لقب "إبن االإنسان" والسر المسياني



أكثر الألقاب التي يستخدمها العهد الجديد في الحديث عن المسيح هي "رب" و"مسيح". ولكن لقب "إبن الإنسان" هو المفضل لدي الرب يسوع في الحديث عن نفسه. واستخدام هذا اللقب عن الرب يسوع قليل جدا خارج الأناجيل. وقد خاطب الرب حزقيال النبي بهذا اللقب في سفره 93 مرة، كما أن داود استخدمه أيضا في مزاميره. إلا أن نسبة الرب هذا اللقب لنفسه يرجع في الأصل إلي سفر دانيال، حيث نقرأ "كنت أري في رؤيا الليل وإذا مع سحب السماء مثل إبن إنسان أتي وجاء إلي القديم الأيام، فقربوه قدامه. فأعطي سلطانا ومجدا وملكوتا لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول، وملكوته ما لن ينقرض" (دا 7 : 13 – 14). ومع أن البعض حاولوا تفسير ذلك رمزيا بالقول أن لقب "إبن الإنسان" يشير إلي اليهود، إلا أن القرينة لا تخدم مثل هذا التفسير، خاصة وأن النص يشير إلي مجئ "إبن الإنسان" مع سحب السماء في الوقت الذي يكونون فيه اليهود علي الأرض معذبون بواسطة القرن حتي غلبهم هذا الأخير.

وإن كان لقب "إبن الإنسان" يشير في الأساس إلي الطبيعة الإنسانية للرب يسوع المسيح، الأمر اللازم توافره فيه حتي يكون هو القريب الذي جاء ليفتدينا من لعنة الناموس، إلا أنه في نفس الوقت يحمل إيماءات خفية عن لاهوته، خاصة وأن القرينة التي جاء بها في سفر دانيال تحدثنا عنه بإعتباره من "أتي من السماء" وأنه "من ستتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة". وهذا أيضا يتطابق مع استخدام الرب له عندما سؤل بواسطة رئيس الكهنة ما إذا كان هو "إبن الله" قال له المسيح "من الآن ترون إبن الإنسان جالسا عن يمين القوة، وآتيا علي سحاب السماء" (مت 26 : 63)، وأيضا لقب "إبن الإنسان" يشير إلي الأصل السماوي له كما في قوله "وليس أحد صعد إلي السماء إلا الذي نزل من السماء إبن الإنسان الذي هو في السماء" (يو 3 : 13). بالإضافة إلي ذلك فإن الرب استخدم لقب "إبن الإنسان" لكونه يجمع بين العبد المتألم والمسيا الملك. وإن لم يكن ما يوجد فيما كتبه دانيال ما يدل علي ذلك، إلا أن استخدام الرب يسوع له يدل علي هذا الأمر.

ولكن لماذا فضل الرب يسوع استخدام لقب "إبن" الإنسان في أحاديثه عن نفسه التي كانت في الكثير من الأحيان ترد في صيغة الغائب مثل الآية التي أشرنا إليها سابقا؟

هذا ما يعرف بالسر المسياني، وهو عدم رغبة الرب في الإفصاح عن هويته المسيانية صراحة لليهود، لهذا استعمل الرب لقب "إبن الإنسان" بدلا مثلا من "إبن الله" أو "المسيا". يذكر قاموس "هاستنيجس للمسيح والأناجيل" أن لقب "مسيا" كان محاط بخلفية سياسية، إذ كان يعني أن المسيا قائد ومخلص سياسي. فقد كانت الصورة المسيانية الداودية هي التي كانت سائدة في الذهن اليهودي وقتها. لهذا أراد المسيح تجنب ذلك. وقد فهم التلاميذ "المسيانية" علي أنها كذلك. لذلك بمجرد اعتراف التلاميذ بأنه "المسيح" أخبرهم صراحة أنه ينبغي أن يتألم ويُرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة ويصلب ويموت ثم يقوم في اليوم الثالث. الأمر الذي جعل بطرس يبدي اعتراضه الشديد علي ما أخبره به المسيح بخصوص آلامه وموته، مما يدل علي أن التلاميذ لم يختلفوا عن باقي اليهود في توقعاتهم السياسية بخصوص شخص "المسيا". وإن كانت تلك التوقعات السياسية من "المسيا" صحيحة بإعتباره الملك، إلا أنه كان من المحتم أن تسبق تلك الأمجاد المسيانية آلاما وموتا، الأمر الذي لم يتوقعه ويقبله ليس فقط اليهود بل التلاميذ أيضا كما رأينا. وهذا ما وضحه الرب يسوع المسيح صراحة في حديثه مع تلميذا عمواس "أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلي مجده" (لو 24 : 26)، وأيضا من نفس الأصحاح "هذا هو مكتوب وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث".


لماذا لم يستخدم التلاميذ أو الرسل (بإستثناء اسطفانوس) هذا اللقب؟


في ضوء ما سبق نستطيع القول أن الغرض من الإستخدام الكثير للرب يسوع للقب "إبن الإنسان" بعد إتمام مهمته المسيانية من موت وقيامة وصعود والذي كان عدم الإفصاح عن حقيقته المسيانية من ثم ينأي بنفسه عن السياسة، قد انتهي. وبالتالي لم يكن الرسل أو الكنيسة في حاجة إلي استخدام هذا اللقب عن الرب يسوع المسيح. علي العكس فإن الكنسية في ذلك الوقت كانت في مسيس الحاجة إلي إظهار أمجاد المسيح وتميزه ولا سيما بعد صعوده وجلوسه عن يمين الله ومن ثم كان من اللائق استخدام الألقاب المسيانية التي تفي بتلك الأغراض.

بالإضافة إلي ذلك فإن نفس المصدر السابق (قاموس هاستنيجس) يذكر أن البعض يعتقدون بأن بولس وباقي كتبة الرسائل والرؤيا لم يعرفوا أن المسيح استخدم هذا اللقب، وأنه بعد وقتهم تم إدخاله إلي الأناجيل، وذلك لأنه لا توجد أية إشارات إلي ذلك في كتابات الرسل. إلا أن شمايدل يثبت أن العكس صحيح لأن كاتب العبرانيين أشار إلي ذلك في قوله "لكن شهد واحد في موضع قائلا: ما هو الإنسان حتي تذكره أو إبن الإنسان حتي تفتقده" (عب 2 : 6). كما أن بولس يستخدم مزمور (8) لأنه يشير إلي المسيح بإعتباره "إبن الإنسان" في قوله "لأنه أحضع كل شئ تحت قدميه. ولكن حينما يقول أن كل شئ قد أخضع فواضح أنه غير الذي أخضع له الكل" (1 كو 15 : 27). ويرد أيضا شمايدل علي الأعتراض بأنه لو كان بولس علي دراية بلقب "إبن الإنسان" لكان قد استخدمه في قوله "الإنسان الأول من الأرض ترابي. الإنسان الثاني الرب من السماء" (1 كو 15 : 47)، بأنه ينبغي أن نضع في اعتبارنا بأن بولس كان يكتب لليونانيين الذين لم يسمعوا من قبل لقب "إبن الإنسان"، وأن لن يعني لهم ما كان يعنيه لليهود "إنسان"، بل كانوا سيتعاملون مع لفظة "إبن" حرفيا. ونستطيع القول أيضا أنه فضلا عما يمكن أن يوحيه هذا اللقب من نسب بشري محض للرب يسوع المسيح إلي العقلية اليونانية، فإن استخدامه أيضا قد يفهم منه – لدي اليونانيين – عدم الاستحقاق وبالتالي يكون تشديدا لا داع له علي إنسانية الرب. بل كان من اللائق الحديث عن الرب بصورة يفهمها غير اليهود كما في القول "المسيح إبن الله" (يو 20 : 31). وكما يقول دالمان أن الكنيسة لها ما يبرر عدم ترويجها للقب "إبن الإنسان" نظرا لأن المسيح لم يعد مجرد "إنسان" بل كالرب المتسلط علي السماء والأرض. وخلاصة القول فإن عدم إستخدام الكنيسة لهذا اللقب هو بسبب إتساع حدود الكنيسة خارج الدائرة اليهودية، في الوقت نفسه تطلبت الأمانة من كتبة الوحي تسجيل كلام المسيح عن نفسه كما قاله هو في الأناجيل.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس