الفخ إنكسر ونحن انفلتنا



انْفَلَتَتْ أَنْفُسُنَا مِثْلَ الْعُصْفُورِ مِنْ فَخِّ الصَّيَّادِينَ. الْفَخُّ انْكَسَرَ وَنَحْنُ انْفَلَتْنَا.
(مز 124 : 7)



هذا المزمور واحدا من خمسة عشر مزمورا كانت ترنم بواسطة اليهود الحاجين إلي أورشليم ثلاثة مرات في السنة ، حيث كانوا يصعدون إلي هيكل الرب الذي بناه سليمان علي الجبل ، لهذا سميت ترانيم المصاعد. وقد جاء في الترجمة السبعينية أيضا أنها "مزامير المراقي". وبينما يتفق المفسرون علي المناسبات التي يرنم فيها هذا المزمور إلا أنهم يختلفون فيما بينهم علي كاتبه ومناسبة كتابته. فمع أن المزمور يقول في بدايته أن كاتبه هو داود إلا أن هناك من يرفضون ذلك بحجة عدم ورودها في بعض النسخ العبرية والفولجاتا والسبعينية. ولكن هناك – وعلي رأسهم سبرجن – من يردون علي ذلك بالقول أن لغة المزمور داودية إلي حد كبير ، بينما يتفق ثيودوريت مع سبرجن ولكنه يقول أن داود كتب المزمور بروح النبوة علي خلاص الرب لليهود من أعدائهم الذين ضايقوهم بعد عودتهم من السبي. وأيا كان كاتب المزمور ومناسبة كتابته ، فالمهم أن من كتبه فاض قلبه بمشاعر الشكر والإعتراف بخلاص الرب له من الضيق الشديد الذي كان يجتاز فيه بسبب هيجان الناس عليه واحتماء غضبهم.

ولكي يخبرنا المرنم مقدار المعروف الإلهي معه قرر أن يحدثنا عن هول هذا الضيق الذي كان يجتاز فيه من خلال التشبيهات القوية التي استخدمها لوصفه ، وإستمرار الإنتقال من صورة إلي أخري للتعبير عن نفس الفكرة. فقد شبهه أولا بإبتلاع الأرض للأحياء كما حدث مع بني قورح عندما فتحت الأرض فاها وابتلعتهم. و شبهه ثانيا بالسيل الجارف الذي عبر علي نفوسهم مثلما حدث مع فرعون وجنوده المركبية إذ غطتهم لجج بحر سوف فصارت أجسادهم وليمة لسمك البحر. ثم ينتقل المرنم إلي تشبيه ثالث فيصف هيجان الناس عليهم بالوحش المفترس الذي كشر عن أنيابه وعلي وشك التهامهم كفريسة. وأخيرا فإن ضيقته كانت مثل العصفور البرئ الذي لا حلول له ولا قوة وهو حبيس بين قضبان الفخ الذي نصب له من صيادين نفسه. والصورة الأخيرة هي أكثر الصور تعبيرا عن أزمة المرنم ، إذ أننا نراه داخل الفخ فعلا ، في حين أن التشبيهات السابقة يستخدم فيها أسلوب الإفتراض. لهذا سيكون موضوع تأملاتنا منصبا علي هذا التشبيه الأخير ، إذ نري أنه يجسد بقوة صورة كل من وقع في فخ العدو الذي هو إبليس (2 تي 2 : 26). وعلي الرغم أن المزمور يحدثنا عن إسرائيل – كما نفهم من القول "ليقل إسرائيل" – إلا أنه لا مانع من تطبيقه علي أنفسنا كخطاة بعداء عن الرب أو كمؤمنين تعثرت أقدامهم خصوصا وأن تعذُر معرفة كاتب المزمور وزمن كتابته يزيد من المساحة التطبيقية للنص. ولا نريد أن نطيل علي القارئ أكثر من هذا ، ولندع الصورة تحدثنا عن نفسها ، بل لندعها تحدثنا عن أنفسنا أيضا.

الحديث هنا عن النفس

ترد كلمة "أنفسنا" ثلاثة مرات في هذا المزمور ، منها مرة في هذا العدد. والكلمة العبرية المستخدمة هنا هي كلمة "نفش" وهي كلمة عامة تستخدم حرفيا ورمزيا للتعبير عن العقل والجسد أيضا. والحديث هنا ليس عن ضيق عابر أو مادي ، ولكنه شئ يخص النفس الإنسانية ، بل ويشمل كل ما فيها من الداخل والخارج. وليس هناك ثمة حديث آخر أهم من الحديث عن النفس ، لهذا انشغل المرنم بالضيقة التي اكتنفت نفسه. ولكي نعرف لماذا أولي المرنم كل هذه الإهتمام لنفسه يمكننا أن نطبق القانون التفسيري الذي يسمي بالذكر الأول. الكلمة العبرية التي استخدمت هنا هي نفسها التي ذكرت أكثر من مرة في مناسبة الحديث عن الخليقة في (تك 1 ، 2). ففي قول الوحي "فصار آدم نفسا حية" يكلمنا عن نفخة الحياة المحيية التي أخذها من أنفاس الله ، وصار بها مخلوقا خالدا لا تفني نفسه ولا تنام. ألم يقل سيدنا الحبيب "لأنه ماذا ينفتع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ أو ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه؟" (مت 16 : 26) فهي أغلي ما نملك لأنها هي كل ما سيبقي لنا. وإذا عدنا لأحد المرات الأخري التي استخدم فيها ذلك اللفظ عند الخليقة لوجدناه أيضا في وصف الوحي للزحافات التي فاضت بها المياة ، وذوات الأنفس الحيةالتي أخرجتها الأرض كجنسها (تك 1 : 20 ، 24). فعلي الرغم من كون الإنسان مخلوق علي صورة الله ومثاله أدبيا إلا أنه في طبيعة الحياة التي أخذها يتشابه مع المخلوقات الأدني منه ، لذلك فلا عجب من أن يشبه المرنم نفسه نفسه بالعصفور. فإن كانت قيمة النفس محدودة إلا أنها موضوع إهتمام الله. فربما كانت صورة النفس في أعين الصيادين كالعصفور الذي لا قيمة له ، ولعلها أيضا في أعين أصحابها كذلك ، إلا أن الله الذي كسر الفخ لم يرها كذلك ، ولم يغير ذلك من قيمتها أمامه ، فقد انشغلت أفكاره وتحركت مشاعره وتنازلت محبته لتمتد يده فتكسر الفخ من أجل ذلك الطوير الواهن الذي لا يعبأ بأمره شخص. وقد قيم الله النفس البشرية بما لا يضاهيها من ذهب أو فضة إذ يقول الوحي "وكريمة هي فدية نفوسهم ، فغلقت إلي الدهر" (مز 49 : 8) ، وما هي فدية النفوس؟ "عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفني بفضة أو ذهب ، من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء ، بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح" (1 بط 1 : 18 – 19).

مشابهة بين النفس والعصفور "أنفسنا مثل العصفور"

تأمل المرنم في حالته التي كانت تؤرقه وأخذ يرسم الصورة تلو الأخري لكي يجسد ضيقة نفسه فوجدها "مثل العصفور". ولكن لماذا يشبه نفسه بالعصفور هكذا؟ إن النفس الإنسانية تشبه العصفور من أوجه كثيرة. فالعصفور صغير الجسم ضئيل القوة ، إن نصب له فخا لا يمكّنه حجمه من المقاومة ، وإن دخلت رجليه الشبكة فليس له منقار حاد أو مخالب مثل الجوارح لعله يستطيع أن ينقرها فيهرب منها ، وإن هرب منها فجناحيه صغيران ربما لا يساعدانه علي الإبتعاد بسرعة ، وإن دخل الفخ فإن زقزقته الرقيقة لا تنفعه إن أراد أن يستغيث. والنفس في قبضة الشر ليست أفضل حالا من العصفور الذي وقع في فخ الصيادين ، فهي مسلوبة الإرادة أمام الخطية إذ يقول الكتاب "أن كل من يعمل الخطية هو عبد للخطية" (يو 8 : 34) وهل يوجد من لا يعمل الخطية؟ "الجميع زاغوا وفسدوا معا. ليس من يعمل صلاحا ليس ولا واحد" (رو 3 : 12) ولكن أين يكمن هذا الضعف؟ إنه يكمن في تلك الطبيعة الخائطة التي ورثناها عن أبينا آدم ولا يمكن إصلاحها. وكلما حاول الخاطئ التحرر من الشر إصطدم بضعف إرادته من جديد أمام حبائل الخطية ، فشابه العصفور عندما ترطتم أجنحته الصغيرة الخفاقة بقضبان الفخ. ولكن شكرا لله "لأن المسيح إذ كنا بعد ضعفاء ، مات في الوقت المعين لأجل الفجار" (رو 5 : 6).

ثم إن العصفور أيضأ لا قيمة له. ونري ذلك في قول الرب يسوع "أليست خمسة عصافير تباع بفلسين؟" (لو 6 : 12). كان هذا العصفور الخامس يعطي مجانا علي كل أربعة عصافير ، إذ أن الإثنان كانا يباعان بفلس (مت 10 : 29). وهكذا كان العصفور بخس الثمن ، وذلك بسبب كثرته العددية وضعفه وصغر حجمه ، لا يصلح لشئ إلا لكي يوضع للزينة كما في وقتنا الحاضر ، ذلك إن كان عصفورا ملونا أو مغردا. والنفس أيضا مثل العصفور في كونها بلا قيمة. فعلي الرغم أن الإنسان لا قيمة له في ذاته بسبب خطيته وضعفه وكسره لوصايا الله إلا أنه لا يزال ذو قيمة في نظر الله. ثم أن إحساس المرنم بضعفه أمام التجربة التي سحقته جعله ينظر إلي نفسه هكذا. فالإحساس بالضعف غالبا ما يقود إلي الإحساس بإنعدام القيمة ، أتذكر أيها القارئ العزيز كيف نظر بنو إسرائيل لأنفسهم أمام استعباد المصريين لهم؟ "فكلم موسي هكذا بني إسرائيل ، ولكن لم يسمعوا لموسي من صغر النفس ، ومن العبودية القاسية" (خر 6 : 9). وليس كل إحساس بإنعدام القيمة سلبي هكذا ، ولكن هناك ذلك الإحساس الذي ينشأ عن نور الروح القدس الذي ينير لنا حقيقة ضعفنا ويظهر خفايا قلوبنا فيجعلنا نصرخ "ليس ساكن في أي في جسدي شئ صالح". كما أنه لا يخفي علي العدو ضعفنا أيضا ، ناهيك عن كبرياءه هو ، إذ يظن أنه أسد ولكنه في الحقيقة ليس كذلك (1 بط 5 : 8) ، لهذا فهو يرانا بلا قيمة ويحاول سحقنا.

وأخيرا فإن العصفور ساذج وجاهل ، فهو يندفع تجاه الحبة الصغيرة بمجرد أن يلمحها دون أن يدري أن أسفلها الفخ الذي نصب له. إنه يجهل خطط العدو ، بل إنه يجهل حقيقة ضعفه. والصياد يستخدم احتياجات العصفور لكي يجذب رجله إلي الشبكة ، ثم يخبئ تلك الشبكة خلف هذه الأمور الجذابة ، وهذا ما حدث مع عصفورنا المسكين هنا ، فهو لا يقص علينا كيف دخلت رجليه إلي الفخ ، فالأمر كان بغتة. والنفس البشرية تجهل أيضا إمكانياتها الضئيلة ، بالإضافة إلي جهلها بخطط العدو. بل إن الطامة الكبري أن العصفور أكثر ذكاء من الإنسان ، فهو إن رأي الشبكة ابتعد عنها "لأنه باطلا تنصب الشبكة في عيني كل ذي جناح" (أم 1 : 17) ولكن النفس تندفع نحو الشبكة رغم رؤيتها لها فيكون أن "الشرير يعلق بعمل يديه" (مز 9 : 16). كم من المرات انخدعتي أيتها النفس البشرية بحجة البحث وراء لقمة العيش وإذ بكي تستفيقي ورجليك في شبكة محبة المال أو في الهموم الثقيلة؟ وكم واحد منا ظن أنه شمشون فذهب ليبحث عن الحب وإذ به يستفيق علي ركبتي دليلة؟ ومن منا لم يحاول أن يتدين وإذ به يري نفسه كالكتبة والفريسيين لا يطلب إلا مجد الناس؟ وما أكثر الذين ظنوا أنهم ذهبوا وراء السيد وهم لم يذهبوا سوي وراء بطونهم؟ (يو 6 : 26). يا له من جهل قد استشري في كل جنباتك أيتها النفس الإنسانية!

صيادون كثيرون وفخ واحد

استوقفني كثيرا قول المرنم "فخ الصيادين" ، فهو عصفور واحد في مواجهة صيادين كثيرين. ولكن لماذا يحتشد كل هؤلاء الصيادين ضد هذا الطوير المسكين؟ ألهذه الدرجة هم مصممون علي الإيقاع به؟ ولماذا ليست هناك فخاخ كثيرة حتي إن أفلت العصفور من واحد يقع في الآخر؟ يبدو أن الصيادين قد اكتفوا بفخ واحد لأن المؤامرة حيكت جيدا ضد هذا الطويئر ، فهم ليسو بحاجة لأكثر من فخ إذ قد تم تمويهه جيدا. فقد وضعت فوقه كل أنواع أوراق الشجر حتي جعلته يختفي تماما عن الأعين ، وفوقها نثرت حبوب من أنواع كثيرة حتي يكون هناك ما ينجذب إليه. وإن تنحيت جانبا لوجدت هؤلاء الصيادون وقد أخذوا يترقبون بصبر اللحظة التي يحط فيها العصيفر بقدميه علي الفخ ، إذ أنهم قد راهنوا علي جهله أيضا. أما كونهم كثيرون وهو وحدٌ ومسكين فلأنهم يريدون الفتك به بمجرد أن يقع في المصيدة. ألم يتهمم داود أيضا اليوم كله أعداؤه؟ اسمعه يقول "تهممني أعدائي اليوم كله ، لأن كثيرين يقاومونني بكبرياء" (مز 56 : 2).

إن عدو النفس هو واحد ولكن له أجناد كثيرون (أف 6 : 12) ، وهم جميعهم عقدوا النية علي الإيقاع بالنفس الآدمية في فخهم. وبولس يحدثنا عن الضالين الذين سقطوا في فخ إبليس إذ يقول "فيستفيقوا من فخ إبليس إذ إقتنصهم لإرادته" (2 تي 2 : 26) ، فهؤلاء إذ دخلت أرجهلم الأحبولة ، أصبحوا لا مخدوعين ومأسورين فقط بل أيضا فاقدي الحس. إن الشيطان صياد ماهر يستخدم إحتياجاتنا التي خلقها الله في داخلنا لكي يجذبنا إلي مصيدته تماما مثلما ينثر الصياد بذوره فوق الفخ ، وما أن نبتلع الحبات المنثوره أمامنا حتي نسقط في فخه فَتسلب إرادتنا ونفقد الإحساس بأننا مقيدون. لهذا فكل نفس سقطت في فخ إبليس هي في حاجة أن تستفيق من سكرها الروحي وتدرك أنها مقيدة ومكبلة ، وتصرخ إلي الرب لكي يأتي ويكسر أغلال الخطية في حياتها ، حتي تعود لتفعل إرادة الله. لهذا يقول بولس في أننا في حاجة لكي نستفيق من الفخ الذي اقتنصنا فيه إبليس فنتحرر لنفعل إرادة الله "فتستفيقوا .. لإرادته". فالفخ إذا يبدأ بالخديعة إذ يستخدم في ذلك إحتياجات أو رغبات مشروعة لدينا مثل الجوع الجسدي أو العاطفي أو الروحي ، وهذه هي الثلاثة أشياء التي استخدمها المجرب في تجربة الرب علي الجبل (الخبز ، الإشباع النفسي ، السجود). ثم تقييد الإرادة بأن نصبح في حاجة دائمة لهذه الأشياء ، الذي يقود بدوره إلي حالة تخدير النفس والضمير. ليتك تتوقف قليلا عزيزي القارئ لترفع صلاة إلي الرب وتطلب منه أن يكشف لك عن مواطن خديعة الشيطان لك وتصرخ إليه حتي يأتي ويكسر الفخ أمامك.

هل تسلب من الجبار غنيمة وهل يفلت من سبي المنصور؟ (إش 49 : 24) هذه كلمات إعتراض علي الوعود التي قيلت سابقا بإرجاع المسبيين من بابل إلي أرضهم الموعودة وقد كان غرضها التشكيك في إمكانية حدوثها في ظل السبي الذي كانوا يعيشونه. وإما أن تكون قيلت بواسطة الأمم الذين كانوا بنو إسرائيل ساكون بينهم كنوع من السخرية والتحدي بأنهم لا يمكنهم الخلاص منهم إذ أن لهم الحق في سبيهم ولا يستطيعون أن يفرطوا في هذا الحق ، أو إما أنها قيلت من الشعب نفسه فجائت تعبيرا عن شكوكهم في إمكانية تحقيقيها لأنهم يرون أنفسهم فريسة العدو – حسب الترجمة الإنجليزية – التي لن تفلت من بين أسنانه. ولكن لماذا يدعي البابليون أن لهم الحق في الإحتفاظ بالإسرائيلين كغنيمتهم إذ يقولون أيضا في نفس الإدعاء "وهل يفلت من سبي المنصور"؟ جاءت هذه العبارة في الترجمة الإنجليزية (or lawful captive delivered?) أي هل يمكن أن يفلت المأخوذ بالحق والعدل؟ إذ أن الرب أسلمهم في عدله وبحسب ناموسه للسبي بسبب كسرهم لوصاياه وتمردهم عليه (إش 50 : 1) ، بل وأيضا تم سبيهم في الحرب من البابليين وأصبحوا من حقهم بحسب قوانين الحرب فلا يمكن إطلاق سراحهم إلا بفدية أو تبادل أسري. يقول جون وسلي أن خلاصهم كان مستحيلا بسبب قوة العدو المسيطرة عليهم ، وبسبب عدل الله الذي يحتج ضدهم. فالعصفور صديقنا هنا أصبح ملكا للصيادين بعد أن اكتسبوا حق امتلاكه عن طريق صيده ، وبالتالي فلا يوجد شخص آخر له الحق في هذا العصفور سوي أولئك الصيادون العتاة. والشيطان أيضا له الحق في الأشرار إذ أنهم تحت سطوته عدلا وحقا لأنه أوقعهم في شركه بواسطة الخديعة ، كما أن وقوع الإنسان في هذا الأسر الشيطاني لهو عدل إلهي أيضا إذ أن الإنسان اختار الإنفصال عن الله والتمرد عليه وعدم حفظ وصاياه.

ولا يسقط في فخ الشيطان الخطاة فقط بل إن أولاد الله أحيانا ما يقعون في بعض الفخاخ التي قد نصبت لهم بسبب عدم تحفظهم لأرجلهم في السير. نذكر منها أولا اليأس ، فكثيرا ما يستخدمه الشيطان لكي يلف أحبولته حولنا. وقد ينتج اليأس بسبب تأني مراحم الله علينا في تجربة نجتاز بها أو إحتياجا ننتظر ملأه من الرب. والشيطان بارع في استخدام هذا النوع من الفخاخ ، وقد حاول استخدامه مع أيوب وداود والكثيرين من أولاد الله. وليس ثمة سلاح يمكننا مواجهة اليأس به سوي الإيمان في وعود الله. فالمسيحي وصديقه عندما استدرجا إلي القلعة الحصينة التي يسكنها العملاق اليأس أسرا منه وأوسعهما ضربا وعذبهما أياما كثيرة إلي أن تذكر المسيحي مفتاح الوعد الذي أعطي له بعد أن دخل من الباب الضيق ، فقاما وفتحا الباب وعادا إلي الطريق الضيق. والشيطان لا يشتكي فقط علي الله أمامنا فيجعلنا نيأس من مراحمه بل إنه يشتكينا نحن أمام أنفسنا فيذكرنا بإستمرار بضعفاتنا وسقطاتنا فنشعر بعدم الإستحقاق في علاقتنا بالله مما يفقدنا شهيتنا الروحية. وليس هناك أمر يكسر فخ الشعور بعدم الإستحقاق هذا ويفلتنا منه سوي أن نتذكر الوعد "أن الذي إبتدأ فيكم عملا صالحا يكمل إلي يوم يسوع المسيح". وأخيرا وليس آخرا فخ عدم الإنفصال عن الشر ، سواء كان هذا الشر تعليميا أم أخلاقيا ، فالشيطان يقنعنا بأننا لا ينبغي أن نصطدم مع العالم بل أن نجاريه ، وإذ بنا وقد غطي وحل هذه الشراكة الثياب التي اكتسينا بها (2 تي 4 : 10). وعلينا أيضا أن نواجه هذه المحاولة بكلمة الله التي تحضنا قائلا "لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم. إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب" (1 يو 2 : 15).

الفخ انكسر ونحن انفلتنا

لا نقرأ في النص المبارك أعلاه أن الفخ انفتح بعد أن رقت مشاعر الصيادين أمام زقزقة الطوير المسكين ، ولكنه يقول أنه "انكسر". ولاشك أنه كان هناك شخصا قويا دخل في معركة شرسة ودامية مع الصيادين حتي يأخذ منهم الفخ بالعصفور. وإن استطاع المنقذ الذي التفتت مراحمه لهذا المخلوق الصغير الحجم والقيمة أن يختطف الفخ من قناصين الحياة هؤلاء فلا شك أنه يستطيع أن يكسر الفخ ويحرره منه. وهكذا كانت إجابة الرب علي سؤال المسبيين المتشككين في وعد الرب بعودتهم إلي أرضهم إذ يقول "فإنه هكذا قال الرب: حتي سبي الجبار يسلب ، وغنيمة العاتي تفلت وأنا أخاصم مخاصمك وأخلص أولادك" (إش 49 : 25). وهذا ما فعله رب المجد يسوع المسيح (مت 12 : 29) عندما دخل بيت القوي (الذي هو الشيطان) وربطه في صلبه وقيامته ثم نهب أمتعته (التي هي أجسادنا وأرواحنا) "إذ جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارا ظافرا بهم فيه" (كو 2 : 15). يقول قاموس سترونج أن الفعل العبري (shâbar) المستخدم هنا والذي ورد في ترجمتنا العربية "انكسر"  يعني أصلا "ينفجر – ينكسر إلي قطع – يتولد" ، وكأن الوحي يريد أن يقول لنا أن الفخ تحطم إلي قطع صغيرة وولدت منه حياة جديدة بدأت من لحظة إنفلات هذا العصفور المسكين. وهكذا انفلتنا نحن بعد أن تحطم فخنا إلي شظايا صغيرة بفعل قوة القيامة المفجرة فولدنا أيضا من جديد.

والرب يسوع المسيح يحررنا من أشياء كثيرة أولها دينونة الخطية ، فالإنسان الخاطئ محكوم عليه بالموت ويقف خلف قضبان الدينونة الإلهية "لكن الكتاب أغلق علي الكل تحت الخطية ، ليعطي الموعد من إيمان يسوع المسيح للذين يؤمنون" (غل 3 : 22) ، وماذا يصير لمن يؤمن بالمسيح يسوع؟ "إذا لا شئ من الدينونة الآن علي الذين هم في المسيح يسوع" (رو 8 : 1). وثانيا فإن مخلصنا القدير يحرر إرادتنا من سلطان الشيطان ، فالنفس الإنسانية مقيدة الإرادة مثل العصفور الجاثم في القفص ، لا تستطيع الدخول أو الخروج ، لكن الرب يسوع المسيح "هو الباب إن دخل به أحد فيخلص ويدخل ويخرج ويجد مرعي" (يو 10 : 9) ، وعندما يتدخل الرب يسوع المسيح نتحرر بسهولة ولا يكون هناك صراع في التعامل مع الخطية ، يقول سترونج أيضا في قاموسه أن الفعل "انفلتنا" في العبرية يتضمن (الإنزلاق أو النعومة) فلإنفلات حدث بسهولة ولم يكن هناك أي معوقات. وثالثا فإن المخلص يحررنا أيضا من الإحساس بالذنب ، وهذا يتبع نوال الحرية من الدينونة إذ يقول الرب "سلاما أترك لكم سلامي أعطيكم ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا. لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب" (يو 14 : 27). ورابعا فهو يحررنا من لعنة الإنتساب للعالم الشرير ، كما حدث مع بني إسرائيل بعدما خرجوا من أرض مصر فتحرروا من نسبتهم إلي مصر التي هي صورة للعالم المعادي لله.

عوننا بإسم الرب

كما بدأ المرنم مزموره بذكر معية الرب لشعبه ، فإنه يختمه أيضا بالحديث عن معونته. ولعله فعل هذا ردا علي بعض الشكوك التي ربما تثور في الأذهان حول مصدر هذا الخلاص. ألم ينسي سريعا بنو اسرائيل خلاص الرب لهم من مصر فصنعوا عجلا ذهبيا وقالوا "هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من مصر" (خر 32 : 4) فلم يكن هذا الخلاص وليد الصدفة أو عملا بشريا ، ولكنها معونة إلهية مقصودة من قبل الرب صانع السماء والأرض. والمرنم لا يعلن فقط مصدر الخلاص الذي صار له هو وشعب الرب ، ولكنه أيضا يضع أساسا لكل التجارب والمحن القادمة ، عندما يقوم عليهم الناس من جديد لإبتلاعهم. والمرء لا يسعه إلا أن يعجب من النسيان السريع بل والإنكار من قبل بني إسرائيل لتدخلات الرب المعجزية في المحن التي اجتازوا فيها حتي تجدهم يصرخون ويتذمرون علي الرب أمام كل ضيق جديد وكأن الرب لم يتدخل معجزيا لمعونتهم منذ قليل. وأنا لا أستطيع إلا أن أوجه اصبع الإتهام لنفسي أيضا ، فالطبيعة البشرية متطابقة في البشر جميعا من حيث الضعف والفساد. لذلك فالمرنم هنا يحاول أن يضع مبدأ ليسير عليه فيما بعد عندما يقوم عليه الناس من جديد لإبتلاعه.

يقول كل من آدم كلارك وجون جيل أن تعبير "عوننا بإسم الرب" ورد في الترجمة الآرامية (الترجوم) "عوننا بإسم كلمة الرب" ، والمقصود بالكلمة هنا ليس الكلمة المنطوقة ولكن "المسيا". فالنجاة من فخ الصيادين كانت عملا مسيانيا ، وهكذا ستكون النجاة من كل ضيق مقبل. إن الرب يسوع المسيح أنقذنا من سلطان الشيطان لا ليتركنا نكمل الرحلة بمفردنا ، وإلا فماذا نعمل إذا عاد الصيادون من جديد وقاموا علينا لأَسْرنا وابتلاعنا؟ ولكنه كما أنقذ الخروف الذي ترك القطيع وضل وذهب ليبحث عنه ويخلصه فإنه سيظل محفوظ في يده وفي يد أبيه (يو 10 : 28 ، 29). أتذكر كيف أنقذ عظيم القلب السائحة "رحمة" من محاولات إبليس الكثيرة لإهلاكها بعد خروجها من مدينة الهلاك؟ وأنت صديقي القارئ ، هل عاد الصياد ليحاول صيدك من جديد؟ ذكره بأن معونتك من كلمة الرب ، المخلص يسوع المسيح الذي ربطه ونهب أمتعته. ثم أن عوننا يأتي من صانع السماوات والأرض أيضا ، إنه الإله كلي القدرة الذي خلقنا ويستطيع أن يخلصنا ويحفظنا أيضا. يقول سبرجن "إنه صنع السماوات من أجلنا وسيحفظنا لها. وهو صنع الأرض وسيحفظنا عليها إلي أن تأتي ساعة الرحيل".

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس