نظرة المسيح للعهد القديم ودحض الأكاذيب الليبرالية



لكي يبرء الليبراليون ساحتهم من عدم الإيمان بوحي الكتاب المقدس ومن ثم عصمته يدعون أن المسيح لم يكن يؤمن بأن العهد القديم موحي به أو أنه معصوم. وأنه لا يوجد ما يدل في الأناجيل الأربعة أن المسيح اعتقد بعصمة العهد القديم. ويتطرفون في قولهم أن المسيح كسر السبت لكي يعمل أعمال الرحمة، غير مدركين أن هذا القول يلقي بالظلال والشكوك علي قداسة الرب يسوع المسيح كيهودي مولود تحت الناموس لكي يفتدي الذين تحت الناموس. ولكن طبعا هذه فرية مختلقة كعادة الأكاذيب الليبرالية. ونظرة المسيح للعهد القديم واضحة كوضوح الشمس في كبد السماء. وسنرد علي هذا الشك الليبرالي في النقاط التالية:

الإحتكام إلي العهد القديم بإعتباره صاحب السلطة في حسم الجدل العقيدي

أحتكم المسيح إلي العهد القديم لحسم الجدل العقيدي الذي نشب بينه وبين اليهود. أربعة مرات في مناسبات مختلفة يفحمهم بقوله "أما قرأتم" (مت 12 : 3 ، 4 : 19 ، 21 : 16 ، 22 : 31). وفي هذا اعتراف منه بسلطة العهد القديم في تحديد العقيدة في مسائل جدلية عويصة مثل الخلق، والحلال والحرام، والسبت، والزواج ومصير العلاقة الزوجية في الأبدية، والطلاق، والقيامة من الأموات، والنبوات الواردة عنه في الأنبياء، وقبوله للتسبيح من الأولاد في الهيكل. كما أن في ذلك إقرار ضمني من الرب يسوع المسيح بأن الكتاب المقدس قابل للفهم دون الحاجة إلي سلطة خارجة عنه لشرحه أو تفسيره. وأليس من الطبيعي أن يحتكم الإنسان إلي مصادر السلطة، أيا كانت تلك المصادر؟ فما معني أن يلجأ المرء إلي مصدر ما للسلطة للإحتكام إليه لو لم يكن يعترف بسلطة ذلك المصدر؟

في التجربة الروحية

في حربه مع الشيطان لجأ المسيح إلي الكتب المقدسة كوسيلة لصد هجمات العدو، فقال له "مكتوب" ثلاثة مرات.  1- "مكتوب: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (مت 4 : 4) اقتباس من سفر التثنية (8 : 3). لاحظ هنا أن الرب يسوع المسيح يقول أن المكتوب ليس مجرد الموضوعات أو المعني، بل "كل كلمة". وهذا يتأكد أيضا من قول بولس "كل الكتاب هو موحي به م الله"، فكلمة "كل" في اليونانية تعني أيضا "كل جزء" (every) وليس فقط مجموع أجزاءه.  2- "مكتوب أيضا: لا تجرب الرب إلهك" (مت 4 : 7) اقتباس من سفر التثنية (6 : 16). 3- "مكتوب: للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد" (مت 4 : 10) اقتباس من سفر التثنية (6 : 13). والرب يسوع المسيح بإستخدامه للوصية الإلهية في حربه مع الشيطان يريد أن يقول أنه انتصر في تجربته لأنه أكرم الوصية الإلهية وأطاعها، علي عكس آدم الذي لم يكرم الوصية الإلهية بل تمرد عليها. ولم تكن الكتب المقدسة وحدها هي المكتوبة في ذلك الوقت: فقد كان هناك تقليد اليهود، والأعمال الفلسفية والشعرية الكلاسيكية الخالدة لليونانيون القدماء، وأدب الحكمة في الشرق الأدني القديم، إلا أن الرب يسوع المسيح لم يكرم سوي شيئا واحدا من بين هذه جميعها، فهو الوحيد الذي استحق الوصف "مكتوب".  كما أن الشيطان أيضا استخدم المكتوب في تجربته للرب يسوع لأنه كان يعرف مكانة المكتوب في قلبه. قال المجرب للمسيح "إن كنت إبن الله فاطرح نفسك إلي أسفل، لأنه مكتوب: أنه يوصي ملائكته بك فعلي أياديهم يحملونك لكي لا تصطدم بحجر رجلك" (مت 4 : 6). فلو لم يكن المسيح يكن هذه المكانة الغالية في قلبه للمكتوب، هل كان سيستخدمه الشيطان ضده؟ بكل تأكيد لا فالشيطان يستخدم الأسلحة التي يعلم أنها فعالة. وهل كان من الممكن أن يستخدم الرب يسوع المسيح العهد القديم كسلاح لو لم يكن يري أنه فعالا، خاصة وأن العدو المستعمل معه السلاح شرسا وقاسيا كالشيطان؟

في التأكيد علي دعوته المسيانية وأنه موضوع العهد القديم

يقول الكتاب المقدس عن الرب يسوع المسيح في حديثه مع تلميذا عمواس: "ثم ابتدأ من موسي ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب" (لو 24 : 27). وقد فعل الرب يسوع المسيح ذلك للرد علي شكوكهم حول شخصه وعمله الكفاري، فقام بإثبات مسيانيته لهم بخصوص موته وقيامته من العهد القديم. والقول "من موسي ومن جميع الأنبياء" هو الصيغة المختصرة للقول الوارد في نفس الأصحاح أيضا "وقال لهم: هذا هو الكلام الذي كلمتكم به وأنا بعد معكم أنه لا بد أن يتم جميع ما هو مكتوب عني في ناموس موسي والأنياء والمزامير" (لو 24 : 44). إذا فأجزاء الناموس الثلاثة تتحدث عن الرب يسوع المسيح. وقبل أن نستعرض اقتباسات الرب يسوع المسيح من التوراة والأنبياء والمزامير، من المهم أن نشير هنا إلي أن الأناجيل لا تعرض لنا فقط نظرة المسيح للعهد القديم، بل للتلاميذ واليهود أيضا، فلولا أن تلميذا عمواس كانا يؤمنان بوحي العهد القديم وعصمته لما استخدم الرب معهما العهد القديم في إثبات موته وقيامته. وما ينطبق علي تلميذا عمواس ينطبق أيضا علي الرسل الإثني عشر وباقي اليهود. لهذا فمن يري أن المسيح لم يؤمن بعصمة العهد القديم عليه أيضا أن يثبت لنا من الأناجيل كيف يمكن أن يشذ المسيح بإعتباره يهوديا محضا في هذا الأمر عن باقي يهود عصره؟ (يو 5 : 39)

أولا ناموس موسي (التوراة):

دعا فيلبس نثنائيل وقال له "قد وجدنا الذي كتب عنه موسي في الناموس والأنبياء يسوع ابن يوسف الذي من الناصرة" ثم جاء به فيلبس إلي المسيح. وبعد أن عرف نثنائيل أن يسوع هو الملك ابن الله، سأله الرب يسوع "هل آمنت لأني قلت لك أني رأيتك تحت التينة؟ سوف تري أعظم من هذا. من الآن ترون السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون علي إبن الإنسان" (يو 1 : 45 – 51). وقول الرب هنا "من الآن ترون السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون علي إبن الإنسان" مقتبس من حلم يعقوب الذي حلمه عندما كان هاربا من وجه عيسو أخيه واضطر إلي قضاء ليلته في البرية (تك 28 : 12).

وفي حديث الرب يسوع مع نيقوديموس يقتبس من سفر الخروج "وكما رفع موسي الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع إبن الإنسان، لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو 3 : 14 – 15). ومن منا كان يتخيل أن رفع تلك الحية النحاسية يشير إلي عمل المسيح؟ لو لم يخبرنا الرب يسوع صراحة أن ذلك الرفع في البرية يشير إلي رفعه هو علي الصليب ما كان أحد منا يجرؤ علي تطبيق ذلك عليه. وهذا يدل علي العمق الموجود في العهد القديم. وأن المسيح هو موضوعه حتي ولو لم يبدو لنا كذلك من الوهلة الأولي.

صلب المسيح أيضا في الفصح اليهودي إشارة لكونه خروف الفصح "شهوة اشتهيت أن آكل الفصح معكم قبل أن أتألم .. وأخذ خبزا وشكر وكسر وأعطاهم قائلا: هذا هو جسدي الذي يبذل عنكم. اصنعوا هذا لذكري" (لو 22 : 15 ، 19). ويؤكد لنا الرسول يوحنا هذه الحقيقة "لأن هذا كان لكي يتم الكتاب القائل: عظم لا يكسر منه" (يو 19 : 36). والمعمدان أيضا الذي لم يكن بين المولودين من النساء أعظم منه، قال "هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم" (يو 1 : 29). وهنا أيضا نجد المعمدان يثبت مسيانية الرب يسوع من خلال القول أنه حمل الله المشار إليه في حمل الفصح الذي مات كبديل عن أبكار العبرانيين فعبر عنهم الملاك المهلك وأهلك أبكار المصريين. أنظر أيضا قول المسيح عن نفسه أنه الخبز الذي نزل من السماء في إشارة إلي المن الذي أعطاه الله لليهود في البرية (يو 6 : 51). وأخيرا فالرب يسوع المسيح شهد عن صحة ما تنسبه التوراة لموسي بأنه كاتبها وأنه موضوع التوراة "لأنكم لو كنتم تصدقون موسي لكنتم تصدقونني لأنه هو كتب عني" (يو 5 : 46).

ثانيا الأنبياء

الدعوة التي وجهها المسيح للتعابي لكي يأتوا إليه ويستريحوا فيها أيضا اقتباس من أسفار الأنبياء "تعالوا إلي يا جميع المتعبين .. فتجدوا راحة لنفوسكم" (مت 11 : 29) المسيح هنا يقتبس من قول إرميا "هكذا قال الرب قفوا علي الطريق وانظروا واسألوا عن السبل القديمة: أين هو الطريق الصالح وسيروا فيه فتجدوا راحة لنفوسكم، ولكنهم قالوا لا نسير فيه" (إر 6 : 16). وفي المسيح نجد الراحة لأنه هو "الطريق والحق والحياة" التي أراد يهوه أن يفتش عنها اليهود. فالرب يسوع المسيح هنا يقول ضمنا أنه لا يمكن أن تكون هناك قراءة صحيحة للعهد القديم دون أن يكون هو موضوعها ومحورها. ولكن المشكلة في البرقع الذي كان ولا زال علي أعين اليهود، والذي هو علي أعين المسيحية الليبرالية اليوم "بل أغلظت أذهانهم، لأنه حتي اليوم ذلك البرقع نفسه عن قراءة العهد باق غير منكشف، الذي يبطل في المسيح. لكن حتي اليوم حين يقرأ موسي البرقع موضوع علي قلبهم. ولكن عندما يرجع إلي الرب يرفع البرقع" (2 كو 3 : 14 – 16).

الكأس في العهد القديم ولا سيما في كتابات الأنبياء تشير إلي كأس غضب الله "انهضي انهضي! قومي يا أورشليم التي شربت من يد الرب كأس غضبه. تفل كأس الترنح شربت. مصصت" (اش 51 : 16). أنظر أيضا (إر 25 : 15 – 17 ، 27 ، حز 32 : 31 – 34 ، زك 12 : 2). والرب يسوع المسيح استخدم أيضا هذا التشبيه في الحديث عن احتماله لغضب الله علي الصليب كبديل عن الخطاة "وقال يا أبا الآب، كل شئ مستطاع لك، فأجز عني هذه الكأس. ولكن ليكن لا ما أريد، بل ما تريد أنت" (مر 14 : 36)، أيضا "فقال يسوع لبطرس: اجعل سيفك في الغمد الكأس التي أعطاني الآب آلا أشربها؟" (يو 18 : 11)، وأخيرا قول المسيح لإبنا زبدي "فأجاب يسوع وقال لستما تعلمان ما تطلبان. أتستطيعان أن تشربا الكأس التي أشربها أنا، وأن تصطبغا بالصبغة التي أصطبغ بها أنا؟ قالا له نستطيع" (مت 20 : 22).

حديث الرب يسوع المسيح ساعة العشاء عن "العهد الجديد" هي في الأساس لغة نبوية استعملها ارميا النبي في قوله "ها أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل وبيت يهوذا عهدا جديدا. ليس كالعهد الذي قطعته مع آباءهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر حين نقضوا عهدي فرفضتهم، يقول الرب. بل هذا هو العهد الذي أقطعه مع بيت إسرائيل بعد تلك الأيام، يقول الرب: أجعل شريعتي في داخلهم وأكتبها علي قلوبهم، وأكون لهم إلها وهم يكونون لي شعبا" (إر 31 : 31 – 33). أنظر (خر 24 : 7 – 8). يقول الرب يسوع "وأخذ خبزا وشكر وكسر وأعطاهم قائلا: هذا هو جسدي الذي يبذل عنكم. اصنعوا هذا لذكري. وكذلك الكأس أيضا بعد العشاء قائلا: هذا الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يسفك عنكم" (لو 22 : 19 – 20). ويؤكد كاتب العبرانيين هذا الإقتباس في (عب 8 : 8 – 9).

ثالثا المزامير

بعدما أجاب الرب الصدوقيون والفريسيون سألهم عن ظنهم في المسيح "ماذا تظنون في المسيح؟ إبن من هو؟ قالوا له إبن داود. قال لهم: فكيف يدعوه داود بالروح ربا قائلا: قال الرب لربي اجلس عن يميني حتي أضع أعدائك موطئا لقدميك. فإن كان داود يدعوه ربا، فكيف يكون إبنه؟" (مت 22 : 42 – 45). والرب هنا اقتبس من (مز 110 : 1). في الأصل العبري يرد لقب رب الأول "يهوه"، أما الثاني فهو "أدوناي"، وبهذا تكون الآية "قال يهوه لأدوناي اجلس عن يميني حتي أضع أعدائك موطئا لقدميك"، والإختلاف في الألقاب هنا يوضح التميز بين الأقنومين الإلهيين، الآب والإبن. والرب يسوع المسيح يقول أن داود كان هنا منساقا بالروح القدس "يدعوه داود بالروح ربا"، الأمر الذي يثبت أن المسيح صدق أن الروح القدس هو الذي أوحي لداود كما تثبت لنا ذلك الألقاب الإلهية المختلفة المستعملة هنا.

"أجابهم يسوع أليس مكتوبا في ناموسكم: أنا قلت أنكم آلهة؟ إن قال آلهة لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله، ولا يمكن أن ينقض المكتوب.  فالذي قدسه الآب وأرسله إلي العالم، أتقولون له أنك تجدف، لأني قلت أني إبن الله؟" (يو 10 : 34 – 36). وهنا نجد عدة أشياء، أولا: المسيح يحتكم إلي العهد القديم كالحكم بينه وبين اليهود. ثانيا: المسيح أسس عقيدة علي لفظة عبرية وردت في سفر المزامير ألا وهي "إيلوهيم" (مز 82 : 6). والمعني الذي يريد المسيح قوله هنا هو: إذا كان الله قد أعطي هذا اللقب لقضاة إسرائيل الذين صارت إليهم كلمة الله، فكم وكم ينبغي أن يكون الشخص الذي قدسه الآب وأرسله إلي العالم؟؟ ثالثا: أن المسيح يشهد لعصمة المكتوب في قوله "ولا يمكن أن ينقض المكتوب"، وقد استعمل الرب يسوع المسيح اللفظة اليونانية (luō) المترجمة "ينقض" أيضا في الحديث عن هيكل جسده (يو 2 : 19)، وعن كسر السبت (يو 5 : 18)، وعن نقض ناموس موسي في السبت (يو 7 : 23)، واستعملها يوحنا عن نقض إبن الله لأعمال إبليس (1 يو 3 : 8)، وبطرس في حديثه عن انحلال السموات بضجيج (2 بط 3 : 12). فالمكتوب لا يمكن أن يُخرق أو ينحل أو يُدمر أو يُهدم.

"ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم: إيلي إيلي لما شبقتني؟ أي إلهي إلهي لماذا تركتني؟" (مت 27 : 46) فعند ذروة آلام الرب يسوع المسيح لم يجد سوي كلمة الله ملجأ له، وصلوات من سبقوه من القديسين. والتي كانت في نفس الوقت نبوة عن آلام المسيا. فاقتبس الرب من (مز 22 : 1). أنظر أيضا اقتباسات أخري للرب يسوع من سفر المزامير (مت 21 : 16 من مزمور 8 : 3 ، مت 23 : 39 من مزمور 118 : 26 ، يو 10 : 34 من مزمور 82 : 6 ، يو 13 : 8 من مزمور 41 : 9 ، يو 15 : 25 من مزمور 35 : 19 و 69 : 4).

وإن كان المسيح يؤمن أنه موضوع كتب الناموس والأنبياء والمزامير كما رأينا فليس بغريب أن نجده يحث اليهود علي تفتيشها ولا سيما أنهم كانوا يعتزون بها ويضعونها في مكانة عالية في قلوبهم ويؤمنون أن لهم فيها حياة "فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية. وهي التي تشهد لي" (يو 5 : 39).

المسيح خضع للكتب المقدسة

"فإن هذا هو الذي كتب عنه: ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيئ طريقك قدامك" (مت 11 : 10). فالمسيح أقر بخدمة المعمدان وامتدحها لأنها كتابية. أيضا قول الرب "فأجاب أن إيليا يأتي أولا ويرد كل شئ. وكيف هو مكتوب عن إبن الإنسان أن يتألم كثيرا ويرذل" (مر 9 : 12) ثم يؤيد الرب ما حدث للمعمدان من خلال النبوات التي جاءت عنه في الآية اللاحقة "لكن أقول لكم: إن إيليا أيضا قد أتي وعملوا به كل ما أرادوا كما هو مكتوب عنه" (مر 9 : 13).

وخضوع المسيح لمشيئة الله المتنبأ عنها في العهد القديم حقيقة واضحة عبر صفحات الأناجيل: "إن ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه ولكن ويل لذلك الرجل الذي به يسلم إبن الإنسان. كان خيرا لذلك الرجل لو لم يولد" (مت 26 : 24) وهذا يعني أن المسيح خضع لخيانة يهوذا لأن العهد القديم تنبأ عنها، وبالتالي لم يقاوم تلك الخيانة. أيضا من نفس الأصحاح "أتظن أني لا أستطيع الآن أن أطلب إلي أبي فيقدم لي أكثر من اثني عشر جيشا من الملائكة؟ فكيف تكمل الكتب أنه هكذا ينبغي أن يكون. في تلك الساعة قال يسوع للجموع: كأنه علي لص خرجتم بسيوف وعصي لتأخذوني! كل يوم كنت أجلس معكم أعلم في الهيكل ولم تمسكوني. وأما هذا كله فقد كان لكي تكمل كتب الأنبياء" (الأعداد 53 – 56)، وهنا أيضا لم يقاوم الرب أبدا، بل كان خاضعا، وكان خضوعه مدفوعا برغبته في إتمام المكتوب.

"فدفع إليه سفر أشعياء النبي. ولما فتح السفر وجد الموضع الذي كان مكتوبا فيه: روح الرب علي لأنه مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأشفي المنكسري القلوب لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر وأرسل المنسحقين في الحرية. وأكرز بسنة الرب المقبولة. ثم طوي السفر وسلمه إلي الخادم وجلس. وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه. فإبتدأ يقول لهم: إنه اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم" (لو 4 : 17 – 21). وهنا يحدثنا النص عن خضوع المسيح لإرسال روح الرب له للمساكين ولمنكسري القلوب وللمأسورين والعمي والمنسحقين لإتمام المكتوب.

"وأخذ الإثني عشر وقال لهم: ها نحن صاعدون إلي أوشليم وسيتم كل ما هو مكتوب بالأنبياء عن إبن الإنسان، لأنه يسلم إلي الأمم ويستهزأ به ويشتم ويتفل عليه ويجلدونه ويقتلونه وفي اليوم الثالث يقوم" (لو 18 : 31 – 33).

"لأني أقول لكم أنه ينبغي أن يتم فيّ أيضا هذا المكتوب: وأحصي مع أثمة. لأن ما هو من جهتي له انقضاء" (لو 22 : 37).

"وقال لهم هذا هو الكلام الذي كلمتكم به وأنا بعد معكم أنه لابد أن يتم جميع ما هو مكتوب عني في ناموس موسي والأنبياء والمزامير. حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب. فقال لهم هكذا هو مكتوب وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث" (لو 24 : 44 – 46).

والرب يسوع المسيح لم يخضع فقط للنبوات التي تحدثت عن آلامه أو للوصايا الأدبية في الناموس، بل أيضا حفظ الوصايا الطقسية، وأوصي بحفظها: "فأوصاه أن لا يقول لأحد. بل امض وأر نفسك للكاهن وقدم عن تطيهرك كما أمر موسي شهادة لهم" (لو 5 : 14). وحض تلاميذه علي فعل ما يعلم به الكتبة والفريسيون الذين جلسوا علي كرسي موسي ولكن أن لا يفعلوا مثل أفعالهم (مت 23 : 1 – 3).

وفي بداية خدمته قام بتطهير الهيكل، وفي هذا منه إقرار بالطقوس والكهنوت والذبائح والرموز التي فيه "وكان فصح اليهود قريبا، فصعد يسوع إلي أورشليم، ووجد في الهيكل الذين كانوا يبيعون بقرا وغنما وحماما والصيارف جلوسا. فصنع سوطا من حبال وطرد الجميع من الهيكل الغنم والبقر وكب دراهيم الصيارف وقلب موائدهم. وقال لباعة الحمام: ارفعوا هذه من ههنا. لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة. فتذكر تلاميذه أنه مكتوب: غيرة بيتك أكلتني" (يو 2 : 13 : 17).

المسيح كان يذهب إلي المجمع بإنتظام "وجاء إلي الناصرة حيث كان قد تربي. ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت وقام ليقرأ" (لو 4 : 16)، أيضا "أجابه يسوع: أنا كلمت العالم علانية. أنا علمت كل حين في المجمع وفي الهيكل حيث يجتمع اليهود دائما. وفي الخفاء لم أتكلم بشئ" (يو 18 : 20) أنظر أيضا (مر 1 : 21 ، 3 : 1 ، 21 ، 6 : 2 ، مت 12 : 9 – 14 ، 13 ، 54 ،  لو 6 : 6  ، 13 : 14 ، يو 6 : 59).

الرب يسوع المسيح مارس الإحتفالات اليهودية التي أمر بها الناموس الطقسي فصعد إلي العيد وهو صغير "ولما كانت له اثنتا عشرة سنة صعدوا إلي أورشليم كعادة العيد" ولم يكن المسيح مكروها علي ذلك بل ظل باقيا وترك أبيه وأمه يرجعان "وبعد ثلاثة أيام وجداه في الهيكل، جالسا وسط المعلمين، يسمعهم ويسألهم" (لو 2 : 42 – 46). وصعد إلي العيد هو كبير أيضا "ولما كان اخوته قد صعدوا حينئذ صعد هو أيضا إلي العيد، لا ظاهرا بل كأنه في الخفاء" (يو 7 : 10).

والمسيح لم يخضع للطقوس التي اخترعها اليهود ولم يأمر بها الناموس (مثل غسل الأيدي قبل أكل الخبز). فعندما سأله اليهود لماذا يتعدي تلاميذه علي تقليد الشيوخ لم يدافع عن هذا الأخير، بل دافع عن الوصية "حينئذ جاء إلي يسوع كتبة وفريسيون الذين من أورشليم قائلين: لماذا يتعدي تلاميذك تقليد الشيوخ، فإنهم لا يغسلون أيديهم  حينما يأكلون خبزا؟ فأجاب وقال لهم: وأنتم أيضا لماذا تتعدون وصية الله بسبب تقليدكم؟ .. فقد أبطلتم وصية الله بسبب تقليدكم" (مت 15 : 1 – 3 ، 6). وبقوله ذلك فإن المسيح أكد علي أن التقليد اليهودي لا يرقي إلي مستوي الوصية الإلهية.

والرب يسوع المسيح مارس الفصح وأمر تلاميذه بممارسته معه "فأرسل بطرس ويوحنا قائلا: اذهبا وأعدا لنا الفصح لنأكل" (لو 22 : 8).

وحاشا للمسيح أن يكون قد كسر السبت. فالسبت كوصية وردت ضمن الوصايا الأدبية العشرة مما يعطيها طابعا أدبيا بالإضافة إلي طابعها الطقسي، الأمر الذي يزيد من كونها ملزمة لأنها تتعلق بالطبيعة الأدبية لله. والرب يسوع هو من قيل عنه أنه "يعظم الشريعة ويكرمها" (إش 42 : 21)، وأن شريعة الله في وسط أحشائه (مز 40 : 8). كما أن السبت كان علامة العهد بين الرب وشعبه (خر 31 : 13)، فكيف إذا ينقض الرب يسوع المسيح علامة العهد بينه وشعبه؟ خاصة وأن عدم حفظ الشعب لسبوت الرب جلب عليهم الدينونة قديما؟ (حز 20 : 12 – 21)

 لكن ما فعله المسيح هو أنه سلك بروح الوصية. وهذا يتضح من فهم المسيح لوصية السبت أنه جُعل من أجل الإنسان لا الإنسان من أجل السبت. فالمشكلة كانت في الفهم المعيب للوصية من جانب اليهود، وليس أن المسيح كان ملزم بعدم الشفاء في يوم السبت لكنه إضطر إلي كسر الوصية لفعل الرحمة. أي أن مضمون وصية السبت يلزمه – إن جاز التعبير – بعمل الرحمة، والسبب في ذلك هو أن السبت جُعل من أجل الإنسان.

المسيح أقر تاريخية الأحداث الواردة في العهد القديم، وهذه بعضها:

خلق الإنسان ذكرا وأنثي من البدء:
"أما قراتم ان الذي خلق من البدء خلقهما ذكرا وأنثى؟" (مت 19 : 4)

الإنسان مخلوق علي صورة الله مثل العملة الرومانية المنقوش عليها صورة قيصر: "أروني معاملة الجزية. فقدموا له دينارا. فقال لهم: لمن هذه الصورة والكتابة؟ قالوا له: لقيصر. فقال لهم: اعطوا اذا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" (مت 22 : 19 – 21).

قتل هابيل: "لكي ياتي عليكم كل دم زكي سفك على الارض من دم هابيل الصديق إلى دم زكريا بن برخيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح" (مت 23 : 35).

طوفان نوح:"وكما كانت أيام نوح كذلك يكون أيضا مجئ ابن الإنسان. لأنه كما كانوا في الأيام التي قبل الطوفان يأكلون ويشربون ويتزوجون ويزوجون إلي اليوم الذي دخل فيه نوح الفلك، ولم يعلموا حتي جاء الطوفان وأخذ الجميع، كذلك يكون أيضا مجئ ابن الإنسان" (مت 24 : 37 – 39).

لوط وإمرأته التي صارت عمود ملح وخراب سدوم وعموره: "كذلك أيضا كما كان في أيام لوط كانوا يأكلون ويشربون ويشترون ويبيعون ويغرسون ويبنون. ولكن اليوم الذي خرج فيه لوط من سدوم، أمطر نارا وكبريتا من السماء فأهلك الجميع. هكذا يكون في اليوم الذي فيه يظهر ابن الإنسان .. اذكروا امرأة لوط" (لو 17 : 28 – 29 ، 32).

حديث الرب إلي موسي في العليقة:"وأما من جهة الأموات أنهم يقومون، أفما قرأتم في كتاب موسي، في أمر العليقة، كيف كلمه الله قائلا: أنا إله ابراهيم وإله اسحق وإله يعقوب؟"(مر 12 : 26).

صادق المسيح أيضا علي تاريخية الأحداث الواردة في الأسفار التاريخية والخاصة برفض اليهود لإيليا وإليشع واستخدمها كبرهان علي رفض اليهود له كما رفضوا الأنبياء الذين قبله : "الحق أقول لكم إنه ليس نبي مقبولا في وطنه. وبالحق أقول لكم: إن أرامل كثيرة كن في إسرائيل في أيام إيليا حين أغلقت السماء مدة ثلاث سنين وستة أشهر، لما كان جوع عظيم في الأرض كلها، ولم يرسل إيليا إلي واحدة منها، إلا إلي امرأة أرملة، إلي صرفة صيداء. وبرص كثيرون كانوا في إسرائيل في زمان إيلشع النبي، ولم يطهر واحد منهم إلا نعمان السرياني" (لو 4 : 25 – 27).

أنظر أيضا: يونان الذي كان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاثة ليال (يو 12 : 40)، إضطهاد الأنبياء (مت 5 : 12)، هلاك صور وصيداء (مت 11 : 22).

وأخيرا

المسيح اعتبر الكتب المقدسة أكثر قوة وتأثيرا من معجزاته "قال له إبراهيم عندهم موسي والأنبياء ليسمعوا منهم. فقال لا يا أبي إبراهيم. بل إذا مضي إليهم واحد من الأموات يتوبون. فقال له إن كانوا لا يسمعون من موسي والأنبياء ولا إن قام واحد من الأموات يصدقون" (لو 16 : 29 – 31). لهذا قال في موضع آخر "تضلون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله" (مت 22 : 29)

المسيح وجد تعاليمه متوافقة مع تعاليم الناموس والأنبياء "فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضا بهم لأن هذا هو الناموس والأنبياء" (مت 7 : 12). راجع أيضا (مت 19 : 18 – 19 ، 22 : 40 ، مر 7  : 9 ، 13 ، 10 : 19 ، 12 : 24 ، 29 – 31 ، لو 18 : 20).

المسيح كان يعرف الكتب المقدسة معرفة عميقة ووطيدة "فتعجب اليهود قائلين كيف يعرف هذا الكتب وهو لم يتعلم" (يو 7 : 15). الفعل اليوناني (eidō) المترجم هنا "يعرف" يعني أيضا في لغته الأصلية المعرفة الناشئة عن العلاقة الشخصية والألفة. فقد استخدمه المسيح في الحديث عن معرفته للآب السماوي "أنا أعرفه لأني منه. وهو أرسلني" (يو 7 : 29) ، ومعرفة الخراف لصوت راعيها.

المسيح كان يخبر تلاميذه بالنبوات التي تتحدث عنه ليس فقط لكي يؤمنوا به بل لكي يؤمنوا بالكتاب أيضا: "فلما قام من الأموات تذكر تلاميذه أنه قال هذا فآمنوا بالكتاب والكلام الذي قاله يسوع" (يو 2 : 22).



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس