هل كان القس مارتن لوثر كينج جونيور قويم الإيمان؟




يحتفل الأمريكيون هذه الأيام بذكرى ميلاد المصلح الإجتماعي مارتن لوثر كينج جونيور (يُرْجَىَ عدم خلطه بالمصلح البروتستانتي الألماني مارتن لوثر في القرن السادس عشر). وكينج هو قس ليبرالي والناشط السياسي الأبرز في حركة مقاومة التمييز العنصري ضد الأمريكيين السود. كينج شخصية مثيرة للجدل، ليس فقط على المستوى السياسي والإجتماعي، بل على المستوى اللاهوتي أيضاً. والسبب في ذلك هو الوثيقة التي نشرتها المباحث الفيدرالية الأمريكية (إف بي آي) عن اضطلاع كينج بتنظيم حفلات عربدة ذات طابع جنسي. وما عرف عنه من علاقات نسائية متعددة. طبعاً ما نُشِر عن كينج بخصوص هذه الأمور لم يمضي دون مُكَذِّب أو مُصَدِّق.

أما عن كونه مثاراً للجدل على المستوى اللاهوتي فلأنه كان يعتنق الليبرالية اللاهوتية. كثيراً ما يُحْتَفَىَ به في الأوساط الإنجيلية في الغرب، وفي الشرق في بعض الأحيان. ولسنا هنا بصدد تحليل أو تقدير الإنجازات الإجتماعية والسياسية التي حققها كينج في المجتمع الأمريكي بخصوص حركة الحريات المدنية. ولكن الغرض من هذه الكلمات هو إبراز المنهجية الليبرالية في المسيحية التي كان يعتنقها وينادي بها. 

في مقال يحمل الكثير من الشكوك بعنوان: "ما هي الظروف التي أدت بمسيحيي القرن الأول للاعتقاد بالتعاليم المسيحية: البنوة الإلهية ليسوع، الميلاد العذراوي، والقيامة الجسدية"، [1] ينكر القس والمصلح الإجتماعي الأمريكي مارتن لوثر كينج جونيور أكثر التعاليم جوهرية في المسيحية. إذ يرى أن هناك أحداث، أو ظروف معينة، هي التي جعلت المسيحيون الأوائل ينتجون مثل تلك التعاليم. 

يؤمن كينج بأن هذه العقائد المسيحية الجوهرية ليست مختلفة عن أي معتقد آخر من حيث أن لها ظروف طبيعية أدت إلى نشأتها. أي مسيحي، قويم الإيمان، لابد وأن يقول أن هذه التعاليم لم تنشأ نتيجة ظروف معينة، لكنها حقائق تاريخية أقرت الكنيسة الأولى بحدوثها ومن ثم شكلت الأساس العقيدي لإيمانها. لكن ما يحاول كنيج فعله هنا هو تقديم تفسيرات عقلانية (تحتكم إلى العقل أولاً وليس الكتاب المقدس) وطبعانية (تستثني ما هو فائق للطبيعة) يعلل بها نشأة تلك التعاليم كمجرد معتقدات لا أساس تاريخي لها.  يقول كينج في مقدمة بحثه:

"لكي نفهم معنى وأهمية أي عقيدة أو قانون إيمان، من الضروري دراسة خبرات الأفراد الذين أنتجوها. لا تنبثق العقائد وقوانين الإيمان غير مُسَبَّبَة مثلما نشأت أثينا من رأس زيوس، لكنها تنمو من الأوساط التاريخية والأمزجة النفسية للأفراد الذين وضعوها. جميع الأفكار، مهما كانت عميقة أو ساذجة ، تنتج عن ظروف وتجارب تنبع من بيئة المنتجين لها .. في هذا البحث سوف نناقش خبرات المسيحيين الأوائل التي أدت إلى [نشوء] ثلاثة عقائد قويمة إلى حد ما، وهي البنوية الإلهية ليسوع، والميلاد العذراوي، والقيامة الجسدية. كل تلك العقائد منصوص عليها فيما يعرف باسم "قانون إيمان الرسل" .. في أذهان العديد من المسيحيين المُخْلِصِين، فإن قانون الإيمان ذلك قد زرع بذرة من التشويش والتي نمت إلى شجرة من الشك. إنهم يرون أن قانون الإيمان ذلك يتنافى مع كل المعرفة العلمية، ولذا فقد شرعوا في رفض محتواه".


هذا البحث الهزيل لمارتن لوثر كينج يدور حول فكرة واحدة مبتذلة يفسر من خلالها إيمان المسيحيين الأوائل بمعتقدات لا تصمد أمام العلم الحديث. وإن كان يعيد صياغتها بأكثر من طريقة. والفكرة مفادها أن شخصية يسوع المتميزة هي التي أنتجت في أتباعه من القرن الأول تلك المعتقدات غير العلمية والمتمثلة في ألوهيته وميلاده العذراوي وقيامته الجسدية. فلا يمكن أن تكون هذه الأحداث (الميلاد العذروي، التجسد واتحاد الطبيعتين، والقيامة الجسدية) حدثت فعلاً لأنها تتنافى والعلم الحديث. لهذا يشرع كينج في تقديم تفسيرات طبعانية (تستبعد ما هو فائق للطبيعة) تتفق والعلم الحديث.

فيما يتعلق بألوهية يسوع، يرى كينج أن السبب في نسبة الألوهية إليه، بواسطة مسيحيو القرن الأول، هو أن اليونانيون كانوا يحتقرون كل شئ مادي. ولكي يكون يسوع ذو إلهام بالنسبة لهم قاموا برفعته إلى مصاف الآلهة. يضيف كينج أسباب أخرى إلى ذلك. فبالنسبة لبولس ورجال الكنيسة الأولى، كان هو تَمَيُّز شخصية يسوع عن باقي أفراد جيله. طبعاً فيما يدعيه كينج شئ من الحقيقة. لكن ألوهية يسوع لا ترجع فقط إلى مجرد تميز في شخصيته. فهناك شخصيات مميزة كثيرة، لكنهم ليسوا آلهة. بل تُعْزَى إلى أعماله الفوقطبيعية، وشهادته عن نفسه، وتحقق النبوات والإشارات الكتابية فيه. فضلاً عن ذلك فتميز شخصية يسوع ليس السبب في ألوهيته، بل نتيجة لها. هو مميز لأنه الله الظاهر في الجسد. 

ثم ينتقل كينج إلى موضوع الميلاد المعجزي للرب يسوع مصرحاً: "أولاً يجب أن نعترف بأن الدليل على معقولية هذا التعليم ضحلة بالدرجة غير الكافية لإقناع أي مفكر موضوعي". ويرى كينج أن الأسباب، أو الظروف، التي أدت إلى خلق أو صعود تعليم الميلاد العذراوي للمسيح تكمن في محاولة شرح تَمَيُّز شخصيته. فشخص بمثل هذا التَّمَيُّز لابد أنه وُلِدَ، أو جاء، إلى عالمنا بطريقة فوقطبيعية. 

وأخيراً، وفيما يخص تعليم القيامة الجسدية، بعد أن يذكر أن غياب الدليل المادي على القيامة الجسدية للمسيح ليس بالشيء الهام، يتسائل كينج: الأهم هو كيف نشأ هذا التعليم. أي أنه لا يرى أن هناك قيامة جسدية وتاريخية حدثت بالفعل فأقر المسيحيون الأوائل بحدوثها. بل معتقد، مثل أي معتقد خرافي آخر، نشأ في فكرهم لظروف ما دفعتهم إلى ذلك. وهنا يكرر كينج فكرته المبتذلة مرة أخرى في حالة القيامة: القوة الجاذبة في شخصية يسوع المُتَمَيِّزَة. هذا الأمر قادهم للإعتقاد بأنه لا يمكن أن يموت يسوع.

في ورقة بحثية أخرى لكينج بعنوان: "إنسانية وألوهية يسوع" [2] يتبنى فيها معتقد شلايرماخر (رائد الفكر الليبرالي)، حول ألوهية يسوع. وعلى حد تعبير كينج نفسه: 

"كما ذُكر أعلاه ، فإن الخلاف لدى المسيحيين في كثير من الأحيان حول مسألة ألوهية يسوع ليس على صحة حقيقة ألوهيته، ولكن حول مسألة كيف ومتى أصبح إلهياً .. أين يمكن إذن لنا نحن الذين ننتمي إلى التيار الليبرالي أن نعثر على البعد الإلهي في يسوع؟ قد نجد ألوهية المسيح، ليس في وحدته الجوهرية مع الله، ولكن في وعيه البَنَوِي، وفي اتكاله الفريد على الله. لقد كان إحساسه بالاتكال المطلق على الله، كما يقول شلايرماخر، هو الأمر الذي جعله إلهياً. نعم، لقد كان تكريسه الحار لله، وحميمية ثقته في الله، هما اللذان يفسران كونه الإعلان الأعظم عن الله. كل هذا يكشف لنا أن إنساناً واحداً قد أدرك أخيراً دعوته الإلهية الحقيقية: أن يصبح ابناً حقيقياً للإنسان من خلال أن يصبح ابناً حقيقياً لله .. يكمن المغزى الحقيقي لألوهية المسيح في حقيقة أن إنجازه نبوي لكل ابن إنسان حقيقي مستعد لتسليم إرادته إلى إرادة وروح الله. كان على المسيح أن يكون فقط النموذج الأولي بين إخوة كثيرين".

بناء على كل ما سبق، يتضح المنهج الليبرالي الذي يتبعه مارتن لوثر كينج في مسيحيته، ومحاولاته الصريحة في إعادة تعريف هذه العقائد المسيحية الجوهرية، المتعلقة بشخص المسيح وعمله، ونسبة معاني جديدة إليها تفرغ الإنجيل من جوهره وفعاليته.

------------

في الصورة أعلاه يصرح كينج أنه كان ليبرالياً في مرحلة من حياته، ولكنه رفض أشكالاً معينة من الليبرالية لاحقاً. ولكن ما رفضه كينج من الليبرالية لم يجعله محافظاً أو قويم الإيمان. فباعترافه الصريح لم يستطع حتى أن يصبح نيوأرثوذكس (مذهب مفترض أنه وسط بين اللاهوت الليبرالي واللاهوت المحافظ). أي أن كينج ادعى أنه تبنى مذهباً وسطياً بين الليبرالية والنيوأرثوذكسية (وهذه الأخيرة ليست مذهباً محافظاً). ما رفضه كينج من الليبرالية هو تعليمها بصلاح الإنسان. وكينج لم يرفض هذا على أساس كتابي، لكن بناء على الكوارث التي ارتكبها الإنسان (الحروب). 


[1] "What Experiences of Christians Living in the Early Christian Century Led to the Christian Doctrines of the Divine Sonship of Jesus, the Virgin Birth, and the Bodily Resurrection." The Martin Luther King, Jr., Research and Education Institute, 4 Nov. 2019, https://kinginstitute.stanford.edu/king-papers/documents/what-experiences-christians-living-early-christian-century-led-christian.
[2] "The Humanity and Divinity of Jesus." The Martin Luther King, Jr., Research and Education Institute, 13 Nov. 2019, https://kinginstitute.stanford.edu/king-papers/documents/humanity-and-divinity-jesus.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس