كالب بن يفنة .. روح أخري ومصير آخر



 

وَأَمَّا عَبْدِي كَالِبُ فَمِنْ أَجْلِ أَنَّهُ كَانَتْ مَعَهُ رُوحٌ أُخْرَى وَقَدِ اتَّبَعَنِي تَمَاماً أُدْخِلُهُ إِلى الأَرْضِ التِي ذَهَبَ إِليْهَا وَزَرْعُهُ يَرِثُهَا. (عدد 14 : 24)



كان كالب في ذلك الوقت الذي عاد فيه من رحلة التجسس كهلا في الأربعين من عمره ، وبدلا من أن نراه متعثرا في مواجهة أزمة منتصف العمر ، وإذ بنا نجده بطلا يتحدي بإيمانه الثابت كل ما وقف في طريقه. فقد تحدي المنظور وصدق الوعد بدخول الأرض الموعودة رغم ضخامة الأعداء وحصانة مدنهم. تحدي أيضا كذب الجواسيس ولم ينساق وراء ذلك بل أصر أن يشهد بالحقيقة ويبث روح الإيمان في قلوب الشعب. وتحدي أيضا تهديدات الشعب برجمه فلا نقرأ أنه تحرك له ساكنا أمام ذلك الترويع. بل وحتي عندما أصبح إبن خمس وثمانين سنة كنا نظن أنه سيتقاعد روحيا إلا أننا نفاجئ من جديد بتلك الروح البطولية التي لم تشيخ ولم توهنها السنين ، بل بالحري أزادتها توقعا وإيمانا ، فنجده لازال متشددا ولديه القوة علي الحرب. فقد كان كالب إسما علي مسمي ، فالإسم مستمد من شراسة الكلب وشجاعته البطولية التي يبديها أثناء دفاعه عن أصدقاءه إذا ما داهمتهم المخاطر ، وكان كالب حقا يتميز بالشجاعة ورباطة الجأش والإخلاص لعمل الرب وإخوته.

ونستطيع أن نري في كالب ظلا للرب يسوع المسيح كسابق من أجلنا. فكلمة سابق التي إستخدمت في (عب 6 : 20) كانت تستخدم لمن يتجسس الأرض أو يستكشفها ويمهد الطريق لمن يأتي بعده. فكما تجسس الأرض الموعودة وأعطي تقريرا صالحا مشجعا لإخوته عنها ، نجده أيضا بعد أربعين سنة يقود الشعب إلي داخل الأرض الموعودة. والرب يسوع المسيح دخل أمامنا إلي السماويات ليمهد لنا الطريق وينير لنا الحياة والخلود بواسطة الإنجيل. بل ونري في كالب أيضا صورة للمؤمن الذي دخل إلي أرض الموعد كسابق لجيله ، فنحن دخلنا دائرة النصيب المبارك مع الله كسابقين لهذا الجيل ، لكي نمهد الطريق أمامهم ونحضرهم إلي ذلك النصيب الموعود مثلنا أيضا. ولكي نفعل ذلك ونمهد الطريق أمام المحيطين بننا للدخول إلي دائرة العلاقة مع الله والنصيب المبارك علينا أولا أن نقدم شهادة شفهية طيبة وتقريرا مباركا عن ذلك النصيب الذي نتمتع به الآن مع الله ، وثانيا علينا أن نقدم شهادة سلوكية عملية فنتبع الرب تماما كما فعل كالب. وعموما فإن كالب هو رمز للإيمان الذي يحيا في هذا العالم ولا يعبأ بالتحديات التي تلقي في طريقه أثناء مسيره إلي الأرض الموعودة ، لكنه يتطلع بثقة أن يصل هناك ويمتلك النصيب الذي يفيض لبنا وعسلا.

ولو رجعنا بخيالنا وقت أن ذهب كالب ليتجسس الأرض مع الجواسيس الآخرين ربما لا نلحظ أي إختلاف في الشكل الخارجي بينه وبين من ذهب معهم ، فلعله كان يرتدي نفس تلك الثياب ذات الطابع الفرعوني ، والتي سلبوها من المصريين عند خروجهم ، بل ويحمل أيضا مثلهم بعض الحاجيات اللازمة لإنجاز المهمة التي تطلبت أربعين يوما ، فربما لم يكن هناك إختلاف في الشكل العام ، ولكن ذاك الذي عيناه تنظران وأجفانه تمتحن بني آدم يخبرنا أنه كانت معه روح أخري. والكلمات الشهيرة التي فاضت بها تلك الروح "إننا نصعد ونمتلهكا لأننا قادرون عليها" (عدد 13 : 30) كانت واحدة من ثمار تلك الروح التي كانت مع كالب ولم تكن مع باقي الجواسيس. فالروح كانت روح الإيمان والثقة في الرب والتي سمت فوق المنظور واستهانت بالصعوبات ، والثمار كانت هي عمل روح الإيمان تلك ، فنقرأ عنه أنه إتبع الرب تماما. فإن وجدت روح الإيمان فينا فلابد أن تعبر عن نفسها بالثمار المماثلة فنتبع الرب تماما. وتعبير "أما عبدي كالب" يخبرنا عن تميز هذا البطل روحا وعملا عن باقي الجواسيس ، فقد كانت معه روح الإيمان التي لم ترتعد فرائصها أمام العدو وكان له أيضا عمل هذه الروح وثمرها المتمثل في إتباعه الرب تماما. وكما كان متميزا في الروح التي كانت معه وعمل تلك الروح ، فإننا نري له أيضا مصيرا مختلفا عن هؤلاء الذين كانت معهم روح عدم الإيمان والخوف. فكان مصيره هو مجيدا أما مصيرهم هم فكان مرعبا ومحزنا.

أولا روح أخري

لم يكن موقف الجواسيس الآخرين هو موقف الشك أو الإرتياب من إمكانية إمتلاكهم للأرض ، بل كان موقف إنعدام الثقة تماما ، فهم لم يتسائلوا أو يتباحثوا فيما بينهم عن إمكانية دخول الأرض بل قالوا "لا نقدر أن نصعد إلي الشعب لأنهم أشد منا"  وبقولهم هذا فإنهم يقرون بعدم إيمانهم في وعد الرب وكلمته ، وفي قوته فهو غير قادر علي تنفيذ ما وعد به ، وفي نيته أيضا وإرادته من أجلهم. فقد كان موقف يتسم بعدم الإيمان كليا. أما كالب عبد الرب فكانت معه روح الإيمان الذي وثق في وعد الرب وقوته وإرادته بإدخالهم إلي الأرض التي حلف لهم.

سمات روح الإيمان

ولكن ما هي سمات روح الإيمان هذه التي كانت مع كالب ولم تكن مع الآخرين؟ أولا روح الإيمان تسمو فوق العيان والمنظور. عدم الإيمان يري بوضح كل العقبات التي أمامه ، فالجواسيس الجبناء أخذوا يعددوا إمكانات سكان تلك الأرض ، وكيف أنهم عمالقة ومدنهم حصينة عظيمة جدا والأرض نفسها تأكل سكانها (والذي قد يعني أن سكانها يموتون بإستمرار ، ربما بسبب موقعها وكثرة الهجمات عليها ، أو بسبب كثرة الموتي الذين رآهم الجواسيس نتيجة طاعون أو مرض ما كان يصيبهم ، عدد 13). وإن كان عدم الإيمان لا يري إلا العقبات فإن الإيمان عكس ذلك تماما ، فإنه يري المشجعات ، إنه لا يتجاهل الصعوبات لكنه يراها في حجمها الحقيقي أمام القوة التي له في الرب إلهه. لقد قارن الجواسيس أنفسهم بالأعداء وقاسوا قوتهم علي مقياس قوة الأعداء فكانت النتيجة أنهم كانوا كالجراد في أعين أنفسهم. لكن كالب لم يقم بعمل هذه المقارنة ، وبدلا من أن يري نفسه كفريسة سهلة للأعداء ، رأي الأعداء وليمته "ولا تخافوا من شعب الأرض لأنهم خبزنا. قد زال عنهم ظلهم ، والرب معنا . لا تخافوهم" (عدد 14 : 9) فعدم الإيمان إذا يري العقبات ولا يري المشجعات ويقيس نفسه علي قوة العدو ، أما الإيمان فلا يتجاهل الصعوبات لكنه يري المشجعات إلي جوارها "الرب معنا" ثم يقيس الأعداء علي مقياس قوة الرب فيدرك أنهم خبزه. والإيمان ليس فقط لا يخاف من الأعداء لكنه يري نفسه منتصرا بالفعل حتي قبل أن يخصوض المعركة ، مثلما رأي أليشع البركة متحققة علي أرض الواقع قبل أن يراها فعليا "لا ترون ريحا ولا مطرا وهذا الوادي يمتلئ ماء" (2 مل 3 : 17). وكل قديس تحرر من الخطية ويسير في طريق سياحته إلي المدينة السماوية لديه الإيمان الذي يستطيع أن يسمو به فوق كل المعوقات والعقبات ، فالإيمان يصدق معية الرب معنا وأنه سينصرنا علي أعدائنا الروحيين ، العالم والجسد والشيطان ، وأنه سيوقفنا أمام مجده غير عاثرين بلا عيب في الإبتهاج.

وثانيا فإن روح الإيمان لا تقنع بالواقع الهزيل بل تشتاق إلي البركة. في حين فضلت الأكثرية التيهان في البرية عن أن يخترطوا سيوفهم ويواجهوا الأعداء فينعموا بالأرض التي تفيض لبنا وعسلا عبر النهر ، لكن كالب الذي كانت معه روح أخري لم يرض بهذا النصيب الهزيل الذي رضي به هولاء ، فكيف يرض هو بالتيهان في برية مقفرة في حين أن في مقدوره أن يصعد ليرث الأرض الموعودة؟ لذلك قرر أن يصعد ويمتلك الأرض ، فقد كان لديه الإيمان الذي يشتاق إلي البركة. كان يتوق أن يشتار من عسل تلك الأرض الحلو ويرتشف من لبنها المغذي ، كان يشتاق أن يري البركة الموعودة للآباء من القديم وقد تحققت ، وأن يرث نسله هذه الأرض. إن الروح التي كانت مع الجواسيس إكتفت بالواقع الهزيل الذي كانوا يعيشونه ، لقد أرادوا أن تتوقف خطة الله لهم عند مجرد الخروج من مصر حتي ولو كلفهم هذا الأمر أن يظلوا تائهين في البرية القاحلة ، فلم يفرق معهم المستقبل المجيد الذي ينتظرهم في الأرض الموعودة بل ساوموا علي ذلك مقابل البقاء في البرية ، بل والأسوأ من ذلك أن بعضهم أرادوا أن يقيموا لهم رئيسا لكي يعودوا إلي مصر (عدد 14 : 4). ولكن الروح التي كانت مع كالب لم تكن هكذا إذ أنها تعودت أن تري عجائب الرب وأمجاده وبركاته الواحدة تلو الأخري ، وقد ارادت أن تري المزيد منها. إن المؤمن الحقيقي والذي اتبع مخلصه إلي خارج أرض العبودية لا يسر أبدا بأن يحيا واقعا هزيلا بينما الكثير من البركات في إنتظاره. يقول بولس عن مسيره مع الرب "لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه متشبها بموته" ،  فقد كان يشتاق إلي مزيد من البركة في علاقته مع الله علي الأرض ، بل كان يشتاق أيضا أن يكمل تلك الرحلة بأقصي سرعة  حتي يطئ بقدمه النصيب الموعود في السماء "لي إشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح. ذاك أفضل جدا". ونحن لسنا في حاجة أن نتصنع أي أشواق إذ أن روح الإيمان الحقيقية ستفيض بتلك من تلقاء نفسها. وإن رضينا بالواقع الهزيل ولم نشتاق للبركة فيبنغي أن نسأل أنفسنا إن كان حقا فينا روح الإيمان الحقيقية التي لا تهدأ حتي تنال بركة الرب لها.

وثالثا فإن روح الإيمان إذا رأت البركة تتشبث بها ولا ترخها. فهي ليس فقط لا تكتفي بالحاضر الهزيل بل تتمسك بالبركة إذا رأت القليل منها. لقد كانت الروح التي مع كالب من تلك النوعية التي تري القليل من البركة حتي تتشبث بها كلها ولا تطلقها من يدها إن لم تبارك كليا. كيف يدع البركة تزول من أمامه وقد رأي عظمتها بنفسه ، ربما كان يستطيع فعل ذلك قبل أن رأي الأرض الموعودة ، ولكن الآن بعد أن رآها لا يستطيع إلا أن يتشبث ويتمسك بها بكل ما أوتي من قوة حتي ولو كلفه الأمر أن يواجه العمالقة وبني عناق الجبابرة. كيف يفرط هكذا في الأرض التي وعده الرب بها وأراد أن يدخله إياها؟ كيف يترك البركة هكذا وقد إنتظرها سنوات طويلة وسار في إثرها ردحا طويلا من الزمن؟ لقد تذوق من عنب وتين ورمان تلك الأرض فكيف لا يشتاق إلي المزيد من ذلك؟ أما عدم الإيمان فلا يقدر البركة حتي لو رآها ، رآي الجواسيس الآخرين الأرض التي تفيض لبنا وعسلا لكنهم لم يقدروها  ، إذ أنها كانت لا تستحق المخاطرة في نظرهم ، تماما مثل عيسو الذي احتقر بكوريته. وتطبيقا لذلك فإن المؤمن أيضا مبارك بالفعل في السماويات وعليه أن يتمسك بهذه البركة التي بورك بها سابقا حتي يحياها فعليا في العلاقة مع الله. فالرب يعطينا البركة ونحن نتمسك بها ونحولها إلي واقع عملي نعيشه يوميا في حياتنا بالإيمان. ولا يوجد شئ يحول البركة التي بوركنا بها فعلا إلي واقع سوي شيئين: أولا الشركة القوية مع الرب وثانيا الطاعة التي تجعلنا نختبر ثمار البركة فعليا.

رابعا روح الإيمان لا تشيخ ولا تضعف بل تظل في توقع مستمر إلي أن يتحقق الوعد. فهي لا تبلي ولا تبرد ، بل تظل في توقع مستمر للنصيب الموعود. فها هو كالب بعد إنقضاء خمسة وأربعين سنة قد أصبح إبن خمس وثمانين سنة ولم يزل بنفس القوة والتشدد كما في القديم بل وفي نفس درجة الإشتياق إلي النصيب الذي وعد به ، يقول كالب ليشوع "فلم أزل اليوم متشددا كما في يوم أرسلني موسي. كما كانت قوتي حينئذ هكذا قوتي الآن للحرب وللخروج وللدخول. فالآن أعطني ذلك الجبل الذي تكلم عنه الرب في ذلك اليوم. لأنك أنت سمعت في ذلك اليوم أن العناقيين هناك. والمدن عظيمة محصنة. لعل الرب معي فأطردهم كما تكلم الرب" (يش 14 : 11 – 12). آه يا لها من روح لا تشيخ أشواقها ، ولا تبلي قوتها ، فإذا وضعت البركة نصب عينيها صارعت من أجلها حتي فنت. إذا تواني تحقق الوعد فهي تنتظر بصبر إلي أن يتممه الرب لها يوما ما. فتأني تحقق الوعد لا يزيدها إلا قوة وأوشواق وتوقع إلي تلك اللحظة التي تتاقبل فيها وجه لوجه مع ما كانت تؤمن به. فهل نتوقع نحن أيضا الوعد القديم لنا بالبركة؟ هل إنقضي وقتا طويل منذ أن نطق الرب بشفتيه المباركتان ذلك الوعد بالبركة لنا ولم يتحقق إلي الآن؟ إنتظر الرب ليتشدد وليتشجع قلبك فإنه ليس إنسان فيكذب ولا إبن إنسان فيندم ، هل يقول ولا يفعل أو يتكلم ولا يفي؟

خامسا روح الإيمان تدرك أن لا بركة للمتراخين. هل كان يظن الجواسيس العشر وباقي الشعب أن الرب يدخلهم الأرض وهم مستريحون بدون أي مجهود من جانبهم؟ يبدو أن هذا ما إعتقدوه فعلا حتي أن عزيمتهم خارت عندما عرفوا أن عليهم خوض معركة مع بني عاناق فقرروا العودة إلي مصر. لكن روح الإيمان المستنيرة تدرك أن لا بركة للمستريحين في صهيون ، وأنها لا تأتي إلا بعد المعركة ومقاومة الأعداء والإنتصار عليهم. لقد كان إيمان كالب إيمانا مستنيرا إذ أدرك أن لابد للإيمان أن يصدق الوعد ثم يخترط السيف من غمده ويدخل في مواجهة مباشرة مع الأعداء وجها لوجه وينتصر عليهم فيمتلك النصيب الموعود. والإيمان يدرك أيضا أنه إذا إجتاز المعركة وحده بدون معية الرب فلا أمل في النصرة ، إذ أن الحرب هي للرب وأن الرب هو الذي يعطي النصرة ويبارك في القليل الذي تمتلكه روح الإيمان. فروح الإيمان إذا تسير وراء الرب في المعركة لأن الحرب له والنصرة من عنده. إننا لن نستطيع أن نأكل من ثمار الأرض الموعودة إلا إذا دخلناها ولن ندخلها إلا إذا حاربنا الأعداء وانتصرنا عليهم. إذا كنت تظن أخي المؤمن أن السماء سوف تمطر عليك بركات وأنت مستريح في مكانك فلن يمضي إلا القليل من الوقت حتي تكتشف أنه لزاما عليك أن تلبس سلاح الله الكامل وتدخل في مبارزة مع العدو إلي أن تنتصر عليه فتتمتع عمليا بالبركات والنصيب الذي لك في الرب يسوع. إن رحلتنا للسماء لابد أن يكون فيها الكثير من السهر والصلاة (مت 26 : 41) ، والجهاد ضد الخطية (عب 12 : 4) وأن نزرع للروح (غل 6 : 8) ، فليس هناك مجال للراحة في رحلتنا نحو النصيب المقدس.

قوة الإيمان

ما أروع روح الإيمان التي كانت مع كالب وما أكثر تميز القوة التي أظهرتها. فبإيمانه إرتقي فوق العيان وصدق المستحيل الذي وعد به الرب وظل في توقع مستمر للبركة. ولكن من أين جاء بهذه القوة؟ وماذا فعل حتي يكون بهذا الثبات والإصرار؟

أولا الإختبارات القديمة: الإيمان يستند علي عمل الله في الماضي. فالأمجاد والآيات التي رأوها في مصر وبعد خروجهم منها كانت تكفي لإدخال الثقة في قلوبهم ، لذلك نجد الرب يعاقبهم بحرمانهم من دخول تلك الأرض "إن جميع الرجال الذين رأوا مجدي وآياتي التي عملتها في مصر وفي البرية ، وجربوني الآن عشر مرات ، ولم يسمعوا لقولي ، لن يروا الأرض التي حلفت لآبائهم. وجميع الذين أهانوني لا يرونها" (عدد 14 : 22 – 23). ولكن لأن كالب كانت معه روح أخري فقد صدق وعد الرب لأنه رأي مجده وآياته في مصر وفي البرية ، فإن كانت المدن حصينة فقد رأي الماء ينشق ويصير سورا له عن يمينه وعن يساره ، وإن كان الأعداء عمالقة فإن الرب قد طرح الفرس وراكبه في البحر جنبا إلي جنب مع عجلاتهم الحربية ، وإن كانت تلك الأرض تأكل سكانها فإن الرب حفظهم من الموت جوعا وعطشا وخلصهم من الحيات المحرقة ، فليس هناك ما يخافه إذا ، فهو بالرب قادر علي مواجهة هذه جميعها. وكمؤمنين علينا أن نلهج في إختباراتنا القديمة مع الرب يوم أن حررنا من الخطية وقبضة إبليس فصرنا أولاده ، علينا دائما أن نتذكر ونضع نصب أعيننا ما فعله معنا الرب لكي يحررنا ، ونتذكر أمجاده التي رأيناها مرارا كثيرة. وهذا ما فعله داود عندما كان بصدد مبارزة جليات فتذكر نصرة الرب له علي الأسد والدب قديما (1 صم 17 : 37).

ثانيا الإيمان يتغذي علي الشركة مع الله وإدراك حضوره الدائم. أدرك كالب وشعر بحضور الرب معه "والرب معنا لا تخافوهم". كان في حالة دائمة من إدراك حضور الرب ومعيته له. فالإيمان لابد أن يكون في إتصال مباشر مع الرب ، فهو لا يستطيع أن يحيا بدون أن يشعر بحضوره ، إذ أنه يتغذي علي تلك الحضرة. أما الجواسيس الآخرين فلم يدركوا هذه الحضرة الإلهية إذ نراهم يرون العقبات دون أدني شعور أو إدراك لمعية الرب الذي هو أعظم من تلك العقبات. كان إيليا قادرا علي مواجهة آخاب وإيزابل الشريرين وتحدي أنبياء البعل لأنه كان في إتصال دائم ومباشر بالرب ، "حي هو رب الجنود الذي أنا واقف أمامه" (1 مل 18 : 15). وبدون حالة الإتصال الدائم هذه بين الإيمان وحضرة الرب نضعف ونصير كباقي الناس ، ولا نقدر علي مواجهة التحديات ، إذ أن حضور الرب بمثابة الهواء الذي يستنشقه الإيمان ليحيا به. فعلينا إذا كمؤمنين أن نقضي وقتا في الصلاة مع الرب لكي يتغذي إيماننا علي شخصه المبارك فندرك حضوره الدائم من حولنا.

ثالثا نور الوعد. كما يحتاج الإيمان أن يتذكر ويلهج في إختبارات الماضي ويتغذي علي حضور الله في الحاضر فإنه أيضا يحتاج أن يسير في نور الوعد. فليس الإيمان معركة نخوضها في الظلام ، لكن في نور الوعد. ورد الفعل الغريب هنا في هذه القصة لم يكن ذلك الخاص بكالب ، لكنه رد فعل الجواسيس. فالجميع كان لديهم الوعد بأن الرب سيدخلهم الأرض الموعودة التي حلف لآبائهم أنه إياها يعطيهم (عدد 14 : 16) ، ولكن الجواسيس لم يصقدوا الوعد الإلهي. أليس هذا غريب أن يخرجوا من أرض العبودية ولا يصدقوا باقي الوعد أنه سيأتي بهم إلي الأرض التي تفيض لبنا وعسلا؟ فلماذا أخرجهم إذا؟ هل ليبقيهم تائهين في البرية؟ يا لحماقة عدم الإيمان! ولكن كالب كانت معه روح أخري ، هي روح الإيمان الذي يسير في نور المواعيد المجيدة. قد تكون الصعوبات بالغة ، لكنه يستطيع أن يذللها إذا سار في إثر الوعد. لا شك أن كالب تذكر ما حلف به الرب لهم وللآباء ووجد قوته ونوره في هذا الوعد فرأي الأعداء في حجمهم الحقيقي ورأي نفسه يشبع من خيرات تلك الأرض. ونحن نستطيع أن نتقوي كمؤمنين إن تذكرنا وعد الرب لنا بإدخاله إيانا إلي النصيب الأبدي ، فإن سرنا في نور هذا الوعد المبارك لإستطعنا أن نصل إلي حيث يريدنا الرب أن نكون. فما أحوجنا إذا أن نفتش كنز كلمة الله النفيس لنبحث بين طياته عن لآلئ المواعيد الثمينة التي ستضئ لنا أثناء سيرنا في طريق سياحتنا للمدينة التي لها الأساسات التي صانعا وباريها الله.

عمل الإيمان

رأينا كيف تمتاز الروح التي كانت مع كالب عن الروح التي كانت مع الآخرين في كونها تسمو فوق المنظور ولا تقنع بالواقع الهزيل وتتمسك بالبركة إن رأتها وتظل في توقع مستمر إلي أن يتحقق الوعد. وروح الإيمان هذه التي كانت في كالب لم تستطع إلا وأن تخرج ثمار كجنسها ، فنري عمل الإيمان الذي نبت منها. يشهد الرب عن كالب قائلا "وقد إتبعني تماما". فثمر الإيمان الذي نتج عن تلك الروح التي فيه يمكن تلخيصه في أنه إتبع الرب تماما. وينبغي أن ننتبه جيدا إلي كلمة "تماما" ، فالإيمان الحقيقي لا يعرف إلا وأن يتبع تماما ، فهو لا يتبع إلي منتصف الطريق وعندما يواجه الصعوبات يقرر العودة إلي الماضي ، ولا يتبع خائرا العزيمة متباطئا في مشيه لكن مسرعا متلهفا إلي تلك اللحظة التي تطأ فيها قدمه أرض البركة ، ولا يتبع وهو ينظر إلي الوراء لكن ينظر إلي الأمام فقط.

أولا كانت تبعية كالب للرب من بداية الرحلة إلي آخرهها. قيل عنه أنه إتبع الرب تماما ست مرات في الكتاب المقدس (عدد 14 : 24 ، تث 1 : 36 ، يش 14 : 8 و 9 و 14). وقد قيل عنه ذلك مرة عند رجوعه من تجسس الأرض وفي بداية الرحلة في البرية ، ثم قيل عنه ذلك أيضا في نهاية الرحلة ، وأخيرا قيل عنه ذلك أيضا عند إمتلاك الأرض وتقسيمها. لقد إتبع كالب الرب طيلة حياته من وقت أن إنطلق في رحلته إلي الأرض إلي أن دخلها وحصل علي نصيبه فيها. إتبع الرب تماما طيلة الوقت ، لم يكن هناك وقت لم يتبع كالب فيه الرب. فليس من الغريب علي الروح التي تعودت أن تسير وراء عمود السحاب نهارا وعمود النار ليلا أن تفضل المسير إلي الأرض الموعودة عن الرجوع إلي أرض مصر. فإن كان الإيمان حقيقي كانت التبعية تامة ، من لحظة أن نصدق الرب فنترك خطايانا ونتبعه إلي تلك اللحظة وطرفة العين التي يأتي ليأخذنا فيها لنكون معه إلي الأبد في البيت الأبدي الذي وعدنا إياه قائلا "أنا أمضي لأعد لكم مكانا".

ثانيا كانت تبعية تامة بالفكر والقول. كان كالب في توافق داخليا وخارجيا ، فما يقوله يوافق ما في القلب من الداخل ، فالكل ملك الرب القلب واللسان (يش 14 : 7). لقد شهد فمه عما كان في قلبه ، فلم يستطع أن يغير شهادته ، ولم يخف من الجواسيس الآخرين وينساق ورائهم في كذبهم  ليقدم تقريرا كاذبا عن الأرض ، فهم "أشاعوا مذمة الأرض" و"أذابوا قلب الشعب" (يش 14 : 8) ، لكنه فعل العكس تماما قال الصدق وذكرهم بمعية الرب لهم " ولا تخافوا من شعب الأرض لأنهم خبزنا. قد زال عنهم ظلهم ، والرب معنا. لا تخافوهم" ، إن الإيمان لا يستطيع إلا أن يشهد عن الحق ولا يقدر أن يكذب بخصوص ما رآه حتي ولو كلفه حياته. فقد كانت حياة كالب معرضة للخطر بل وعلي وشك الموت لأن الشعب قالوا برجمه. ثم أن هذه الكلمات أيضا لم تكن كلمات جوفاء سطحية نابعة من حمية جسدية تترضض عند أول صخرة تسقط عليها ، لكنها كانت كلمات إيمان حقيقية ، لم تكن نفاقا وإستعراضا أو حبا للظهور ، بل حقا كانت تفيض من نبع الإيمان في داخله. وهكذا كل من رأي أمجاد الله في الخلاص ونال والوعد عليه أن يشهد بما رآه وأن يقول فمه الصدق مهما كانت العواقب ، وعليه أيضا أن لا يقول إلا كل ما شعر به ، فليس حسنا أن نتصنع حماسة أو غيرة ليست فينا.

وثالثا كانت التبعية تامة في الطاعة الكاملة للرب. إن دخول الأرض لم يكن إختيارا أمام الشعب يقبلوه أو يرفضوه لكنها كانت خطة الرب لهم ، ووصية وجب طاعتها. لهذا يقول الرب عن أولئك الجواسيس "إن جميع الرجال الذين رأوا مجدي وآياتي التي عملتها في مصر وفي البرية ، وجربوني الآن عشر مرات ، ولم يسمعوا لقولي ، لن يروا الأرض التي حلفت لآبائهم. وجميع الذين أهانوني لا يرونها" (عدد 14 : 22 – 23). فصعود الأرض كان وصية من الرب كما نفهم من قوله "أنظر قد جعل إلرب إلهك الأرض أمامك. إصعد تملك كما كلمك الرب إله أبائك. لا تخف ولا ترتعب" (تث 1 : 21). لذلك نجد كالب يظهر إستعدادا كاملا لطاعة الرب بالصعود وإمتلاك الأرض وعدم الخوف والرهبة من الأعداء. ولا شك أن الطاعة تتطلب تكريس المرء لنفسه أمام الرب ، فلا مجال للأنانية واللامبالاة والعزيمة الخائرة ، الأمور التي نجدها وقد حدثت مع أولئك الجواسيس ، إذ أن تاريخهم يتكلم عنهم ، فمرة لم يريدوا إلتقاط المن وأكثر من مرة إشتهوا الرجوع إلي مصر حيث إعتادوا أن يشبعوا من شهوات أرض العبودية ومرة إرتضوا أن يقعدوا في ذلك الجبل. أما كالب الذي كانت معه روح أخري فقد صدق الوعد وأطاع الوصية. فالقلب إنشغل بالكامل بالوعد حتي فاضت به الروح وخضعت له الإرادة. أما نحن الذين أخذنا نعمة وحق من ملئه فعلينا أن نطيع طاعة كاملة للرب تتناسب مع تلك النعمة التي حصلنا عليها. إننا يوم أن إرتضينا أن نسير مع الله بالإيمان لم تعد أمامنا إختيارات أخري سوي طاعته تماما ، لأن غير ذلك يعتبر تمرد علي عهدنا معه مثل أولئك الجواسيس ويجعلنا عرضه لكي يكون لنا نفس المصير.

واربعا كانت تبعية كالب للرب تامة بعزم القلب الكامل ، وذلك بنظره إلي الأمام فقط. كان قلبه موحد الهدف وغير منقسم علي ذاته. لكن الباقون كانت حالتهم علي عكس ذلك ، كانوا متراخون وقلوبهم منقسمة في دواخلهم ، فنقرأ عنهم أنهم كثيرا ما أرادوا العودة إلي مصر ، خرجوا من مصر ولكن عواطفهم وشهواتهم كانت فهيا ، كانوا يسيرون نحو الأرض الموعودة وفي نفس الوقت يفكرون في قثاء وبطيخ وثوم وسمك مصر. لكن كالب الذي وضع يده علي محراث الإيمان كيف ينظر إلي الوراء؟ كان يسير بعزم كامل نحو الأرض التي تفيض لبنا وعسلا. إن الإيمان الحقيقي متي إمتلك قلوبنا يطرد كل شهوات مصر منها ، ويكرس عزم القلب للمسير مع الرب وحده. ونحن لا نستطيع أن نسير مع الرب بقلوب منقسمة من الداخل ، بل لابد أن نتبع الرب تماما ونوجه له عزم القلب بالكامل.

وخامسا كانت تبعية تامة فسلك سلوكا كاملا يتحلي بالأمانة من نحو إخوته. فالجواسيس الآخرين قد "أشاعوا مذمة الأرض التي تجسسوها". أولا بكذبهم ، فقد غيروا الكلام الأول الذي قالوه عن الأرض ، ثانيا ركزوا علي السلبيات دون ذكر أي شئ عن معية الرب أو وعده لهم ، ثالثا ثبطوا عزيمة إخوتهم "وأما إخوتي الذين صعدوا معي أذابوا قلب الشعب. وأما أنا فإتبعت تماما الرب إلهي" (يش 14 : 8). إن روح التبعية التامة التي كانت مع كالب تطلبت أن تكون لديه الأمانة أيضا تجاه إخوته ، فهو لم يكذب قط بعكس الجواسيس الآخرين الذين أشاعوا مذمة ، لكنه راعي نفوس إخوته ولم يقل أي كلام سلبي عن الأرض أنها تأكل سكانها أو أن مدنها محصنة أو أن سكانها عمالقة جبابرة ، بل قال "إن سر بنا الرب يدخلنا إلي هذه الأرض ويعطينا إياها ، أرض تفيض لبنا وعسلا" (عدد 14 : 8). لم تخرج كلمة سلبية واحدة من فم كالب عن الأرض ، والأكثر من هذا نجده يشد من أزر إخوته فيقول لهم "إنما لا تتمردوا علي الرب ، ولا تخافوا من شعب الأرض لأنهم خبزنا. قد زال عنهم ظلهم ، والرب معنا. لا تخافوهم". ألا يذكرنا هذا أيضا بموقف آساف الذي راودته شكوك لكنه قرر أن يحتفظ بها لنفسه ولم يتكلم بها أمام إخوته ، لأنه إن فعل هذا يكون قد غدر بهم "لو قلت أحدث هكذا لغدرت بجيل بنيك" (مز 73 : 15). وهكذا يبنغي أن يسلك المؤمن بالأمانة من نحو الله والناس ، وأن يكون له سلوكا مقدسا يليق بدعوته السماوية ، فيمجد أبيه الذي في السموات.

ثانيا مصير آخر: كما كان كالب متميزا في إيمانه وعمل إيمانه فإتبع الرب تماما ، فإن عاقبة الرب له كانت متميزة ومباركة أيضا ، بعكس الجواسيس الآخرين الذي نقرأ عنهم  "إن جميع الرجال الذين رأوا مجدي وآياتي التي عملتها في مصر وفي البرية ، وجربوني الآن عشر مرات ، ولم يسمعوا لقولي ، لن يروا الأرض التي حلفت لآبائهم. وجميع الذين أهانوني لا يرونها" (عدد 14 : 22 – 23) ، فكان نصيبهم هو الحرمان من البركة التي إستهانوا بها ولم يسعوا في إثرها (عب 3 : 19) بل وأيضا أهلكهم الرب في القفر  (عدد 14 : 16). ثم نقرأ عن مجازاة الرب لكالب "وأما عبدي كالب فمن أجل أنه كانت معه روح أخري وقد إتبعني تماما أدخله إلي الأرض التي ذهبت إليها وزرعه يرثها" (عدد 14 : 24).

أولا أكرم الرب تلك الروح الأخري التي كانت في ذلك البطل الذي لم يرتاع من الأعداء بأن أعطاه نصرة عليهم. فنفس الأعداء الذين إرتاع منهم الجواسيس العشرة وهم شيشاي وتلماي وأخيمان بني عناق (عدد 13 : 22) عندما رجعوا من تجسس الأرض نري كالب يطردهم جميعا من حبرون بعد مضي خمسة وأربعين سنة من رجوعه من رحلة التجسس. والشئ الذي يدعو للدهشة أنه لا يقال أنه حاربهم أو قتلهم ولكنه طردهم ، ولو كان حاربهم لكان ذلك يدل علي مقاومة من جانبهم ، لكن علي الرغم من طول قامتهم وضخامة أجسامهم إلا أنهم إرتعبوا من كالب وهربوا من أمامه كما يفر سرب الظباء من أمام الأسد ، فيا لسخرية الإيمان من قوة الأعداء. وثانيا فإن رد الفعل الطبيعي هو أن يدخل كالب الأرض التي اشتاق إليها والتي كان علي إستعداد أن يحارب من أجلها ويضحي براحته من أجل طاعة أمر الرب. فالبركة لابد أن تأت لهؤلاء الذين يسعون في إثرها. فنقرأ أنه "أعطي كالب بن يفنة قسما في وسط سبط يهوذا" (يش 15 : 13). وثالثا فإن إكرام الرب لتلك الروح التي كانت مع كالب لم يتوقف عند ذلك بل نراه يمتد أيضا إلي ليشمل نسله بالبركة وميراث الأرض التي صدق أبيهم الوعد بدخلوها.

أيها القارئ العزيز إسمح لي أن أضم نفسي إليك وأوجه الدعوة لنا أن نطع وصية الرب ونترك راحتنا ونسير في نور الوعد واثقين في عمل الرب معنا في الخلاص وبعد الخلاص لندخل إلي دائرة البركة الفياضة في علاقتنا بالرب ، فكفانا قناعة بالواقع الهزيل الذي نحياه في القفر ، ولنصعد لنمتلك الأرض فكل ما تدوسه بطون أقدامنا يكون لنا. آمين.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس