الكتاب المقدس بين الكثلكة وما بعد الحداثة


صدق الرسول بولس حينما قال أننا لا نجهل أفكار الشيطان ، فقد يختلف الأسلوب الشيطاني بإختلاف الزمان والثقافة ولكن يظل هدفه النهائي واحد وهو أن يحرمنا من التمتع بالحق المعلن في كلمة الله. ولعل أبرز الأمثلة علي ذلك هو أن ما حدث لكلمة الله في العصور المظلمة لأوروبا في ظل هيمنة كنيسة روما علي العالم الديني هو عينه ما يحدث الآن في معقل البروتستانتية في أميريكا وبعض الدول الأخري. إذ يفسر البعض تسمية تلك الحقبة بالعصور المظلمة إلي كون الكتاب المقدس الذي هو السراج المضئ حبيسا في سجن السلطان البابوي الروماني. وقد كانت حجة هؤلاء البابوات والكرادلة في حجب الكتاب المقدس عن العامة هي أن الكتاب المقدس غامض ولا يستطيعوا تفسيره بأنفسهم ، وأن اعطاء الكتاب المقدس للعامة للقراءة والفهم كان بمثابة طرح الدرر قدام الخنازير ، لهذا فقد كانت قراءته وحيازته وترجمته إلي لغة العامة جرائم تعاقب عليها محاكم التفتيش الرومانية تستوجب الحرمان واللعن والقتل. وهذا ما حدث فعلا إذ يقدر عدد القتلي البروتستانت في خلال تلك الحقبة المظلمة بحوالي خمسين مليون جنبا إلي جنب مع كتبهم المقدسة. فكانت النتيجة هي حالة الخراب الروحي والسياسي والإجمتاعي التي عاشتها أوروبا بل والعالم أجمع إبان تلك العصور التي انطفئ فيها نور سراج الكلمة الإلهية. إلي أن بزغ فجر الإصلاح بداية من القرن الخامس عشر علي يد جون ويكلف الذي يسمي بكوكب صبح الإصلاح الحديث. مرورا بديزيداريوس إراسموس ووليام تنديل وجان هوس ووصولا إلي مارتن لوثر عندما قام بتثبيت أطروحاته الإصلاحية الخمسة والتسعون علي باب كنيسة جوتنبرج بألمانيا. علي أن هذه لم تكن معركة الإصلاح الأخيرة ، بل ظل هذا الأخير يتعرض لهجمات كثيرة كانت احداها "حركة أوكسفورد" في القرن التاسع عشر والتي كان هدفها هو استرجاع "الإخوة المنفصلون" - وهم من ساروا في نهج المصلحين - إلي الكنيسة الأم في روما. وقد نجحت هذه الحركة جزءيا في استرداد بعض الإنجيليون في إنجلترا إلي كنيسة روما من جديد إلا أنه لم يكتب لها النجاح بفضل الإنتشار الساحق للإصلاح.

وبالطبع فإن إنتشار الكتاب المقدس في أوروبا بل وفي أميريكا بداية من القرن السابع عشر عندما جاء الأباء الأوائل إلي بليموث ماستشوتستس يحملون معهم نسخ ترجمة جنيفا للكتاب المقدس كان هدفا للشيطان من جديد. فماذا عساه أن يفعل الآن بعد أن ضعف سلطان روما الديني والسياسي بحلول القرن التاسع عشر وبعد أن أصبح الكتاب المقدس مطبوعا بلغات كثيرة في أيدي الكل صغيرا وكبيرا وقد بدأت علي إثره نهضات روحية وإرساليات حديثة عظيمة؟ لقد آن الأوان إلي تغيير استراتيجية المعركة دون الحاجة إلي تغيير السلاح نفسه. فكما كانت ذريعة كرادلة روما في منع الكتاب عن العامة هو غموضه وعدم صلاحيتهم لقراءته وتفسيره ، بل وعدم صلاحية الكتاب نفسه أن يكون مرشدا ومعلما ، هكذا الآن حادث في دول كثيرة وفي أمريكا بصفة خاصة. وكما كانت وسيلة العدو هي رجال الدين فكذلك الآن ينادي بعض الرجال المحسوبون علي الكنيسة الإنجيلية بأن الكتاب المقدس غامض وأنه من قبيل الكبرياء أن يدعي المرء وصوله إلي يقين بخصوص أي عقيدة ما. وهذا عين الكبرياء في رأيي ، إذ أن الطعن في وضوح كلمة الله وصلاحيتها في أن تكون مشيئته المعلَنة لنا ومن ثم اللجوء إلي استحسان كل واحد لأفكاره الخاصة لهو عكس التواضع علي طول الخط. فما إن يفتح المرء فمه ليتكلم بتعليم كتابي واضح وصريح في كلمة الله ونادي به رجالات الكنيسة في القرون الأولي تنهال عليه الإتهامات بأن ذلك كبرياء وأنه ضد قبول الآخر ومصادرة للحريات ، ثم يلقونك درسا فلسفيا في شخصنة الحق ، بمعني أن الحق الآن طبقا لفلسفة ما بعد الحداثة هو نسبي وغير موضوعي ويختلف من شخص لآخر ، لذلك فأنت لست في حاجة إلي تكوين أي فكري عقيدي في كلمة الله لأن هذا سيكون الحق من وجهة نظر واحدة فقط من بين ملايين أخري.

وهكذا يتعرض الآن الكتاب المقدس إلي نفس التهميش والحجر الذي تعرض له قديما ، ولكن للأسف هذه المرة من قبل الكنائس التي ولدت من رحمه هو والتي كانت تؤمن بسلطانه مرة. فلولا كلمة الله التي قدمها لنا المصلحون لما كان هناك كنائس كتابية إنجيلية ، أما الآن فالكثير من هذه الكنائس – التي لا تعلم ولا تقدر التركة الإصلاحية الثمينة التي تركها لنا من خاطروا بحياتهم – تلفظ سلطان كلمة الله ومرجعيتها للدرجة التي عاد فيها البعض إلي العبادة الطقسية من جديد مثل "الكنيسة المواكبة" في أميريكا. وليس ذلك فقط بل إننا نري آثار تسريب فلسفة ما بعد الحداثة إلي الكنيسة الإنجيلية المصرية فلم نعد نسمع كثيرا عن حق الإنجيل ، وبدلا منه نسمع عن إنجيلا إجتماعيا ليس فيه ذكر عن الصليب والدماء والكفارة لئلا تنجرح مشاعر أحد. لقد وصلت البروتستانتية إلي مرحلة تحتاج معها إلي حركة إصلاح جديدة. ولا تبقي أمامنا سوي المسؤولية الفردية لكل منا بحسب وصية الرسول "وأما أنت فاثبت علي ما تعلمت وأيقنت عارفا ممن تعلمت" (2 تي 3 : 14)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس