هل يمكن دمج نظرية التطور بالحق الكتابي؟


حضرت ندوة عن الإلحاد بالأمس في مدينتي الإسكندرية واستمعت إلي المتكلم في صبر إلي أن حانت اللحظة التي نفذ فيها هذا الأخير عندما قال أنه لا مانع أن يكون الله قد استخدم آلية التطور في عملية الخلق فرفعت يدي لأبدي الإختلاف بهدوء فيما قيل فلم تتاح لي الفرصة. وتعجبت بيني وبين نفسي متسائلا كيف لأي مؤمن بالكتاب المقدس أن يزاوج النص الإلهي بالهراء الدارويني؟ وما الذي يجبرنا علي ذلك؟ هل خوفنا من العلم أم عدم ثقتنا الكافية في الكتاب المقدس أم كلاهما معا؟ وفي الحقيقة فلا يوجد ما يبرر فعلنا ذلك وهو ما دعاني إلي كتابة هذه السطور القليلة.
 
"سولا سكريبتورا" (Sola Scriptura)هو الشعار الذي رفعه المصلحين الإنجيلين العظماء قديما في معركتهم ضد السلطان البابوي لتحرير الكتاب المقدس ووضعه في المكانة التي يستحقها كصاحب السلطان المطلق وكالمرجع الوحيد لكل عقيدة وتعليم. وبعد أن كتب لحركة الإصلاح هذا النجاح وخرج الكتاب المقدس من سجنه البابوي وتنفس العالم المسيحي الصعداء من ذلك الطغيان الكنسي الغير مبرر ، دخل الكتاب المقدس معركة جديدة. ولكن هذه المرة ليست ضد الكنيسة بل ضد العلم. ولكي نكون منصفين فإن الكتاب المقدس زج به في ذلك الصراع المزعوم. فلا يوجد تناقض بين العلم والكتاب المقدس ولكن هذا ما يحاول الكثيرون أن يوهمونا به. وعلي الرغم أن العلم كان هو الخصم الأساسي في تلك المعركة إلا أن التاريخ يشهد علي تورط الكنيسة الكاثوليكية ووقوفها في صف العلم الكاذب الإسم ضد الكتاب المقدس كما نعرف من فضيحة "إنسان بيلت داون" التي تورط فيها الأب بيير تيلهارد ، ونظرية "الإنفجار العظيم" التي صاغها أيضا الأب جورج لاميتري. ولكن بعد أن ظهرت نظرية التطور لداروين وحققت نجاحا ورواجا كذريعة للتسلح ضد الطغيان الديني الذي كان قابعا علي نفوسهم حقبا طويلة ، اهتز بعض المسيحيين أمامها فحاولوا التوفيق بينها وبين الكتاب خشية أن يتسبب ذلك في التقليل من تأثيرات حركة الإصلاح. ولكي يفعلوا ذلك اضطروا لاعطاء الكتاب المقدس مرتبة ثانية أمام العلم فرفعوا شعار (Scriptura Sub Scientia) أي أن مرجعية العلم تفوق مرجعية الكتب المقدسة. ومن هنا بدأت محاولات دمج أو تطعيم نظرية التطور في جسم الحقائق الكتابية الثمينة.
 
بعد أن تم التوفيق أو بالحري التلفيق والتلزيق لنظرية التطور مع الحق الكتابي الثمين ظهر ما يسمي بنظرية التطور اللاهوتية (Theistic Evolution) والتي تفيد بأن الخالق استخدم عملية التطور في اتمام خلقه. ونحن البشر نتاج هاتين العمليتين معا ، أي أننا مخلوقون ومتطورون في آن واحد. وملخص هذه النظرية هو أن الله خلق الخلية الحيوانية الأولي وتطورت منها الأنواع المختلفة مع ازدياد التعقيد فيها عن طريق العمليات الطبيعية ، وليس لله أي دور في تلك العملية سوي الإشراف عليها والتدخل فيها حينما يتطلب الأمر ، مع العمل علي دفع عملية التطور للأمام.
 
ومع أن النموذج السابق هو الأكثر إنتشارا إلا أن هناك شكلا آخر لتلك النظرية يسمي بالخليقة المتدرجة (Progressive Creation). وهذه النظرية تتفق مع سابقتها في أن كل منهما ينادي بأرضا عمرها بلايين السنين ، ولكنها تختلف معها إذ تري أن العمليات الطبيعية غير قادرة في حد ذاتها علي انتاج أنواع جديدة من تلقاء نفسها. لأنها في حاجة إلي تدخل إلهي مباشر لكي تتطور إلي أنواعا أخري. والبعض يري أن الله يقوم بتعديل شفرة الحمض النووي DNA الموجودة بالفعل لتنتج نوعا جديدا أكثر تعقيدا. بينما يؤمن البعض الآخر أن الله يقوم بخلق كل نوع جديد من العدم.
 
وهذه النظرية بشكليها الأنيقين تناقض التعليم الكتابي من عدة أوجه: فهي أولا تشير إلي تطور عشوائي مراقب للأنواع من الاقل إلي الأكثر تعقيدا في حين أن الله خلق أنواعا مستقلة ومعقدة من العدم في نفس الوقت. وثانيا في ترتيب الخليقة ، إذ أن الله خلق الأرض أولا ثم الشمس والقمر والنجوم وليس العكس كما يتضمن التطور الكوزمولوجي. وثالثا  فإنهم بحشرهم لله في نظرية التطور يجعلونه "إله فجوات" وفائدته الوحيدة هو ملء تلك الفجوات التي لا تسطيع الطبيعة تفسيرها لنا ، أي أنهم كلما عجزوا عن شرح آليات الطبيعة التي يدعون أنها من الممكن أن تنتج مثل ذلك التعقيد في الأنواع هموا بوضع الله في تلك الفراغات. رابعا: وبإعتبار الموت والإنتخاب الطبيعي آليتان من آليات التطور فكيف لله أن يستخدم الموت والعنف والدموية في اتمامه لعملية الخلق؟ والطامة الكبري هو أن تلك النظرية من شأنها أن تطعن في مصداقية تعليم الفداء الذي هو لب الإيمان المسيحي. فالإعتقاد بأن الأنواع تطورت من البسيط للأكثر تعقيدا علي مدي حقبا طويلة ، وأن من ضمن آليات ذلك التطور هو الإنتخاب الطبيعي والموت ، فإن ذلك يقودنا للقول بأن الموت وجد قبل ظهور الإنسان وخطيته. وهذا بدوره يجعلنا نستنتج أن الموت لم يأت كنتيجة للخطية. الأمر الذي يصل بنا إلي أنه ليس هناك علاقة بين موت المسيح والخطية. وترتيبا علي ذلك فإننا نرفض نظرية التطور اللاهوتي تلك جملة وتفصيلا ولا نري أن هناك أي إمكانية في مصالحة الإثنان معا.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس