فالصليب سابق لوجودنا، سابق لإيمانا، والدم الذي سفك ثمنًا لفداء الجميع قد دُفِعَ كله مقدَّمًا قبل أن يدركه أحد وقبل أن يطالب به إنسان!!" (ص ٩)

إن عبارة الأب متى "آن الأوان أن نستكمل معرفتنا بشكل المسيح الحقيقي" غريبة الشكل والمضمون. فهي تستحضر إلى الأذهان المذهب الشكوكي بالبحث عن يسوع التاريخي. وأنه لا يهم يسوع التاريخ بقدر أهمية مسيح الإيمان. ولا سيما أن الأب متى المسكين لم يستعمل مطلقًا اسم "يسوع" في مقاله، بل اقتصر المقال بأكمله على استعمال لقب "المسيح". ناهيك عن أن العبارة تحمل نوعًا من الكهنوت الأكاديمي. فالأب متى هو ذلك المستنير الذي جاء لكي يعرفك بشكل المسيح الحقيقي الذي اكتشفه هو!!

الأمر المذهل أيضًا في الفقرة السابقة للأب متى هو أن "المسيح الحقيقي ... يجمع كل هذه البشرية في نفسه وبالأخص هذا الجزء منه، القبيح في نظرنا، المستهتر والنجس والشنيع في أعينا". أي أن جسد المسيح، لا يحوي فقط المقدسين، الذين تقدسوا بالدم، من خلال الإيمان به، والذين في نفس الوقت تقدسوا بعمل الروح من خلال سكنى الروح فيهم. بل يحوي أيضًا النجسون!! وهنا، وكعادته، يخلط الأب متى التراب بالذهب. المسيح جاء لأجل المرضى فعلاً لا الأصحاء، لأجل النجسين والفجار، لكن لا ليبقى هؤلاء كما هم في نجاستهم وفجورهم. لا ليظلوا أربابًا لنفوسهم، بل ليخضعوا لربوبية المسيح على حياتهم.

صحيح أن الصليب سابق لوجودنا وإيمانا، وأن الدم المسفوك دُفِعَ كله مقدَّمًا قبل أن يدركه أحد وقبل أن يطالب به إنسان. إلا أن الأسبقية التاريخية للصليب لا تعني عدم لزوم الإيمان به عن وعي. وإلا لما كان للصليب لزومًا من الأساس. إن حدث الفداء التاريخي والموضوعي، في ملء الزمان، لا يعني خلاص الجميع بلا استثناء. بل يلزم أن يأخذ أقنوم الروح القدس هذا العمل التاريخي في ملء الزمان ليطبقه على من يؤمنون فقط بأقنوم الابن المتجسد.

إن مسيح العالم كله، لا يتجاوز الشعوب والثقافات والألوان والأعراق فقط، بل يتجاوز الأديان أيضًا، طبقًا لما يراه الأب متى:

"فالآن إن كنا نؤمن بالمسيح الكامل، مسيح العالم كله، آدم الثاني، أبو البشرية الجديدة الذي تبنى طبيعة الإنسان عامةً، لتكون له خاصة فولد بها، ليعلن فيها نفسه، وذُبح بها ليقدسها ويقدمها ذبيحة للآب ... وصار هو بها مسيح العالم كله، مسيح الطبيعة البشرية قاطبة ... إن كنا نؤمن به كذلك ونؤمن أننا به متحدون، فقد أصبحنا مسؤولين بمقتضى إيماننا هذا عن وحدة الطبيعة البشرية التي في المسيح بكل شعوبها وأجناسها ولغاتها وأديانها وعقائدها وطوائفها ..." (ص ١٠)

لاحظ هذا القول الخطير للأب متى: "وحدة الطبيعة البشرية التي في المسيح بكل شعوبها وأجناسها ولغاتها"، إلى هنا الكلام عظيم، لكن في العبارة التالية يدس الأب متى السم في العسل بقوله "وأديانها وعقائدها وطوائفها". المسيح يحوي، في جسده، وكأعضاء له، بشر من أديان أخرى؟! صحيح أن للرب يسوع المسيح مختارون من حظائر الأديان المختلفة، إلا أن أولئك لا يمكن أن يبقوا في حظائر وثنيتهم ويخلصوا في النهاية دون أن يأتوا للراعي ويؤمنوا به! لو ظلوا في حظائرهم لانطبقت عليهم نبوة المسيح بأنهم الجداء الذين سيقيمهم في النهاية عن يساره مرسلاً إياهم إلى موضع العذاب (مت ٢٥ : ٣٢ - ٣٣).

ثم يضرب الأب متى، في عبارة واحدة، عرض الحائط بالإنجيل وضرورة الإيمان الواعي والكرازة به:

"نحن لا يهمنا موقف هؤلاء الناس من المسيح، ولكن الذي يهمنا هو موقف المسيح منهم ... فالمسيح مصلوب من أجل كل إنسان وبالتالي من أجل العالم كله ...". (ص ١١)

رغم أن الأب متى يقول "لا يهمنا موقف هؤلاء الناس من المسيح" إلا أنه في حقيقة الأمر يقصد أن المسيح نفسه لا يهمه موقف الناس منه. فهو "المسيح المصلوب من أجل كل إنسان وبالتالي من أجل العالم كله". إن المسيح صَلَبَهُ أعداءه ورافضيه، وكان يعلم ذلك قبل أن يُصلب، ورغم هذا مات من أجلهم باعتبارهم جزء من العالم كله. لكن هذه مغالطة أخرى للأب متى. وخلط للغث بالسمين كعادته.

صحيح أن البشر جمعيًا أعداء للمسيح بالطبيعة، وصحيح أن المسيح مات من أجل صالبيه أيضًا. لكن هذا لا يعني أبدًا أن موقف الإنسان من المسيح لا يهم. كما أنه لابد أن لهؤلاء الأعداء يتصالحوا معه من خلال الإنجيل بتغيير طبيعتهم وتبريرهم أمام الله حتى يكونوا أعضاء جسده. شتان الفرق بين ادعاء الأب متى وبين القول مهما كانت خطايا الناس، ومهما كان ماضيهم وحاضرهم، فإن دم المسيح فعّال وغير محدود ليتكفل بتبريرهم وتجديدهم وتقديسهم إن آمنوا به.

إن كان المسيح لا يمهمه موقف الإنسان منه، فماذا عسانا أن نفعل مع نصوص مثل هذه؟

يقول يوحنا الرسول: "الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية، والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة، بل يمكث عليه غضب الله" (يو ٣ : ٣٦).

يقول بولس "وإياكم الذين تتضايقون راحة معنا، عند استعلان الرب يسوع المسيح من السماء، مع ملائكة قوته، في نار لهيب، معطيًا نقمة للذين لا يعرفون الله، والذين لا يطيعون إنجيل ربنا يسوع المسيح، الذين سيعاقبون بهلاك أبدي من وجه الرب ومن مجد قوته" (٢ تس ١ : ٨ - ٩).

يقول بطرس أيضًا: "لأنه الوقت لابتداء القضاء من بيت الله. فإن كان أولاً منا، فما هي نهاية الذين لا يطيعون إنجيل الله" (١ بط ٤ : ٥).

كاتب العبرانيين: "فكيف ننجو نحن إن أهملنا خلاصًا هذا مقداره، قد اببتدأ الرب بالتكلم به ثم تثبت لنا من الذين سمعوا" (عب ٢ : ٣).

أيضًا كاتب العبرانيين: "فكم عقابًا أشر تظنون أنه يُحسب مستحقًا من داس ابن الله، وحسب دم العهد الذي قدس به دنسًا، وازدرى بروح النعمة" (عب ١٠ : ٢٩).

وإن لم يتأكد لك تعليم الأب متى بعالمية الخلاص في العبارة السابقة، بأنه ليس المهم مواقف الناس من المسيح بل المهم موقفه هو منهم، فإن العبارة التالية تزيل أي شكوك حول هذا الأمر:

"المسيح مات بيد جماعة أظهروا نحوه عداوة قاتلة وأبغضوه حتى الموت، ولكن المسيح لم يبغضهم لأنهم جزء منه، لذلك فرح أن يموت عنهم ليفديهم ويفدي العالم كله من الموت ومن لعنة العداوة والبغضة القاتلة!!". (ص ١١)

المسيح فرح بقاتليه، ليس لأنهم سيأتوا إلى الإيمان به، وليس لأنهم سيتحولوا من العداوة ضده إلى المصالحة معه، بل لأنهم جزء منه بغض النظر عن إصرارهم على رفضه أو قبولهم له؟! وكيف يفرح المسيح بالأثمة؟ إن المسيح يفرح بالتائبين وليس بفاعلي الإثم! إن المسيح ظل حزينًا علينا، بل وغاضبًا من نحونا، إلى اللحظة التي آمنا به فيها، رغم أننا خاصته الآن ككنيسة!

يقول الأب متى:

"هذه هي ذروة الكرازة بمسيح العالم كله لوحدة شعوب العالم وأجناسه. وهذه هي رسالة المسيحية الأولى والعظمى في العالم: أن نموت من أجل العالم بلا تمييز بين إنسان وإنسان ... هذه هي الرسالة التي ظلت متعطلة ومحبوسة في إطارات حديدية من الأنانية والطائفية والعنصرية والتعصب للأجناس والأديان والعقائد". (ص ١٢)

إن هذه العبارة للأب متى هنا تلخص تعاليمه بعالمية الخلاص والإنجيل الاجتماعي. فذروة الكرازة هي "وحدة شعوب العالم وأجناسه" وليست ثمارًا أو نتيجة لعمل الإنجيل كما يمكن أن يقول أي مسيحي كتابي. ورسالة المسيحية الأولى والعظمى هي أن نموت من أجل العالم بلا تمييز بين إنسان وإنسان. وهذا ليس سوى الإنجيل الاجتماعي، إنجيل التضامن مع المقهورين والمساواة بين البشر، وليس الإنجيل الكفاري الذي يخلص من عقوبة الخطية وسلطانها. الرسالة لدى الأب متى هي الارتقاء فوق الإطارات الحديدية للطائفية والعنصرية والتعصب للأديان والعقائد. الإنجيل، لدى الأب متى هنا، ليس هو أن الله قبلنا في المسيح نحن الأعداء وأبناء الغضب، بل أن يقبل البشر بعضهم البعض. وليس أن الله يحرر من سلطان الخطية، بل أنه يحرر من القهر الاجتماعي والمظالم السياسية.

صحيح أن عمل المسيح له ثمار في حياة الفرد والكنيسة من نحو المجتمع، إلا أن المسيح جاء أساسًا ليحمل عنا عقوبة الخطية، ويحررنا من سلطانها. لكن ما فعله الأب متى هنا هو أنه جعل نتائج الإنجيل وثماره مركزًا له. وأحضر ما في الخلفية إلى الطليعة. وجعل النتيجة سببًا. وحول الإنجيل من رسالة لاهوتية إلى رسالة اجتماعية.

يختم الأب متى مقالته:

"كل سنة كنا نعيِّد لميلاد المسيح، ولكنه حتى الآن مسيح الأسرة، مسيح العقيدة المنحصرة في ذاتها، مسيح الفضلاء والأتقياء، مسيح ذوي البشرة البيضاء. فهل آن الأوان يا أخوة أن نعيِّد لميلاد مسيح كل العالم؟ مسيح كل عشيرة تسمى على الأرض وفي السماء من كل أمة ولسان وبشرة سوداء وصفراء وحمراء؟ مسيح كل من ينادي بإسم الرب ولو لم يعرفه؟" (ص ١٢)

إن رسالة الميلاد، والتجسد، لدى الأب متى ليست ميلاد المخلص الذي يخلص شعبه من خطاياهم كما قال الملاك ليوسف، بل رسالة العالمية والقبول ومساواة الجميع مهما كان لون بشرتهم. ذلك لأن المسيح يقبلهم بغض النظر عن إصرارهم على عدائهم له. إن رسالة الميلاد لديه، ليست رسالة الإنجيل ومحتواه العقيدي، بل رسالة الارتقاء فوق العقيدة وعدم الإنحصار فيها.

أي ميلاد، وأي مسيح هو الذي ينادي به الأب متى؟ إنه مسيح العالم كله! مسيح عالمية الخلاص والإنجيل الاجتماعي. ليس مسيح الفجار الذين يحتاجون إلى مخلّص من عقوبة الخطية وسلطانها، بل مسيح المقهورين الذين يحتاجون إلى محرر من المظالم الاجتماعية. إنه مسيح لست في حاجة إلى الإيمان به ولا حتى في حاجة إلى التوبة. مسيح يخلصك رغم عدم معرفتك به ورغم إصرارك على الخطية ليوم مماتك. إن هذا أشبه بالمسيح الكوني الذي علّم به ريتشارد رور بقوله أن يسوع شيء والمسيح شيء آخر. وقد أطلق عليه رور المسيح الكوني. مؤكدًا أيضًا على الإنجيل الاجتماعي. أما الأب متى فأسماه مسيح العالم كله. فلا عجب أن إسم "يسوع" لم يرد مرة واحدة في مقالة الأب متى!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس