سقوط الشيطان وخراب الأرض .. هل من علاقة؟


يفترض البعض أن ما حدث في اليوم الأول من الخليقة هو مجرد اعادة تشكيل أو اصلاح للأرض التي كانت قد خربت بسبب سقوط الشيطان فيها. أي أنها خلقت قديما ثم خربت بعد ذلك إثر سقوط الشيطان وظلت هكذا في حالة الخراب تلك لبلايين السنين. وهذه الفكرة يسميها رجال اللاهوت نظرية الفجوة الناعمة لأنها تدعي وجود فجوة بين (تك 1 : 1) و (تك 1 : 3). وذلك علي خلاف النظرية الكلاسيكية التي تضع فجوة قدرها بلايين السنين بما يتضمن ذلك من طوفان بين (تك 1 : 1) و (تك 1 : 2).


والسبب الذي جعل البعض يحشرون بلايين السنين بين خلق الأرض ثم اعادة اصلاح الخراب الذي صار هو لاستيعاب نظرية التطور التي تطلب بلايين السنين لإتمامها. لأن الكذبة التي يروج لها الآن – وللأسف كثيرين من المسيحيين يبتلعونها دون أن يدركوا زيفها وخطورتها – هو أن نظرية التطور علم مثبت ، في حين أنها مجرد نظرية لم تؤسس سوي علي تفسيرات للسجل الحفري والتي يمكن اثبات عكسها ، ليس فقط بشهادة العلماء المسيحيين ممن يحملون درجات علمية رفيعة في شتي العلوم بل وأيضا من العلماء الغير مؤمنين.


ولا نقرأ كثيرا عن نظرية الفجوة الكلاسيكية في كتب التفسير واللاهوت نظرا لاحتواءها بعض السخافات مثل أن الأرض كان يسكنها بشر بدون "أنفس" ، وأن الشيطان كان حاكما للأرض ، وبعد أن أخطأ الشيطان أتت دينونة الله علي الأرض متمثلة في الطوفان والذي أشير إليه بحسب زعمهم في الماء المذكور في (تك 1 : 2) حتي حل العصر الثلجي بعد ذلك علي الأرض. وأخيرا فإن كل الحفريات الحيوانية والنباتية الموجودة علي الأرض الآن يرجع تاريخها إلي طوفان لويسفر (الشيطان) ولذلك فليس هناك أي علاقة جينية بين العالم القديم والعالم الحالي. الأمر الذي دعا لوجود نظرية فجوة أخري معدلة تتجنب تلك السخافات وتضع كل من الموت والطوفان بعد خطية الإنسان كنتائج مترتبة عليها. ورغم معقولية نظرية الفجوة الناعمة وما يمكن أن تحظي به من قبول نسبي مقارنة بالفجوة التقليدية إلا أن الأولي لا يزال بها بعض المعضلات التي لم تحل. لهذا نري أنه من الأهمية بمكان أن نتعرض لنظرية الفجوة الناعمة التي يتبناها معظم المفسرون نظرا لأنها الأكثر شيوعا.


وأول ما تفترضه نظرية الفجوة الناعمة هو أن الشيطان سقط قبل خلق الإنسان ، في حين أن الكتاب المقدس لم يحسم هذا الأمر. فقد يكون الشيطان أخطأ بعد خلق الإنسان وقبل سقوطه أي أثناء فترة براءته. إذ أن الكتاب المقدس لا يخبرنا عن الوقت الذي ظل آدم فيه عائشا في حالة البراءة تلك. ومن ثم فإن توقيت سقوط الشيطان مهم لأصحاب هذا الرأي لأنهم ينسبون الخراب إلي سقوطه. وهكذا فإن القارئ العادي يمكنه ملاحظة التشابه بين نظريتي الفجوة في نسبة الخراب الذي حدث إلي سقوط الشيطان ، الأمر الذي يدعونا إلي تمحيص ما ينادي به أصحاب نظرية الفجوة الناعمة رغم انتشارها وتبني الكثيرين من رجال اللاهوت لها. ولكن قبل أن نستعرض باقي النقاط وجب علينا التحفظ علي لفظة "خربة" لأنها ليست هي الترجمة الدقيقة كما أنها لا توحي بحدوث دينونة كما سنتعرض لذلك فيما بعد.


وثانيا فإن الأمر الذي لا تفسره هذه النظرية أيضا هو لماذا يخلق الله الأرض دون أن يكون عليها حياة وتظل هكذا لبلايين السنين؟ ولماذا يخلقها فقط دون باقي الكواكب أو المجرات ، بما أن هذه الأخيرة لم تُخلق سوي في اليوم الرابع من أسبوع الخلق؟ لماذا يخلق الأرض ويتوقف بعد ذلك؟ وما الذي يجعله يخلق خليقة غير مكتملة مع أن الكتاب يقول عنه "هو الصخر الكامل صنيعه" كما هو واضح من خلقه خليقة متناغمة وكاملة جدا ومكتفية بذاتها؟ ضف إلي ذلك سؤال آخر منطقي يفرض نفسه: هل خلق الله الأرض فقط حتي يجد الشيطان مكانا له عندما يسقط بحسب مزاعم هؤلاء المفسرون؟ لا شك أن الإفتراض الأول يقود إلي الثاني. لأنه إن ادعينا أن الشيطان سقط قبل خلق الإنسان فنحن في حاجة الآن إلي تخصيص مكان له بعد السقوط بما أنه طرد من حضور الله ، الأمر الذي يفرض علي من تبنوا هذه النظرية القول أن الأرض خلقت أولا ثم خربت. ولو كان هؤلاء قد درسوا كتابهم المقدس جيدا لوجدوا أن الشيطان لا يسكن الأرض بل الهواء كما يعلمنا العهد الجديد أنه "رئيس سلطان الهواء" ومن ثم ما احتاجوا إلي القول أن الشيطان سقط في الأرض.


وثالثا إن افترضنا جدلا أن الشيطان أخطأ قبل خلق الإنسان وأن الأرض خلقت ثم خربت بعد ذلك علي أي أساس يربط هؤلاء بين سقوط الشيطان وبين خراب الأرض مع أن الكتاب المقدس يربط فقط بين لعنة الخليقة وخرابها وبين سقوط الإنسان باعتباره رأسها؟ عندما أخطأ كل من آدم وحواء حلت اللعنة ليس فقط علي الأرض (تك 3 : 17) بل علي السموات المخلوقة أيضا كما نفهم من زوال الأرض والسموات الكائنة وخلق سموات جديدة وأرضا جديدة (رؤ 21 : 1 ، 2 بط 3 : 10). وإن لم تكن اللعنة حلت أيضا علي السموات المخلوقة فما الداعي لتجديدها جنبا إلي جنب مع الأرض؟ والسبب في حلول اللعنة علي الأرض وعلي السموات المخلوقة هو خطية الإنسان بإعتباره رأس الخليقة ونائب الله فيها. لأنه حتي الخليقة الغير عاقلة الآن تئن بسبب خطية الإنسان (رو 8 : 22). والقول بأن سقوط الشيطان في الأرض أخربها يتعارض مع كون آدم هو رأس الخليقة.


وللرد علي هذه النظرية نقول الآتي:


أولا ناهيك عن أن الكتاب المقدس لم يربط – صراحة أو ضمنا – بين سقوط الشيطان والحالة التي كانت عليها الأرض كما نقرأ في (تك 1 : 2) فإنه لم يقل أن الأرض "صارت خربة وخالية" بل "كانت خربة وخالية". وهذا يعني أن الحالة التي خلقت عليها الأرض كانت كذلك ولم تكن أمر استجد عليها أو آلت إليه. ولو كانت الأرض قد خلقت في حالة جيدة ثم حدث فيها هذا الخراب والخواء لكان الوحي يقول "فصارت الأرض خربة وخالية" ولكنه لم يقل ذلك. وقد رجع كاتب هذا البحث إلي ما يقرب من عشرين ترجمة إنجليزية ما بين حديث وقديم فجاءت كلمة "كانت" التي استعملت في (تك 1 : 2) فيها جميعا (was) لتؤكد نفس المعني.


ثانيا فإن التعبير "خربة وخالية" ذكر في الأصل العبري "توهو فا بوهو"  والذي معناه "بلا شكل وغير مأهولة" أو كما جاء في الكثير من الترجمات الإنجليزية (unformed and unfilled) ليؤكد نفس المعني المشار إليه هنا أيضا ، بمعني أن الرب عند خلقه للأرض كانت عبارة عن ما يشبه المادة الخام التي لم تتشكل وتأخذ الصورة التي أرادها لها. كما أنها كانت غير مأهولة طبعا لأنه لم يكن هناك أي مخلوقات عاقلة أو غير عاقلة لتسكنها.


أما اشارة البعض إلي (إر 4 : 23) والتي يستعمل فيها نفس التعبير "خربة وخالية" في معرض الحديث عن الدينونة التي كانت ستحل علي اليهودية بواسطة البابليين كدليل علي أن المصطلح استخدم للتعبير عن الدينونة فلا نصيب له من الصحة. فبحسب زعمهم  فإن إرميا النبي استخدم هذا التعبير ليدل علي الدينونة قياسا علي استعماله بهذا المعني في (تك 1 : 2) وبالتالي فإن "خربة وخالية" التي ذكرت في الأصحاح الأول من سفر التكويس كانت عن الدينونة التي حلت علي الأرض اثر سقوط الشيطان. ولكن هذا القياس خاطئ أولا: لأن التعبير في حد ذاته محايد ولا يحمل أي معني سلبي ، وأن المعني الذي يدل علي الدينونة يتحدد فقط من القرينة التي تدل علي ذلك كما يقول العارفون بالعبرية. وثانيا: لأن الغرض من ذكر تعبير "خربة وخالية" في حديث ارميا النبي عن الدينونة هو لإخبارهم أن الدينونة الآتية ستجعل الأرض كما كانت قبل أن تكون صالحة للحياة ومن ثم خالية. وكما كان الطوفان بمثابة ارجاع أو انقلاب للخليقة إلي ما كانت عليه في اليوم الثاني قبل انفصال اليابسة عن البحار كذلك فإن الدينونة الآتية علي الشعب ستعيد الأرض كما كانت قبل تهيئتها للحياة. وضف إلي ذلك أن القياس يكون علي الأصل وبذلك لا يمكن قياس الآية الورادة في تكوين (1 : 2) علي الآية الواردة في سفر إرميا (4 : 23). وهذا يتمشي أيضا مع القانون التفسيري والذي يسمي بالذكر الأول للأشياء والذي يلخص بأن معرفة معني الأشياء يكون بالرجوع إلي أول ذكر لها.


وما قيل سابقا يمكن أن يقال أيضا عن (إش 45 : 18) مع الفارق أنه في اشعياء يتكلم عن حالة الشعب بعد الدينونة وكيف انهم سيرجعون من السبي. والمعني المقصود هنا هو كما أن الرب لم يخلق الأرض قديما لتكون بلا هيئة وخاوية (توهو فا بوهو) فإنه لم يختار شعب اسرائيل لتترك أرضهم بلا شكل وغير مأهولة ، الأمر الذي يعبر عنه بالقول "باطلا". وخلاصة القول فإن التعبير "توهو فا بوهو" العبري يمكن أن يعني أشياء لم تخلق كما ورد في (تك1) أو أشياء مخلوقة انتزعت كما ورد في كل من (إش 45 وإر 4).


وأخيرا فثمة ملاحظة ختامية خاصة بطريقة سرد قصة الخلق في سفر التكوين. وهي أن كاتب السفر قدم مخلص لقصة الخلق في العددان الأول والثاني من الأصحاح الأول ثم قام بذكر تفاصيل القصة في الأعداد التالية منه. والفرق بين الأصحاحين الأول والثاني من سفر التكوين هو أن الأول ملخص عام للخليقة بينما نجد أن الثاني يمدنا بتفاصيل خلق الإنسان والتي لم تذكر في الأصحاح الأول. وأخذ هذين الأمرين في الإعتبار يسادعنا كثيرا في فهم قصة الخلق بحسب ذكرها في سفر التكوين.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس