إرجعي يا نفسي إلي راحتك


اَلْمَزْمُورُُ الْمِئَةُ وَالسَّادِسُ عَشَرَ

أَحْبَبْتُ لأَنَّ الرَّبَّ يَسْمَعُ صَوْتِي، تَضَرُّعَاتِي. لأَنَّهُ أَمَالَ أُذْنَهُ إِلَيَّ فَأَدْعُوهُ مُدَّةَ حَيَاتِي. اكْتَنَفَتْنِي حِبَالُ الْمَوْتِ. أَصَابَتْنِي شَدَائِدُ الْهَاوِيَةِ. كَابَدْتُ ضِيقًا وَحُزْنًا. وَبِاسْمِ الرَّبِّ دَعَوْتُ: «آهِ يَا رَبُّ، نَجِّ نَفْسِي!». الرَّبُّ حَنَّانٌ وَصِدِّيقٌ، وَإِلهُنَا رَحِيمٌ. الرَّبُّ حَافِظُ الْبُسَطَاءِ. تَذَلَّلْتُ فَخَلَّصَنِي. ارْجِعِي يَا نَفْسِي إِلَى رَاحَتِكِ، لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَحْسَنَ إِلَيْكِ. لأَنَّكَ أَنْقَذْتَ نَفْسِي مِنَ الْمَوْتِ، وَعَيْنِي مِنَ الدَّمْعَةِ، وَرِجْلَيَّ مِنَ الزَّلَقِ. أَسْلُكُ قُدَّامَ الرَّبِّ فِي أَرْضِ الأَحْيَاءِ.10 آمَنْتُ لِذلِكَ تَكَلَّمْتُ: «أَنَا تَذَلَّلْتُ جِدًّا». 11 أَنَا قُلْتُ فِي حَيْرَتِي: «كُلُّ إِنْسَانٍ كَاذِبٌ». 12 مَاذَا أَرُدُّ لِلرَّبِّ مِنْ أَجْلِ كُلِّ حَسَنَاتِهِ لِي؟ 13 كَأْسَ الْخَلاَصِ أَتَنَاوَلُ، وَبِاسْمِ الرَّبِّ أَدْعُو. 14 أُوفِي نُذُورِي لِلرَّبِّ مُقَابِلَ كُلِّ شَعْبِهِ.15 عَزِيزٌ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ مَوْتُ أَتْقِيَائِهِ. 16 آهِ يَا رَبُّ، لأَنِّي عَبْدُكَ! أَنَا عَبْدُكَ ابْنُ أَمَتِكَ. حَلَلْتَ قُيُودِي. 17 فَلَكَ أَذْبَحُ ذَبِيحَةَ حَمْدٍ، وَبِاسْمِ الرَّبِّ أَدْعُو. 18 أُوفِي نُذُورِي لِلرَّبِّ مُقَابِلَ شَعْبِهِ، 19 فِي دِيَارِ بَيْتِ الرَّبِّ، فِي وَسَطِكِ يَا أُورُشَلِيمُ. هَلِّلُويَا.


لا نعلم علي وجه التحديد كاتب المزمور أوالمناسبة التي كُتب فيها. فهناك عدد ليس بقليل من المفسرين ينسب كتابة المزمور إلي وقت الرجوع من السبي خاصة وأننا نجد ذكر لأورشليم فيه. وهناك من الشراح من يري أن كاتب المزمور هو داود عندما نجا من إحدي المحاولات لقتله. بينما يقول تقليد عبري قديم أن كاتب المزمور هو حزقيا كرد فعل علي شفاء الرب له حيث أن لغة المزمور تتشابه في بعض عباراتها مع مزمور حزقيا الوارد في (إش 37 ، 38). وأيا كانت مناسبة الكتابة والكاتب، فإن المزمور – بإتفاق الجميع – هو تسبحة حمد للرب علي إحسانه له إذ يقول "لأن الرب قد أحسن إليك" (عدد 7). ولاشك أن عدم معرفتنا لكل من الكاتب وزمن الكتابة يزيد من المساحة التطبيقية للنص الذي نحن بصدد الحديث عنه. وسنركز حديثنا بنعمة الله علي قول المرنم "إرجعي يا نفسي إلي راحتك. لأن الرب قد أحسن إليك".

وهذا المزمور هو تسبحة حمد يقدم الكاتب فيها شكرا للرب الذي أنقذه من الضيق. وفي تسبيحه للرب يصف لنا إحسان الله معه. ومع كونه كذلك إلا أن المرنم هنا يصادف ما يمكن أن نسميه بأزمة ما بعد التجربة. فهو يدرك أن الضيقة قد انفرجت وأن الغمة انزاحت، ولكنه لا زال بلا راحة، فيناشد نفسه بالعودة إلي راحتها المفقودة مخاطبا إياها "إرجعي يا نفسي إلي راحتك". إذ يبدو أنه لم يكن من السهل العودة إلي سلام القلب الذي كان فيه قبل الخوض في تلك الضيقة كما سنري. ولكن كيف يمكن أن يكون ذلك؟ أليس من غير المنطقي أن يكون الرب قد أحسن إليه ويظل غير متمتع براحته القديمة هكذا؟ هذه هي الأزمة الجديدة التي يواجها المرنم بعد أن عبرت عنه ضيقته. إلا أن كلمات المرنم ترسم لنا أيضا ملامح طريق العودة إلي راحته. فكيف تصل إذا النفس إلي راحتها المنشودة تلك؟

قبل أن نسير معا في رحلة العودة تلك التي سار فيها المرنم صوب راحته المفقودة، فإن تلك الراحة المفقودة والمنشودة تذكرنا براحة الإنسان الأول التي فقدها في جنة عندن، وبسبب ذلك فإن الخليقة تئن وتتمخض معا إلي الآن. إنها الراحة الناتجة عن العلاقة مع الله والخضوع له، وهي أساس كل راحة أخري. ومع أن المرنم يدعوها راحته، إلا أنها في الأساس راحة الرب (عب 3 : 11)، لأنه مصدرها ومانحها (رؤ 7 :10). وهي قبل أن تكون حالة يصبو إليها المرنم، فهي مركزا ومقاما، بل وشخصا، يدعو نفسه للعودة إليه. فالراحة موجودة ولكنه هو الذي انفصل عنها، ومن ثم يحث نفسه علي الرجوع إليها. كما أن هذه الراحة مقام فردي معد له خصيصا، فيه كل الكفاية لنفسه المتعبة الكليلة.

والأصحاحات الأولي من سفر التكوين تخبرنا بأن التعب والألم والمرض والموت واللعنة هي كلها أمورا دخيلة علي الخليقة التي يقول عنها الكتاب المقدس بعد إتمامها في اليوم السادس "ورأي الله أن كل ما عمله فإذا هو حسن جدا". يقول الجامعة "أنظر. هذا وجدت فقط: أن الله صنع الإنسان مستقيما أما هم فطلبوا اختراعات كثيرة" (جا 7 : 29). والكلمة العبرية المترجمة "مستقيما" هي "يشر" ويمكن أن تعني أيضا "مسرا" أو "مبهجا". فالإنسان الأول في حالته التي خلق عليها كان مسرا للرب، كان في حالة من الراحة، وكان يبعث أيضا تلك الراحة أو المسرة إلي الله. ولم يكن من الممكن أن يسبب الإنسان الأول حالة المسرة إلي الله تلك لو لم يكن هو نفسه (الإنسان) مختبرها. ولسنا مخطئين إن قلنا أن الله ظل في حالة عدم الرضا تلك وعدم الإرتياح إلي أن جاء الرب يسوع المسيح الذي كان مطيعا وخاضعا لله ومرضيا له فكرا وقولا وسلوكا. ونتيجة لطاعته ومحبته المطلقة لله الآب سبب هذه المسرة له. إذ نراه يصرح مرتين بذلك، مرة عند المعمودية، ومرة أخري عند التجلي "هذا هو إبني الحبيب الذي به سررت".

ومسرة الله الآب بالمسيح ليست فقط بسبب سلوك المسيح بالبر أمامه، ولكن أيضا لأن المسيح أعاد الإنسان إلي حالة الراحة الأولي التي فقدها بسبب تمرده علي الرب ورغبته في الإستقلال عنه. والرب عمل ذلك عن طريق إتمام المصالحة مع الله "وأنتم الذين كنتم قبلا أجنبيين وأعداء في الفكر، في الأعمال الشريرة، قد صالحكم الآن في جسم بشريته بالموت، ليحضركم قديسين وبلا لوم ولا شكوي أمامه" (كو 1 : 21 – 22). من خلال هذه المصالحة مع الله نستعيد راحتنا الأولي التي فقدناها في آدم. وكما كان تمردنا الأول علي الله في آدم هو السبب في فقداننا لحالة الراحة الأولي، ينغبي أن يكون خضوعنا لآدم الأخير أوالإنسان الثاني الرب يسوع المسيح هو طريق استعادة تلك الراحة المنشودة. ولكي نخضع للمسيح علينا أن نأتي إليه من خلال الإيمان به معترفين بخطيتنا وتمردنا علي الله ثم واضعين ثقتنا فيه ليس فقط كمن سدد الدين عنا في الصليب بل أيضا كمن يعطينا بره الذي أرضي به الله أثناء حياته علي الأرض. وهكذا نعود إلي حالة الراحة الأولي التي أضعناها في آدم "إذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله برنا يسوع المسيح". فلترجع نفوسنا إلي راحتها الأولي في العلاقة مع الله لأنه أحسن إلينا في المسيح الذي صالحنا مع الله بموته.

وقد يحدث للنفس التي نالت المصالحة وعادت إلي راحتها المفقودة في جنة عدن أن تفقد التمتع براحتها أو حتي تتركها من تلقاء نفسها. فليس من الضروري أن نفقد راحتنا بسبب تجربة أو ضيقة ما تداهمنا، ولكن قد نتركها نحن من تلقاء أنفسنا. وسواء فقدنا راحتنا إثر ضيقة نجتازها أو سواء تركناها نحن من تلقاء أنفسنا، فنحن نواجه ضرورة ملحة للعودة إلي راحتنا التي فقدناها أو تركناها. وهذا يأخذنا إلي أولي ملامح طريق العودة إلي الراحة التي يحدثنا عنها المرنم هنا:

أولا طريق العودة إلي الراحة يبدأ بتصحيح الموقف الروحي:

لعل هذه الضيقة أو تلك التجربة التي سحقت المرنم سحقا سببت له نوعا من الجفاء الروحي تجاه الرب بسبب التذمر علي ما سمح الله به، أو لعل التجربة أفسدت الخطط والراحة التي رسمها لنفسه، كما حدث مع إبراهيم عندما غرس بستانا كتعبير عن سعادته وراحته فجاءته التجربة بغتة (تك 21 : 33 ، 22 : 1). ونستدل علي ذلك من خلال حديثه عن قدمه التي كادت تنزلق أو تعثر لولا حفظ الرب له "لأنك أنقذت نفسي من الموت وعيني من الدمعة ورجلي من الزلق"، وآساف أيضا كان له اختبارا مشابها "أما أنا فكادت تزل قدماي. لولا قليل لزلقت خطواتي" (مز 73 : 2)، فلم يكن ينعم بنفس الراحة التي كانت لأشرار، وسبب له هذا الأمر شكا وتذمرا ممتزجان بمشاعر الجفاء تجاه الرب حتي أن قدمه كادت تزل. ويبدو أن المرنم هنا قد حاول الإبتعاد عن الرب "راحته"، أو أن العدو قد حاول دفعه لليأس أو القنوط الروحي حتي تزل قدمه فيسقط ولا تقوم له قائمة. ألم يعلم الشيطان أيضا هذا الضعف الدفين في قلب الإنسان حتي قال للرب "ولكن إبسط يدك الآن ومس كل ما له فإن في وجهك يجدف عليك"؟ (أي 1 : 11). وما أسهل أن يسقط المؤمن في فخ التذمر والقنوط واليأس من مراحم الله فيؤخذ في تلك الحالة من الجفاء الروحي. إلا أن المرنم يدرك حاجته إلي تصحيح موقفه الروحي وضرورة العودة إلي حالة صفاء المشاعر الروحية تجاه الرب.

وقد أدرك المرنم أن موطن راحته لا في شئ ولا في شخص آخر سوي الرب نفسه، لهذا وردت لفظة "الرب" خمسة عشرة مرة في المزمور. كما أن الكلمة العبرية المترجمة في قول المرنم هنا "راحتك" هي "منوخ" وهي نفس الكلمة المترجمة "مقرا" في قول الكتاب عن الحمامة التي أرسلها نوح من الفلك ليعلم ما إذا كانت الأرض جفت أم لا "فلم تجد الحمامة مقرا لرجلها، فرجعت إليه إلي الفلك لأن مياها كانت علي وجه كل الأرض. فمد يده وأخذها وأدخلها عنده إلي الفلك" (تك 8 : 9). وإن لم تجد الحمامة مقرا لها خارج الفلك فهي بلا شك وجدته داخله، فالفلك هو مقر راحتها وموطنها. والمسيح فلكنا هو مقرنا ومكان راحتنا الذي ينبغي أن نعود إليه ونصلح موقفنا معه. ومهما صادفنا من ضيق أو تعب فلا ينبغي لنا أن نستسلم لأي حالة من الشك أو الجفاء الروحي تجاه الرب، وأن ندرك أن الرب وحده هو موطن راحتنا ومقرها. اللفظ العبري المترجم "ارجعي" هو "شوف" ويعني أيضا "التوبة". ولهذا فلا يمكن أن يتم تصحيح الموقف دون أن نقدم توبة للرب عن حالة الجفاء أو اللامبالاة أو التذمر أو الشك في صلاح الرب. إن البعض يستحقون توبيخ الرب يسوع المسيح "ولكن عندي عليك أنك تركت محبتك الأولي. فأذكر من أين سقطت وتب، وأعمل الأعمال الأولي، وإلا فإني آتيك عن قريب وأزحزح منارتك من مكانها إن لم تتب" (رؤ 2 : 4 – 5). فلنصحح مواقفنا الروحية مع الرب ولترجع نفوسنا إذا إلي محبتنا الأولي التي أحببناه بها يوم ذهابنا وراءه في البرية في أرض غير مزروعة.

ثانيا طريق العودة إلي الراحة لابد أن يتوقف عند صخرة الإتكال علي الرب

كان البشر جزء من تجربة المرنم وآلامه، بل ولعل التجربة برمتها جاءت بسببهم. يقول المرنم "قلت في حيرتي: كل إنسان كاذب"، وكلمة "حيرتي" في الأصل العبري تعني "فزعي"، فالمرنم كان في حالة فزع. ولكن ما الذي سبب له هذه الحالة؟ يخبرنا بالسبب في قوله "كل إنسان كاذب". البعض يقول أن قصد المرنم من قوله "كل إنسان كاذب" هو أنه تعرض لإفتراءات وإتهامات كاذبة، ولكننا لا نميل لهذا التفسير. والسبب في أننا لا نميل إلي هذا التفسير هو أن كلمة "كاذب" في الأصل العبري تعني أيضا "يخذل". ووردت هذه الكلمة بمعني "يخذل" في قوله "ويقودك الرب علي الدوام ويشبع في الجدوب نفسك وينشط عظامك فتصير كجنة ريا وكنبع مياه لا تنقطع مياهه" (إش 58 : 11) ولهذا فنحن نري أن أزمة المرنم هنا بسبب إحباطه من البشر، فعلي ما يبدو أنهم لم يفوا بوعودهم له إما بسبب كذبهم عليه أو إما بسبب أنهم حاولوا مساعدته ولكنهم لم يستطيعوا. ومن ثم فلكي يعود المرنم إلي راحته عليه أن يتوقف عن الإتكال علي البشر، ويتكل علي الرب الذي لا تخيب ولا تكذب وعوده بالخلاص. ألم يخذل ساقي مصر يوسف حينما طلب منه أن يذكره عند فرعون متي صار له خير؟ (تك 40) ألم يقل أيوب أيضا "أقاربي قد خذلوني والذين عرفوني نسوني"؟ (أي 19 : 14). ألم يتكل شعب إسرائيل علي قصبة مصر المرضوضة خوفا من ملك أشور فخزلتهم؟ (2 مل 18 : 21 ، 2 مل 17 : 4 – 6) لعل سبب المتاعب التي تثقل كواهلنا الآن هو أننا وضعنا ثقتنا في أنفسنا أو في بشر أو في أشياء بدلا من أن نضعها في الرب؟ لهذا إن أردنا أن نرجع إلي راحتنا علينا أن نعود أدراجنا إلي المسير قدام الرب في أرض الأحياء بإرضاءه بالثقة فيه.

وما أكثر الامور التي يمكنها أن تسلب راحتنا وسلامنا! فراق حبيب؟ مرض عضال؟ احتياج غير مسدد؟ قلق علي الأبناء؟ خسارة مادية؟ ظلم في العمل؟ بشر عنفاء؟ كلمة جارحة؟ اهانة؟ بل ما أكثر الراحات التي يقدمها لنا الرب، فالكلمة "راحتك" وردت في الأصل العبري "راحاتك" أي راحات كثيرة. وهي كثيرة في إمتدادها إذ أنها تشمل الماضي والحاضر والمستقبل. فالمرنم مستعد أن يدعو الرب "مدة حياته" (عدد 2)، لأنه أمال أذنه إليه وأراحه. وكثيرة في تنوعها، فأيا كانت الضيقة مادية أو نفسية أو روحية فإن قدرته الإلهية قد وهبت لنا كل ما هو للحياة والتقوي. فالمرنم يحدثنا عن الراحة الشاملة التي وجدها في الرب، فقد "أنقذ نفسه من الموت وعينه من الدمعه ورجله من الزلق" (عدد 8). وهي كثيرة أيضا في شدتها، فمهما كانت ضراوة الضيقة وشراستها فإن راحات الرب لنا أقوي من أي ضيق. فإن كانت الضيقة ضارية فإن الرب "حنان وصديق ورحيم" (عدد 5). فلترجع نفوسنا إذا إلي راحة إتكالها علي الرب.

ثالثا طريق العودة إلي الراحة لابد وأن يتوقف بمقادس الإختلاء بالرب

إن التجربة تجعلنا نميل للإنشغال بآلامنا وإحباطنا وننصرف عن الحديث للرب والإختلاء به. والمرنم في ضيقته التي سببت له تلك الحالة من "الفزع" كان يتحدث إلي نفسه "قلت في حيرتي: كل إنسان كاذب". ولكن عندما يتحول المرنم للحديث إلي الرب نجده يرتقي في الكلام "آمنت لذلك تكلمت"، فعندما عاد إلي راحته في الإختلاء بالرب تغيرت لهجته. والفعل العبري "شوف" والمترجم "إرجعي" يعني أيضا "اختلاء" أو "إنسحاب". وهذا أيضا ما فعله آساف في أزمته الروحية، فلم يكن يري سوي تعبه وراحة الأشرار، ولكن عندما دخل إلي مقادس العلي استنارت عينه إلي الصورة الحقيقية، وبدأ في الحديث إلي الرب من جديد (مز 73).

يخبرنا المرنم في مستهل مزموره هنا أنه أحب الرب لأنه يسمع صوته وتضرعاته. وفي الآية التالية يصرح لنا عن عزمه أنه سيدعو الرب مدة حياته لأن الرب أمال أذنه إليه. ثم نقرأ أكثر من مرة صلاته إلي الرب مباشرة مثل "وبإسم الرب دعوت: آه يا رب نج نفسي" (عدد 4). وبعد أن يناجي نفسه في الأعداد الثلاثة اللاحقة نراه يتوقف مرة أخري ليكلم الرب "لأنك أنقذت نفسي من الموت وعيني من الدمعة ورجلي من الزلق" (عدد 8). ثم يعيد الكرة مرة أخري فنجده يناجي نفسه التي أحسن الرب إليها فأنقذها من الموت في الأعداد السبعة التالية لذلك. ثم يتوقف أيضا مرة أخيرة ليحدث الرب "آه يا رب لأني عبدك. أنا عبدك إبن أمتك. حللت قيودي. فلك أذبح ذبيحة حمد وبإسم الرب أدعو" (عدد 16 ، 17).

والرب يسوع المسيح أيضا في أيام جسده فعل نفس الشئ مع تلاميذه بعد الضيقة التي تعرضوا لها إثر إعدام يوحنا المعمدان، وبسبب عناء الخدمة ومشقتها أيضا. قال لهم الرب "تعالوا أنتم منفردين إلي موضع خلاء واستريحوا قليلا". ولاشك أن في هذا الإختلاء استراحت نفوسهم بالحديث إلي الرب وبالإستماع إليه والتطلع إلي محياه الطاهر الملكي. كما أننا نتوقع أن يكون الرب قد طمئن نفوسهم التي بلا شك إضطربت بسبب موت المعمدان. ألا يليق بنا نحن أيضا أن نرجع إلي الرب ونستريح عند قدميه في خلوتنا اليومية لديه؟ فلترجع إذا نفوسنا المضطربة إلي راحتها اليومية في الرب لأنه أحسن إلينا بإستماعه صلاتنا.

رابعا طريق العودة إلي الراحة لابد وأن يمر بمرتفعات الفهم الروحي

كما رأينا فإن المرنم كان في حالة من الفزع "قلت في فزعي: كل إنسان كاذب". فالتجربة تثير في أذهاننا الشكوك والمخاوف والأسئلة، فتجعلنا نصطدم بالكثير من الأمور التي لا نفهمها. الفعل العبري "شوف" والمترجم "ارجعي" يعني أيضا "يردد" الشئ في قلبه و"يرجعه إليه". مثل قول موسي "فإعلم اليوم وردد في قلبك أن الرب هو الإله في السماء من فوق وعلي الأرض من أسفل ليس سواه" (تث 4 : 39). وقد جاءت كلمة "ردد" في الكثير من الترجمات الإنجليزية لتعني "يعتبر الشئ ويتأمله في قلبه". وتُرجمت أيضا في إحدي الترجمات الإنجليزية لتعني "أرْجِعْهَا إلي قلبك". وقد أخذ المرنم يردد شيئين إلي قلبه، الأول هو إختباره لإحسانات الرب وإنقاذه له من الضيق (عدد 1 – 6)، والثاني: هو التأمل في شخص الله المبارك (عدد 5 ، 6). فالعودة (الترديد) بقلبه كل حين إلي تعاملات الله وصفاته المباركة والتأمل فيهم هو الطريق إلي الراحة لدي المرنم. فنفسه المضطربة التي خرجت لتوها من التجربة كانت تتوق لفهم الأمور العويصة التي أربكتها. وفي وسط هذه كلها لم يجد المرنم راحة سوي في التأمل في تعاملات الله معه، بل وفي صفاته المعلنة في كلمته، ثم ربط الإثنين ببعض.

يقول متي هنري تعليقا علي وصية موسي للشعب بأن يرددوا في قلوبهم أن الرب هو الإله في السماء من فوق وعلي الأرض من أسفل الآتي: "هناك الكثير من الأشياء التي نعرفها، ولكنها ليست الأفضل، لأننا لا نتأملها، ولا نطبقها علي أنفسنا، ولا نستخلص منها الإستدلالات الصحيحة". والمزامير مليئة بصلوات رجال الله التي تحوي تأملاتهم في تعاملات الله معهم عل مدي الأيام. كما أن كلمة الله كانت هي أيضا موضوع تأملهم الدائم. وهل يوجد شئ نتأمله ونردده في قلوبنا أفضل من كلمة الله؟ يقول المرنم أيضا "كم أحببت شريعتك اليوم كله هي لهجي" (مز 119 : 97). وهل من الممكن أن يحب المرنم شريعة الرب لو لم يكن يجد راحته فيها؟ فلنُرْجِع إلي قلوبنا إذا هذه الحقائق المباركة ، مرارا وتكرارا، ونمضغها مضغا وتكتر عليها، لأن فيها راحتنا وشبعنا.

أخيرا فإن طريق العودة إلي الراحة لابد وأن يصل إلي وادي الخضوع للرب

سحقت التجربة نفس المرنم، إذ يقول "تذللت فخلصني". فاللفظ العبري "تذلل" هو "دلل" ويعني أن يتدلي الشئ بسبب ذبوله وضعفه. يقول المرنم أن الرب "حافظ البسطاء"، ويقصد بالبسطاء هنا بساطة الأطفال، من يتكلون علي الرب دون مسوغات أو مبررات، من يخضعون له ويسيرون معه في الضيق والرحب. كما أن لفظة "شوف" العبرية والتي تعني "إرجعي" هي التي استخدمها الملاك في حديثه مع هاجر بعد أن هربت من وجه سيدتها ساراي " فقال لها ملاك الرب ارجعي الى مولاتك واخضعي تحت يديها" (تك 16 : 9). فالرجوع هنا لابد وأن يكون مقترنا بالخضوع، فلا معني أن نرجع إلي الرب دون أن نُخْضِع نفوسنا له.

والرب يسوع المسيح قدم دعوة للراحة لليهود قديما "تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" ولكن هل يوجد شرط لذلك؟ يقول الرب أن شرط الحصول علي الراحة هو أن نحمل نيره ونتعلم منه التواضع "احملوا نيري عليكم وتعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم لأني نيري هين وحملي خفيف" (مت 11). فليس فقط أن نحمل نير ناموسه الأخلاقي بل وأن نتعلم منه الخضوع أيضا، كا تعلم هو الطاعة مما تألم به.

وأخيرا فإن لدينا في رجوع أنفسنا إلي راحتها مشجعا عظيما ألا وهو أن الرب أحسن إلينا. لقد أحسن الرب إلي المرنم مخلصا فخلصه من الموت، وأحسن إليه حافظا فحفظه من الضيقة، وأحسن إليه سامعا للصلاة فكان يميل إذنه إليه كما يميلها الأب لصغيره، وأحسن إليه في كونه حنانا وصديقا ورحيما. أليس من الغريب إذا بعد كل هذا أن تتواني النفس في الرجوع إلي راحتها؟ أليس من غير المنطقي إذا للنفس وهي لها كل تلك الإحسانات أن تظل تتغذي علي خرنوبها تاركة راحة الرب؟ ارجعي يا نفسي إلي راحتك لأن الرب أحسن إليك.


تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس