في ذكري ميلاد داروين


من بين كل ما قرأت من أدب السيرة الذاتية لم أري أغرب من هذا الشخص. وكثيرا ما استوقفني لأتأمله ، فكلما رأيت صورة له أخذت أحملق بها ، وكلما وقعت بين يدي معلومة عنه أخذت أتفحصها وأتمعنها. حتي صارت لدي هواية تجميع الأبحاث عنه وعن نظريته. ليس لأني معجب به أو بما يقول ، ولكن لأني لا أستطيع أن أتخيل أن تصل مقاومة الإنسان لله لهذا الحد بأن يلفق الأكاذيب التي يدعي أنها علمية حتي يبرر لنفسه وللآخرين رغبة مقاومة وجود إله رقيب وديان. الأمر الذي كثيرا ما دفعني للحملقة في صوره ودراسة شخصيته لعلي أستطيع أن أشبع فضولي في سبر غوره. وفي كل ما قرأت عنه لم يثر حفظيتي شئ أكثر من هذين الأمرين الذين سأتركهما للقارئ العزيز ليحكم بنفسه إن كان هذا الرجل يستحق أي مصداقية.
 

 ليس صحيحا ما ينشر عن داروين أنه تدارك خطأ نظريته في آخر أيامه مرضه وهو طريح الفراش. والسبب في أننا لا نؤمن بذلك هو أن جميع أبناءه كذبوا هذه القصة. ولا يهمنا إن كان ذلك قد حدث فعلا أم لا فهناك الكثير من الداراوين قبله وبعده. أما عن كونهم كثيريون قبله فهذا يضعه موضع المتهم بالإنتحال لأعمال سابقيه. وهذا هو ما يعتقده البعض فعلا. إذ يقول عالم النبات والجينات هوجو دي فريس أنه لاحظ أن بعض النقاد لا يعتبرون أن هناك أي إضافات علمية ذات قيمة أدخلها أو استحدثها داروين علي نظرية التطور عن طريق الإنتخاب الطبيعي ، وأن دراسة تاريخ نظرية التطور يظهر أن داروين انتحل أفكاره الرئيسية في الموضوع من آخرين دون أن ينسب لهم الفضل في سبقهم العلمي عليه.
 

 وعلي الرغم أن هناك من سبق داروين من العلماء في الحديث عن النظرية الحديثة للتطور البيولوجي مثل العالم تشارلس مونتسكيو والذي يعتبر أول من تكلم عنها عندما استنتج أن الأنواع كانت قليلة العدد قديما ولكنها تضاعفت بفعل العوامل الطبيعية إلا أن هناك من يري من النقاد أن هناك أفراد بعينهم نقل عنهم داروين أو قل انتحل أعمالهم ونسبها لنفسه. وأول هؤلاء هو جده إيراسموس داروين الذي كان له مؤلفا ضخما يضم مجلدين. حتي أنه يقال أن بحث جده كان أكثر دقة في بعض النواحي. وهناك أيضا من يري من النقاد أن داروين انتحل أحد أبحاث ألفريد راسل ولاس في الإنتخاب الطبيعي ولكنه لم يجدا بدا من أن يضع إسمه إلي جواره بإعتبار البحث مؤلفا مشتركا بينهما. ناهيك عن آخرون يكاد يجزم المختصون أنه نقل عنهم دون أي إضافة أو تعديل وحتي دون أن ينسب لهم الفضل فيما كتبوا مثل روبرت تشامبرز وإدوارد بلايث وباتريك ماثيو.
 

الأمر الآخر الغريب الذي أري أنه لا يتناسب مع عالم مثل داروين رفعه العلم الحديث إلي مرتبة الألوهية هو ما لخصه لنا الباحث راسل جريج نقلا عن الموسوعة البريطانية في مقال له بعنوان "مرض داروين السري". إذ يقول جريج أنه كان يعاني من القئ والدوار والصداع وخفقان القلب السريع وارتعاش في العضلات وبقع أمام العينين. وإن كان من المحتمل اصابته بأي مرض أثناء أبحاثه علي الحشرات في أمريكا الجنوبية إلا أنه عند تحليل هذه الأعراض التي كانت تنتابه أثناء نشاطاته يتبين أنه كان يعاني من العصاب. ويمضي جريج في قوله متسائلا عن سبب القلق الشديد لدي داروين. فيجيب أنها كانت بسبب ما نتج عن مقاومته لله من صراع في داخله ، إذ كان يحارب الكثير من التأثيرات الروحية القديمة عليه مثل رغبته في أن يصبح رجل دين أنجليكاني وقراءته لكتاب وليام بايلي عن اللاهوت الطبيعي والذي أثر فيه كثيرا حتي أنه حفظه عن ظهر قلب ، وقراءة إيما زوجته الكتاب المقدس لأطفاله. ومع مرور الوقت وإستغراقه في أبحاثه وكتاباته في نظرية التطور ورفقته لتوماس هكسلي الذي كان أكبر كاره للدين وهو أول من صاغ تعبير اللاأدرية ، أصبح داروين كمن يحاول الهرب من تلك التأثيرات الروحية القديمة. وحدثنا الكثير ممن كتبوا سيرته عن خوفه أن يكون قد كرس حياته للوهم. مما سبب في حالة الصراع الداخلي تلك.
 

 إذا فبحسب ما يري هؤلاء النقاد لم يكن لداروين أي دور رئيسي يذكر سوي الترويج لتلك النظرية التي توصل إليها كثيرون قبله ونسبها إلي نفسه فجاء كتابه أصل الأنواع كإبن غير شرعي له. وأن مخاوفه الداخلية من أن يكون قد سعي عبثا وكرس حياته وأسفاره للأوهام ظهر في صورة مرض العصاب الذي كان ينتابه كثيرا. وهذين الأمران يضعفان من مصداقيته أمامنا و يضيفان إلي الأسباب العلمية والفلسفية لرفض نظريته أسباب أخلاقية تجعلنا لا نتشرف الإحتفال به اليوم في ذكري ميلاده كباقي العالم.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس