إذا إنقلبت الأعمدة فالصديق ماذا يفعل؟



لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ. لِدَاوُدَ عَلَى الرَّبِّ تَوَكَّلْتُ. كَيْفَ تَقُولُونَ لِنَفْسِي: [اهْرُبُوا إِلَى جِبَالِكُمْ كَعُصْفُورٍ]؟
لأَنَّهُ هُوَذَا الأَشْرَارُ يَمُدُّونَ الْقَوْسَ. فَوَّقُوا السَّهْمَ فِي الْوَتَرِ لِيَرْمُوا فِي الدُّجَى مُسْتَقِيمِي الْقُلُوبِ.
إِذَا انْقَلَبَتِ الأَعْمِدَةُ فَالصِّدِّيقُ مَاذَا يَفْعَلُ؟
اَلرَّبُّ فِي هَيْكَلِ قُدْسِهِ. الرَّبُّ فِي السَّمَاءِ كُرْسِيُّهُ. عَيْنَاهُ تَنْظُرَانِ. أَجْفَانُهُ تَمْتَحِنُ بَنِي آدَمَ.
الرَّبُّ يَمْتَحِنُ الصِّدِّيقَ. أَمَّا الشِّرِّيرُ وَمُحِبُّ الظُّلْمِ فَتُبْغِضُهُ نَفْسُهُ.
يُمْطِرُ عَلَى الأَشْرَارِ فِخَاخاً نَاراً وَكِبْرِيتاً وَرِيحَ السَّمُومِ نَصِيبَ كَأْسِهِمْ.
لأَنَّ الرَّبَّ عَادِلٌ وَيُحِبُّ الْعَدْلَ. الْمُسْتَقِيمُ يُبْصِرُ وَجْهَهُ.
(مزمور 11)


لا نعرف بالضبط المناسبة التي كتب فيها داود هذا المزمور، فالبعض يقول أنه كُتب عندما كان في البلاط الملكي ونصحه البعض بالهروب إلي مكان آمن، والبعض الآخر يظن أن داود تمخض بهذه الكلمات بسبب ما حدث معه في برية زيف (1 صم 23 : 14 – 23). وأي كانت المناسبة بالضبط، فإن معظم المفسرون يعتقدون أن هذا المزمور كُتب في واحدة من المرات التي كان يتعقب فيها شاول داود لقتله. والأزمة في هذا المزمور لم تكن أزمة داود، فقد كان هادئا واثقا في الرب وخلاصه، إذ أن أول كلمة تخرج من فمه في هذا المزمور تعبر عن إيمانه الكثير في الرب "على الرب توكلت"، لذلك نجده بعد ذلك يستنكر دعوة المحيطين به للهروب كالعصفور "كيف تقولون لنفسي إهربوا إلي جبالكم كعصفور؟"، ولكنها كانت أزمة من حوله، أو أزمة من كانوا يحيطون به وأرادوا نصحه بالهروب لمكان آمن خوفاً من ملاحقة شاول لإيقاع الأذى به.

وإذا عرفنا صعوبة الموقف الذي كان يجتاز فيه داود لإزداد إنبهارنا بإيمانه الثابت. فالأزمة التي كان يجتازها لم تكن أزمة شخصية فحسب بسبب إضطهاد شاول له وتعقبه إياه لقتله، الأمر الذي إستمر لسنوات كثيرة، ولكن بالإضافة إلى ذلك كان هناك أيضاً أزمة قومية يمر بها المجتمع الذي كان يحيا فيه داود. فقوله "إذا إنقلت الأعمدة" يخبرنا عن الحالة الروحية والقومية المتردية التي إنحدر إليها مجتمعه في ذلك الوقت. والمقصود بالأعمدة هنا هي أساسات الحق والعدل التي يؤسس عليها المجتمع، وقد وردت كلمة "أعمدة" في الترجمة الإنجليزية ((foundations. وإنهيار العدل والحق فيه يدل أيضا علي الحالة الروحية المتردية التي إنزلقوا إليها. ولا شك أن شاول نفسه كان واحدا من الأسباب المباشرة لذلك، فقد إستهان بمقدسات الرب وقتل كهنة نوب (1 صم 22). فحالة المجتمع الشريرة إذا قد زادت مشكلته تعقيدا. فلمن يلجأ الآن هربا من محاولات العدو بقتله وقد إنهار العدل والحق والفضيلة في المجتمع؟ كيف سينجو من يد شاول وهو لم يشفق علي كهنة الرب؟ لقد ضاع كل أمل في النجاة! ولكن ليس لدي داود.

ولا شك أنه يوجد هنا ثمة شئ قد يستوقفنا أمامه، وهو كيف يستنكر داود نصيحة مَنْ حوله بالهرب وها هو نفسه يهرب بعد ذلك من مخبأ إلي الآخر إلى أن ينتهي به الحال في وسط أعداءه الفلسطينيين؟ إن داود لم يهرب خوفا، ولكنه هرب لكي تنجو نفسه من محاولة قتل شاول له. والرب يسوع المسيح ترك بيت لحم ليختبئ في مصر. وموسى أيضا ترك مصر غير خائف من غضب الملك لأنه تشدد كأنه يرى مَنْ لا يُرى (عب 11 : 27). فدافع داود للهرب لم يكن هو عدم الثقة في الله، بل ربما إعتقد أن هذا نوعا من الحماية يقدمه الرب، فالقدرة على الهرب أيضا قد تُمنح من الرب.

والمزمور يعتبر واحدا من مزامير الثقة التي عبر فيها داود عن إيمانه الثابت في الرب رغم الضيق (4 ، 16 ، 23 ، 27 ، 62 ، 125 ، 131). ويمكننا تقسيمه إلى قسمين: القسم الأول (1 – 3)، وهو يكلمنا عن التجربة التي تعرض لها بالهرب إلي الجبال. والقسم الثاني (4 – 7)، ويخبرنا عن إيمانه في الرب والحجج التي يسوقها في مواجهة التجربة.

ولكن ما هو الحل لهذه الأزمة؟ إن شاول يتهممه اليوم كله، كما أن الأعمدة قد إنقلبت، فماذا يفعل هو كصديق؟ هل يهرب فعلا كعصفور جبان إلى جباله؟ هل يجري من أمام السهم المشدود فوق الوتر؟ هل يهرع من هول الدجى الذي اختبئ بين طيات ظلامه الأشرار ليرموه بالسهام؟ إذا إنقلبت الأعمدة فالصديق ماذا يفعل؟

1- فليسكب الصديق شكواه أمام الرب

إن أول رد فعل لداود الصديق هنا عندما إنقلبت الأعمدة هو أنه سكب شكواه أمام الرب. ففي العدد الأول نراه يتكلم بأسلوب إستنكاري فيه معاتبة مع هولاء الذين قدموا له النصيحة بالهرب إلي جباله كعصفور لأن شاول لن يهدأ حتي يقتله، خصوصا وأن المجتمع قد إنهارت أعمدته ولم يعد فيه أي عدل أو حق. ثم نجده في العدد الثاني يتحول إلى الرب إلهه ليسكب شكواه أمامه، فيقول "لأنه هوذا الأشرار يمدون القوس. فوقوا السهم في الوتر ليرموا في الدجى مستقيمي القلوب". فبعد أن استنكر نصيحة من حوله بأن يهرب كالعصفور الجبان إلى الجبال نجده يتحول إلي إلهه في صلاة هادئة واثقة. والرب بكل تأكيد كان يعلم ويراقب كل شئ ولم يكن في حاجة إلى داود لكي يخبره بالكمين الذي نصبه له الأشرار في الدجى.

ولنلاحظ هنا شيئين عن صلاة داود: أولا كانت صلاة إيمان ولدت من رحم أزمة. فلولا تعقب شاول لداود، ولولا إنقلاب الأعمدة لما خرجت هذه الكلمات من فمه. فإن واحدا من الأسباب التي نجتاز فيها أوقاتا عصيبة هو أن نتكلم مع الرب، فهو يحب أن يسمع أصواتنا، ويحب أن يسمع كلمات إيماننا وإتكالنا عليه. فما أعذب صلوات وأغنيات الإيمان التي تصدر من أفواه الأتقياء في أوقات التجارب. وهذا ما فعله داود أيضا حينما هرب من وجه أبشالوم، فبعد أن يتذكر كثرة مضايقيه وأولئك الذين يريدون إهلاكه يتحول إلى إلهه في صلاة مباشرة ليعبر عن إيمانه بذلك "ما أكثر مضايقي كثيرون قائمون علي. كثيرون يقولون لنفسي ليس له خلاص بإلهه. أما أنت يا رب فترس لي مجدي ورافع رأسي. بصوتي إلى الرب أصرخ فيجيبني من جبل قدسه" (مز 3 : 1 -4).

وثانيا لم تكن صلاة داود إملاء على الرب بما ينبغي عليه أن يفعله. لم يطلب نقمة الرب من السماء على الأعداء الآن لأنه قد يسمح الرب بذلك في حياة داود أو بعد مماته. لم يطلب أن يساعده الرب في خوض معركة مباشرة مع أعداءه لأنه قد تكون وسيلة النجاة هو أن يذهب إلى مكان آخر كما حدث فيما بعد. ولم يطلب من الرب أن يفضح شر هؤلاء الأشرار ومكيدتهم التي أعدوها في الظلام. ولكنه ببساطة سكب شكواه أمام الرب دون أن يقول له ماذا يريد أو ماذا ينبغي أن يفعل له الرب. فهو قد إتكل على الرب تماما ليجد له المخرج المناسب للأزمة حسب مشيئته وحسب توقيته المبارك. وهذا ما فعله حزقيا أيضا عندما وصلته رسائل التهديد من ملك أشور إذ نشرها أمام الرب (2 مل 19 : 14). والتلاميذ أيضا طلبوا من الرب أن ينظر إلى تهديدات اليهود لهم "والآن يا رب أنظر إلي تهديداتهم، وامنح عبيدك أن يتكلموا بكلامك بكل مجاهرة" (أع 4 : 29) ، فلم يطلبوا النجاة من الأعداء أو إنتقام الرب منهم. أيها الأحباء فلنتوقف عن إقتراح حلول للرب من أجل مشاكلنا بل ندعه يدبر هو طريق النجاة، فقد يشق البحر أمامنا فنسير علي اليابسة أو قد يسمح أن ندور حول أسوار المدينة الشامخة فتسقط من تلقاء نفسها أو قد يدخلنا أتون النار ليسير معنا.

2- فليتوكل الصديق على الرب

أول كلمة ينطقها داود هنا هي تعبير عن ثقته في الرب "على الرب توكلت"، فقبل أن يخبرنا عن قوة الأعداء ومكرهم وصعوبة الأزمة التي يمر بها، نجده متلهفا أن يعلن إتكاله أولا على الرب إلهه. وأول شئ نلاحظه هنا بصدد هذا الأمر هو أن داود إتخذ قرار الإتكال على الرب ثم تابع ممارسة هذا القرار. إن إيمان داود في الرب لم يكن وليد الصدفة ولكنه كان قرارا صعبا ينطوي على الكثير من التحدي للظروف المعاكسة. وهو ذلك العمل الذي نختار فيه طاعة الرب والثقة فيه في وسط الظلام الذي يكمن لنا فيه الأشرار. وهذا ما فعله داود، فشاول يتعقبه هو وجنوده، والأعمدة قد إنقلبت، لكن داود قرر وإختار أن يثق في الرب إلهه. لم يكن هذا أمرا سهلا ولكنه أيضا كان أمرا متوقعا من شخص تذوق معية الرب عندما نصره على الأسد والدب، وعندما حبس في يده الفسلطيني الأغلف وجعل جسده وليمة لطيور السماء، بل وعندما قتل مائة فلسطيني ليأت بغلفهم لشاول كمهر لميكال. كما أن داود كان عليه أن يظل واثقا في الرب، فقراره عظيم، ولكن المثابرة والإستمرارية في متابعة تنفيذه أعظم. كان عليه أن يأخذ قرار الثقة في الرب ولا يهرب، وكان عليه أيضا أن يتابع ممارسة هذه الثقة أمام إلحاح الأصدقاء بالهرب وأمام تفاقم الأزمة إذ أن الأعمدة قد إنقلبت ولم يعد هناك أمل في النجاة. عندما سمع الأعداء بعزم نحميا علي بناء السور استهزأوا به لكنه ظل متكلا على الرب، ثم قرروا محاربته عندما رأوا رباطة جأشه ولكن الله أبطل مشورتهم، ثم حاولوا خديعته والإيقاع به لكنه قال لهما أنه عامل عملا عظيما فلا يقدر أن ينزل، وأخيرا نجدهم يقومون بإرهابه فينصحوه بالإختباء في الهيكل لأن الأعداء قادمون ليلا ليقتلوه لكنه ظل متكلا على الرب ورفض أن يهرب. ونحن أيضا ينبغي لنا أن نذكر أنفسنا بقرار توكلنا على الرب وأن نجدد عزمنا أمام تجدد الصعوبات أمامنا بالثقة في إلهنا كل حين.

وثانيا وضع ثقته في الرب وحده. لم ينسب داود لنفسه أي قوة أو إمكانية ولم نراه يحاول الدفاع عن نفسه في وجه هؤلاء الذين وصفوا موقفه بموقف العصفور الضعيف الذي ينبغي عليه الهرب من أمام رماة السهام. ولم يتكل أيضا على أصدقاءه حتي لو كانوا مخلصين جدا كيوناثان إبن الملك ، فهو لم يستطع أن يخلصه من شاول ولم يقدر على إقناعه بالعدول عن قتل داود. ولم يتكل علي الأربع مائة رجل الذين إلتفوا من حوله أثناء إختباءه في مغارة عدلام وكان لهم ملجأ، فأولئك الرجال الذين كانوا معه أثناء وجوده في مغارة عدلام نجدهم يريدون رجمه بالحجارة عندما سبيت نساءهم وبنيهم بعد ذلك (1 صم 30 : 6). ولم يتكل علي أى عدل أو قضاء في الأرض إذ قد إنهارت أعمدة المجتمع ولم يعد يتوقع أي إنصاف منه. لقد تعلم داود الدرس جيدا، فلا يستطيع أن يتكل على البشر لأنهم محدودي القوة، ولأنهم متقلبون ومتغيرون، ولأنهم أيضا عوجوا القضاء. ويا ليتنا نتعلم نحن أيضا من داود فندرك أنه لا يوجد خير متكل لنا غير الرب وحده، فهو لا يتغير، هو ليس معنا اليوم ويتركنا غدا، لكنه معنا إلى الأبد في كل الظروف ومهما كانت حالتنا "لأني أنا الرب لا أتغير فأنتم يا بني يعقوب لم تفنوا" (مل 3 : 6). ولا يعاملنا حسب خطايانا أو حسب معاملتنا له، بل مثل إرتفاع السموات فوق الأرض قويت رحمته على خائفيه (مز 103)، إن مبدأه دائما هو النعمة "يهديني إلى سبل البر من أجل إسمه" (مز 23). وهو أيضا غير محدود القوة كالبشر لكنه عنده للموت مخارج.

3- فليطمئن الصديق لأن الرب في هيكل قدسه

قد تنقلب أعمدة الحق والعدل والإنسانية في الأرض ولكن الرب في السموات ثبت كرسيه ومملكته على الكل تسود (مز 103 : 19). وهذا هو سر إيمان داود، أن الرب في هيكل قدسه. ووجود الرب في هيكل قدسه يكلمنا عن عدة أشياء أدخلت الطمأنينة إلى قلب داود: فهو يعني أولا حضور الرب، فهو في هيكل قدسه وسط قديسيه وشعبه، وفي وسط مكان الشركة معهم، فكما كان يسكن الرب قديما في خيمة الإجمتاع في وسط شعبه وتابوت عزه في وسطهم وكان يسير أمامهم أيضا في الطريق، فهو الآن أيضا ساكن في هيكل قدسه وهي الكنيسة التي يقول عنه الرسول "وبيته نحن". فالرب حاضر وسط قديسيه في مخاوفهم وإضطهاداتهم وضيقاتهم. وليس ذلك فقط بل أيضا مع كل واحد من أتقياءه، فالعهد الجديد يعلمنا أن جسد المؤمن هو هيكل الله وروح الله ساكن فيه، فالرب حاضر في حياة المؤمن ويسكن فيه ويظلله بحمايته ومعيته. فالرب في هيكل قدسه حاضرا لكي يحامي ويدافع عن أحباءه وقديسيه.

وثانيا الرب في هيكل قدسه جالسا على كرسيه في السماء، وفي ذلك إشارة إلى سلطانه المطلق فوق كل شئ. فإن كان شاول الملك يتعقب داود لإهلاكه فإن قلب الملك في يد الرب كجداول مياه حيثما شاء يميله. وإن كانت الأعمدة قد إنقلبت فالرب أعظم وسلطانه إلي دور فدور. فسيدنا الرب هو صاحب الكلمة الأخيرة، واليد العليا، والسلطان المطلق في السموات وعلى الأرض وتحت الأرض.

وثالثا كان داود مطئمنا لأن الرب يعلم بما يجري لأتقياءه، فهو يجلس على عرشه في السماوات عليما وفاحصا لكل ما يجري على الأرض التي هي موطئ لقديمه. "فعيناه تنظران. أجفانه تمتحن بني آدم" الأجفان تشير هنا إلي قوة التركيز، فعندما يريد الإنسان أن يركز النظر على شئ نري أجفانه تقترب من بعضها لكي تنحصر الرؤية على الشئ المراد رؤيته فقط. وهذا يكلمنا عن فحص الرب الشديد لبني آدم. وهو لا يجلس مراقبا فقط ولكنه أيضا يشعر بضيق أتقياءه وأحباءه، فهو في السماء ولكنه عيناه تجولان كل الأرض ليتشدد مع الذين قلوبهم كاملة نحوه.

أيها القارئ العزيز ألا يكفي هذا لطمأنتك أن الرب الإله في هيكل قدسه حاضرا ومحاميا عن قديسيه؟ ألا يطمئنك جلوسه على العرش متسلطا على الكون؟ ألا يدخل في قلبك الطمأنينة أن ترى الرب مستعد أن يرسل لك عونا من قدسه؟ ألا يكفينا ذلك الإله الذي أجفانه تمتحن بني آدم ويعلم كل ما نجتاز فيه؟ نعم "أنا إضطعت ونمت إستيقظت لأن الرب يعضدني" (مز 3 : 5)

4- فليخضغ الصديق لأن الرب يمتحنه

عرف داود السر وراء هذه الآلام وهو أن الرب يمتحنه. فهيجان الأشرار عليه وتعقب شاول له كانت كلها بسماح من الرب لإمتحانه. وإدراكه لذلك كان واحدا من الأسباب التي كانت وراء هذه الثقة. فهذه الآلام لم تكن صدفه، إذ أنه غير متروك للظروف، ولكن الرب قصدها لكي يمتحنه. وينبغي أن ينظر الصديق إلي كل آلامه – ما عدا تلك التي يجلبها علي نفسه بشره أو حماقته (1 بط 4 : 15) –  كإمتحان مصدره الرب نفسه.

والشئ المعزي بخصوص هذا الإمتحان هو أنه ينبع من محبة الله، فالآية تخبرنا بأن الله يمتحن الصديق وهو في نفس الوقت يبغض الشرير ومحب الظلم. وكأنه يريد أن يقول لنا أن الدافع وراء هذه الآلام هو محبة الله، لهذا لا يمتحن الله الأشرار لأنه يبغض طرقهم وحبهم للظلم. ولكنه يسلمهم ويتركهم لطرقهم الردية إن أصروا عليها. يقول كاتب العبرانيين "لأن الذي يحبه الرب يؤدبه. ويجلد كل إبن يقبله" (عب 12 : 6). ألا يؤدب الأب البشري أيضا أبناؤه لكي يعلمهم وينضجهم ويصحح شخصياتهم بدافع من محبته الأبوية تجاههم؟ فكم بالحري الرب الإله الذي يحب أبناءه الذين يقبلوه.

والهدف من هذا الإمتحان الذي يدخل فيه الله الصديق هو إنضاجه وتمحيصه وتنقيته كما يدخل الذهب في النار لكي يذاب فيفصل عن الشوائب التي به ليصبح أكثر نقاوة وقيمة ولمعانا. ونار الإمتحان تجعلنا أكثر نقاوة فيسقط عنا كل إعتداد بالذات وكبرياء لننظر خارج أنفسنا ونتطلع إلى الرب كالمصدر الوحيد للقوة. وهي تزيدنا أيضا قيمة فيصبح معدن إيمانا أكثر قوة وأكثر قدرة على الخدمة وتحمل المشقات من أجل الرب. وأخيرا تجعلنا أكثر لمعانا فتكون شهادتنا مؤثرة إذ أننا لا نتكل على أنفسنا، بل ويكون إيماننا أيضا وسط هذه النيران هو خير شهادة لإلهنا الذي يحفظنا في وسطها ويخرجنا أفضل مما دخلنا التجربة. وكما قال أيوب "إذا جربني أخرج كالذهب" (أي 23 : 10). فكما أن النيران ضرورية لتنقية الذهب، ودولاب الفخاري لازما لكي يشكل عليه من جديد الوعاء الذي فسد هكذا أيضا فإن الإمتحان لازما لتنقيتنا. فلنخضع إذا للإمتحان ولا نهرب منه أو نتذمر عليه بل نتكل علي الرب.

5- فلينتظر الصديق الرب لأنه عادل ويحب العدل

يخبرنا تاريخ حياة داود أنه ظل في هذه الآلام لسنوات كثيرة. ولم تنته تلك الأزمة بين ليلة وضحاها، بل نراه يذهب من مكان لآخر للإختباء من شاول. فقد إستمر رماة السهام في رمية وظلت أعمدة المجتمع منقلبة. ولا شك أن طول مدة الآلام قد زاد الإمتحان صعوبة. ولم يكن أمام داود شئ ليفعله سوي أن ينتظر الرب وخلاصه.

ولا شك أن إلتفات داود إلي حقيقة كون الرب عادلا ويحب العدل ساعدته كثيرا في إنتظار عدله وقضاءه. فلم يعد ينتظر أي شئ من القضاء الأرضي الآن إذ قد إنقلبت أعمدته، ولكنه الآن ينتظر فقط عدل الرب ودينونته على الأشرار. ولنلاحظ أن داود لم يطلب النقمة للأعداء ولكنه كان واثقا فقط في عدل الرب وأنه يراقب الأمور ليضع نهاية للظلم وينجي أتقياءه.

والسبب الذي جعل داود ينتظر الرب في هدوء هو أن الرب عادل ويحب العدل. وكلمة عادل ويحب العدل جاءت في ترجمات كثيرة "بار ويحب البر". ولنلاحظ ما يتضمنه هذا المعني: فهو أولا يقدر بر الصديق وإتكاله عليه ويكافئ هذا البر أيضا. إن الرب يقدر أمانتا له وسلوكنا البار وإنتظارنا له فطبيعته البارة لا تستطيع إلا وأن تقدر بر الصديق لتكافئه وتكرمه. وثانيا الرب بار ويقدر عمل البر الذي عمله في قديسيه، فقد سفك من أجلهم دم الحمل الذي بررهم أمام الله، وهو يرى فيهم أيضا إبنه الحبيب الذي بررهم. إنهم يحب ويقدر كثيرا بر ذاك الذي إكتسوا به وقبلوه فيهم فكيف يترك الله البار القديسين الذين بررهم؟ وثالثا الرب بار ولا يترك الشرير يفلت من العقاب، فهو يحب العدل والبر. ليس فقط يجري البر والعدل للمظلومين ويعاقب الأشرار، ولكنه يحب أن يجري بره، فهي طبيعته ولا يستطيع أن ينكرها.  لهذا كان داود واثقا لأنه عرف أن نهاية الشرير والظالم باتت قريبة ، فالرب لا يستطيع أن يترك الشرير غير معاقب بل إنه: يمطر على الأشرار فخاخا، سفتاجئهم دينونة الله ويباغتهم عدله، ولن يستطيعوا الفرار منه فسوف تقبض عليهم فخاخ دينونة الله. نارا وكبريتا مثلما حدث مع سدوم وعمورة بسبب شرهما. وريح السموم، وهي ريح عاصفة خانقة مؤذية ومدمرة تهب في صحراء شبه الجزيرة العربية. وهؤلاء سيكون نصيب كأسهم مملوءا بهذا المزيج من الدينونة المرعبة التي ستأتي عليهم.

فلننتظر عدل الرب، لتتشدد ولتتشجع قلوبنا ولننتظر الرب. فلا يخر قلبك أيها الأخ العزيز من رماة السهام ولا ترتاع من إنقلاب الأعمدة بل إنتظر الرب الذي سيأتي حتما ليكرم إنتظارك له وينجيك من فخ الصياد ويصنع دينونة علي الأشرار.

6- فليفرح الصديق لأنه سيبصر وجه الرب

يا لها من تعزية أن يبصر الصديق وجه الرب في دجي الليل الذي يُرمى فيه بسهام الأشرار. إنه يحجب وجهه عن الأشرار ولكنه يسر أن يعلن نفسه للصديق. ورؤية الصديق للرب تخبرنا عن عدة أشياء: أولا رضى الرب عليه، فالرب يعلن وجهه لمن يرضى عنه. وليس من المهم هنا رضى البشر، إذ أنهم فوقوا السهام ليرموا في الدجى المستقيمي القلوب، ولكن رضى الرب هو الأهم. ثم أن رؤية الصديق للرب تخبرنا أيضا عن مكافأته إياه بهذه البركة: فهو يحب أن يظهر نفسه للسمتقيم الذي إنتظره طوال التجربة وإتكل عليه وتمسك بكماله. فما أعظم إطلالة وجه الرب المنير على الصديق في ليل إمتحانه، إنها أفضل مكافأة يمكن أن ينتظرها الصديق المتألم. كما أن الصديق يبصر وجه الرب ليتشجع في وسط آلامه، الرب لا يترك أحباءه يجتازون الأوقات العصيبة دون أن تصلهم أشعة نور وجهه لتخترق ظلام التجربة الدامس فيعلن لهم عن حضوره ومعيته لهم رغم كل ما يواجهونه من كروب. آه أيها الأخ العزيز إنه يلتقيك في ظلام ليل غربتك كما فعل مع يعقوب في بيت إيل لأنه كان يعلم الضيق الذي كانت تجتاز فيه نفسه. أو قد يأتي إليك في ظلام الخوف وإنحدار الحالة الروحية ووشراسة الأعداء كما فعل مع جدعون تحت البطمة لكي يشجعه ويشدده. أو قد يأتي ماشيا على الماء في الهزيع الرابع من الليل كما فعل مع بطرس والتلاميذ ليظهر مجده ويعلن سلطانه على كل شئ ولكي يسمعنا صوته قائلا "أنا هو لا تخافوا".

يقول بعض المفسرون أن كلمة "وجهه" جاءت في الأصل العبري بصيعة الجمع كتلك التي وردت في (تك 1)، ويمكننا هنا أن نري إشارة إلي رؤية مجيدة لكمالات الثالوث الأقدس جميعا. فإن كان المستقيم يبصر وجه الرب جزئيا هنا إلا أننا سنراه كما هو عن قريب عندما تنتهي آلامنا هنا على الأرض وينقشع دجى ليل إغترابنا عنه فيأتي إلينا كوكب الصبح المنير لنراه في بهاءه ومجده ونشبع برضى وجهه علينا في كل حين.

ونتعلم مما سبق بعض الأشياء: أولا ينبغي للصديق أن يتوقع مقاومة الأشرار له فإن المبادئ التي تحكم حياته غير مبادئ الأشرار فهم ظلمة ونحن نور، هم من أب هو أبليس ونحن أولاد الله. وهذا ما حدث مع نحميا فقد أظهر الأعداء عداوة شديدة ضده عندما عاد من السبي لبناء أسوار أورشليم، فنصح أن يدخل إلي الهيكل ويختبأ فيه لأن الأعداء قادمون ليلا ليقتلوه لكنه واجه هذه النصيحة قائلا "أرجل مثلي يهرب؟ ومن مثلي يدخل الهيكل فيحيا؟ لا أدخل!" (نح 6 : 11). والرب يسوع المسيح أيضا قالوا له "أخرج وإذهب من ههنا لأن هيرودس يريد أن يقتلك" فأجاب الرب "إمضوا وقولوا لهذا الثعلب ها أنا أخرج شياطين وأشفي اليوم وغدا ، وفي اليوم الثالث أكمل" (لو 13). وثانيا: علينا أن لا نتوقع أي رجاء من الأرض لأنه قد تنقلب أعمدتها في أي لحظة، قد يختفي الحق والعدل والبر من المجتمع الذي نحيا فيها، لذلك فليكن رجاءنا هو الرب وحده. وثالثا: علينا أن يكون لنا موقف الإيمان الثابت مثل داود ولا نهرب من الإمتحان بل نتوكل علي الرب.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس