إنكسار قديس




ثُمَّ قَامَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَاخَذَ امْرَاتَيْهِ وَجَارِيَتَيْهِ وَاوْلادَهُ الاحَدَ عَشَرَ وَعَبَرَ مَخَاضَةَ يَبُّوقَ. اخَذَهُمْ وَاجَازَهُمُ الْوَادِيَ وَاجَازَ مَا كَانَ لَهُ. فَبَقِيَ يَعْقُوبُ وَحْدَهُ. وَصَارَعَهُ انْسَانٌ حَتَّى طُلُوعِ الْفَجْرِ. وَلَمَّا رَاى انَّهُ لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ضَرَبَ حُقَّ فَخْذِهِ فَانْخَلَعَ حُقُّ فَخْذِ يَعْقُوبَ فِي مُصَارَعَتِهِ مَعَهُ. وَقَالَ: «اطْلِقْنِي لانَّهُ قَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ». فَقَالَ: «لا اطْلِقُكَ انْ لَمْ تُبَارِكْنِي». فَسَالَهُ: «مَا اسْمُكَ؟» فَقَالَ: «يَعْقُوبُ». فَقَالَ: «لا يُدْعَى اسْمُكَ فِي مَا بَعْدُ يَعْقُوبَ بَلْ اسْرَائِيلَ لانَّكَ جَاهَدْتَ مَعَ اللهِ وَالنَّاسِ وَقَدِرْتَ». وَسَالَهُ يَعْقُوبُ: «اخْبِرْنِي بِاسْمِكَ». فَقَالَ: «لِمَاذَا تَسْالُ عَنِ اسْمِي؟» وَبَارَكَهُ هُنَاكَ. فَدَعَا يَعْقُوبُ اسْمَ الْمَكَانِ «فَنِيئِيلَ» قَائِلا: «لانِّي نَظَرْتُ اللهَ وَجْها لِوَجْهٍ وَنُجِّيَتْ نَفْسِي». وَاشْرَقَتْ لَهُ الشَّمْسُ اذْ عَبَرَ فَنُوئِيلَ وَهُوَ يَخْمَعُ عَلَى فَخْذِهِ - لِذَلِكَ لا يَاكُلُ بَنُو اسْرَائِيلَ عِرْقَ النَّسَا الَّذِي عَلَى حُقِّ الْفَخْذِ الَى هَذَا الْيَوْمِ لانَّهُ ضَرَبَ حُقَّ فَخْذِ يَعْقُوبَ عَلَى عِرْقِ النَّسَا. (تك 32 : 22 – 32)

"فِي الْبَطْنِ قَبَضَ بِعَقِبِ أَخِيهِ وَبِقُوّتِهِ جَاهَدَ مَعَ اللَّهِ. جَاهَدَ مَعَ الْمَلاَكِ وَغَلَبَ. بَكَى وَاسْتَرْحَمَهُ. وَجَدَهُ فِي بَيْتِ إِيلَ وَهُنَاكَ تَكَلَّمَ مَعَنَا" (هو 12 : 3 – 4)


عبّر يعقوب كل ما له مخاضة يبوق واجتاز الوادي ، وبقي هو وحده علي الجانب الآخر لكي يقضي بعض الوقت في الصلاة مع الله. وقد بدا غريبا أن يصارعه الله هنا قبل دخوله كنعان ، وكأنه لا يريده العودة إليها. وقرار يعقوب بالبقاء للصلاة لم يأت مصادفة ، ولم ينتهز الملاك أيضا فرصة بقاء يعقوب وحده ليصارعه ، فلا شك أن ذلك كان ترتيبا إلهيا من البداية حتي ما تُحدث النعمة ذلك التغيير العجيب فيه. فالملاك هو الذي أتي إليه ، وهو الذي إبتدأ بمصارعته ، فكما نلاحظ من الآية أن المصارعة كانت إيجابية أكثر من جانب الملاك "وصارعه ملاك حتي طلوع الفجر". قد يجاهد روح الله في الإنسان إلي حين ثم يتركه بعد ذلك " لا يدين روحي في الإنسان إلي الأبد" (تك 6 – وبحسب الترجمة الإنجليزية وردت كلمة يدين بمعني "يجاهد أو يصارع"). ولكنه هنا صارع يعقوب إلي أن إنتصر هو ، بل بالحري إنتصر يعقوب. كان يعقوب يجتاز في مخاضة يبوق أما العمل الإلهي فأراد أن يجيزه في مخاضة الإنكسار ، ويعبر به وادي البكاء حين بكي وإسترحم الملاك. لقد أراده أن يعود إلي كنعان كإسرائيل وليس كيعقوب ، إذ لم يكن من اللائق العودة إلي الوطن بدون ذلك التغيير الذي يتناسب مع المرحلة الجديدة من حياته في بيت إيل ، كقائد روحي لذلك العدد الغفير من البشر الذي كان معه. آه أيها القارئ العزيز وأنت أيضا قد تجتاز بك النعمة تلك المخاضة وذاك الوادي حيث ينكسر أقوي ما فيك لكي تسمو بك فوق الماضي الذي يتسم بالإتكال علي الذات ، حتي تحيا حاضرا بالقرب من بيت إيل ، ولكي تأتي بك أيضا إلي المستقبل الذي يستخدمك فيه الرب.

ولكن كيف يحدث الله هذا التغيير؟ وما هي الوسائط التي يستخدمها؟ يقول ألبرت بارنز "إن أراد الله أن يحدث تغييرا روحيا في الإنسان يستخدم الحواس أولا ، فهو يصارع الإنسان علي الأرض التي يجده عليها ، ثم يقوده إلي الأمور الأكثر سموا في الفكر والضمير والشركة معه. إنه ينتقل من المعروف إلي الغير معروف ، من البسيط إلي المعقد ، ومن المادي إلي الروحي ، من المحسوس إلي الفائق للحس. وهذا ما سوف يظل يعمله حتي يتعامل مع عالم من الفلاسفة. وحينئذ ، وحينئذ فقط ، ستفهم طريقة تعليمه ومعاملته للناس بوضوح. كلما تقدمنا في معرفتنا للأمور الروحية ، كلما شعرنا بغبطة أكثر في تمييز التناظر العجيب والتقارب الحميم بين الخارج والداخل ، وبين العالم المادي والعالم الروحي. ويبنغي علينا أن نضع في أذهاننا أنه كما أن الإنسان روح فهو جسد أيضا ، وفي هذه المصارعة الخارجية للإنسان مع الإنسان نجد أمارة للصراع الداخلي للروح مع الروح ، لذلك فإن نموذجا إختباريا للصراع العظيم للكائن الغير محدود مع النفس المحدودة ، والذي قدمته لنا النعمة في عالمنا الساقط ، قد سجل لبناءنا الروحي هنا علي الأرض".

ولهذا التغيير العجيب الذي تحدثه نعمة الله فينا – بإنكسارنا – بعض التأثيرات والثمار التي يمكن أن نجد عينة لها في مصارعة الملاك ليعقوب ثم إنكساره:

1- الإنكسار يقوينا

هل يمكن أن يقود الإنكسار إلي القوة مع الله؟ إن يعقوب في هذه النقطة قد وصل إلي ذروة قوته الطبيعية ، والتي ظهرت في حياكه للمؤامرات الواحدة تلو الأخري. فهنا في فنوئيل ، ينتهي تاريخ طويل من الصراع الذي كان فيه سلاحه هو الخداع ، فقد جاهد مع الناس وغلب.  تآمر مع أمه ببراعة فائقة لسرقة البركة من أخيه عن طريق خداعه هو وأبيه ، جاهد مع أبيه وخدعه ، جاهد مع عيسو وسرق منه البركه ، جاهد مع لابان وأخذ بناته وأحفاده وغنمه وهرب ، جاهد مع زوجاته في صراعهن عليه ، وأخيرا ها هو يجهز لمؤامرة جديدة بإرسال هدية ليسترضي بها أخيه حتي ينجو من إنتقامه. آه يا له من تاريخ طويل من الخداع والصراع والمؤامرات ووالتعقب والهروب قد بدأ حتي قبل أن يخرج إلي الحياة عندما قبض بعقب أخيه الأكبر. ولكنه هنا يصل إلي قمة قوته الإنسانية الظاهرية لينحدر ويرتطم بأسافل ضعفه الدفين ، فيتحول من يعقوب إلي إسرائيل ، من المتكل علي ذاته إلي المتكل علي الله.

ولكن من أين جاء يعقوب بتلك القوة التي صارع بها مع الملاك حتي أنه لم يقدر عليه؟ (تك 32 : 25) لا شك أن من وضع فيه هذه القوة أيضا كان الله نفسه ، فقد أعطاه قوة محدودة للمصارعة. كانت مصارعة جسدية وروحية أيضا ، فقد جاهد بيده وبالصلوات. ولا نعلم كم من الوقت إستمرت هذه المصارعة ، لكن بكل تأكيد قد دخلها يعقوب بكل ما أوتي من قوة جسدية وروحية ، فقد جاهد مع الملاك وغلب. ألا تقل كلمة الله أن الملاك لما رأي أنه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه فإنخلع؟ فمن الذي إنتصر هنا؟ لقد إنتهي جهاده الجسدي بإنكسار حق فخذه (الذي يشير إلي القوة الجسدية) ، ولكن جهاده الروحي بالصلاة وطلب البركة قد إنتصر في النهاية بمباركة الرب له وإستجابته لطلبته ، وتنازله بمنحه نعمته التي لم يكن يستحقها.

ظهرت ملامح قوة يعقوب الروحية بعد خلع حق فخذه أولا بأنه تمسك بالملاك ولم يطلقه حتي باركه ، فهو لم يرد أن يخرج خاسرا من تلك المصارعة. وثانيا ظهرت قوته أيضا في ثقته في الله أنه يستطيع أن يباركه. وهنا نجد إختلافا في مقدار اللجاجة والثقة عندما نذر نذره في بيت إيل بعد هروبه من عيسو ، وبين لغة الثقة التي كان يتكلم بها هنا بأنه لن يطلق الملاك إن لم يباركه. وثالثا في إتكاله عليه بإعلانه أنه يحتاج إلي بركة منه ، فمجرد إعتراف يعقوب بإحتياجه إلي البركة الروحية كان دليلا علي تلك القوة التي أنشئها فيه ذلك الإنكسار ، فإنه يحتاج الآن إلي نوع آخر من القوة.

آه أيها الأحباء إن هناك قوة روحية لا نستطيع أن نختبرها إلا عندما ينكسر أقوي ما فينا ، حتي نقول مع الرسول الذي كان يعاني من شوكة في الجسد وكان حاملا لسمات الرب يسوع في جسده "لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي" (2 كو 12 : 10). ألا يعطي هو نعمة أعظم إذا إزدادت فينا الضيقات والمشقات؟ (يع 4 : 6). ألم يختبر بطرس قوة الله بعد أن تحطمت قوته علي صخرة الإنكار؟ فصار صخرة إذ نراه يفتح باب الإيمان لليهود يوم الخمسين في أعمال (2) وللأمم في أعمال (10) ، بل نراه يسجن ويتألم من أجل المسيح فصلب منكس الرأس إذ لم يحسب نفسه مستحقا أن يصلب مثل سيده – كما يخبرنا التاريخ. يقول سبرجن "إذا أتيت إلي الله شاعرا أنك ممتلئا جزئيا فهو لن يملئك. وسوف يظل منتظرا إلي أن يصبح إناءك فارغا تماما. إنه لا يمزج زيته بالماء. وسوف يظل منتظرا إلي أن يفرغ إناءك من ماء القوة ، حينئذ سيسكب عليك من خمر وزيت قوته".

2- الإنكسار تعقبه البركة

تقول كلمة الله المقدسة عن الرب "لأنه هو يجرح ويعصب ، يسحق ويداه تشفيان" (أي 5 : 18). لم ينته الحال بيعقوب عند نقطة الإنكسار بل إن ذلك تلاه بركة من الرب. والجدير بالذكر هنا أنه لا شك أن تلك اللجاجة والجهاد من جانب يعقوب كان مصدرهما الرب أيضا. فلجاجته في طلب البركة ، وحصوله عليها كانا من قبل الرب. فإلهنا عمله كامل دائما. ونشكر الله لأن يعقوب لم يبرح من مكان المصارعة والإنكسار دون الحصول علي البركة ، "وباركه هناك" في نفس ذلك المكان بعينه الذي ضرب فيه حق فخذه فإنخلع من مكانه بورك أيضا من الله ، في نفس ذلك المكان الذي ضربت فيه قوته هو نفسه ذلك المكان الذي إنسكبت عليه البركة.

وقد ظهرت تلك البركة التي حصل عليها يعقوب أولا في تغييره هو شخصيا: فقد تغير من يعقوب إلي إسرائيل ، من المخادع إلي أمير مع الله ، من المتكل علي الذات إلي المتكل علي الله. ولدت راحيل بنيامين ، ولأنها عانت في ولادته وتألمت فقد أسمته "بن أوني" أي "إبن حزني أو ألمي" ثم ماتت ، ولكن يعقوب أصر أن يسميه "بنيامين" والذي معناه "ابن القوة". فبينما كسر قلبه حزنا علي فراق زوجته المحبوبة راحيل ، إلا أنه أدرك أيضا أنه علي الرغم من ولادة الألم مع ولادة بنيامين فقد ولدت قوة الله فيه أيضا في وسط ضعفه وآلامه العميقة. وثانيا كانت تلك البركة مرتبطة ببركة الأباء إبراهيم وإسحق أن نسله سيكون مثل الرمل الذي علي شاطئ البحر في الكثرة وأنه ستتبارك فيهم جميع قبائل الأرض ، بمجئ مخلص العالم من نسلهم.  

إنه لا يجرح بدون أن يعصب ، ولا يسحق بدون أن يشفي. إن سمح الرب بإنكسار ما في حياتنا فلابد أن تعقبه البركة. حتي وإن توانت فإنها إتيانا تأتي ولا تتأخر. إن وجدت الجباب في حياتنا فلابد أن يمطر عليها بتعويضاته العظيمة (2 مل 3 : 16). ألم يبارك الرب آخرة أيوب أكثر من أولاه "وزاد الرب علي كل ما كان لأيوب ضعفا" (أي 42 : 10)؟ ألم نري تجربته وإنسحاقه وصبره وعاقبة الرب؟ ألم نري أيضا بركة الرب لنعمي بعد غربتها ومذلتها وموت كل من لها؟ "فقالت النساء لنعمي مبارك الرب الذي لم يعدمك وليا اليوم لكي يدعي إسمه في إسرائيل. ويكون لك لإرجاع نفس وإعالة شيبتك. لأن كنتك التي أحبتك ، قد ولدته وهي خير لك من سبعة بنين. فأخذت نعمي الولد ووضعته في حضنها وصارت له مربية" (را 4 : 14 – 16).

3- الإنكسار يؤهلنا لرؤية الله

رأي يعقوب ملائكة الله صاعدة ونازلة علي السلم في حلم الليل في بيت إيل. ورأي جيش الله في محنايم قبل مقابلة عيسو. ولكنه الآن يري الله وجها لوجه. فالنص الوارد في تك (32) يخبرنا أولا أنه "صارعه إنسان" ، ثم نجد يعقوب نفسه يقول "نظرت الله وجها لوجه". أما النص في هوشع (12) فيخبرنا أنه ملاك. لا شك أن الشخص الذي تقابل معه يعقوب هو الرب يسوع المسيح في واحدة من ظهوراته قبل التجسد. فالرب يسوع المسيح هو الإعلان الوحيد لله حتي قبل أن يتجسد إذ أن الإنسان لا يري الله ويعيش "وقال لا تقدر أن تري وجهي ، لأن الإنسان لا يراني ويعيش" (خر 33 : 20). فالإعلان من الله قديما أو حديثا كان يتم من خلال الإبن المعلن له وهو الرب يسوع المسيح. "فدعا يعقوب إسم المكان فنيئيل. قائلا لأني نظرت الله وجها لوجه ونجيت نفسي". وتقول الترجمة الإنجليزية أن الملاك "لمس" حق فخذ يعقوب ولم يضربه كما تذكر ترجمتنا العربية. فلم يكن الله في حاجة إلي ضربه حتي يكسر حق فخذه ، بل إن مجرد لمسة كانت كافية. لذلك يقول يعقوب بعد أن رأي القوة الغير عادية في الشخص الذي صارعه  "نظرت الله وجها لوجه نجيت نفسي".

وفي الحقيقة لم تقتصر رؤية يعقوب لله علي تلك الروية المادية فقط ، ولكن صاحبها أيضا إستنارة روحية عظيمة. رآه كمانح البركة الحقيقي: لقد بورك يعقوب من أبيه إسحق عندما سرق بركة أخيه ، فحصل علي بركات مادية. لكنه هنا يبارك من الله بتغييره إياه من يعقوب المتعقب إلي إسرائيل أي "أمير مع الله". إصطدم يعقوب بضعفه هنا فإختبر قوة الله ، وعرف أنه مانح القوة الوحيد. إنها بركة قلبية داخلية لا يستطيع أحد أن يحدثها إلا ذاك الذي له سلطان علي القلوب. قد يمنحه أبيه البركة المادية ولكنه غير قادر علي منحه لقب "إسرائيل". رآه أيضا كإلها شخصيا يحب أن يكون في شركة مع أتقياءه: من المؤكد أن يعقوب سمع عن الرب من الآباء إبراهيم وإسحق ولا شك أيضا أنه سمع عن البركة الموعودة للآباء ، ولكن هذا لم يكن كافيا إذ أراد الرب أن يعلن لنفسه شخصيا ليعقوب في مقابلة شخصية مغيرة له. وأن يعطيه البركة مباشرة من مصدرها الأصلي ، ولا يكون مجرد متلقيا وناقلا لها. وأخيرا رآه كالإله المنعم الذي يتنازل ليعلن عن نفسه لإنسان ضعيف مثل يعقوب: يقول أنه نظر الله وجها لوجه ونُجّيت نفسه. فكيف يلتق الإله القوي العظيم بيعقوب الضعيف دون أن يهلك ، فالإنسان لا يري الله ويعيش؟ أليست تلك نعمة مطلقة أن يتقابل الإنسان الضعيف مع الإله القوي؟ وكيف غلب يعقوب الضعيف الملاك القدير؟ لقد رأي يعقوب نعمة الله في تنازله لكي ما يعلن عن نفسه له وهو الضعيف المخادع الهارب ، ورآها أيضا في تنازل الملاك ومنحه الإنتصار رغم ضعفه.

إن إنكسارنا لا يفتح أعيننا فقط علي حقيقة ما نحن عليه من ضعف وهشاشة روحية ، بل أيضا ينيرها بحقيقة من هو الله ، وما يستطيع أن يفعله معنا وبنا من خلال ذلك الإنكسار. إن سنين الإنتظار الطويلة التي مضت دون أن يتحقق الوعد بمجئ إسحق لا شك أنها أماتت القدرة الجسدية في إبراهيم وسارة علي إنشاء نسل. لكن عندما تدخل الله بعمله المعجزي وأعطاهم إسحق عرفا ضعفهما وقدرة الله ، لذلك فعندما قدم إبراهيم إسحق علي جبل المريا حسب أنه قادر علي الإقامة من الأموات (رو 4 : 19 ، عب 11 : 19). حقا قال أيوب بعد إنسحاقه بالتجارب المريرة "بسمع الأذن قد سمعت عنك والآن رأتك عيني" (أي 42 : 5).

4- الإنكسار ينشئ فينا صلاة بلجاجة

يتكلم هوشع في (هو 12 : 1 – 2) عن خصام الرب الذي مع يهوذا ، وأنه مزمع أن يعاقب يعقوب. ثم يأتي في العددان التاليان ليخبرنا عن جهاد يعقوب في طلب البركة ، منذ لحظة ولادته إذ قبض بعقب أخيه ، إلي جهاده مع الرب في فنيئيل. ولكن ما علاقة ذلك الخصام الذي للرب مع يهوذا بجهاد يعقوب في طلب البركة والتضرع إلي الرب؟ لقد أراد الرب أن يقول لهم أنه يبغني عليهم أن يتمثلوا بإبيهم يعقوب وبإصراره وصلاته وبكاءه من أجل الحصول علي البركة. وكما نال هو البركة فقط لأنه طلبها بدموع فهم أيضا سينالوا بركة الرب لهم إن جدوا في إثر ذلك مثل أبيهم.

وموسي لا يخبرنا بتفاصيل هذا الجهاد مع الملاك كما نجد هنا في هوشع. فبحسب التفاصيل التي ذكرها هوشع نجد أن يعقوب بكي وإسترحم الملاك. لقد أتضع يعقوب أمام الرب وانسحق بشدة باكيا بالدموع طالبا البركة من الرب. لم تكن طلبته للبركة مجرد شئ فعله وهو متجلد وغير عابئ ، ولكنه كان مصحوبا بالدموع والتضرع وسكب القلب. وكلمة "إسترحمه" ترد في الترجمة الإنجليزية أنه "قدم التضرعات". ونستطيع أن نفهم من كلمة الملاك له "إطلقني" أن يعقوب بعد أن لمس الملاك حق فخه فإنخلع أصبح غير قادر علي الوقوف ، فربما إرتمي أرضا وأمسك بالملاك طالبا البركة متضرعا وباكيا من أجلها. يا له من إصرار عجيب علي البركة. كيف واصل طلبه بلجاجة وهو متألم هكذا؟ كيف لم يثنه هذا الإنكسار في فخذه عن مسعاه ومطلبه؟ آه .. إن ذلك الإنكسار لم يفعل شئ سوي أن يزيده لجاجة في الصلاة.

إن هناك صلوات كثيرة لا تخرج من شفاهنا إلا عندما تنكسر قوتنا. ربما تكون صلاة غير مسموعة كصلاة حنة أم صموئيل ، لكنها بلا شك كانت صلاة بلجاجة وتضرع أنشهئا في قلبها ذلك الإنكسار وتلك المرارة "فأجابت خنة وقالت: لا يا سيدي إني إمرأة حزينة الروح ... لأني من كثرة كربتي وغيظي قد تكلمت الآن" (1 صم 1 : 15 – 16).
أو قد تكون صلاة لا تخرج من شفاهنا إلا ونحن في جوف الحوت "دعوت من ضيقي الرب فإستجابني. صرخت من جوف الهاوية فسمعت صوتي .. حين أعيت في نفسي ذكرت الرب. فجاءت إليك صلاتي في هيكل قدسك" (يونان 2)

5- الإنكسار يخلق فينا إهتماما وتقديرا للأمور الروحية

كان التوقيت الذي تقابل فيه يعقوب مع الله توقيتا حرجا للغاية. فقد إنتهت علاقته مع لابان ولا يستطيع العودة إلي حاران مرة أخري. وها هو أيضا في طريقه لمواجهة عيسو وحصاد زرعا مرا قد زرعه من سنين عديدة. فقد كانت تلك المواجهة جد خطيرة. فلو أصابه مكروه فلن يكون له وحده بل لمن معه أيضا. والذي يدعو للدهشة هو أن يعقوب في مقابلته مع الملاك لم يطلب الحماية من عيسو عند مواجهته بعد قليل خصوصا بعد أن سمع بقدومه وأربع مئة رجل معه (تك 32 : 6). كيف لم يستغل يعقوب الإنتهازي فرصة رؤيته للملاك ويطلب الحماية له ولأسرته الكبيرة من عيسو وإنتقامه؟ لابد أنه رأي هناك شيئا أكثر أهمية ، وهو البركة. ولابد أنه رأي أيضا أن حصوله علي تلك البركة يشمل كل البركات الأخري. أكان ذلك بعد نظر وذكاء من يعقوب؟ بكل تأكيد ، فلا شك أن حصوله علي البركة الرروحية أكثر أهمية وأنها تشمل كل شئ آخر. ولماذا لم يطلب أن تزداد أملاكه وأغنامه؟ ألا يريد أن يصبح أكثر غني؟ إن نور الملاك الذي تقابل مع يعقوب قد أنار بصيرته فرأي أن الأولوية ينبغي أن تعطي للبركة الروحية ، فلا مجال هنا لطلب أشياء قد تضيع عن مقابلة عيسو الذي سينتقم منه. كان يعقوب يقدر البركة جدا ، وكانت البركة ذات قيمة عظيمة في عينيه. فهي التي سبتقي إذا ذهب كل شئ آخر ، وهي التي تشمل كل شئ آخر أيضا ، وهي أسمي من جميع البركات الأخري.

أيها الأخ المتألم والمنكسر: هل تتساءل عن سبب تلك الآلام التي تمر بها منذ وقت طويل مضي؟ هل ترفع عينك إلي السماء وتقول لماذا أصابتني هذه؟ إنها موجودة لكي ترفع عينيك لأعلي ، أعطيت لكي تطلب ما هو باق ، إنك تتجرعها لتفطم عن كل ما هو أرضي وتطلب ما فوق حيث المسيح جالس. إن إنكسار أقوي ما فينا يجعلنا لا نعبأ سوي بالأمور الباقية حيث المسيح جالس. إن فقدنا أفضل ما لدينا عرفنا أنه زائل وفان ، فنزداد تمسكا بما هو باق. إن أكل السوس كنزنا الأرضي إزددنا تعلقا بكنزنا السماوي. إن توقف إزهار التين ولم تحمل الكروم والحقول لم تصنع طعاما وإنقطع الغنم من الحظيرة وخلت المزاود من البقر فاض وفور فرحنا بالرب "فإني أبتهج بالرب وأفرح بإله خلاصي. الرب السيد قوتي ويجعل قدمي كالأيائل. فيمشيني علي مرتفعاتي" (حب 3).

6- الإنكسار يحمل شهادة فينا

"وأشرقت الشمس له إذ عبر فنوئيل وهو يخمع علي فخذه". عبر يعقوب فنوئيل ليس كما دخله ، لقد حدث فيه تغيير واضح. يقول أحد المفسرين "إن ذلك حدث لكي يظل يعقوب متذكرا ذلك المشهد المعجزي العجيب وأنه منح الإنتصار من رحمة الله التي تنازلت بلطف شديد له. ففي وسط أعظم الإنتصارات الروحية التي يحصل عليها شعب الله ، من خلال الإيمان ، هناك دائما شيئا ما يجعلهم في حالة من التواضع".

لقد إستمر يعقوب في رحتله وفي سيره وهو يخمع علي فخذه. وخموعه علي الفخذ كان يحمل شهادة مزدوجة: أولا كان شهادة له بضعفه وقوة الله ، بتنازل الله ومنحه الغلبة. لا شك أن كل خطوة كان يعقوب يخطوها بعد ذلك كانت تذكره بتلك اللحظة التي إنكسر فيها أقوي ما فيه ، وإذ يتذكر ضعفه يتذكر أيضا إحتياجه لقوة الله من جديد ، فيقوده هذا ليظل في حالة من الإتضاع أمام الرب. إنها شهادة بنعمة الله التي تنازلت ومنحته البركة التي تاق إليها رغم عدم إستحقاقه. سيظل يتذكر يعقوب المخادع المتعقب في داخله الذي تحول إلي "أمير مع الله" بسبب تلك النعمة التي منحته هذا الإمتياز العظيم. ثانيا: كان خموعه علي فخذه يحمل أيضا شهادة لمن حوله بعمل نعمة الله معه. ماذا كان رد فعل زوجاته وبنيه عندما رأوا ذلك التغيير فيه؟ لاشك أنهم سألوه وحاولوا معرفة ذلك. وبكل تأكيد كان ذلك فرصة ليعقوب ليشهد عن تلك المقابلة المغيرة التي لمس فيها الملاك حق فخذه فإنطرح أرضا ليمسك بالملاك ولم يطلقه حتي يباركه ، وباركه فعلا. لقد كان يعقوب يحمل شهادة أمام من حوله بتلك النعمة التي تنازلت ومنحت له البركة ، بل ومنحت له القوة بعد أن إنخلع حق فخذه. إن الإنكسار يحمل فينا شهادة. لقد كانت شوكة بولس تشهد أمام الجميع بالنعمة التي تكفيه وتؤازره أينما ذهب ومهما عاني من آلام.

"وأشرقت له الشمس" ، إن ليل الصراع والإنكسار لابد أن يعقبه شروق الشمس. لقد صارع كثيرا وبكي وتضرع إلي الملاك بعد أن إنخلع حق فخذه في سواد ذلك الليل. ولكن ها هي الشمس تشرق من جديد ، لقد إنتهي ليل الصرع وأتت شمس الشفاء (مل 4 : 2) ، إنتهت ظلمة الضعف وأشرقت شمس القوة. أيها القارئ العزيز: هل طال ليل صراعك؟ ليس طول الليل إلا علامة علي إقتراب النهاية وبزوغ شمس الشفاء من أجلك.













تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس