لكنه يعطي نعمة أعظم



مِنْ أَيْنَ الْحُرُوبُ وَالْخُصُومَاتُ بَيْنَكُمْ؟ أَلَيْسَتْ مِنْ هُنَا: مِنْ لَذَّاتِكُمُ الْمُحَارِبَةِ فِي أَعْضَائِكُمْ؟ تَشْتَهُونَ وَلَسْتُمْ تَمْتَلِكُونَ. تَقْتُلُونَ وَتَحْسِدُونَ وَلَسْتُمْ تَقْدِرُونَ أَنْ تَنَالُوا. تُخَاصِمُونَ وَتُحَارِبُونَ وَلَسْتُمْ تَمْتَلِكُونَ، لأَنَّكُمْ لاَ تَطْلُبُونَ. تَطْلُبُونَ وَلَسْتُمْ تَأْخُذُونَ، لأَنَّكُمْ تَطْلُبُونَ رَدِيًّا لِكَيْ تُنْفِقُوا فِي لَذَّاتِكُمْ. أَيُّهَا الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي، أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ مَحَبَّةَ الْعَالَمِ عَدَاوَةٌ ِللهِ؟ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا لِلْعَالَمِ، فَقَدْ صَارَ عَدُوًّا ِللهِ. أَمْ تَظُنُّونَ أَنَّ الْكِتَابَ يَقُولُ بَاطِلاً: الرُّوحُ الَّذِي حَلَّ فِينَا يَشْتَاقُ إِلَى الْحَسَدِ؟ وَلكِنَّهُ يُعْطِي نِعْمَةً أَعْظَمَ. لِذلِكَ يَقُولُ:«يُقَاوِمُ اللهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَمَّا الْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً». فَاخْضَعُوا ِللهِ. قَاوِمُوا إِبْلِيسَ فَيَهْرُبَ مِنْكُمْ. اِقْتَرِبُوا إِلَى اللهِ فَيَقْتَرِبَ إِلَيْكُمْ. نَقُّوا أَيْدِيَكُمْ أَيُّهَا الْخُطَاةُ، وَطَهِّرُوا قُلُوبَكُمْ يَا ذَوِي الرَّأْيَيْنِ. اكْتَئِبُوا وَنُوحُوا وَابْكُوا. لِيَتَحَوَّلْ ضَحِكُكُمْ إِلَى نَوْحٍ، وَفَرَحُكُمْ إِلَى غَمٍّ. اتَّضِعُوا قُدَّامَ الرَّبِّ فَيَرْفَعَكُمْ. (يعقوب 4 : 1 – 10)

بينما تبرز لنا رسالة رومية أهمية وطريقة التبرير أمام الله ، فإننا نجد يعقوب في رسالته منشغل بالحديث عن الجانب العملي لذلك والذي ينتج عن التبرير أمام الله وهو التبرير أمام أنفسنا وأمام الناس. فموضوع رسالة يعقوب هو الأعمال الصالحة والسلوك المقدس كبرهان علي صدق تبريرنا عند الله. ولأنه يوجد دائما بين المؤمنين من لا يؤكدون حقيقة تبريرهم أمام الله بأعمالهم الصالحة فتراهم يعرجون بين الفرقتين لذلك نجد الإصحاح الرابع من الرسالة يوجه للمعترفين ظاهريا بإيمانهم المسيحي ، ويبدو أنه لم يكن لهم موقفا واضحا من الشر ، فقد خاطبهم يعقوب بأنهم "ذوي رأيين" ، فهم "يشتهون ويحسدون ويخاصمون ويقتلون ثم نجدهم أخيرا وقد إنحرفوا إلي حالة من الزني الروحي فأحبوا العالم الحاضر الشرير، إذ أن الانحراف عن الله خيانة روحية. يقول الرسول بولس "فإني أغار عليكم غيرة الله لأني خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح" (2 كو 11: 2). لهذا فهو يوجه لهم بعض التحريضات التي تناسب هذه الحالة ، فهو يدعوهم أن يقتربوا إلي الله وينقوا أيديهم ويطهروا قلوبهم.

في الإصحاح السابق من الرسالة نري الكاتب يقارن بين الحكمة التي من فوق والحكمة التي ليست نازلة من فوق ، فالأولي طاهرة ثم مسالمة ، مترفقة ، مذعنة ، مملوة رحمة وأثمارا صاحلة ، عديمة الريب والرياء ، وثمر البر الذي يزرع في سلام. أما الثانية فهي أرضية نفسانية شيطانية ، والتي ثمارها التحزب والغيرة ، الأمور التي تنتج عن الشهوات الكثيرة كما يعالجها في ص (4). والنص الذي نحن بصدد التأمل فيه ينبع مباشرة من تلك الفكرة ، فهو يظهر هنا آثار تلك الحكمة الأرضية النفسانية الشيطانية. وذلك لإظهار قيمة الحكمة الحقيقية ، وهي روح الدين الحقيقي.

يا لها من حالة يرثي لها سقط فيها البعض ، فهم يحصدون ثمار الحكمة التي ليست نازلة من فوق ، فيشتهون ولا يمتلكون ، ومن ثم يشعرون بالإحباط والصراع الداخلي نتيجة عدم إشباع رغباتهم ، فيحسدون الآخرون ويغضبون منهم ، فتكون النتيجة أنهم يتجهون للعالم لإشباع تلك الرغبات فيسقطوا في خطية الزني الروحي وخيانة العلاقة مع الله. ورغم الظلام الدامس الذي يكتنف هذه الحالة المحبطة الشريرة يوجه يعقوب أنظارنا إلي ذلك النور المنبثق للنعمة "ولكنه يعطي نعمة أعظم". فعلي الرغم من سوء الحالة الروحية في هذا المشهد "لكنه" لديه العلاج الناجع لها ، فهو "يعطي نعمة أعظم". والشئ الغريب هو أن الله يعطينا نعمة علي الرغم من خيانتنا له ومحبتنا للعالم وخصامنا وحسدنا لبعضنا البعض. فهو لم ينتقم منا أو يمنع مراحمه عنا بسبب شرورنا ، لكنه يعطي نعمة ، بل وأنه يعطي نعمة أعظم.

ولكن ماذا عن هذه النعمة التي يصفها بأنها "أعظم" ، أعظم من ماذا يا تري؟ هل هي أعظم من ذلك الصراع المحتدم في داخلهم بفعل اللذات المحاربة في أعضائهم؟ هل هي أعظم من التشويش والحروب والخصومات الحادثة بينهم؟ هل أعظم من ذلك الفراغ الذي يحاولون ملئه؟ هل أعظم من حالة الكسل واللامبالاة التي ظهرت في عدم اللجوء للرب في الصلاة لملء ذلك الفراغ وتلك الإحتياجات؟ هل أعظم مما يقدمه العالم لهم؟

1- ولكنه يعطي نعمة أعظم من فراغ القلب

يفسر البعض المقصود بالصراعات هنا علي أنها تلك التي كانت تحدث فيما بين اليهود وبعضهم أو بين اليهود والرومان في وقت كتابة يعقوب لهذه الرسالة بسبب الصراع علي السلطة والنفوذ. والبعض الآخر يعتقد أن تلك الصراعات كانت هي الدعاوي القضائية المرفوعة من الأغنياء ضد الفقراء "وأما أنتم فأهنتم الفقير. أليس الأغنياء يتسلطون عليكم وهم يجرونكم إلي المحاكم" (يع 2 : 6)

وسواء كانت تلك المحاربات بين اليهود وبعضهم أو بين اليهود والرومان علي مناطق النفوذ والسلطة ، أو بين أعضاء الكنيسة الأغنياء والفقراء ، فإن المحصلة واحد وهي أنها جميعا تنبع من اللذات المحاربة في أعضائهم. وكلمة "أعضائكم" هنا تشير إلي الطبيعة العتيقة ، فالرسول بولس أيضا إستخدم هذا المعني "ولكني أري ناموسا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ويسبيني إلي ناموس الخطية الكائن في أعضائي" (رو 7). فالطبيعة العتيقة داخلهم كانت تشتهي وبسبب تلك الشهوات كانت تحدث المحاربات (يع 1 : 15). وهنا نجد هؤلاء الذين يتحدث عنهم يعقوب يدورون في حلقة مفرغة: فهناك لذات محاربة في أعضائهم ، وهي تحرك فيهم الشهوات ، ثم يحاولون إشباع هذه الشهوات بطريقتهم ، فتكون النتيجة أنهم "يشتهون ولا يمتلكون" ، فيصابون بالإحباط وخيبة الأمل والإحساس بالفراغ.

فالمشكلة تكمن في ذلك الفراغ الداخلي الذي وجد في اللذات مادة للشبع ، ولكن للأسف لم يكن فيها أي شبع. لأنها لم تتحقق لهم ، فهم يشتهون ولا يمتلكون. فما كانوا يسعون وراءه لم يمتلكوه ، بل وحتي إن حدث ذلك وإمتلكوه لما ملأهم أيضا. وكانت النتيجة أنهم تحولوا عن الله لملء ذلك الفراغ عن طريق إشباع تلك الشهوات التي في داخلهم. وليست بالضرورة أن تكون هذه الملذات شريرة ، فهناك أشياء مشروعة  نحاول أن نملأ بها مكان الله في قلوبنا. فقد وردت كلمة ملذات حسب الترجمة الإنجليزية (pleasures). وهذه هي قصة الإنسانية من البداءة ، فبعد أن تحول الإنسان عن الله صار قلبه في حالة من الفراغ الروحي ، فأخذ يملأ هذا الفراغ الروحي بكل ما وجده في طريقه. لذلك نقرأ في سفر التكوين عن الإختراعات الأولي لملأ هذا الفراغ: فنقرأ عن يابال الذي كان أبا لساكني الخيام ورعاة المواشي فقد أراد أن يكون رجل أعمال ناجحا وغنيا ، ونقرأ عن يوبال الذي كان أبا لكل ضارب بالعود والمزمار ، إذ إخترع ما يجعله سعيدا وفرحا ، وأخيرا نقرأ عن توبال الضارب كل آلة من نحاس وحديد ، وهذا هو البحث عن القوة ، فقد اخترع توبال الآلات لكي يحارب بها. وهنا نجد الإنسان باحثا في طرق أخري – قد لا تكون شريرة – عن ما يملأ فراغ قلبه بسبب إنفصاله عن الله. والأصعب من ذلك عندما تتحول تلك اللذات إلي محاربات وصاراعت وحسد وخصام وقتل. وللأسف يمكننا أن نجد صورة لذلك حتي في رجال الله إذا تملكت الشهوات منهم. فداود عندما لم يذهب للحرب كعادته وتراخت روحه سقط في خطية الزنا ، وليس ذلك فقط بل إنه تآمر وقتل أيضا. إن ذلك بالضبط ما تحدث عنه يعقوب هنا.

ولكنه يعطي نعمة أعظم من ذلك الفراغ الداخلي. فالنعمة تُشبع ، أما الملذات الأخري فقد تهدأ تلك الشهوات الفائرة علي السطح دون أن تصل إلي عمق القلب. فالإنسان مخلوق علي صورة الله ومثاله ، وقد نفخ في أنفه نسمة حياة من أنفاس الله ، وبالتالي فلن يوجد ما يشبع هذا الفراغ الداخلي سوي إرسال روحه المشبع ، والعيشة في حالة دائمة تحت سيادة هذا الروح المشبع "وفي اليوم الأخير العظيم من العيد ، وقف يسوع ونادي قائلا: إن عطش أحد فليقبل إلي. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي. قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه" (يو 7). إننا نشبع ونرتوي فقط عندما نأخذ من ملء ذاك المملوء نعمة وحقا. فهو من ملئه يعطي نعمة أعظم من فراغ القلب. ما أعظم الفرق بين التمتع بالعجل المثمن في حضن الآب وبين الإنصراف عنه وإشتهاء أن نملأ بطوننا بخرنوب الخنزاير. إن كل محاولتنا للشبع بعيدا عن الرب تشبه محاولة الإبن الضال للشبع بالخرنوب الذي كانت تأكله الخنازير. إن المياه التي تفيض من ذلك النبع الأبدي لا يمكن مقارنتها بتلك التي نصعدها من بئر سوخار في حر النهار. إنه يعطي شبع أعظم.

2- لكنه يعطي نعمة أعظم من الشر

يفضح يعقوب هنا الحالة التي كان فيها هؤلاء. فقد كانت بينهم حروب وخصومات ، فكانوا يشتهون ويحسدون ويخاصمون ويقتلون ويزنون روحيا بمحبتهم للعالم ، بل وكانوا في حالة لا مبالة وبلادة روحية إذ لم يطلبوا معونة الرب أو إشباعه لتلك الرغبات حسب مشيئته. ولكن لماذا سقطوا في تلك الحالة؟ لأنهم كانوا أضعف من مواجهة الشرور الكثيرة التي كانت تحاصرهم من الداخل والخارج ولم يلجؤا للرب ليعطيهم نعمة لمواجتها. كانوا في حالة حرب ضارية مع ثلاثة أعداء: فهناك لذات محاربة في أعضائهم (عدد 1) ، والتي تعني الإنسان العتيق في داخلهم الذي كان يشتهي ويخاصم ويقتل ويحسد ، ثم نجد العدو الثاني وهو العالم (عدد 4) الذي إرتموا في حضنه سعيا وراء الإغراءات التي يقدمها فصاروا في حالة زني روحي بسبب محبتهم له. وأخيرا نجد العدو الثالث وهو الشيطان الذي يحذرهم منه الرسول بقوله "قاوموا إبليس" (عدد 7) ، فهو الذي كان يعلم الضعف الداخلي ويثير اللذات المحاربة ، ويصور لهم مغريات العالم كذبا بأنها ما سيشبع ذلك الفراغ في داخلهم.

إن حالة الحرب الروحية التي يحياها أولاد الله تشبه إلي حد كبير حالة بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر ، فقد طاردهم فرعون المراوغ الكاذب القاتل – الذي يرمز إلي الشيطان –  ليرجعهم إلي حالة العبودية التي كانوا فيها ولكن الرب أنقذهم فالفرس وراكبه طرحهما في البحر. بل ونجدهم أيضا في حرب مع شهواتهم الداخلية بسبب اللفيف الذي كان في وسطهم – والذي يشير إلي الطبيعة العتيقة –  والذي إشتهي شهوة ، فتذكروا السمك والبطيخ والكرات والقثاء والأشياء التي كانوا يأكلونها في أرض العبودية في مصر – والتي تشير إلي العالم بكل ما يقدمه من مغريات وملذات.

يا لها من معركة ضارية مع قوي الشر في الداخل والخارج. ولكننا لا ينبغي أن نخشي شراسة تلك المعركة لأنه يعطي نعمة أعظم من الشر. فعلي الرغم من وجود لذات محاربة في أعضائنا إلا أننا لنا الروح القدس في صفنا ليساعدنا أن ننتصر عليها. طالما نحيا في الجسد فلن تتوقف مقاومة تلك اللذات لنا أبدا "لأن الجسد يشتهى ضد الروح والروح ضد الجسد. وهذان يقاوم احدهما الآخر" (غلا 5: 17 ) ولكن شكرا لله لأنه في داخلنا من يستطيع هزيمة هذا العدو هزيمة ساحقة "ولكن إن كنتم بالروح تميتون اعمال الجسد فستحيون" (رو 8 : 13 ). وعلي الرغم من عداوة العالم لنا وإستخدامه لأسلحته الوضيعة "شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة" إلا أننا لدينا ما يغلب هذا العالم "وهذه هى الغلبة التى تغلب العالم إيماننا . من هو الذى يغلب العالم إلا الذى يؤمن أن يسوع المسيح هو إبن الله" (1يو 5: 4 – 5 ). ومع أننا أيضا في عداوة مع إبليس إلا أننا معنا وفينا من غلب هذا العدو ، فالرب يسوع المسيح يشفع فينا في السماء ويطلب من الآب لأجلنا تجاه تجارب الشيطان لنا "سمعان سمعان هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفني إيمانك" (لو 22 : 31). ولنا أيضا في نصرة الرب يسوع المسيح علي إبليس في البرية مثالا لكي نتبع خطواته ونتمسك بالمكتوب في وجه إبليس ونقاومه فيهرب منا لأنه عدو مهزوم (يع 4 : 7).

3- لكنه يعطي نعمة أعظم في تأثيرها

رأينا كيف أن الفراغ يحرك الشهوات واللذات الداخلية والتي بدورها تتجه إلي العالم للإمتلاء فتكون النتيجة هي إرتكاب مزيد من الشرور من خصومات وحروبات وحسد وقتل ، فنفقد سلامنا ليس فقط الداخلي بل والخارجي أيضا. إن التأثير الذي يمكن أن تحدثه تلك الشهوات الجامحة والغير مشبعة حسب مشيئة الله لهو رهيب ، فهو يحرمنا من سلامنا الداخلي لأننا أصبحنا في حالة بحث عن الشبع ومن ثم الإحباط بسبب عدم إيجاد هذا الشبع ، فتطفو تلك الحالة علي السطح لتظهر أيضا علي العلاقات الخارجية ، فنخاصم ونحسد ونقتل.

وكما أنه يعطي نعمة أعظم من فراغ القلب ، فإن تأثير هذه النعمة هو أيضا أعظم من تأثير الفراغ علي القلب ، فإن كان القلب فارغا وحاولنا ملئه بالشهوات فإننا بكل تأكيد سنحصد الحروبات والخصومات ونفقد سلامنا ، لكن إن إمتلأنا بالنعمة الأعظم فإن تأثير سلامها سيكون أيضا أعظم. إن ملئت النعمة قلوبنا إمتلأنا أيضا سلاما. فالسلام دائما ما يسير جبنا إلي جنب مع النعمة "نعمة وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح".

وهذا السلام هو أولا: سلام الشبع والإكتفاء ، عندما نشبع بنعمة الله نستريح ونهدأ ، ولا نبحث عن مصادر أخري للشبع ، ولا نحبط من أي شئ ، ونكون أيضا في سلام مع الآخرين من حولنا إذ أننا في سلام مع الله وأنفسنا. كان إبراهيم في سلام لأنه كان مكتفيا وشبعانا بالرب ، بعكس لوط الذي نظر وإشتهي أن يسكن في سدوم فكانت النتيجة أنه كان يعذب بالنظر والسمع كل يوم نفسه البارة بالأفعال الأثيمة. وثانيا: هو سلام الإنتصار ، فرغم الهجمات الكثيرة التي يشنها عدو الخير علينا إلا أننا نستطيع أن نتمتع بذلك السلام الذي يفوق كل عقل. إنه السلام الذي يعقب الإنتصار في المعركة ، فالضمير مستريح ، والروح غير مُحْزَن.

4- يعطي نعمة أعظم من تجاوبنا

إنها نعمة تنتظر أقل مقدار من التجاوب معها لكي تغمرنا بالإستجابة ، فالرب لا ينتظر منا الكثير لكي يعطينا هذه النعمة. إنه لا يطلب أكثر من التوبة وتصحيح حالة القلب الداخلية وحينئذ سيغدق علينا بتلك المراحم. وهذا لا ينطبق علي النعمة فقط بل إنه مبدأ يحكم كل نواحي علاقتنا بالله ، فإن كان لنا إيمان مثل حبة الخردل لإستطعنا أن ننقل الجبال (مت 17 : 20) ، وإن إلتفتنا إليه خلصنا (إش 45 : 22) ، وإن تواضعنا أعطانا نعمة ، إن قدمنا له كعكة صغيرة فإن كوار الدقيق لن يفرغ وكوز الزيت لن ينقص. تقول عنه الكلمة المقدسة "قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة مدخنة لا يطفئ" (مت 12 : 22) إنه لا يكسر المنسحق والمتذبذب والضعيف وأولئك الذين لا نفع لهم ولكنه يشفيهم ويسكب عليهم من غني قوته ونعمته ، كما أنه لا يطفئ دخان الأشواق المتصاعد من مصباح قلوبنا عندما ينفذ زيت القوة والرجاء والفهم ، بل بالحري يشعل تلك الفتيلة بنار روحه الأقدس من جديد.

وهي أيضا نعمة مشروطة بتجاوبنا معها ، فعلي الرغم من أن نعمة الله تعطي بدون مقابل إلا أنها مشروطة بإظهار رغبتنا فيها. فكونها مجانية لا يعني أن الله سيفرضها علينا. إن الله يأخذ المبادرة دائما ، فهو يدعونا إلي قبول نعمته ، وما أن نظهر رغبتنا في الحصول عليها حتي يسكب علينا من فيضه. وإن كانت نعمة الله بلا مقابل فهذا لا يعني أنها غير مشروطة. والشرط الوحيد الذي يضعه أمامنا الرب هنا هو أن نتواضع "يقاوم الله المستكبرين أما المتواضعين فيعطيهم نعمة". ويقدم لنا يعقوب هنا تحريضا من ثمان نقاط:

اخضوعوا لله: أولا بالخضوع لإرادته في حياتنا والرضي بما أعطاه لنا ، وهذا هو السبيل لغلق الطريق أمام شهوات الإنسان العتيق فنرضي بما أعطاه لنا الرب وبما لم يعطه واثقين أنه يعطينا كل ما نحن في حاجة حقيقية إليه ويحجب عنا كل ما لا ينفع لنا. وثانيا الخضوع لله يتم أيضا عن طريق إخضاع الفكر لحقه المجيد ، فعلينا أن نصدق حقه المعلن في كلمته بخصوص إغراءات العالم لنا وأنه ليس هناك شبع بعيد عن شخصه.  وثالثا علينا بإخضاع رغباتنا له ، فلنتكل عليه في كل إحتياجاتنا ورغباتنا الداخلية جسديا ونفسيا ورحيا ، ولنأت إليه في الصلاة إن إحتدمت في داخلنا نيران إحتياجاتنا ليقدسها هو ويخضعها لنا. وأخيرا علينا أن نخضع أنفسنا لوسائط النعمة التي تحفظنا من الشر ، فهؤلاء الذين كان يخاطبهم يعقوب ، لم يطلبوا من الرب "لستم تمتلكون لأنكم لا تطلبون" ، يبدو أنهم تركوا وسائط النعمة التي تسمو بإجتياجاتهم إلي فوق وتقربهم من الرب ، فلا سبيل أمامنا لهزيمة اللذات المحاربة في أعضاءنا سوي ممارسة وسائط النعمة والصلاة للرب.
قاوموا إبليس: إبليس هو أبو الكبرياء والحسد ، الذي إستقل عن الرب وتمرد عليه وهو يحاول أن يزرع هذه الأفكار فينا بأن نتمرد علي الرب ولا نخضع له بالبحث عن ما يشبعنا في العالم. لذلك علينا مقاومته عن طريق مقاومة إغراءاته ، فهو يقدم لنا إغراءات العالم علي أنها سوف تملأ ذلك الفراغ الذي نعاني منه ، فلنقاوم إذا هذا الفكر بالمكتوب كما قاومه الرب يسوع في تجربته في البرية. والشيطان لا يستطيع تحمل مقاومتنا له فسيهرب منا ، ولكن علينا أن نستمر في مقاومته لأنه سيعود من جديد ، فهو يجول كأسد زائر ملتمسا من يبتلعه.
إقتربوا إلي الله فيقترب إليكم: والإقتراب إلي الله يحدث بالإقتراب من محضره بالصلاة إلي الشخصه والتأمل المستمر في كمالاته وصفاته المباركة ، فيقترب إلينا هو. وفي الحقيقة إنه هو الذي يأخذ الخطوة الأولي دائما ، فلا شك أنه إقترب هو إلينا أولا ولكنه ينتظر منا تجاوبا حتي ما يقترب إلينا أكثر.
نقوا أيديكم أيها الخطاة: ليس فقط علينا الإهتمام بحالة القلب من الداخل بل أيضا علينا أن ننقي سلوكنا الخارجي أيضا. ولا شك أن وحدة القلب في الداخل ستساعدنا كثيرا علي تنقية السلوك.
طهروا قلوبكم يا ذوي الرأيين: والتغيير ليس في السلوك فقط ولكن لابد أن يكون عميقا في القلب. ولا يصح أن يعيش المسيحي ذو رأيين ، فالإنسان لا يستطيع أن يخدم سيدين إما الله أو المال ، إما الجسد أو الروح ، إما العالم أو الله. نحن لا نستطيع العيشة مع الله بقلوب منقسمة وأعين غير بسيطة ، ولسان يلعن الناس ويبارك الله ، ويد تخدمه واليد الأخري تسرق ، ولكن لابد أن نكون موحدي الإتجاه من الداخل ونتبع الرب تاما.
إكتئبوا ونوحوا وإبكوا: علي الخطايا التي اقترفوها والتي تكلم عنها يعقوب في بداية الإصحاح ، فينبغي أن يكون القلب في حالة تأسف وحزن علي الخطية لكي ينال نعمة من الله.
ليتحول ضحككم إلي نوح وفرحكم إلي غم: لا بد من التخلي عن كل المظاهر التي صاحبت خيانتهم الروحية للرب وزناهم مع العالم ولا مبالاتهم الروحية. ذكرت كلمة "غم" في الإنجليزية (Heaviness) والتي تعني حرفيا هي طرح الوجه لأسفل مثلما فعل العشار (لو 18 : 13). فهكذا كان يبنغي عليهم أن يتخلصوا من مظاهر ومباهج الشهوة والخطية ويستبدلوها بإحساسهم بخطورة وضعهم الروحي ونبذهم لطرقهم الردية.
إتضعوا قدام الرب فيرفعكم: بما أننا أخطأنا أمامه هو وحده فقط ، فعلينا أيضا أن نتضع أمامه ونقر بضعفنا ونقصنا وعدم إستحقاقنا لمراحمه. فالشجرة التي تريد النمو لأعلي يبنغي أن تتعمق جذورها لأسفل ، والبناء الذي نريده عاليا ينبغي أن يكون أساسه عميقا.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس