كيف تقرأ رسالة أفسس


لِتَدْبِيرِ مِلْءِ الأَزْمِنَةِ، لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، فِي ذَاكَ (أفسس ١: ١٠)


تُعد رسالة أفسس من أعمق رسائل بولس من حيث الرؤية اللاهوتية والتطبيق العملي. فهي لا تخاطب كنيسة واحدة فقط، بل تقدم تعليمًا عامًا عن هوية المؤمنين في المسيح، ووحدتهم معًا كجسد له.

في بيئة وثنية متعددة الآلهة، يشدد بولس على اتحاد المؤمنين بالمسيح، واختيارهم فيه منذ الأزل، وبنائهم معًا كهيكل مقدس. تتنقل الرسالة بين تعليم سماوي عن رئاسة المسيح، وتطبيق عملي يظهر في حياة الكنيسة والأسرة.

في هذا المقال نستعرض خلفية الرسالة، وأسلوبها، ومضمونها اللاهوتي، لنفهم كيف يدعونا بولس لأن نعيش هويتنا في المسيح واقعًا ملموسًا.

الخلفية التاريخية والثقافية

تقع مدينة أفسس في غرب آسيا الصغرى (تركيا الحالية)، وكانت من أكبر مدن المنطقة، ومركزًا تجاريًا وثقافيًا ودينيًا بارزًا. وقد اشتهرت بعبادة الإلهة أرطاميس، التي عُرفت عند الرومان باسم ديانا، وكان معبدها في المدينة يُعد من عجائب الدنيا السبع. كما عُرفت أفسس بتعدد الأديان والعبادات الوثنية، ما جعلها بيئة معقدة وسياقًا مليئًا بالتحديات أمام الكنيسة الناشئة.

تنعكس هذه الخلفية بوضوح في مضمون الرسالة، حيث يؤكد بولس على الاتحاد بالمسيح، ووحدة الكنيسة تحت قيادته كرأس للجسد. إذ إنّ انحدار المؤمنين في أفسس من خلفيات وثنية متنوعة، بالإضافة إلى الضغوط الدينية والثقافية المحيطة، دفع بولس إلى التشديد على الهوية الجديدة للمؤمنين، التي تتأسس في المسيح وتظهر في علاقتهم بعضهم ببعض.

ومع ذلك، فإن رسالة أفسس تتسم بطابع عام من حيث الأسلوب والمخاطَبين، ما جعل بعض الباحثين يصنفونها كرسالة دورية كانت موجهة لعدة كنائس في المنطقة.

الأسلوب الأدبي للرسالة

تتبع رسالة كولوسي النمط المعروف في رسائل العهد الجديد، حيث تبدأ بمقدمة وتحية، يليها تسبيح، ثم جزء تعليمي، يتبعه جزء عملي تطبيقي، وتنتهي بتحيات ختامية.

وإذا قارنا أسلوبها بأسلوب رسائل أخرى مثل رومية وأفسس، نلاحظ بعض الفروق: فرسالة رومية تتميز بشرحها العميق والمنظم للمفاهيم المسيحية، وكأنها بحث لاهوتي منطقي. أما رسالة أفسس، فأسلوبها أقرب إلى التأمل والتسبيح، خاصة في بدايتها، حيث ينساب بولس في كلامه عن بركات الله بلغة شاعرية مركّزة.

بالمقارنة مع ذلك، تميل كولوسي إلى أسلوب أبسط وأكثر مباشرة، يركّز على الحقائق اللاهوتية دون استخدام طويل للجمل البلاغية أو التأملات الممتدة. وهذا لا يقلل من عمقها، بل يجعلها أقرب إلى رسالة عملية تضع الحقائق الإيمانية في صلب الحياة اليومية للمؤمن.

المادة اللاهوتية للرسالة

تتركّز الرسالة من الناحية اللاهوتية حول شخص المسيح ودوره، وهذا ما يُعرف في الدراسات اللاهوتية باسم "عقيدة المسيح" (الكريستولوجي). وتُطبَّق هذه العقيدة بشكل عملي على موضوع الكنيسة، أي "عقيدة الكنيسة" (الإكليزيولوجي).

بكلمات بسيطة، يمكننا القول إن الموضوع الرئيسي في أفسس هو: المسيح هو الرأس — الرأس على الكنيسة، ولأجل الكنيسة.

ونلاحظ أن رسالة كولوسي قريبة جدًا من أفسس في هذا الجانب، إذ تركز هي الأخرى على عظمة المسيح وسلطانه.

أما رسالة رومية، فهي تختلف في تركيزها، إذ تدور أساسًا حول معنى الخلاص وعمل الله في تبرير الإنسان — وهو ما يُعرف بلاهوت "الخلاص" (السوتيريولوجي).

هل كُتبت رسالة أفسس لكنيسة محلية أم كانت رسالة دورية؟

يرى كثير من الباحثين أن رسالة أفسس لم تُكتب لكنيسة واحدة فقط، بل كانت رسالة عامة موجهة إلى عدة كنائس في منطقة آسيا الصغرى (تركيا حاليًا). وتوجد عدة أدلة تشير إلى هذا:

- كانت مدينة أفسس مركزًا مهمًا للتجارة والثقافة والدين في العالم الروماني، وكانت تُعد بمثابة العاصمة الروحية للمنطقة. ومن الطبيعي أن تنطلق منها رسالة موجهة إلى كنائس متعددة.

- عبارة "في أفسس" (١ : ١) غير موجودة في بعض من أقدم وأهم المخطوطات، مما يشير إلى أن الرسالة لم تكن موجهة بالضرورة لكنيسة واحدة بعينها.

- يذكر مرقيون – في قائمته المبكرة بالأسفار القانونية – أن بولس كتب رسالة إلى اللاودكيين، ما قد يشير إلى نفس الرسالة المعروفة اليوم بأفسس.

- لا نلمح في الرسالة معرفة شخصية بين الكاتب والمؤمنين الذين يخاطبهم (١ : ١٥ ؛ ٣ : ٢)، كما تغيب التحيات الشخصية المعتادة في رسائل بولس الأخرى، مع أنه عاش في أفسس نحو ثلاث سنوات (أعمال ١٨ – ١٩). وهذا يعزز فكرة أنها رسالة ذات طابع عام.

- الرسالة لا تتعامل مع مشاكل أو انحرافات تعليمية محددة، كما في كورنثوس أو كولوسي، بل تقدم تعليمًا شاملاً يصلح لجميع الكنائس.

وقد عبّر عدد من اللاهوتيين عن هذا الطابع العام للرسالة. يقول لويس بيركهوف:

"تتميز هذه الرسالة في المقام الأول بطابعها العام. فهي تشترك مع رسالة رومية في طبيعتها البحثية أو المقالية".

ويضيف في مقارنة مع كولوسي:

"رسالة كولوسي شخصية وجدلية بصورة أكثر من أفسس؛ فالرسالة الأولى تركز على المسيح رأس الكنيسة، بينما تركز الثانية على الكنيسة جسد المسيح".

ويلاحظ كوستنبرجر وآخرون أن الرسالة تشبه في طابعها عظة مكتوبة أو تأملًا لاهوتيًا أكثر منها رسالة موجهة إلى كنيسة بعينها.

يقدّم فيليب رايكن رؤية تفسيرية مهمّة لرسالة أفسس، حيث يلاحظ أن الشروح تنقسم عادة إلى اتجاهين. الاتجاه الأول، والذي ينتقده رايكن، يميل إلى تصنيف وحدات الرسالة تحت عناوين ترتبط بمفهوم "الكنيسة"، مما يؤدي إلى حصر الرسالة في إطار الكنيسة المحلية كمؤسسة. ورغم أن للرسالة تطبيقات كنسية واضحة، إلا أن رايكن يرى أن هذا التوجه يضيّق من أفق المعنى المقصود. ويوضح أن مصطلح "الكنيسة" لا يُستخدم صراحة إلا في موضعين: ١ : ٤ – ١٦ بشأن وحدة الكنيسة، و ٥ : ٢٣ – ٣٢ بشأن رأسية المسيح، وفي الحالتين المقصود هو الكنيسة الجامعة. أما الاتجاه التفسيري الثاني، الذي يفضّله رايكن، فيركّز على أن الخطاب موجّه إلى "المؤمنين" كأفراد، لا إلى "الكنيسة" كمؤسسة. ويُعد هذا الطرح، بحسب رايكن، أقرب إلى روح الرسالة ومضمونها الفعلي.

وحدة المؤمنين بالمسيح وببعضهم البعض

من أبرز الموضوعات التي تشكّل نسيج الرسالة هو الوحدة:

- وحدة المؤمنين مع المسيح.
- ومن ثم وحدتهم مع بعضهم البعض.

والوحدة الأولى (مع المسيح) هي الأساس الضروري للوحدة الثانية (مع الآخرين). هذه الوحدة تبدأ من اختيار الله لنا "في المسيح قبل تأسيس العالم" (١ : ٤)، لكنها لا تبقى فكرة نظرية فقط، بل تتحقق فعليًا عندما يحيينا الله مع المسيح بينما كنا "أمواتًا بالخطايا" (٢ : ٥)، وبعيدين عنه (٢ : ١٣).

كما أن هنا يظهر الرابط العميق بين الاتحاد بالمسيح والفداء. فمن جهة، الفداء هو نتيجة لوحدتنا بالمسيح: "الذي فيه لنا الفداء" (١ : ٧). لأننا متحدون به، صار ما له لنا، موته هو موتنا، وبرّه صار برّنا. "باتحادنا به، أخذ ما لنا وأعطانا ما له".

ومن جهة أخرى، الفداء هو أيضًا أساس هذا الاتحاد، لأنه بدون ذبيحة المسيح لا يمكننا أن نقترب منه أو نتحد به. كما يقول بولس: "صرتم قريبين بدم المسيح" (٢ : ١٣). فالمسيح أبطل العداوة وفتح الطريق إلى الله من خلال موته الكفاري (٢ : ١٤ – ١٧).

بهذا، نرى أن الفداء والاتحاد بالمسيح مرتبطان ببعضهما ارتباطًا تامًا:

الاتحاد أتى بالفداء، والفداء أسّس للاتحاد.

ومن هذه الوحدة الرأسية تنبع الوحدة الأفقية بين المؤمنين. فقد أزال المسيح العداوة القديمة بين اليهود والأمم، وصنع منهم "إنسانًا واحدًا جديدًا" (٢ : ١٥)، وأدخلهم إلى جسد واحد، وهيكل واحد، ومسكن لله في الروح (٢ : ٢١ – ٢٢).

هكذا لا تتحد الشعوب المختلفة فقط بالرأس، بل أيضًا بالجسد.
اتحدوا بالمسيح، فاتحدوا أيضًا بعضهم ببعض.

المسيح كالرأس

تتحقق وحدة المؤمنين مع المسيح ومع بعضهم البعض من خلال كون المسيح رأسًا للكنيسة، فهو رأس عليها ومن أجلها (١ : ٢٢ – ٢٣). وكما رأينا سابقًا، فإن الاتحاد بالمسيح هو في آنٍ واحد أساس للفداء ونتيجته، كذلك نرى أن هذا الاتحاد هو أساس العلاقة بالكنيسة، وهو أيضًا غايتها (٤ : ١٥ – ١٦).

فالكنيسة قد أُقيمت بالفعل في المسيح، لكنها في الوقت نفسه مدعوة أن تنمو نحوه وتتشكل به.
إنه مقامٌ للكنيسة، وفي نفس الوقت حالةٌ تنمو إليها.

وعند المقارنة بين ما تقوله أفسس عن رئاسة المسيح، وما ورد في كولوسي، نجد أن بولس في كولوسي يبرز المسيح كرأس ليس فقط للكنيسة، بل للخليقة كلها، إذ يصفه بأنه "البداية، بكر من الأموات" (كولوسي ١ : ١٨).

ففي كولوسي ١ : ١٦ – ١٧، نرى المسيح في موقع السيادة الكونية: "كل شيء خُلق به وله".
وبالتالي، تقدم كولوسي تعليمًا عن رئاسة المسيح في سياق كَوْني أشمل.

وهذا العرض في كولوسي لم يكن عشوائيًا، بل جاء لمواجهة التعاليم الغنوصية التي كانت تهدد الإيمان في كولوسي (كولوسي ٢ : ٩ – ١٠)، حيث شدد بولس على أن في المسيح "يَحلّ كل ملء اللاهوت جسديًا"، وأنه رأس كل رياسة وسلطان.

وباختصار، بينما تؤكد كلتا الرسالتين على رئاسة المسيح على الكنيسة،

- تركز أفسس على العلاقة السرية والجماعية بين المسيح والمؤمنين، وعلى وحدة الكنيسة كجسد حي ينمو نحو الرأس.
- بينما تبرز كولوسي سموّ المسيح على الخليقة كلها، وترد على التعليم الزائف بتقديمه كمصدر السلطان والحقيقة المطلقة.

كيف يرتبط الجزء العملي من الرسالة بموضوعها الرئيسي؟

تنقسم رسالة أفسس إلى قسمين رئيسيين:

- الأول تعليمي/لاهوتي (الإصحاحات ١ – ٣)،
- والثاني عملي/تطبيقي (الإصحاحات ٤ – ٦).

ورغم هذا التقسيم، إلا أن الجزء العملي لا يُفهم بمعزل عن التعليمي، بل هو امتداد طبيعي له. فكما يوضح بولس في القسم الأول أن المسيح هو رأس الكنيسة ومن أجلها، يبيّن في القسم الثاني كيف ينبغي أن ينعكس هذا الحق في حياة المؤمنين اليومية.

في بداية الجزء العملي، يؤكد بولس أن الاتحاد بالمسيح يمنح المؤمنين هوية جديدة، ومن ثم يدعوهم إلى سلوك جديد يتوافق مع هذه الهوية: "أسلكوا كما يحق للدعوة التي دُعيتم بها" (٤ : ١)، "اخلعوا الإنسان العتيق... والبسوا الإنسان الجديد" (٤ : ٢٢ – ٢٤).
إذًا، الاتحاد بالمسيح لا يغيّر فقط موقعنا أمام الله، بل يجدد أذهاننا ويقود إلى حياة تقوى.

كذلك، يدعو بولس إلى الوحدة العملية بين أعضاء جسد المسيح، باعتبارهم بالفعل متحدين في الروح والإيمان والمعمودية والرب الواحد (٤ : ٤ – ٦).

أما المواهب الروحية، فيراها بولس أدوات لبنيان الجسد وتعزيز الوحدة: "لأجل تكميل القديسين... لبنيان جسد المسيح" (٤ : ١١ – ١٢). فكل عطية تُعطى لتخدم الكل وتؤدي إلى مزيد من الاتحاد بالمسيح.

ويمتد هذا المنطق إلى العلاقات الأسرية، إذ يقدّم بولس صورة للعائلة المسيحية تعكس العلاقة بين المسيح والكنيسة:
فعلى الرجال أن يحبوا نساءهم كما أحب المسيح الكنيسة وبذل نفسه لأجلها،
وعلى النساء أن يخضعن لأزواجهن كما الكنيسة للمسيح،
وعلى الآباء ألا يغيظوا أولادهم،
وعلى الأولاد طاعة والديهم (أفسس ٥ : ٢١ – ٢٢ وما بعده).

كل علاقة تُفهم في ضوء الاتحاد بالمسيح.

وأخيرًا، يختتم بولس الرسالة بدعوة إلى الحرب الروحية، موضحًا أن الاتحاد بالمسيح ليس امتيازًا فحسب، بل مسؤولية أيضًا. فالمؤمنون مدعوون للثبات في هذا الاتحاد، والدفاع عنه ضد قوى الشر: "البسوا سلاح الله الكامل... لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكايد إبليس" (٦ : ١٠ – ١١).

خاتمة

رسالة أفسس هي إعلان لاهوتي راقٍ، لكن دون أن تنفصل عن واقع الحياة. فهي تُظهر أن الاتحاد بالمسيح ليس فكرة روحية مجردة، بل هو واقع يُغيّر كل شيء: يخلق هوية جديدة، يبني وحدة حقيقية، ويؤسس جماعة عابرة للثقافات والانقسامات.

لقد رأينا كيف أن الفداء والاتحاد بالمسيح ليسا مجرد حقين متجاورين، بل متداخلين: الاتحاد هو أساس الفداء ونتيجته في آن، ومن هذا الاتحاد تنبع وحدة المؤمنين في الكنيسة. المسيح هو الرأس، لا فقط بمعنى السلطة، بل أيضًا كمصدر الحياة، والنمو، والنضوج.

وهكذا، فإن التعليم في أفسس لا ينفصل عن التطبيق، بل يقوده. من إعلان النعمة في السماويات، إلى دعوتنا للسلوك بتواضع ومحبة، والوقوف بثبات في المعركة الروحية — كل شيء يدور حول هذه الحقيقة:

نحن في المسيح، والمسيح فينا، ونحن جسد واحد له.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

هل إله العهد القديم غاضب بلا محبة وإله العهد الجديد محب بلا غضب؟