هادمين ظنونا (1)

حقيقة الصراع بين العلم والإيمان الكتابي

في مطلع العصر الذي يقال له التنوير العلماني، إجتاح العالم الغربي تيارا من الفكر المادي الطبعاني وما تبعه ذلك من إلحاد وشكوكية. فقد سُمعت صيحة إنتصار زائفة بين منكري وجود الله بأن العلم لم يعد في حاجة إلي الله كفرضية لمواصلة البحث العلمي، فهذا الأخير يستطيع أن يسير بإستقلال مطلق عن الله. وهذا الإعتقاد يأخذ فرضيتا التطور والإنفجار العظيم كمسوغان له. فهما اللتان تجيبان الآن عن الأسئلة الوجودية التي كان اللاهوت المسيحي يجيب عنها فيما قبل. وأخذت لفظة "تطور" تطن بها كل الآذان، فنسمع عن تطور الكون والمخلوقات والإنسان، بل وتطور الإيمان بالله نفسه كما إدعي سيجموند فرويد. ولا شك أن التغييرات السياسية والدينية الكثيرة التي مرت بها أوروبا كانت تقف وراء تلك الحركة الشكوكية التي ما لبثت أن عرفت طريقها إلي الكنيسة الغربية أيضا، ومنها إلي الكنائس العربية. حتي وجدنا الكنيسة في العالم الغربي ساومت علي الحق الكتابي ومزجته بالفرضيات الشبه علمية والغير مثبته.

وما أشبه اليوم بالبارحة، فقد ظهر علي السطح مؤخرا موجة إلحاد شديدة في بلادنا العربية وبصفة خاصة مصر، إثر التغييرات السياسية والإجمتاعية الشديدة التي أحدثتها ثورتان متعاقبتان لا يفصلهما سوي سنتين فقط. وإن كانت النماذج الدينية السيئة سببا في تأجج هذا الإلحاد وتفجره ، ولكن كان هناك عامل مساعد آخر إلي جوار ذلك ، وهو ذلك المد الشكوكي المتشدق بالعلم، أو ما يقال له العلم، والذي بدأ في أوروبا من حوالي ثلاثة قرون مضت. وليس بغريب أن نري الكنيسة المصرية تتأثر بالمجتمع الذي تعيش فيه فنسمع عن تسرب الشكوكية إليها متسربلة بثوب العلموية تماما كما حدث مع الكنيسة الغربية.

المشكلة أن ما يستخدم للتشكيك في صحة الكتاب المقدس بصفة عامة وفي سفر التكوين بصفة خاصة أمور تسمي كذبا بإسم العلم. ولكنها في الحقيقة ليست كذلك، بل ظنونا كاذبة تُشاع علي أساس أنها علما مثبتا. ولا يمكن أن يكون هناك تعارض بين العلم الحقيقي وبين ما جاء في الكتاب المقدس لأنهما من مصدر واحد وهو الله. وعملا بقول الكتاب المقدس "هادمين ظنونا وكل علو يرتفع ضد معرفة الله" سنقوم بهدم تلك الظنون التي يحاول الكثيرون إعطاءها تسمية العلم.

وقبل أن نمسك بمعول الحقيقة لنهدم أول ظن يواجهنا من اللائق أن نصرح بما نؤمن به فيما يتعلق بقضية النشأة والأصول. وهذه المبادئ التصريحية الخمسة التي تخلص النظرة الكتابية للإصحاحات الإحدي عشر الأولي من سفر التكوين لابد أن تؤخذ جميعا كمنظومة واحدة. لأن التنازل عن إحداها سيؤدي إلي صدام مع الحق العقيدي الجوهري العام للكتاب المقدس وخاصة تعليم الفداء. أولا نؤمن بخالق أزلي له في ذاته كل ما يغنيه في وجوده عن أي شئ أو كائن آخر. ثانيا نؤمن بخليقة أتت من العدم (Ex-nihilo) وبهذا نحن نميزها عن الفكرة القائلة بأزلية المادة (Ex-materia) أو أن الخليقة المادية خرجت من الله (Ex-deo). وأن هذا العدم ليس في حد ذاته شئ. كما أن الخلق من العدم لا يتنافي مع المنطق، لأننا نقول بوجود إله أزلي كل القدرة أستطاع أن يأتي بشئ من لا شئ. ثالثا نؤمن بحرفية أسبوع الخليقة وأن الأيام فيه ليست حقبية، ولا يوجد فجوة بين خليقة أولية فسدت وبين تجديد تلك الخليقة الفاسدة، وأن الخلق لم يكن تطوريا متدرجا أو خلقا إيمانيا. رابعا نؤمن أن الأنواع (Kinds) لم تنشأ من أنواع أقل منها تعقيدا لكن الله خلق كل نوع كجنسه. والتنوع الحادث داخل كل نوع ليس بالضرورة خليقة الله ولكنه نتج عن إعادة ترتيب المعلومات الوارثية وفقدان بعضها وبعض التحولات الجينية. خامسا نؤمن بطوفان عالمي وليس محلي نتج عنه الكثير من الحفريات في السجل الحفري، وأن الكثير منها حفريات لحيوانات بحرية، وأن بعضها تدل علي حدوث موتا مفاجئا لها بسبب الطوفان.

وأول سؤال يتبادر إلي الذهن عن العلاقة بين العلم والإيمان هو:هل كان هناك صراع بين العلم والإيمان علي مر العصور السابقة؟ وهل أثبتت مكشفات العلم الحديث أن الإيمان بالله الخالق ليس سوي مجرد خرافة وبالتالي حُسمت المعركة لصالح العلم؟

يعتقد الكثيريون أن العلم والإيمان خصمان يتباريان في حلبة مصارعة، جولاتها مستمرة وساخنة، وجمهورها متعطشا للإثارة، ويتناوب كل منهما فيها المكسب والخسارة، وأن كل منهما ينتظر اللحظة التي يحظي فيها بلمس أكتاف للآخر ليقضي عليه ويشهر به أمام جمهور المشجعين، وأن المعركة حسمت أخيرا لصالح العلم كما يزعمون.

في الحقيقة فكرة أن هناك صراع بين الإيمان والعلم وأن هذا الصراع حسم لصالح الأخير فيها مغالطة علي مستويين. الأول هو أنه لا يوجد صراع بين الإيمان والعلم التجريبي. فالعلم التجريبي القائم علي الملاحظة والتجربة والذي أثمر عن الكثير من الفوائد في مجالات كثيرة مثل الطب والتكنولوجيا إلي آخره ليس هناك بينه وبين الإيمان أي صراع. ولكن الصراع موجود فعلا بين الإيمان وعلم التأريخ أو علم النشأة الذي يدعي بأن الحياة كلها أتت من ذرة صغيرة إنفجرت وأخذت في التطور والتعقيد إلي أن أصبحت ما نراه الآن من حولنا. وهذا الصراع موجود بسبب أن العلم التأريخي – كما سنري – مبني علي الإفتراضات والإعتقادات المسبقة التي لا يمكن التحقق منها تجريبيا. فالداروينية تقول أن التطور حدث من ملايين السنين، وأنه يحدث في الحاضر ولكنه بطئ جدا ولا يمكن ملاحظته. وبما أنه حدث في الماضي من ملايين السنين ونحن لا نستطيع أن نذهب إلي الماضي لمشاهدته، وبما أنه يحدث ببطئ في الحاضر لدرجة لا يمكن معها أن نرصده إذا ففرضية التطور غير قابلة للإثبات. ضف إلي ذلك أن فرضية التطور ليست مجرد فرضية علمية ولكنها عقائدية ولديها فلسفة للوجود، لأنها تحاول الإجابة علي أهم أربعة أسئلة وجودية تواجه الإنسان: من أين أتينا، ما معني الوجود، ما هو مصدر الأخلاق، ما هو مصيرنا بعد الموت. بالنسبة للسؤال الأول فقد أتينا من ذرة تطورت إلي أن وصلنا إلي ما نحن عليه الآن. وإجابة السؤال الثاني هو أن الوجود لا يعني شئ، بل نظل نصارع من أجل البقاء لكي يكون المصير في النهاية هو الفناء. أما عن مصدر الأخلاق فلا يوجد أساسا ما يسمي أخلاق لأنها أمرا نسبيا يختلف تبعا للمجتمع وتبعا للمرحلة الإنسانية. وأخيرا فلا يوجد مصير للإنسان بعد الموت بل الفناء. وبذلك تكون الداروينية عقائدية تناقش في الأساس أمورا حدثت في الماضي لا يمكن التحقق منها في الحاضر لكي تكون بذلك مسوغا للإعتقاد بعدم وجود الله.

إذا فالمستوي الأول من هذه المغالطة هو أنه لا يوجد صراع بين الإيمان الكتابي والعلم التجريبي، فما هو المستوي الثاني؟

والمستوي الثاني من هذه المغالطة أو الأكذوبة هو أن المعركة حسمت لصالح العلم، بيد أن هذا غير صحيح. بل هي مجرد طنطة كلامية ومغالاة في إمكانيات العلم ومحاصرة البحث العلمي الذي يشير إلي الإيمان بالله مثل موضوع التصميم الذكي ID . وليس هناك دليل موثق بالصوت والصورة علي ذلك خير من الفيلم الوثائقي الشهير "Expelled, no intelligence allowed" للمحامي والمحلل السياسي والكاتب بن ستاين وكيف أن هناك علماء كثيرون فقدوا وظائفهم في الولايات المتحدة لأنهم أشاروا ضمنا إلي إمكانية وجود مصمم للكون. علي سبيل المثال العالم الدارويني ريتاشرد سيترنبرج خسر وظيفته من معهد السميثونيان لأنه سمح بنشر مقال عن التصميم الذكي. كارولين كروكر وهي أستاذة للأحياء في جامعة جورج ماسون خسرت وظيفتها لأنها أشارت إلي التصميم الذكي في احدي محاضراتها. مايكل اجنور أستاذ جراحة الأعصاب بجامعة ستوني بروك بعث بخطاب إلي طلاب مدرسة ثانوية يؤكد فيه أن الطبيب لا يحتاج أن يتعلم عن نظرية التطور لكي يمارس الطب، فتعرض لحملة من التشويه وإجبار جامعته علي فصله إثر ذلك. روبرت ماركس الأستاذ في جامعة بايلور أجبر علي اعادة المنحة المالية وتم غلق الموقع الإلكتروني لأبحاثه نتيجة لاكتشافهم علاقة بين عمله وفكرة التصميم الذكي. جاليرمو جونزاليس الأستاذ المساعد للفيزياء الفلكية قدم أبحاث إكتشاف كواكب جديدة ولكن بعد أن قام بتأليف كتاب "الكوكب المتميز" الذي يذكر فيه التصميم الذكي فقد حقه في التثبيت في وظيفته الجامعية.


إذا فالظن الأول الذي نريد هدمه هنا هو أن هناك صراع بين العلم والإيمان. والحقيقة هي أنه لا يوجد صراع بين الحق الكتابي وبين العلم التجريبي. ولكن الصراع الموجود هو بين فرضية التطور العقائدية وبين الإيمان الإيمان المسيحي بما يحويه من عقائد أيضا. أي أنه صراعا عقائديا دينيأ. فالداروينية دينا يقدم معتقدات وجودية وليس حقائق مثبتة بأدوات العلم التجريبي من ملاحظة وتجربة ممكن تكرارها كلما شئنا. كما أن الأكادميون يحجرون علي فكرة التصميم الذكي التي تشير إلي وجود إله قام بتصميم الكون بدقة بارعة ذلك لأنها تسمح بوجود عقيدة إله خالق للكون. وبالتالي فكل ما يطرح في الجامعات والمدارس هو وجهة نظر واحدة وهي أن العالم أتي من ذرة صغيرة دون مناقشة الفكرة القائلة بأن الكون مخلوق بواسطة مصمم ذكي. وهكذا يتم إيهامنا بأن هناك حالة من العداوة بين العلم والإيمان.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس