إجابات علي كتاب "أسئلة في العهد القديم" (17) - خاتمة


إجابة 17:
إنكار تاريخية آدم يؤدي لاهوتيا ومنطقيا إلى هرطقة بيلاجيوس


يقول د. أ. الآتي:

"كلنا يعرف أن الإبن الضال ليس شخصية تاريخية وإنما شخصية روائية في المثل القصصي الذي ألفه يسوع والذي يورده لوقا البشير في إنجيله. السبب في احتفاء الأجيال بهذه الشخصية يكمن في أنها، وإن لم تكن شخصية تاريخية، إلا أنها شخصية حقيقية تمثلنا كلنا. أتصور أن نفس الشئ يمكن أن يقال عن آدم. من الواضح من دراسة الأسلوب الأدبي لقصة الخلق والسقوط أنها تنتمي للقصص الرمزي (كما تنتمي قصة الإبن الضال إلى الأمثال القصصية) .." (ص 58 – 59).

وفي الصفحة السابقة لذلك يقول د. أ. :

"بعد خلق السموات والأرض، يفرد سفر التكوين الأصحاحين الثاني والثالث للتركيز على قصة آدم وحواء. ويستمر بنفس الأسلوب الأدبي الرمزي، فنقرأ عن خلق آدم عن طريق أن الله قد جبله من تراب (وهذا نفس ما تقوله الأسطورة البابلية) ثم نفخ في أنفه نسمة حياة" (ص 58).

الفرق بين المثل والأسطورة

يستعمل د. أ. هنا مغالطة منطقية تسمي بتغيير الموضوع. فبعد أن يحاول مرارا وتكرارا عبثا إثبات أن أحداث الخلق أسطورية، يقوم بمشابهتها بأمثال المسيح، ولا سيما مثل الإبن الضال. وهنا يتغير موضوع الحديث، من الأسطورة إلى المثل. وهناك فرق كبير بين الإثنين كما سنرى. فالدكتور أوسم يبدأ حديثه بالقول أن أحداث الخلق مستوحاة من الأساطير (أ)، ثم ينتقل من الحديث عن الأساطير إلى الأمثال (ب)، ثم يترك الفكرتين السابقتين ويجعل أحداث الخلق والسقوط كمثل الإبن الضال (ج). 

والأوصاف التي يتسخدمها د. أ. متنوعه لدرجة أن آدم ممكن أن يكون شخصية رمزية، وأسطورية، وروائية، وحقيقية، ولاهوتية، في آن معا (طبعا أي شئ دون أن تكون تاريخية). الغريب أنه يقول "من الواضح .. أسلوب .. قصة الخلق والسقوط .. قَصَصَ رمزي". فالموضوع واضح لديه دون أي درجة من الشك أو الغموض! إن كان أسلوب القصص الرمزي الذي كُتِبَتْ به أحداث الخلق والسقوط واضح لـ د. أ.، فعكسه كان واضحا للدكتور جميز بار، أستاذ ورئيس قسم تفسير العهد القديم واللغة العبرية بجامعة أوكسفورد (وذلك على الرغم من كونه ليبراليا لا يؤمن بوحي سفر التكوين). يقول جيمز بار: "غالبا، وفي حدود ما أعلم، لا يوجد أستاذ للعبرية أو العهد القديم في أي جامعة عالمية، لا يؤمن أن كاتب (كتبة) سفر التكوين الأصحاحات (1 – 11) قصد أن يوصل لقارئه المعاني التإلىة: 1- أن الخليقة حدثت في ستة أيام متعاقبة كتلك الأيام التي تتألف من أربعة وعشرين ساعة التي نختبرها الآن. 2- الأرقام المذكورة في سلاسل نسب سفر التكوين أمدتنا، بالجمع البسيط، بتاريخا من بداية العالم إلى مراحل لاحقة في الرواية الكتابية. 3- طوفان نوح يُفهم على أنه طوفانا عالميا وأهلك كل البشر والحيوانات إلا تلك التي كانت في الفلك". (ذكرنا هذا القول لجيمز بار سابقا، لكن لا مانع من تكراره هنا للضرورة، راجع إجابة 8).

عندما يتكلم العهد الجديد عن الأمثال يذكر صراحة "فكلمهم بهذا المثل قائلا" أو يبدأ المثل بكلمة "يُشبه" (مت 7 : 26 ، 11 : 16) وقد وردت كلمة "يُشْبه" في الأصحاح الثالث عشر فقط من إنجيل متى سبع مرات. الأمر الذي لا نجده أبدا في الأساطير، لأن الأساطير تدعي أنها تاريخا حقيقيا، وبالتإلى لن تستعمل أية ألفاظ أو كلمات للدلالة على القياس أو التشبيه كما هو الحال في استعمال الأمثال.

ثم أن الأمثال لا يُذكر بها أسماء، بل يقول "إنسان" (مت 13 : 24) ، أو "إنسانان"  (لو 18 : 20) أو "رجل رب بيت" (مت 13 : 52 ، 20 : 1 ، 21 : 33)، أو "خمسة عذارى". على عكس أحداث الخلق والسقوط التي يرد بها أكثر من إسم: ثلاثة أسماء لله: "يهوه" و"إيلوهيم" و"يهوه – إيلوهيم"، ثم إسمي "آدم" و"حواء"، وأسماء الأنهار الأربعة. وهذا أيضا على خلاف الأساطير التي يذكر بها أسماء كثيرة وصعبة كالأسماء الواردة في الأساطير البابلية واليونانية والمصرية.

كما أن أمثال العهد القديم كُتِبَتْ بأسلوب شعري، في أدب الحكمة، مثل أمثال سليمان. بينما أتت أمثال العهد الجديد بأسلوب روائي. أما عن سفر التكوين فأسلوبه أسلوبا تاريخيا. المتخصصون في اللغة العبرية يقولون أن الأصحاحات الإحدى عشر الأولى لها نفس البناء اللغوي لباقي الأسفار التاريخية. حيث نجد "واو التسلسل الزمني" التي تستخدم في بناء الرواية التاريخية. الفعل الأول يكون في زمن الماضي التام، ثم تأتي بعده واو التسلسل الزمني، أما الفعل (أو الأفعال التي تلي ذلك) فترد في صيغة الماضي الغير تام، وتستمر الرواية التاريخية بـ واو التسلسل والماضي الغير تام. تطبيقا لذلك في (تك 1 : 1) الفعل الأول "خلق" في العبرية bara يرد في صيغة الماضي التام، ثم تأت واو التسلسل الزماني لتربط الحدث الأول في الرواية بباقي الأحداث "و.."، ثم يرد الفعل التالي في الماضي الغير تام ليأخذ الرواية التاريخية قدما "وقال الله .." ، "وكان .."، "ورأي الله ..".

تقول الموسوعة البريطانية أن "الأسطورة" عادة ما تكون قصة عن حيوانات مُشَخْصَنَة لها شخصية وسلوك مثل الإنسان. وقد تمتد هذه الشخصنة إلى الأشياء الغير عاقلة مثل الريح والأشجار والينابيع. وإذ تعتمد الأسطورة على شخصنة الحيوانات أو اعطاء الروح للجماد، فإن المثل يلجأ إلى استخدام البشر بإعتبارهم اللاعبون الرئيسيون. والأمثال لا تركز على القصة بقدر ما تركز على القياس المؤسس على مقارنة سلوكيات إنسانية كمثل السامري الصالح. والموسوعة البريطانية هي التي ذكرت "السامري الصالح" على أنه مثل وليس كاتب هذه السطور. [1]

وعن طبيعة الأمثال نفسها، كما يقول قاموس سترونج، فقد كانت صور من الحياة الطبيعية اليومية المعاشة مثل الزارع الذي خرج ليزرع، وحبة الخردل التي هي أصغر البذور ولكنها إذا نمت تصير من أكبر الأشجار، والخميرة التي خبأتها امرأة في أكيال دقيق، والعثور على الكنز في الحقل، والتاجر الذي يطلب لآلئ حسنة، وصاحب الكرم الذي خرج ليستأجر فعلة لكرمه، والحنطة والزوان، والخراف والجداء، والشبكة الجامعة لأنواع سمك كثيرة، والعبد القاس (مت 13)، أنظر أيضا أمثال العهد القديم (2 صم 12 : 1 – 4 ، اش 5 : 1 – 6 ، 28 : 24 – 28). أما الأساطير والخرافات فهي أحداث خيالية محضة وملفقة لا يمكنها أن تكون حدثت بالفعل، كأسطورة يوثام "مرة ذهبت الأشجار لتمسح عليها ملكا .." (قض 9). ومثل الرسالة التي أرسلها يوآش ملك إسرائيل إلى أمصيا ملك يهوذا "العوسج الذي في لبنان أرسل إلى الأرز الذي في لبنان: يقول أعط إبنك لإبنتي امرأة. فعبر حيوان بري كان في لبنان وداس العوسج" (2 مل 14 : 9). وإذا كانت أحداث الخلق في التكوين مستوحاة من الأساطير البابلية، فأين هنا إذا وجه الشبه؟ كيف يتشابه الطبيعي الذي يحدث بإستمرار مع الأسطوري الخيالي والغير متكرر؟ ألا تكونان فرضيتا الإنفجار الكبير والتطور بذلك هي الأساطير لأنها أحداث خيالية وغير متكررة وتدعي أنها تاريخا حقيقيا؟ ولماذا الخلط بين المثل والأسطورة والرمز والرواية؟

كما أن غرض كل من الأمثال (في العهد الجديد) والأساطير مختلف. الأمثال كانت سلاح ذو حدين، لدينونة من لهم آذان ولكنهم لا يريدون أن يسمعوا، ولبركة من أعطي لهم أن يعرفوا أسرار ملكوت السموات. كما يقول قاموس Fausset  أنها للتمييز بين المُخْلِص والغير مبال. ويذكر متى هنري أيضا أن اللغة الرمزية للرب يسوع تشبه عمود السحاب والنار الذي كان ينير لإسرائيل من ناحية، ومن ناحية أخرى كان يربك المصريين ويزعجهم في نفس الوقت. يقول الكتاب المقدس: "فتقدم التلاميذ وقالوا له لماذا تكلمهم بأمثال؟ فأجاب وقال لهم لأنه قد أعطي لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السموات، وأما لأولئك فلم يعط. فإن من له سيعط ويزداد، وأما من ليس له فالذي عنده سيؤخذ منه. من أجل هذا أكلمهم بأمثال، لأنهم مبصرين لا يبصرون، وسامعين لا يسمعون ولا يفهمون" (مت 13 : 10 – 13)، أيضا "بأمثال كثيرة مثل هذه كان يكلمهم حسبما كانوا يستطيعون أن يسمعوا، وبدون مثل لم يكن يكلمهم. وأما على انفراد فكان يفسر لتلاميذه كل شئ" (مر 4 : 33 ، 34). وعندما بدأ الرب يسوع المسيح خدمته كمعلم كان يعلمهم ببساطة شديدة مثلما نجد في عظته على الجبل، ولكن الأمثال بحسب بعض القواميس والموسوعات الكتابية، ظهرت لاحقا في النصف الثاني من خدمة الرب يسوع المسيح كدينونة على رفض اليهود له. أما الغرض من الأساطير فهو تقديم تاريخ (يدعون أنه حقيقي) لأحداث تمت في الماضي لم يرها أحد من القدماء، وليس لتقديم عبر أو حكم أو تحريضات كما هو الغرض من الأمثال.

وأخير فإن البناء الأدبي لسفر التكوين يدل على أنه تاريخ. يقول الكتاب المقدس عن أحداث الخلق: "هذه مبادئ السماوات والأرض حين خلقت" (تك 2 : 4) لفظة "مبادئ" العبرية هي "توليدوت". الـ ”توليدوت“  ذُكِرت 13 مرة في سفر التكوين، وتُرجمت "مواليد" (12 مرة) في نسخة فانديك العربية، ومرة "مبادئ" في (تك 2 : 4). الكلمة من مصدر الفعل العبري "يَلَدْ"، ويمكن ترجمتها إلى "مواليد – أجيال – تاريخ – ما يَتْبَعْ". في الترجمة السبعينية تُرْجِمَت التوليدوت في (تك 2 : 4) إلى "جينيسوس" γενέσεως والتي تعني "أصل – بداية". وجاءت في بعض الترجمات الإنجليزية: "هذا هو تأريخ بدايات السماوات والأرض". وقد جاءت التوليدوت 10 مرات في سلاسل الأنساب لِتُشِكّل مقدمة لعشر أقسام لسفر التكوين. وبناء عليه، فكاتب سفر التكوين قصد أن يكتب لنا تاريخا لأحداث حقيقية حدثت بالفعل لأشخاص حقيقيون وليس كمثل نأخذ منه عبرة.

هل استعمل بولس آدم بإعتباره شخصية أسطورية؟

يعود هنا د. أ. في الحديث عن آدم مرة أخرى ولكن بإعبتاره أسطورة وليس مَثَل. يقول د.أ. "واستمر بولس في العهد الجديد على نفس الخط اللاهوتي الذي استخدمه سفر التكوين، فهو أيضا ابن عصره وابن طرق التفسير والفهم والإقتباس .. وعندما يقول بولس الرسول أنه بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت، هذا الكلام ليس بالضرورة حقيقي تاريخيا، بل هو حقيقي لاهوتيا" (ص 60).

يقول معجم المعاني الإلكتروني في تعريف معنى "حقيقي": واقعي وموجود بالفعل"، وأيضا "صادق، خلاف خيالي". أي أن الحقيقي عكسه الخيالي. ويُعَرِّف قاموس ميريام وبستر الإلتكروني معنى "حقيقي" True بأنه "المتوافق مع الحالة الواقعية للأمور". وتقول موسوعة روتدلج الفلسفية في تعريفها لـ "نظرية التطابق للحق" بالآتي: "الحق هو مطابقة للحقائق"، أو أن "الحق يكون في موافقة مع الواقع". ويُعَرِّف قاموس بلاك القانوني أيضا "الحق" بأنه "تقرير دقيق جدا عن الأحداث، الواقعية". والموقع الإلكتروني لنفس القاموس (الطبعة الثانية) بدوره يضيف: "وبهذا المعنى، تكون العبارة غير حقيقية إذا لم تكن تُعَبِّر عن الأشياء بالضبط".  وفي ضوء هذه التعريفات، كيف يمكن أن تكون عبارة بولس أنه "بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم .." حقيقية دون أن تكون مطابقة للواقع، وموجودة بالفعل، وتعبر عن الأشياء بالضبط وغير خيالية؟ إذا كان إدعاء بولس، أنه كان هناك إنسان واحد، وبهذا الإنسان الواحد دخلت الخطية إلى العالم، إدعاءا حقيقيا، فلابد أن يكون مطابقا لحالة واقعية. ولكي يكون مطابقا لحالة واقعية لابد أن يكون هناك فعلا "إنسان واحد دخلت به الخطية إلى العالم"، وإلا لكان إدعاء بولس خيالي وغير حقيقي. فبولس يصف ذلك الإنسان الذي دخلت به الخطية إلى العالم بأنه "واحد" ثمانية مرات في ذلك الأصحاح فقط من رومية (5). فإذا كان ادعاء بولس ثمانية مرات في هذا الأصحاح بأن الخطية دخلت إلى العالم بواسطة ذلك "الواحد"، وأن هذا الواحد ليس له وجود تاريخي، فكيف يكون "حقيقي"؟ ولو كان د. أ. قد قال بأن بولس يرى آدم كشخصية تاريخية إلا أن بولس مخطئا في تصوره ذلك، لكان كلام د. أ. حينها أكثر قبولا من قوله أن بولس كان ابن عصره وأنه رأى آدم علي أنه شخصية رمزية. ولكنه يلوي عنق النصوص الكتابية مقحما نظرته الطبعانية الوثنية عليها.

على فرض أن الرسل كانوا يقدمون الأحداث الواردة في الأصحاحات الإحدى عشر الأولى من سفر التكوين على أنها مقتبسة من الأساطير البابلية (فبولس على حد تعبير د. أ. كان إبن عصره سار في نفس خط سفر التكوين)، إذا فالإنجيل به جزءا أسطوريا خرافيا، وهو الجزء المتعلق بالخطية الأصلية. وهذا الجزء ليس عنصرا هامشيا بل رئيسيا في الإنجيل المسيحي. فبولس يؤسس عمل المسيح (أي طاعته وكفارته) كرأس ونائب لنا على عمل آدم (أي عصيانه وتمرده) كرأس ونائب لنا (رو 5). فالمسيح، الذي هو الإنسان الثاني السماوي وآدم الأخير، جاء لكي يزيل ويمحو آثار الإنسان الأول آدم الترابي. وإن لم يكن واقع الأمور هكذا، فإن الرسل يصبحون مخادعين، وذلك لأن بطرس ينفي وجود أي عنصر خرافي أو أسطوري في كل ما علم به "لأننا لم نتبع خرافات مُصَنَّعَة إذ عرفناكم بقوة ربنا يسوع المسيح ومجيئه، بل قد كنا معاينين عظمته". ثم يخبرنا بطرس بعد ذلك عن شئ أثبت من الخرافات ألا وهي الكلمة النبوية "وعندنا الكلمة النبوية وهي أثبت، التي تفعلون حسنا إن انتبهتم إليها، كما إلى سراج منير في موضع مظلم، إلى أن ينفجر النهار ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم" (2 بط 16 : 19). إذا بطرس هنا ينفي العلاقة بين الخرافات وبين الكلمة النبوية، وينفي أيضا وجود أي عنصر خرافي أو أسطوري بها. لهذا يدافع بطرس بحماس عن خلق الأرض من الماء، وعن طوفان نوح كحدثان تاريخيان وحقيقيان: "لأن هذا يخفي عليهم بإرادتهم: أن السموات كانت منذ القديم والأرض بكلمة الله قائمة من الماء وبالماء، اللواتي بهن العالم الكائن حينئذ فاض عليه الماء فهلك" (2 بط 3 : 5 – 6)، وهي نفس الأمور التي ينكر د. أ. تاريخيتها ويقول أنها أسطورية.

وبولس الرسول أيضا حارب بشدة الخرافات، ففي أكثر من مناسبة يحذر تلميذيه تيطس وتيموثاوس من الإنحراف إلى الخرافات "لأنه سيكون وقت لا يحتملون فيه التعليم الصحيح، بل حسب شهواتهم الخاصة يجمعون لهم معلمين مستحكة مسامعهم، فيصرفون مسامعهم عن الحق، وينحرفون إلى الخرافات" (2 تي 4 : 1)، راجع (1 تي 1 : 4 ، 7 ، تي 1 : 14). ولا يوجد شئ خرافي وأسطوري في يومنا هذا يصرف مسامع الناس عن الحق أكثر من فرضيتا الإنفجار الكبير والتطور، اللتان تفترضان أن هذا الكون الفسيح جدا جدا، ذو بلايين المجرات، جاء بالصدفة المحضة من ذرة متناهية الصغر، وأن الحياة نشئت في الوحل من اللاحياة، ثم أخذت في التعقيد الشديد جدا جدا إلى أن صعدت إلى اليابسة وتسلقت الأشجار وطارت في السماء، وأن العقل جاء من المادة الغير عاقلة، وأن الإحساس جاء من الطبيعة المجردة منه، وأن القصدية جاءت من الصدفة المحضة التي حدث بها كل من الإنفجار العظيم والتحولات الجينية، وأن النظام الطبيعي جاء من العشوائية. إن النظام العقيدي الدارويني يفترض أن العقل نشأ من المادة، وهذا عكس ما يعلمه سفر التكوين بأن عقل الله (كلمته، اللوجوس) هو الذي خلق المادة والنظام والعقل البشري. الغريب أن د. أ. يحاول تزويج العقيدة التطورية الوثنية مع المنظور الكتابي المسيحي المضاد لها.

وإذا كان بولس يحذر من الخرافات ثم يستخدمها في قوله "ولكني أخاف أنه كما خدعت الحية حواء بمكرها، هكذا تفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح" (2 كو 11 : 3) فإن هذا من شأنه أن يلقي بالظلال والشكوك حول مصداقية بولس الرسول. إذ كيف يحارب الخرافات ثم يستخدمها في وعظه وكتاباته هكذا دون أن يشير ولو من بعيد إلى وجود عنصرا أسطوريا بها؟ وكيف يمكن أن يستعمل حوادث خرافية أسطورية غير تاريخية في التحريض على السلوك بالقداسة والطاعة؟ ألسنا نتعلم الدروس من التاريخ وليس من الأساطير؟ ألم يقل الفيلسوف العلماني جورج سانتايانا أن الذين لا يتذكرون الماضي محكوم عليهم بتكراره؟

ومن الجدير بالملاحظة أن الكلمة اليونانية التي أشرنا إليها في الآيات السابقة في العهد الجديد والمترجمة "خرافات" هي μῦθος والتي تنطق muthos جاءت منها الكلمة الإنجليزية myth والتي تعني "خرافة" أو "أسطورة". خمسة مرات تأتي هذه اللفظة في كتابات الرسل للتأكيد على أن كل من العهد القديم والبشارة المسيحية خاليان تماما من أي عنصر خرافي أو أسطوري بهما. فالرسل استعملوا الأمثال مرات قليلة جدا لكنهم لم يلجأوا أبدا للخرافات أو الأساطير، بل حاربوها بكل ما أوتيوا من قوة.

بل على العكس مما إدعاه د. أ.، فإن الداروينية نفسها، التي يَعْتَبِرها هو حقيقة علمية بينما يعتبر سفر التكوين مستوحى من الأساطير البابلية، ليست سوى أسطورة أو خرافة  شبه علمية. يقول الكاتب الصحفي وأستاذ تاريخ العلوم المتشكك ومؤسس مجلة المتشككون مايكل شيرمر:

أولاً، إن الكوزمولوجيا [علم الكونيات المَعْنِي بالبحث في أصل الكون ونشأته] ونظرية التطور تطرحان الأسئلة الأساسية المتعلقة بالأصول [أصل الكون والحياة والمخلوقات]، تلك الأسئلة التي كانت تنتمي تقليديا إلى الدين واللاهوت. وتُقَدِّم العَلْمَوِيَّة [الثقة المبالغ فيها في العلم] بجرأة إجابات طبعانية [الإعتقاد بأن الطبيعة هي كل ما يوجد] لتحل محل الإجابات الفائقة للطبيعة، وأثناء هذه العملية تُقَدِّم [العلموية] الدعم الروحي لأولئك الذين لا تُلَبِّي هذه التقإلىد الثقافية القديمة احتىاجاتهم. ثانياً، نحن في الأساس، نوع من أنواع الرئيسيات [رتبة من طائفة الثدييات] ذات الهرمية الإجتماعية. نُظْهِر احترامًا لزعمائنا، ونحترم شيوخنا ونتبع إملاءات سحرة الدين، وبما أننا نعيش في عصر العلم، فإن سحرة دين العلموية هم الذين يأمروننا بالتبجيل اللازم. ثالثًا، نظرًا [لأننا نوع من الرئيسيات لديه] اللغة، فنحن أيضا رئيسيات رُوَاة قصص، صُنَّاع أساطير، ولنا العَلْمَوِيَّة كالطبقة الأساسية لأسطورتنا، والعلماء كَصُنَّاع أساطير رائدون في عصرنا. [2]

(انتهي كلام مايكل شيرمر، ولكن ينبغي التوضيح هنا أنه يقصد بـ "سحرة الدين" علماء داروينيين بعينهم: كارل سيجان، إِ. و. ويلسون، ستيفن جاي جولد، ريتشارد داكينز، ستيفنز هوكنيجز، وجأرىد داياموند).

ليس فقط أن التطور والإنفجار الكبير أسطورتان، بل إن المنهج العلمي العقلاني والموضوعي تماما، هو أسطورة أخرى. إذ يرى عالم الجيولوجيا الدارويني بجامعة هارفارد ستيفن جاي جولد:

"تتأثر طُرُقْ تَعَلُّمْنَا بالأفكار الإجتماعية المُسْبَقَة وأنماط التفكير المتحيزة التي يجب على كل عَالِم تطبيقها على كل مشكلة. إن الصورة النمطية للمنهج العلمي العقلاني والموضوعي تماما، مع أفراد العلماء كـ 'روبوتات' منطقية (متماثلة قابلة للتبادل)، هي أسطورة تخدم نفسها". [3] بكلمات أخرى، فإن هذا العالم، يرى أن العلماء متحيزون لقناعاتهم الدينية (أو الضد دينية) والإجتماعية المسبقة، الأمر الذي يؤثر على حيادية المنهج العلمي نفسي، لدرجة أنه لا يوجد منهج علمي موضوعي ومحايد تماما، ولا يوجد علماء موضوعيون ومنطقيون تماما.

أسطورية آدم وبدعة بيلاجيوس

يقول د. أ. في كتابه: "هل من الضروري أن تكون قصة آدم وحواء صحيحة تاريخيا لكي يكون السقوط، وبالتالي الفداء حقيقي لاهوتيا؟" الإجابة التي أقدمها هنا هي: لا. ليس ضروريا، ولكن هذه هي الطريقة الأدبية التي اختارها الوحي لكي يعبر عن السقوط كحقيقة لاهوتية. ليس بالضرورة أن يكون السقوط حدثا تاريخيا تم في زمان ومكان .." (ص 60 – 61).

ظهرت بدعة بيلاجيوس في القرن الرابع الميلادي اعتراضا على طلبة صلاة قالها أغسطينوس "يا رب امنح أن يتم ما أمرت به، وأؤمر بما تريد". وقد اعترض المهرطق بيلاجيوس على ذلك بقوله أن الله لن يأمر بشئ لا يستطيع الإنسان فعله، وأن الأمر الإلهي بشئ يتضمن القدرة على فعله. ومن هنا بدأت الهرطقة البيلاجيوسية. فقد علم أن أحد لم يرث الطبيعة الشريرة من آدم، وأن أحد لم يولد "في الخطية". بل على العكس فالإنسان يولد كاللوح الفارغ من أي محتوى، ولديه القدرة على طاعة الله بصورة كاملة. وبالتالي يستطيع الشخص أن يعيش حياته بلا خطية. ولكي يخلص الإنسان عليه أن يعمل الأعمال الصالحة. أما النعمة لدي بيلاجيوس، فهي عاملا مساعدا فقط وليس أساسيا أو ضروريا للخلاص.

وهكذا أنكر بيلاجيوس تقريبا كل شئ في الإنجيل المسيحي، فقد علم الإنسان صالح وليس به فساد موروث، وأن الخطية مجرد عادة سيئة، ويستطيع بالأعمال الصالحة إرضاء الله، والنعمة لا حاجة لنا بها، بل هي عامل مساعد فقط، وعمل المسيح على الصليب مجرد مثال أخلاقي. لقد أنكر بيلاجيوس الخلاص بالإيمان بنعمة المسيح بدون أعمال، وبدلا من ذلك حوله إنجيلا للأعمال. لأنه لو لم يكن الإنسان قد ورث الطبيعة الشريرة، وَوُلِدَ صالحا هكذا، ومن ثم لديه القدرة على طاعة الله بصورة كاملة، فما حاجته إذا إلى الرب يسوع المسيح ونعمته؟ كل هذا المنحدر الخطير الذي انزلق إليه بيلاجيوس بدأ من إنكار وراثة الطبيعة الشريرة من آدم، فكم وكم يكون إنكار آدم بجملته؟ إن إنكار تاريخية آدم يعني إنكار كون آدم ممثل ونائب عهدي للبشر (وللخليقة كلها أيضا) أمام لله، ويعني إنكار تاريخية السقوط، وإنكار أي توريث للمذنوبية والخطية الأصلية. وهذه هي نفس النتيجة التي وصل إليها بيلاجيوس على الرغم من أنه لم ينكر تاريخية آدم. إذا فبدعة بيلاجوس لبست ثوبا جديدا في وقتنا الحاضر. ثوب العلم الكاذب الإسم الذي يدعي أنه دحض تاريخية الإحدى عشر أصحاحا الأولى من سفر التكوين. وأن آدم أسطوريا رمزيا وليس شخصا تاريخيا كما يقول الدكتور أوسم وصفي.

يؤكد ذلك أيضا اللاهوتي المعاصر جويل ر. بيكي بقوله "علاوة على ذلك، فبدون تاريخية سقوط آدم، سنفقد تعليم الخطية الأصلية والحق المصاحب لذلك بأن ذنب آدم محسوب علينا، وفساد الخطية الموروث بواسطتنا، والذي يتم تمريره من الجيل الأول للبشرية حتى الأخير. وسيكون من المحتمل جدا حينئذ أن نستبدل هذا التعليم بالفكرة التطورية أن الجنس البشري يتحسن تدريجيا .. وعلى الرغم أن بعض الناس يحاولون التمسك بتعليم الخطية بينما يرفضون آدم حقيقي وسقوط تاريخي، فهو أمر يقود منطقيا إلى اللاهوتية الليبرالية البيلاجيوسية، وفكرة أن البشر سيتحسنون إن وضعناهم فقط في بيئة صحية .. النتيجة هي نزع أحشاء الإنجيل" [4]. إن المساومة بين الخلق والتطور تجعل أنه ليس أقل من الإنجيل نفسه يصبح في خطر.

يقول اللاهوتي د. ستيفين ج. لاسون "هذا كان قلب الجدل بين أغسطينوس وبيلاجيوس. عَلَّم أغسطينوس بأن الإنسان فقد قدرته على طاعة الله في سقطة آدم. وبسبب الخطية الأصلية فإن البشر لا يستطيعون فعل ما يأمر به الله. ولكن بيلاجيوس، معتمدا على المنطق البشري فقط دون الإستناد على الإعلان الإلهي، استنتج أن المسؤولية تتطلب القدرة. وعلى عكس التعليم الكتابي، أصر على القدرة الطبيعية للإنسان الخاطئ في حفظ وصايا الله. الأوجه الرئيسية لتعليم بيلاجيوس كانت نظرة مُمَجِّدة للمسؤولية الإنسانية ونظرة متدنية للسلطان الإلهي". وهكذا استند بيلاجيوس بصورة رئيسية على أشياء خارج الإعلاني الكتابي. وهذا ما يحدث في يومنا هذا أيضا بالإستناد على أشباه العلوم وتمجيدها وإعطاء مكانة أقل للحق الكتابي ومن ثم تفسيره من خلال أشباه العلوم تلك. نظريات شبه علمية عن أشياء يُفْتَرض أنها حدثت منذ ملايين السنين، لم يرها أحد ولا يستطيع أحد التحقق منها تجريبيا لأنها غير قابلة للتكرار يدعون أنها علما مثبتا يدحض الحق الكتابي في سفر التكوين!

وعن أهمية هذا الموضوع الخطير بالنسبة للإنجيل المسيحي يقول ب. ب. وارفيلد أن هذا الجدل كان نزاعا على ذات الأساسات المسيحية. يذكر أيضا أدولف فون هارناك في هذا الصدد: "ربما لا يوجد أزمة في تاريخ الكنيسة مساوية في الأهمية شرح فيها الخصوم المبادئ المتنازع عليها بكل وضوح وتجريد". [5]

نشكر الله من أجل القديس أغسطينوس ومن أجل تصديه لبيلاجيوس وهرطقته. ونشكر الله أيضا من أجل المجامع الكنسية التي حكمت على هذا التعليم بأنه هرطقة مرات كثيرة. في مجامع قرطاجة الأعوام 412 ، 416 ، 418 م. ومجمع أفسس عام 431 م. ومجمع أورانج عام 529 م. فإذ لنا سحابة من الشهود مقدار هذه محيطة بنا لنطرح كل ثقل خرافات شبه علمية ونتمسك بالحق الإلهي الكتابي الذي شهد له الرب يسوع المسيح في أيام جسده مرارا كثيرة، وعامله معاملة الأحداث التاريخية الحقيقية.

وأخيرا وليس آخرا، فإن هناك من الداروينين أنفسهم مَنْ أدرك خطر البيلاجيوسية على المسيحية، ذلك الخطر الناتج عن إنكار تاريخية آدم. وسنذكر مثال واحد على ذلك، ويمكن للقارئ مراجعة المزيد في مقال مستقل عن "التوفيق بين الخلق والتطور وتأثيره على عقيدة الخطية الأصلية". [6]

يقول بيتر باولر عالم تاريخ الأحياء والتطور:

"إن قَبِلَ المسيحيون أن البشرية هي نتاج التطور – حتى لو افترضنا أن العملية يمكن أن تُري كتعبير عن إرادة الخالق – سيكون من اللازم حينها إعادة تعريف فكرة الخطية الأصلية بأكملها. فنحن لم نسقط على الإطلاق من حالة النعمة الأصلية في جنة عدن، بل أننا تطورنا تدريجيا من أصولنا الحيوانية. وإن لم يكن هناك خطية نحتاج الخلاص منها، فماذا كان الغرض من آلام المسيح على الصليب؟ لقد صار المسيح فقط إنسانا كاملا ليرينا ما يمكن لنا جميعا أن نأمل أن نصيره عندما يُنْهِي التطور مساره التصاعدي". [7] وهنا يأخذ باولر فكرة الدمج بين الخلق والتطور إلى نتائجها المنطقية ليرى أنها ستصل بصاحبها في النهاية إلى البيلاجيوسية، أي أنه ليس هناك مشكلة داخل الإنسان، بل إن المشكلة تكمن في البيئة والنماذج السيئة من حوله في المجتمع، وعليه فالمسيح جاء لا لكي يكون مخلص، ولكن مجرد مثال لما يمكن أن يكون عليه الإنسان في مسيرة تطوره. وهذا بالضبط ما قاله د. أ. في حديثه مع صديقته الملحدة: "لقد جاء المسيح ليقول لنا أنا هو هذا المستوي التطوري الذي نحن مدعوون لأن نعيشه في المستقبل". إن ما يعلمه د. أ. في كتابه ليس سوي الهرطقة البيلاجيوسية متخذة لها شكلا داروينيا شبه علميا مستترة وراءه.

 --------------
  

خاتمة

إن المسيحية منذ مهدها وهي محل انتقاد. ودائما وأبدا تواجه ضغوطا خارجية، اضطرت، ولا زالت تضطر البعض، أن يقوموا بتوفيقها مع تلك الفلسفات أو المعارف أو المناظير الكونية المُنَافِسَة لها. وأول ما عَرَفَتْ المسيحية من ضغوط، كانت الفلسفة الأفلاطونية، والتي كانت تُعْتَبَر حينها قمة المعارف التي توصل إليها العَالَم الأكاديمي آنذاك. لجأ الكثيرون إلى فَلْطَنَة المسيحية (جَعْلَها أفلاطونية)، فظهر ما أسماه اللاهوتي راندي ألكورن بـ "المسيحيطونية" Christoplatonism . عانت المسيحية قرونا، ولازالت تعاني من بعض آثار الأفلاطونية. وبعد أن بزغ نور الإصلاح البروتستانتي وَعَمَّ الكثير من أجزاء أوروبا، انتفضت المسيحية من تراب الأفلاطونية. إلى أن أتي ظلام التنوير العلماني بفلسفاته الشكوكية وعلى رأسها عقلانية ديكارت وتجريبية جون لوك. فإنفجر الهجوم العقلاني متمثلا في مدارس النقد الأعلى. ثم تلي ذلك صدور كتاب "أصل الأنواع بواسطة الإنتخاب الطبيعي" لداروين، وتزامن ذلك أيضا مع صعود فكرة ملايين السنين في الجيلوجيا بواسطة كل من تشارلس لايل وجيمز هوتون. فإزدادت الضغوط التي واجهها الكتاب المقدس بإنتشار هاتين النظريتين. ولكي يخفف البعض من حدة الضغوط الكبيرة التي نتجت عن فلسفتي التنوير العلماني (العقلانية والتجريبية)، أذعنوا إلى هجمات المتشككين بأن الكتاب المقدس به أخطاء تاريخية وعلمية، على شرط أن يظل الكتاب المقدس صحيح روحيا. ومن هنا جاءت المساومة. ومع أن من ساوموا كانوا (كما يبدو) حَسَنِي النية، لكن للأسف النوايا الحسنة وحدها لا تكفي، الأهم هو النتائج. فصار هؤلاء – على رأي المثل العامي – مثل "الدبة التي قتلت صاحبها".

كَتَبَ د. أ. كتابه "أسئلة في العهد القديم" لكي يدافع عن الكتاب المقدس. وكتبت أنا أيضا هذه الكلمات دفاعا عن الكتاب المقدس في مواجهة ما كتبه هو. كلينا يظن أنه في جانب الكتاب المقدس. الفارق الوحيد، والكبير، بيننا هو أن د. أ. يرى أن عدو الكتاب المقدس، هو الكتاب المقدس نفسه. فعقد العزم على تجريده مما يُنْسَب إليه على غير حق، مثل صحة محتوىاته التاريخية والعلمية. وتحت ضغوط من أشباه العلوم، كالداروينية والإنفجار الكبير، أخذ يُطْهِّر الكتاب المقدس من الأساطير والأخطاء العلمية والتاريخية الواردة به، والتي يرى أنها في تعارض مع مكشفات العلم الحديث. لهذا، وإن بدا كتاب "أسئلة في العهد القديم" كتابا يدافع عن كلمة الله، إلا أنه في الحقيقة هو هجوما ضاريا عليها. لأنه يعتبر الكتاب المقدس عدو نفسه. إن "كتاب أسئلة في العهد القديم" هو "الدبة التي قتلت صاحبها".

ويا ليت ما كان يدافع عنه د. أ. علوما حقيقية، لكنها للأسف أشباه علوم كما رأينا في إجاباتنا على شكوكه. إن كل من الإنفجار الكبير والداروينية اللتان دفعتا د. أ. لإصدار كتابه، ليستا علوما تجريبية، يمكن رصدها في الوقت الحاضر بأداوت العلم الحديث، ولكنها أحداث فريدة وغير متكررة (هذا طبعا لو كانت قد حدثت من الأساس)، أو قل أنها تأريخا مزعوما في أفضل حالاتها. لقد أصبحت نظرية التطور الآن عقيدة المجتمع الأكاديمي بشهادة الكثير من العلماء. تُفْرَضْ عُنْوَة على كل هيئة تدريس في الجامعات الغربية. ومن يشذ عن هذه القاعدة يُعَرِّض مستقبله الأكاديمي للخطر. لأنهم لو لم يفعلوا ذلك، بحسب اعترافهم الصريح، لا يبقى هناك بديل أمامهم سوي الخلق، الأمر الذي يرفضونه رفضا قاطعا. طبعا ناهيك عن الآلاف من العلماء الذين ابتلعوا هذه الكذبة لكي تحل محل عقيدة الخلق لديهم. وعلى حد تعبير ريتشارد داكينز: "إن داروين مَكَّن الملحد من أن يكون مُشْبَع فكريا". ولكن نشكر الله من أجل الذين يقولون الحق بين العلماء. نعم هم قليلون، ولكنهم موجودن. وهذا يجعلنا نتساءل ما قيمة كتاب "أسئلة في العهد القديم"، بما أنه لا يخدم الكتاب المقدس، ولا حتى العلم التجريبي؟

إن المسيحية الكتابية لا يمكن أن تكون في تعارض مع العلم التجريبي. ولسنا بأي حال من الأحوال ضد العلم التجريبي الحقيقي. بل ولسنا نمدح أي شخص يتبني موقفا معاديا له. على العكس، فنحن نعترف بفضل العلم التجريبي علىنا في شتي المجالات. ذلك العلم التجريبي الحديث الذي أرسي أسسه علماء أفذاذ مسيحيين كتابيين، مثل السير اسحق نيوتن ويوهانس كيبلر وفارادي ولويس باستير وآخرون، مدفوعين بإيمانهم بما علمه سفر التكوين عن التاريخ الأولى للكون. بل ولسنا ضد العلوم التاريخية المؤسسة على الإفتراضات، كالجيلوجيا والكوزمولوجيا، شريطة أن تعترف هذه العلوم أنها قائمة على الإفتراضات في محاولتها لإعداة بناء الماضي الذي لا يمكن رصده أو التحقق منه تجريبيا. وأن هذه الإفتراضات تحتمل الصواب والخطأ، وينبغي أن تكون عُرْضَة للتصحيح في أي وقت. وعلى شرط أن لا تتحول تلك الإفتراضات المتعلقة بإعادة هيكلة الماضي، إلى عقيدة أو منظور كوني يستبعد وجود خالق أعلن عن نفسه في كتابه المقدس المعصوم.

وكان بالأولى بالدكتور أوسم وصفي أن يتعلم من دروس التاريخ. فقد كانت نظرية مركزية الأرض عقيدة في المجتمع العلمي، إلى وقت الثورة الكوبرنيكية التي احدثها علماء مؤمنون بعصمة الكتاب المقدس. وكما رأينا فإن المؤسسة العلمية هي التي قاومت مكشفات كوبرنيكوس وجاليليو، وليست الكنيسة متمثلة في رجالها. وبعد أن كانت نظرية مركزية الأرض راسخة طيلة القرون الوسطي، ذهبت في مهب الريح. ونظرية التوالد التلقائي أيضا التي كانت سائدة في الطب، إلى أن جاء لويس باستير، وآخرون، ليدحضها بنظريته البديلة "جرثومية المرض". حتى أنه لاقي مقاومة من المؤسسة الطبية لرفضه لنظرية التوالد التلقائي. ولكن مرة أخرى، فإن الطب مدين إلى يومنا هذا لنظرية جرثومية المرض التي حلت محل نظرية التوالد التلقائي في الطب. حريّ إذا بنا جميعا أن نتعلم من دروس التاريخ، ونتذكر أن الإجماع العلمي (المزعوم) اليوم، قد ينقلب غدا فيصبح من خرق التاريخ البالية.




[1] Fable, parable, and allegory
http://www.britannica.com/topic/fable-parable-and-allegory-1457283
[2] The Ascendency of The Scientific Dictatorship, Philip Darrel Collins & Paul David Collins, p189
[3] ‘It’s not science’ by Don Batten
https://creation.com/its-not-science
[4] God, Adam, and You, Biblical Creation Defended and Applied, Edited by Richards D. Phillips, Chapter by Joel R. Beeke, P&R Publishing, page 23
[5] BioLogos, theistic evolution and the Pelagian heresy
Debating an historical Adam and the destruction of the Gospel
By Richard Fangrad
http://creation.com/biologos-pelagian-heresy
[6] التوفيق بين الخلق والتطور وتأثيره على عقيدة الخطية الأصلية
 https://samysoliman.blogspot.com/2018/03/blog-post_19.html
[7] Peter Bowler, Monkey Trials and Gorilla Sermons, p. 7, Harvard University Press, Cambridge, 2007.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس