إله العهد القديم وإله العهد الجديد .. هل هما متناقضان؟



الحروب والإنتقام والعنف في العهد القديم كثيرا ما وقفت حائلا بيننا وبين الصورة المجيدة التي يرسمها العهد الجديد للرب. وإذا ضاهينا الصورة الإلهية التي يرسمها لنا العهد القديم بنظريتها في العهد الجديد لبدت من الوهلة الأولي صعوبة المطابقة بينهما. وليس من الغريب أن نجد أنفسنا نحاول التوفيق بين أشياء عسرة الفهم مثل كيف يأمر يهوه الرب شعبه قديما بمحاربة الأمم الكنعانية وبين الرب يسوع الذي طلب من بطرس أن يرد سيفه إلي غمده. كما أن قول الرب "سمعت أنه قيل عين بعين وسن بسن وأما أنا فأقول لا تقاوموا الشر بالشر" يجعلنا بالضرورة نتساءل هل نسخ الرب التوراة بعظته علي الجبل؟ أم أنه حاول تجميل صورة إله العهد القديم (القاسي) بأن يرسم صورة أجمل له في العهد الجديد؟ مما لا شك فيه أن هناك بعض الإختلافات التي تبدو في ظاهرها كبيرة بين كل ما يعلنه العهد القديم والجديد عن الله ولكنها لا يمكن بأي حال أن تصل إلي مستوي التناقض. ولكن ينبغي أن نضع في أذهاننا أن الإختلافات لا تعني أن هناك تناقضات في الإعلان الإلهي في كلا العهدين. بل إن هذه الإختلافات بينهما وما يترتب علي ذلك من اختلاف في طبيعة الإعلان عن الله في العهد القديم عن ذلك الخاص به في العهد الجديد ترجع إلي بعض الإعتبارات التي سنتعرض لها.

التقسيم الثلاثي للناموس

لكي نفهم هذا التناقض البادي علي السطح بين وصايا العهد القديم وتعاليم العهد الجديد وبالتالي ما يمكن أن يترتب علي ذلك من اختلاف ظاهري لإله العهد القديم عن إله العهد الجديد أيضا لابد أن نتعرف علي ما يسميه رجال اللاهوت "التنوع الثلاثي للناموس". وبإختصار فبحسب هذا التنوع أو التقسيم فإن وصايا العهد القديم تندرج تحت ثلاثة أنواع: وصايا لها طبيعة أدبية أو أخلاقية (الناموس الأدبي) وهي مختصرة في الوصايا العشرة "لا تشته. لا تزن. تحب الرب إلهك. تحب قريبك مثل نفسك" ، ومبادئ طقسية (الناموس الطقسي) لتنظيم ممارسة العبادة والطقوس مثل التقدمات والذبائح والكهنوت والتطهير ، وأحكام مدنية أو قضائية (الناموس القضائي) لإرساء العدالة وسط شعب إسرائيل مثل تنظيم أوضاع العبيد والأجانب وبعض الجرائم مثل القتل الغير عمد والتعدي علي الوالدين والسرقة والثأر.

وأهمية هذا التحليل الثلاثي لوصايا الناموس لا تقتصر علي إزالة التناقض الظاهري بين العهد القديم والجديد بل هي ضرورية أيضا لإدرك لماذا لا يتحتم علي مؤمني العهد الجديد تنفيذ كلا من الوصايا الطقسية والقضائية. فأولا فإن مؤمني النعمة ليسوا تحت الناموس الطقسي وبالتالي فلا حاجة لهم في تنفيذ الوصايا الطقسية المتمثلة في تقديم الذبائح والغسلات التطهيرية لأنها كانت رمزا تحقق بمجئ المرموز إليه ألا وهو الرب يسوع المسيح وعمله الكفاري علي الصليب. فليس من اللائق إذا أن نحيا في ظل الرمز وقد رأينا نور المرموز إليه. وإصرارنا علي ممارسة الطقوس وتقديم الذبائح لهو اقرارا ضمنيا منا بعدم كفاية الرب يسوع المسيح الذي تحققت فيه كل الرموز. وكما يعلمنا كاتب العبرانيين أن السبب في تكرار الذبائح الرمزية القديمة قبل مجئ الرب يسوع هو عدم كفايتها ، ولكن بعد أن جاء الرب يسوع وأكمل العمل لم نعد في حاجة إلي طقوس أو ذبائح لأن عمله يغنينا عن هذه كلها. أما عن الوصايا القضائية التي نريد أن نعالجها هنا بصفة رئيسية فهذا يقودنا للفكرة التالية. ولكن قبل أن نتطرق إليها وجدنا أنه من اللازم الوقوف علي مصداقية هذا التقسيم الثلاثي إزاء محاولة البعض التشكيك في صلاحيته.

ليس لدينا برهان علي صحة هذا التقسيم الثلاثي للناموس أفضل من كتابات رجال الكنيسة القدماء. فهو أمر لم يستحدثه البعض ولكنه قديم قدم كنسية القرون الأولي. وإن كان هناك من يقول أن هذا التحليل الثلاثي كان معروفا فقط لللاهوت الإصلاحي إلا أن كالفين تحدث عنه باعتباره "معروفا جيدا" في أيامه ، وأشار إليه تورتين بوصفه أمر "معتاد" وليس بجديد. كما أن ذلك التقسيم الثلاثي في صورته التي نقصدها هنا يمكن تقفي أثره إلي القرن الثالث عشر في كتابات توما الأكويني. بل وأن البعض يقول أنه يرجع إلي القرن الخامس أيضا ولكن مع ملاحظة أنه كان تقسيما ثنائيا حينها كما نقرأ في احدي كتابات أغسطينوس ردا علي البدعة المانيكية "لا تشته ، مبدأ أخلاقي. تختن كل ذكر لك في اليوم الثامن ، وصية رمزية". وليس ذلك فقط بل إن فقهاء اليهود المعاصرون أيضا مثل بوعز كوهين يعترفون بهذا التقسيم الثلاثي للناموس. وإن كانوا يلجأون إلي ذلك لكي يبرروا لأنفسهم استحالة تنفيذ الجزء الطقسي منه بسبب عدم وجود الهيكل والجزء القضائي بسبب أن نظام الحكم في اسرائيل الآن ليس ثيوقراطيا.

دور إسرائيل علي الأرض وأهميته في فهم الله بحسب إعلان الناموس له

رأينا في الفكرة السابقة كيف أنه لا حاجة لنا كمؤمنين بشخص المسيح ممارسة أي طقوس أو ذبائح لأن الغرض من هذه الأخيرة تم بمجئ الرب يسوع المسيح وإكماله للفداء العظيم. وكمؤمني عهد النعمة أيضا لسنا في حاجة لأن نخضع للوصايا المدنية أو القضائية التي أعطاها الرب لموسي لتكون تشريعا وقانونا لهم كشعب خاص للرب من المفترض أن يسوده النظام والعدل نظرا لكونهم شهود للرب الإله أمام باقي شعوب الأرض. ولكي ينجح الشعب في شهادتهم للرب أمام الشعوب الأخري وفي كونهم ملكوتا خاصا للرب علي الأرض كان من اللازم أن يسودهم العدل والنظام والسلام الداخلي فيما بينهم. ولا شك أن كونهم شعبا بدائيا خرج لتوه من أرض العبودية وليس لهم أي خبرة بإدارة البلاد زاد من صعوبة تحقيق هذا الغرض فيهم. لهذا شرع لهم الرب بعض المبادئ القضائية التي تمكنهم من تحقيق العدل فيما بينهم بإعتبارهم ممثلي الله علي الأرض ، وتمكنهم أيضا من معاملة الأجانب والعبيد معاملة أفضل من تلك التي لاقوها في أيام عبوديتهم في مصر. كما أنه ليس من العسير أن يدرك القارئ العادي للكتاب المقدس أنه كان في خطة الله أن يبارك الأرض كلها من خلال ملكه علي إسرائيل. وأن تكون مملكة إسرائيل مركزا لكل شعوب العالم. وليس هناك سبيل إلي ذلك سوي بأن ينجح إسرائيل داخليا وحينئذ يمكنهم أن يمارسوا دورهم في الشهادة عن الرب لكل الشعوب الأخري.

وفي الأصحاحات (21 – 23) من سفر الخروج نقرأ عن الكثير من الوصايا القضائية اللازمة لإستقرار الشعب داخليا. فيبدأ الرب كلامه في بداية الأصحاح الحادي والعشرين بقوله "وهذه هي الأحكام التي تضع أمامهم". ونفهم من هذا أنها كانت مجموعة من الأحكام المدنية أو القضائية التي تنفذ بواسطة السلطة المجمتمعية وليس الفرد. واللفظ العبري المترجم هنا أحكام يعني "أحكام قضائية". فمثلا القول "وإن حصلت أذية تعطي نفسا بنفس. وعينا بعين وسنا بسن ويدا بيد ورجلا برجل. وكيا بكي وجرحا بجرح ورضا برض" ليس هو دعوة لعدم الغفران والإنتقام لأنفسنا كما يمكن أن يتوهم البعض ، ولكنه مبدأ قضائي قصد به إرساء العدل في ذلك المجمتع الوليد ولا ينفذ إلا بواسطة السلطة المختصة بذلك. لأنه لو كان المقصود من هذا المبدأ هو أن يقتص الأفراد لأنفهسم لتحولت الدولة الإسرائيلية إلي غابة وبكل تأكيد فإن هذا ينافي الغرض الذي أعطي من أجله ذلك التشريع القضائي المختصر.

أما عن قول الرب يسوع المسيح في عظته علي الجبل "سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن. وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر بل من لطمك علي خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا" والتي هي واحدة من الأحكام القضائية التي أعطيت لهم كما أشرنا سابقا ، فلا تعني أن الرب نسخ أو لغي الوصية القديمة بالجديدة. ولكن ما حدث هو أن اليهود تطرفوا في تطبيق هذه الوصية وبدلا من أن يذهبوا لرجال الدولة ليبتوا في أمورهم قاموا بالإنتقام لأنفسهم ضاربين عرض الحائط بالوصية وبالمجمتع بما فيه من قضاء ونظام وعدل. وحديث الرب لهم هنا ينبغي أن يطبق علي المستوي الشخصي. فما يستطيع المتضرر أن يعمله بينه وبين نفسه هو أن يسامح ويدع النقمة للرب ولا ينتقم لنفسه ، وأن محاولة الفرد الإنتقام بيده لنفسه دون اللجوء للسلطة المجتمعية هو أمر مرفوض. إذا فالهدف من كلام الرب لهم هو أن لا يسعوا للإنتقام لأنفسهم بل بالحري ينشدوا الغفران وليتركوا السلطة الرسمية في المجتمع تجري تدابيرها إزاء الضرر الذي تعرضوا له.

وبالإضافة إلي دور إسرائيل في إعلان الله لأمم وشعوب العالم من خلال ملكوته فيهم فإنه كان لهم دورا آخر وهو استخدامهم من قبل الرب كوسيلة لإنزال قضاءه ودينونته علي الأمم الأخري التي فجرت وتلطخت أيديهم بالكثير من الدماء. وموضوع الحروب في العهد القديم كثيرا ما يستخدم للطعن في مصداقية الكتاب المقدس بإعتبار أن ذلك يظهر تناقضا ونقصا في الذات الإلهية ، فكيف يأمر الله في العهد القديم بالقتل والإبادة والحروب والدمار بينما نجد الرب يسوع يأمر تلميذه بطرس الذي أراد أن يدافع عن معلمه البار بأن يرد سيفه إلي غمده لأن الذين يأخذون بالسيف يؤخذون؟ ولكي نوضح الصعوبة والغموض اللذان يكتنفان هذا الأمر لنا بعض الملاحظات فيما يتعلق بأمر الرب للشعب بمحاربة الأمم الكنعانية وامتلاك أرضهم.

أولا فأن الحروب التي خاضها شعب اسرائيل ضد الأمم الكنعانية عند استيطانهم للأرض كانت مرة واحدة في تاريخهم. والحروب التي اجتازوها فيما بعد كانت دفاعا عن النفس ودرءا لهجمات الشعوب الأخري ضدهم. ثانيا فإن السبب الذي جعل الرب يأمرهم بمحاربة تلك الأمم الكنعانية هو شرورهم الفظيعة والمريعة. فقد عرف عنهم الإنحراف الجنسي الشديد وقساوتهم ودمويتهم حتي أنهم كانوا يقدمون أطفالهم الرضع ذبائح حية لإلههم الوثني مولك. واحقاقا للحق فإن الرب رغم علمه المسبق بالفداحات التي سيرتكبونها إلا أنه تأني عليهم ما يقرب من الخمسمائة عام. فقد ذكر لإبراهيم أنه لن يعطيه الأرض التي وعده بها في أيام حياته ذلك لأن ذنب الأموريين لم يكن مكتمل أمامه حينها (تك 15 : 16). ثالثا فمع العلم أن الله كان قادرا علي دينونة تلك الشعوب بأي وسيلة أخري مثل المجاعة أو الوباء أو حتي يرسل عليهم نار من السماء مثلما حدث مع سدوم وعمورة وكل مدن الدائرة ، لكن الرب رأي في حكمته وسلطانه أن يستخدم حرب إسرائيل ضد الأمم الكنعانية كوسيلة لدينونتهم. فلم يكن شعب إسرائيل سوي أداة في يد الرب مثلهم مثل الوباء أو النار أو الطوفان أو المجاعة. ولا يفوتنا هنا القول بأن الرب أراد أن يعلم اسرائيل بعض الدروس الروحية من حربهم ضد الأمم الكنعانية التي ما كانوا سيتعلموها لو كانوا قد امتلكوا أرض كنعان بدون خوضهم للحروب. فغالبا ما يقصد الله من فعل أمر معين أن يحقق أغراض كثيرة في آن واحد. ورابعا فإن الله استخدم نفس الأسلوب في معاقبة شعبه اسرائيل عندما انحرفوا عن مسارهم وأخذوا يقلدوا الشعوب الأخري في عاداتهم الوثنية التي ارتبطت بالإنحلال الجنسي وسفك الدماء البريئة. فلم يتوان الرب عن أن يرسلهم للسبي مرة ومرات علي يد الأشوريين والببابليين وهدم أسوار مدينتهم العظيمة أورشليم وهيكلهم المقدس مرتين واحتلالهم من اليونانيين والرومانيين ، وأخيرا تشتتهم في كل الشعوب تقريبا طيلة ألفي عام. ألا يحق إذا لإله كلي العلم والسلطان والحكمة والعدل أن يعاقب الشعوب الظالمة المستبدة المنحرفة بما فيهم شعبه الخاص؟ أليس التاريخ خير شاهد علي أنه لا توجد أمة أو امبراطورية مستبدة إلا وانهارت ذاهبة في غياهب التاريخ غير مأسوف عليها؟

تمايز الإعلان عن الله في تدبيري الناموس والنعمة

ليس صحيحا أن الصورة التي يعلنها العهد القديم عن الله هي أنه إله غاضب ديان قاس بلا رحمة يأمر بالحروب ويحض علي الإنتقام. كما أن اعتقادنا بأن إله العهد الجديد هو إله رحيم ومحب ولطيف ومتساهل هو اعتقاد جانبه الصواب أيضا. ولكن الكتاب المقدس بعهديه يعلن لنا إله مطلق الكمال في صفاته لم يتوقف عن أن يكون عادلا في رحمته ولم يكف عن أن يكون رحيما في عدالته قديما وحديثا. والإختلاف هو خلفية الإعلان في كل من العهد القديم والجديد. ففي ظل الناموس (الوصايا المقدسة) الذي يعلن عن إله قدوس يمقت الخطية ويطلب من الإنسان أن يعمل بوصاياه يظهر جانب القداسة في جو قاتم بسبب فشل الإنسان في طاعة الله وبسبب عدم وجود حل لمشكلة خطيته ولعدم قدرة الناموس علي تغيير الإنسان أو اعطاءه قوة علي الطاعة. حتي الذبائح الحيوانية التي كان الإسرائيليون يقدمونها كان لها تأثيرا وقتيا محدودا فكانوا يحتاجون يوميا لأن يصعدوا الكثير منها فلم تكن كافية لأن تعلن لنا الله أكثر مما كانت تلك الصورة تسمح.

ومع هذا فإننا نجد الكثير من الإشارات في العهد القديم لإله رحيم محب. فإن كان الرب يسوع المسيح علمنا في العهد الجديد أن نحب أعدائنا فهذا أيضا ما علمنا إياه الرب في العهد القديم في قوله "إذا صادفت ثور عدوك أو حماره شاردا ترده إليه. إذا رأيت حمار مبغضك واقعا تحت حمله وعدلت عن حله فلابد أن تحل معه" (خر 23 : 4 – 5). لاحظ معي عزيزي القارئ أن الرب لم يقل "حمار من تبغضه" ولكن "مبغضك" أي أن العداوة لا ينبغي أن تكون من جانبكم. وأن من أراد معاداتكم وبغضتكم لا ينبغي فقط أن تظهروا له المراحم بل أيضا لبهائمه. فإن كان الإسرائيلي مطالب بإظهار الرحمة لبهيمة مبغضه فكم وكم ينبغي أن يكون محبا ورحيما معه هو شخصيا؟ كما أنه في المشهد المرعب لاعطاء الرب الوصايا العشر لموسي حتي أنه لم يكن مسموح لأي مخلوق أن يقترب من الجبل ومن يفعل ذلك يرجم أو يقتل ، نجده يعلن عن رحمته في قوله "الرب إله رحيم ورؤوف بطئ الغضب وكثير الإحسان والوفاء" (خر 34). وليس ذلك فقط بل نقرأ أيضا في نفس المشهد عن نعمته "فأسرع موسي وخر إلي الأرض وسجد. وقال: إن وجدت نعمة في عينيك أيها السيد فليسر السيد في وسطنا فإنه شعب صلب الرقبة. واغفر اثمنا وخطيتنا واتخذنا ملكا" فيرد الرب قائلا "ها أنا أقطع عهدا قدام جميع شعبك أفعل عجائب لم تخلق في كل الأرض وفي جميع الأمم فيري جميع الشعب الذي أنت في وسطه فعل الرب. إن الذي أنا فاعله معك رهيب"

ومع أن الصورة في العهد الجديد في عمومها هي صورة النعمة والفداء والمراحم التي ظهرت في شخص المسيح عندما جاء متواضعا بسيطا ليشفي الأمراض ويشبع الجموع الجائعة ويخلص الخطاة الرازحين تحت أحمال خطاياهم ، فإننا نجد أيضا الكثير من المواضع التي تحدثنا عن الدينونة الآتية علي العالم. وأن من سيدين العالم هو نفس الشخص الذي جاءه متواضعا رقيقا ، مشبعا للجموع وشافيا للأمراض ومخلصا للخطاة. "وأما بنو الملكوت فيطرحون إلي الظلمة الخارجية. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان" (مت 8 : 12). أيضا "والسماء انفلقت كدرج ملتف، وكل جبل وجزيرة تزحزحا من موضعهما. وملوك الأرض والعظماء والأغنياء والأمراء والأقوياء وكل عبد وكل حر، أخفوا أنفسهم في المغاير وفي صخور الجبال وهم يقولون للجبال والصخور: اسقطي علينا واخفينا عن وجه الجالس علي العرش وعن غضب الحمل. لأنه قد جاء يوم غضبه العظيم ومن يستطيع الوقوف؟" (رؤ 6).

فليس إذا هناك أي تناقض بين ما يعلنه كل من العهد القديم والجديد عن الله. وإن كان هناك اختلاف ظاهري فمرجعه هو إختلاف الظرف التدبيري الذي كان مصاحبا لكل إعلان. ففي ظل تدبير الناموس كان من الطبيعي أن يظهر الله كإله كلي القداسة والبر والعدل مطالبا الإنسان بطاعته والسلوك بالقداسة اللازمة. كما أن عدم وجود حل لمشكلة خطية الإنسان وقتها زاد احساسه بالرهبة تجاه الله. وخير مشهد يعبر عن ذلك هو مشهد إعطاء الناموس علي جبل سيناء في جو من البروق والرعود وإن مست الجبل بهيمة ترجم أو تقتل. ولكن مع كل هذا فإننا نري الكثير من لمحات النعمة والرحمة والمحبة تتخلل هذا التدبير يعوزنا الوقت للحديث عنها جميعها. وفي المقابل ففي تدبير النعمة أو العهد الجديد يُعلَن لنا الله الذي صار في صورة إنسان متحدا بضعفنا البشري صائرا مثلنا في كل شئ ما خلا الخطية كالإله كلي المحبة والمراحم والإحسان. علي أن الصليب لا يعلن لنا فقط محبة الله ولكن أيضا قداسته وعدله. وإلا لما احتجنا إلي موت المسيح نيابة عنا. وخير مشهد معبر عن عهد النعمة هو جلوس الرب يسوع علي جبل تابور والجموع تحيط به وتزحمه من كل ناحية معلما إياهم. ومع كل ذلك فإن الرب يسوع الذي انسكبت النعمة علي شفتيه حذرنا أيضا عن الدينونة المرعبة التي تنتظر كل من لا يؤمن به كما سبق ورأينا.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس