الحقيقة المزعجة حول لاهوت بونهوفر



رقم المقالة: JAF5356 | بقلم: ريتشارد ويكارت
ترجمة: سامي خليل سليمان

ظهر هذا المقال لأول مرة في مجلة الأبحاث المسيحية، المجلد 35، العدد 06 (2012). يمكن الحصول على النص الكامل لهذه المقالة بتنسيق PDF بالنقر هنا. لمزيد من المعلومات أو للاشتراك في مجلة الأبحاث المسيحية، إذهب إلى: http://www.equip.org/christian-research-journal/

-------------

موجز المقالة

يبدو أن لاهوت ديتريش بونهوفر يجذب الجميع. بعد قراءة كتاب "ثمن التبعية"، كنت متحمساً لـ بونهوفر، لكن حماستي له تضائلت بعد قراءة كتاب "رسائل وأوراق من السجن". اكتشفت فيما بعد أن لاهوت بونهوفر كان مختلفًا عن نظرتي الإنجيلية. يقدّر معظم الإنجيليين تأكيد بونهوفر على أهمية الكتاب المقدس، الأمر الذي دفعه إلى التأمل اليومي فيه. ومع ذلك، ففي خلال السنوات القليلة الأخيرة من حياته، توقف بونهوفر عن تأمله اليومي في الكتاب المقدس، معارضًا هذه الممارسة باعتبارها "دينية" جداً. لم يؤمن بونهوفر بعصمة الكتاب المقدس، لكنه تبنى وجهة نظر كارل بارت بأن الكتاب المقدس صحيح، حتى لو لم يكن صحيح تجريبياً [بدليل مادي يمكن رصده - المترجم]. لهذا السبب، رَفَضَ علم الدفاعيات المسيحية، معتبرا إياه خطأً فِئَوِيًا. وتحت تأثير نيتشه، نفى أيضًا احتواء الكتاب المقدس على أي مبادئ أو أطروحات كونية صالحة لكل زمان.

كانت نظرة بونهوفر للخلاص مختلفة تماماً عن نظرة معظم الإنجيليين. على الرغم من أنه اختبر نوعاً من التجديد في حوالي عام 1931، إلا أنه يكاد لا يذكر هذا الأمر أبداً. في وقت لاحق أعرب عن استيائه من المسيحيين الذين يتحدثون أو يكتبون عن تجديدهم. حتى أنه ذَكَرَ أن الإنجيل لا يتعلق أساساً بالخلاص الفردي. أثناء وجوده في السجن، فَضَّلَ العهد القديم على العهد الجديد. واتَّهَمَ العهد الجديد بأنه يشوبه "أساطير خلاصية"، لكنه كان يحب هذه الدُّنْيَوِيَّة في العهد القديم. إلى جانب كل هذا، [اعتقد] بونهوفر بـ عالمية الخلاص. باختصار، كان لاهوت بونهوفر لاهوتاً أرثوذوكسياً محدثاً [منهج يزعم أصحابه أنه وسطاً بين اللاهوت الليبرالي واللاهوت المحافظ - المترجم]، وكان موقفه أكثر ليبرالية من بارت.
---------------------------------------------------------------------------------

عندما أمر الرئيس جورج دبليو بوش بغزو العراق، احتج بـ ديتريش بونهوفر لتبرير تصرفاته. كان بعض الباحثين المتخصصين في بونهوفر غاضبين، إذ قالوا أن بونهوفر كان سيعارض بشكل حاسم "الحرب على الإرهاب". [1] في عام 1966، كَرَّمَ جوزيف فليتشر بونهوفر كمصدر إلهام رئيسي لكتابه "أخلاقيات المواقف"؛ حيث جادل بأن أخلاقيات الموقف تعني أن الإجهاض (من بين أشياء أخرى) مسموح به في بعض الحالات. [2] ومن ناحية أخرى، قتل الخادم المشيخي بول هيل، أحد مناصري الإجهاض في فلوريدا عام 1994، مدعياً بأن عنفه كان هو نفس مقاومة بونهوفر للنظام النازي. [3] في الستينيات من القرن الماضي، ادعى اللاهوتيون المتطرفون والقائلون بـ "موت الله" أنهم كانوا يبنون على رُؤَىَ بونهوفر في كتابه: "رسائل وأوراق من السجن"، لكن قبل عامين، صرح الإنجيلي إيريك ميتاكساس، كاتب السير الذاتية لبونهوفر، لمجلة "المسيحية اليوم" بأن بونهوفر كان قويم الإيمان كما كان الرسول بولس ذاته. [4] بونهوفر أصبح كل شيء لكل الناس، محبوب الجميع ، قديس الجميع.

ولكن كيف يمكن أن يستهوي بونهوفر الكثير من المتابعين المتعارضين؟ أحد الباحثين  المتخصصين في بونهوفر، ستيفن هاينز، كَرَّسَ كتاباً كاملاً لتحليل التفسيرات العديدة المتضاربة لبونهوفر. في الواقع، تَغَيَّرَ تفسير هاينز لبونهوفر مع تَغَيُّرِ القناعات اللاهوتية له. عندما كان شابًا، اعتبر هاينز نفسه إنجيلياً واعتبر بونهوفر أخاً إنجيلياً. إلا أنه، عندما أصبح هاينز أكثر ليبرالية في وجهات نظره اللاهوتية، اكتشف أن بونهوفر كان أخاً ليبرالياً. في كل الأحوال، يبدو أنه كان من محبي بونهوفر، على الرغم من التغييرات في منظوره اللاهوتي. [5]

اصطدامي بفكر بونهوفر

كطالب جامعي في أواخر سبعينيات القرن العشرين، تقابلت أنا (مثل العديد من الإنجيليين الآخرين) ببونهوفر أولاً عن طريق قراءة "ثمن التبعية". إذ كنت ممتلئاً بالإعجاب لهذا اللاهوتي الذي ضحى بحياته لمعارضة شرور النازية، فَرَشَّحْتُ بحماس كتابه لأصدقائي. إن فهم بونهوفر للتلمذة الثورية وإنكار الذات له صدى معي. لقد كرمته أيضاً لرفضه العنصرية ومعاداة السامية، ولأعماله الرحيمة للفقراء والمضطهدين. كان بونهوفر بطلاً بالنسبة لي.

بعد عدة سنوات قرأت "رسائل وأوراق بونهوفر من السجن"، متوقعاً منها غذاءً روحياً. إلا أنها أربكتني. هل كان هذا هو بونهوفر نفسه الذي عرفته وأحببته؟ هل تغيّر؟ ماذا كان يقصد بقوله أنه يتعين علينا أن نعيش "كما لو لم يكن هناك إله"؟ لماذا انتقد خصوم رودولف بولتمان؟ [6] بما أن بولتمان رفض الأحداث المعجزية في الكتاب المقدس، فقد عارضت أنا بولتمان. يبدو أن بونهوفر لم يشاركني مخاوفي.

الفرصة التالية التي تَكَشَّفَ فيها لي بونهوفر كانت في أواخر الثمانينيات، عندما كنت أقوم بإعداد رسالة الدكتوراه الخاصة بي في التاريخ الأوروبي الحديث. في حلقة دراسية لتاريخ الكنيسة في كلية لاهوت ليبرالية، سَجَّلَ كل من الكتاب المقرر علينا، والأستاذ، إعجابهما بـ بونهوفر، حيث اعتبره زميلاً ليبراليًا. لقد صدمني بقوة أن بونهوفر قد اِمْتُدِحَ من قبل الجميع، تقريبًا من كل الأطياف اللاهوتية، من الأصوليين إلى المحافظين إلى الأرثوذكس المحدثون إلى الليبراليين إلى لاهوتيو موت الله، ليس فقط لحياته الشجاعة، ولكن أيضًا للاهوته. كيف يمكن أن يكون ذلك؟

التلمذة المنحرفة

قررت أن أكتشف الحق، لذلك بدأت دراسة منهجية عن بونهوفر قادتني إلى بعض الاكتشافات المزعجة إلى حد ما. [7] لقد وجدت أن آراء بونهوفر حول الكتاب المقدس، والخلاص، وعقائد أخرى حاسمة كانت منحرفة تماماً عن معتقداتي الإنجيلية. لم يكن بونهوفر لاهوتياً محافظاً كما اعتقدت عنه في وقت سابق.

إذا كان ما أقوله صحيحًا، لماذا إذن اعتنق العديد من الإنجيليين بونهوفر بشكل غير ناقد؟ أولاً، يقرأ معظم الإنجيليين كتابي بونهوفر: "ثمن التبعية" وربما "الحياة معاً"، حيث مشاكل بونهوفر اللاهوتية أقل وضوحاً. ثانياً، كان بونهوفر فردًا شجاعًا جمع بشكل فريد بين العقل القوي والرحمة من أجل البائسين. ثالثًا، لا يفهم معظم الإنجيليين السياق الفكري لبونهوفر. لقد كان مفكرًا محنكًا، على دراية تامة، بل ومتأثراً بالفلسفة القارية، بما في ذلك كانط، هيجل، كيركيجارد، نيتشه، هايدغر، وغيرهم. رابعًا، امتدح العديد من الإنجيليين بونهوفر لرفضه اللاهوت الليبرالي، غير مدركون أن الأرثذوكسية المحدثة التي اعتنقها لا تزال بعيدة عن اللاهوت الإنجيلي المحافظ. حتى لو رفضت لاهوت القرن التاسع عشر الليبرالي، فإن اللاهوت الأرثوذكسي المُحْدِث يقع على الجانب الليبرالي من الطيف اللاهوتي، بما أنه يرفض العصمة الكتابية وعقائد أخرى جوهرية للمسيحية الحقيقية.

موقف بونهوفر من الكتاب المقدس

ربما لا شيء عن بونهوفر يجذب الإنجيليين أكثر من إصراره على سلطة الكتاب المقدس. لقد صرّح قائلاً: "أؤمن أن الكتاب المقدس وحده هو الإجابة على جميع أسئلتنا وأننا نحتاج فقط إلى السؤال بإصرار وبتواضع من أجل أن نتلقى الإجابة منه". [8] تظهر هذه الرسالة في العديد من كتاباته، خاصةً "الحياة معاً"، حيث شجع المسيحيين على دمج التأمل في الكتاب المقدس بحياتهم اليومية.

لم يتغير معتقد بونهوفر عن الكتاب المقدس بشكل ملحوظ خلال حياته المهنية، لكن موقفه من الكتاب المقدس كان متأرجاً. في وقت ما حوالي عام 1931، حَظِيَ بونهوفر باختبار ديني هام، والذي يصفه البعض بأنه اختبار تجديد. نادراً ما ذكر بونهوفر هذا الاختبار، لكنه شهد في رسالة خاصة: "لأول مرة اكتشفت الكتاب المقدس." [9] وبعد ذلك، صار بونهوفر يتأمل يومياً في الكتاب المقدس وأصر أن يفعل طلاب اللاهوت ذلك أيضاً. يستنتج الكثير من الإنجيليين خطأً أن بونهوفر كان يحث جميع المسيحيين على اتباع هذا المثال. إلا أن بونهوفر كان يوجه تحريضاته في المقام الأول إلى اللاهوتيين، وليس إلى العامّيين. في كتابه "الأخلاقيات"، قال صراحةً: "الكتاب المقدس ينتمي أساساً إلى فئة الوعاظ، لكن الوعظ ينتمي إلى الجماعة. يجب تفسير الكتاب المقدس والوعظ به. إنه في جوهره ليس كتاب بناء للجماعة ". [10] هذا تصريح مفزع من لاهوتي لوثري، لأنه يصطدم مع إصرار لوثر على كهنوت جميع المؤمنين.

صراعاته مع الكتاب المقدس

بعد عام 1939 أو نحو ذلك، يبدو أن بونهوفر قد فقد حماسته السابقة للكتاب المقدس. في يناير 1941، يونيو 1942، ومارس 1944، اعترف لصديقه المقرب إبيرهارد بيتج أنه أمضى أيامًا وأسابيعًا دون أن يقرأ الكتاب المقدس كثيرًا، على الرغم من أنه في بعض الأحيان كان يقرأه بنهم. [11] كتب قائلا: "أنا مندهش من أنني أعيش، وأستطيع العيش، لعدة أيام بدون الكتاب المقدس - لن أعتبر ذلك طاعة، لكن اقتراح ذاتي، إذا كنت أرغم نفسي على فعل ذلك ... أعرف أنني بحاجة فقط إلى فتح كتبي الخاصة لسماع ما يمكن قوله ضد كل هذا ... ولكني أشعر بمقاومة ضد كل شيء 'ديني' ينمو في داخلي ". [12]

وهكذا أدرك بونهوفر أن حياته التعبدية في الأربعينيات لم تتطابق مع كتاباته السابقة. ولكي يبرر عدم اكتراثه المتزايد بقراءة الكتاب المقدس كجزء من رفضه "للدين"، أشار إلى أنه كان يتحرك بعيدًا عن تعاليمه السابقة.

معتقد بونهوفر عن الكتاب المقدس

ومع ذلك، ظل معتقد بونهوفر عن الكتاب المقدس ثابتًا طوال حياته المهنية. على الرغم من أنه تعلم على أيدى اللاهوتيين الليبراليين، إلا أنه افتتن باللاهوت الجدلي لكارل بارت (المعروف أيضًا باسم لاهوت الأرثوذكسية المحدثة). رفض بارت أسلوب لاهوت القرن التاسع عشر الليبرالي، والذي اعتبر الكتاب المقدس كلمات إنسانية غير معصومة تعبر عن التجارب الدينية الشخصية لمن كتبوه. عوضًا عن ذلك، أصر بارت على أن كل الكتاب المقدس هو كلمة الله. إلا أنه لم يعني بذلك أن الكتاب المقدس كان دقيقًا من الناحية التاريخية؛ في الواقع، لم يكن يعتقد أن الكتاب المقدس له أي علاقة بالواقع التجريبي. قام بارت بتقسيم المعرفة إلى مجالين منفصلين: ديني وتجريبي، والكتاب المقدس هو الحق الديني، وليس الحق التجريبي. لم يؤمن بارت أبدًا بعصمة الكتاب المقدس ولم يتردد في الاعتراف بأن النقد الكتابي الأعلى كان له شرعية أكاديمية. ومع ذلك، فقد اعتقد أن الدقة التاريخية للكتاب المقدس كانت غير هامة. وهكذا اعتبر بارت (وبونهوفر) أن علم الدفاعيات مُضَلَّل، لأنه يتجاوز الحدود الفاصلة بين العَالَم التجريبي والعَالَم الديني. [13]

اتفق بونهوفر مع وجهة نظر بارت بأن الكتاب المقدس صحيح تمامًا، ولكن فقط بالمعنى الديني، وليس كَسِجِلّ بالواقع التجريبي. كثيرًا ما انتقد بونهوفر عقيدة الوحي اللفظي. لقد وافق على صلاحية النقد الكتابي [الأعلى]، لكنه أكد أنه حتى تلك الفقرات التي ليست دقيقة تاريخياً هي، مع ذلك، كلمة الله. وفقًا لبونهوفر، على الرغم من أن النقد التاريخي قد أثبت أن يسوع لم يتكلم بعض الكلمات المنسوبة إليه في الكتاب المقدس، فإن هذا لا يحدث فرقًا في تفسير الكتاب المقدس. لا يزال يتعين علينا الاعتماد على الكتاب المقدس كله والوعظ به والاستمرار [في مساعينا]، مثل عبور النهر على حقيبة ثلج تنفجر. [14]

موحى به لكن غير دقيق

في مقالة عام 1925، كتب بونهوفر أنه حتى لو أثبت نقاد الكتاب المقدس أن شخص يسوع غير تاريخي بالمعنى التجريبي، فإن هذا لن يؤثر على محتوى إعلان الله، لأن حقه قد أُعْلِنَ حتى من خلال كلمات غير معصومة تُحُدِّثَ بها أو كتبت بواسطة الأدوات البشرية، مثل الرسل. "يجب علينا بكل الطرق أن نؤكد على عدم عصمة نصوص [الكتاب المقدس] ومن ثم نعترف بالمعجزة، بأننا نسمع دائمًا كلمة الله من خلال هذه الكلمة الإنسانية." صرّح بونهوفر أنه لا يهم ما إذا كانت قد حدثت معجزات معينة حقًا كما سُجِّلَ في الكتاب المقدس. المهم ألا نرفضها على أنها غير ذات صلة، بل نفسرها على أنها شهادة على وحي الله. [15] عندما كان راعياً مساعداً في برشلونة في عام 1928، أخبر بونهوفر شعب كنيسته بشكل لا لبس فيه أن الكتاب المقدس مليء بالمحتويات التي لا يمكن الوثوق بها تاريخياً . حتى حياة يسوع "غارقة في الخرافات" والأساطير لدرجة أننا لدينا معرفة ضئيلة عن يسوع التاريخي. وخلص بونهوفر إلى أن "Vita Jesu scribe non potest" (حياة يسوع لا يمكن كتابتها) .[16]

اختبار بونهوفر الديني في عام 1931 لم يغير معتقده عن الكتاب المقدس. في أحد أجزاء كتابه "ثمن التبعية"، أكد بونهوفر على حقيقة وموثوقية ووحدة الكتاب المقدس بأقوى طريقة ممكنة. ولكن، لكي يتجنب سوء الفهم، أضاف هذا الملاحظة الهامشية التوضيحية: "إن الخلط بين التصريحات الأنطولوجية وإعلان الشهادة هو جوهر كل التعصب. إن العبارة: المسيح قام وحاضر، هي انحلال لوحدة الكتاب المقدس إذا كانت مفهومة من الناحية الأنطولوجية .... العبارة: المسيح قام وحاضر، تُفهم بشكل صارم فقط على أنها شهادة من الكتاب المقدس، صحيحة ككلمة من الكتاب المقدس". [17]

ما يصفه بونهوفر بالتعصب هنا هو الاعتقاد بأن شهادة الكتاب المقدس لها أهمية أنطولوجية، أي أن الكتاب المقدس يشير إلى أشياء موجودة بالفعل أو كانت موجودة في الماضي. هكذا قدم بونهوفر حق الكتاب المقدس باعتباره غير تاريخي، وليس شهادة حول أحداث تاريخية.

شكوك بونهوفر حول الدقة التاريخية للكتاب المقدس واضحة في "رسائل وأوراق من السجن" أيضًا. على سبيل المثال، في رسالة إلى بيتج، أعرب عن شكوكه حول تاريخية صلاة يسوع في بستان جثسيماني، والتي، حسب تقديره، لم يكن من الممكن أن يعرفها التلاميذ بالتأكيد، ولكن مع ذلك أبلغوا عنها. وتساءل كيف يمكن أن يكون هذا. [18]

الحق واللغة والأخلاقيات

كان لاهوت بونهوفر مختلفًا تمامًا عن اللاهوت الإنجيلي الأمريكي، لأن بونهوفر تبنى وجهة نظر مختلفة عن الحق واللغة. لم يعتقد بونهوفر أنه يمكن احتواء الحق في الأطروحات أو المبادئ الخالدة. أثناء تأليفه لـ "ثمن التبعية"، كتب إلى صديق، موضحًا أن الحق ليس صالحًا لكل زمان وكونيًا، كما يفترض الكثير من الناس أنه كذلك. وهكذا، عند قراءة الكتاب المقدس، "لم يعد بإمكاننا السعي وراء الحقائق الأبدية الكونية". 19

كتاب جيد

هذه النظرة القائلة بأن الكتاب المقدس لا يحتوي على أي حقائق كونية خالدة أثرت تأثيرًا عميقًا على الفكر الأخلاقي لبونهوفر. في محاضرة عام 1929 تخللتها تلميحات نيتشه، رفض بونهوفر فكرة أن الأخلاق المسيحية تقوم على مبادئ أو قواعد أبدية. صرّح بونهوفر: "إن العهد الجديد لا يحتوي على أي مبدأ أخلاقي يصلح، أو حتى نستطيع، أن نتبناه حرفيًا". [20] في كتابه "ثمن التبعية"، دعا بونهوفر اخوته المسيحيين إلى التلمذة الثورية، لاتباع يسوع مع التضحيات. ومع ذلك، فإن معظم الإنجيليين يفوتهم إحدى نقاطه الرئيسية: التلمذة لا تتضمن تعلم محتوى تعليم يسوع وتطبيقه، ووفقًا لبونهوفر:

"ماذا يقال [في الكتاب المقدس] عن محتوى التلمذة؟ اتبعني، اركض ورائي! هذا كل شيء. إن إتِّبَاعَه هو شيء خالٍ تماماً من المحتوى .... مرة أخرى، [التلمذة] ليست قانونًا كونيًا؛ بل هي عكس كل إلتزام بالواجبات. إنها ليست سوى عبودية ليسوع المسيح وحده، أي الانهيار التام لكل برنامج وكل مثالية وكل شرعية. وبالتالي لا يوجد محتوى آخر ممكن ، بما أن يسوع هو المحتوى الوحيد".[21]

قد يبدو هذا أمرًا جيدًا للوهلة الأولى - بالطبع يسوع أهم من أي شيء آخر في العالم، ونحن بحاجة إلى تجنب الناموسية. إلا أن بونهوفر يذهب لأبعد من ذلك. لقد كان يعني أنه لا يوجد نصي كتابي يجب اعتباره حقًا خالدًا، ولكن فقط ككلمة الله لهذا اليوم. أوضح محرر الطبعة الألمانية من "ثمن التبعية" أن هذا الكتاب "غير مكتوب، ليكون صحيحًا" إلى الأبد "؛ فإن بونهوفر كان يبحث عن ما هو صحيح فقط لـ "اليوم". [22]

هذا الرفض للحقائق الكونية الخالدة هو موضوع رئيسي في كتابه "الأخلاقيات"، حيث صرح بونهوفر: "المبادئ هي أدوات فحسب في يد الله يتم التخلص منها بعد قليل كشئ بلا فائدة." [23] في أحد أقسام "الأخلاقيات"، رفض بونهوفر صراحة فكرة أنه يجب فهم الموعظة على الجبل على أنها مبادئ أخلاقية يمكن تطبيقها على المواقف الحاضرة [24]. كما رفض صراحة صورة يسوع كمعلم أخلاقي أو حتى نموذج أخلاقي ينبغي للمسيحيين ضبط حياتهم على منواله.

نفوره من التجديد

إلى جانب نظرته الخاطئة للكتاب المقدس، كانت عقيدة بونهوفر للخلاص مشكلة أيضًا. باعتباره لوثريًا اعتنق بونهوفر عقيدة التجديد بواسطة المعمودية. على الرغم من التركيز الشديد على دعوة الناس إلى التلمذة الثورية، لم يُظهر بونهوفر أبدًا أي اهتمام على الإطلاق "بتجديد الخطاة". لم يؤمن أن خلاص النفوس كان موضوعًا رئيسيًا في الكتاب المقدس، معلنًا في عظة له عام 1935: "يجب أن نتحرر أخيرًا من فكرة أن الإنجيل يتعامل مع خلاص النفس فردياً". [25] في كتابه "رسائل وأوراق من السجن" عزز هذا، موضحًا أنه لا يعتقد أن الهاوية أو الجحيم أو الخلاص المسيحي حقائق ميتافيزيقية كانت موجودة في نقطة ما في الماضي أو سوف توجد في المستقبل. عوضًا عن ذلك، فهي صور لما هو موجود هنا والآن. [26] أثناء فترة وجوده في السجن، اتهم بونهوفر العهد الجديد بأنه مغلف بـ "خرافات الفداء". لقد فضّل العهد القديم، لأنه يبدو أقل اهتمامًا بـ الحياة الأخرى، والتركيز بدلاً من ذلك على الفداء الآتي في هذا العالم الحاضر. صرح بونهوفر قائلاً: "على عكس الديانات الشرقية الأخرى، فإن إيمان العهد القديم ليس دين فداء. لكن لطالما اعتبرت المسيحية دين فداء. لكن، أليس هذا خطأً جوهرياً، فصل المسيح عن العهد القديم وتفسيره وفقًا لأساطير الفداء؟" [27] هكذا أراد بونهوفر استبدال تركيز العهد الجديد على الخلاص الفردي بنظرة دنيوية للحياة.

الخلاص العالمي

انعكس رأي بونهوفر حو الخلاص أيضًا في استيائه من قصص التجديد. لاحظ بيتج أن بونهوفر "كان غاضبًا من أشخاص سمحوا لأنفسهم بأن ينقادوا تمامًا للتأمل في بداياتهم الخاصة، وكان أكثر ما يرفض بشدة هو أي تفسير لكتابيه "ثمن التبعية" أو "الحياة معًا" باعتبارهما دفاعًا خاصًا عن التجديد". [28] على الرغم من أنه اختبر تجديد من نوعٍ ما في عام 1931، إلا أنه نادرًا ما ذكره واعتبر لاحقًا الاستمرارية، وليس التجديد، وصفًا أكثر ملاءمة لمسار حياته الروحية .[29] وقد لاحظ متأخراً في حياته أنه اعتبر نفسه "اللاهوتي 'المعاصر' الذي لا يزال يحمل تراث اللاهوت الليبرالي داخل نفسه". [30]

عدم اهتمام بونهوفر بالخلاص الفردي قد ينبع جزئياً من اعتناقه لعاليمة الخلاص. على الرغم من أن الأمر ليس واضحًا بسهولة في "ثمن التبعية"، إلا أنه أكثر وضوحًا في مكان آخر من كتابات بونهوفر. في "الأخلاقيات" صرح بونهوفر:

"في جسد يسوع المسيح، اتحد الله مع البشرية، والبشرية بأكملها مقبولة، والعالم متصالح مع الله. في جسد يسوع المسيح، أخذ الله خطية العالم بأكمله حاملاً إياها. لا يوجد أي جزء من العالم، مهما بلغ من البؤس أو الشر، لم يُقبل من الله ويتصالح معه في يسوع المسيح. كل من ينظر إلى جسد يسوع المسيح في إيمان لم يعد بإمكانه التحدث عن العالم كما لو كان قد هلك، كما لو كان قد انفصل عن المسيح". [31]

هذا أوضح تصريح لبونهوفر يدعم عالمية الخلاص يمكن للمرء أن يتخيله، وهو مؤكد في مكان آخر من كتاباته.

تقييم بونهوفر

ما الذي يجب أن نعتقده في بونهوفر إذًا؟ وبينما نعترف بالعديد من سماته المثيرة للإعجاب - الرحمة والشجاعة والالتزام والنزاهة - يجب علينا أن نكون حذرين من العديد من معتقداته اللاهوتية. لقد تناول جرعات كبيرة من الفلسفة القارية، بما في ذلك كانط وهيجل وكيركجارد ونيتشه وهايدغر، والتي أثرت على نظرته الكونية بصورة جوهرية. عَكَسَ لاهوته اللاهوت الأرثوذكسي المحدث لبارت، والذي دعا المسيحيين للعودة إلى الكتاب المقدس كمصدر للحقيقة الدينية، ولكن دون الاعتقاد بأن الكتاب المقدس صحيح تاريخياً. اعتبر بونهوفر دائمًا نفسه من تلاميذ بارت، على الرغم من أن معظم الباحثين المتخصصين في دراسة فكر بونهوفر يعتبرون بونهوفر بحق أكثر ليبرالية من بارت. على سبيل المثال، قدم كل من ستيفن هاينز ولوري هيل، بونهوفر بدقة باعتباره لاهوتيًا "يرسم مساره الخاص في المسافة المشحونة بين الليبرالية واللاهوت الجدلي". [32]

ريتشارد ويكارت هو أستاذ التاريخ في جامعة ولاية كاليفورنيا ستانيسلاوس، ومؤلف كتاب من داروين إلى هتلر: الأخلاق التطورية، تحسين النسل، والعنصرية في ألمانيا، بالإضافة إلى كتاب ومقالات عن بونهوفر.



[1] Jeffrey Pugh, Religionless Christianity: Dietrich Bonhoeffer in Troubled Times (London: T and T Clark, 2008).

[2] Joseph Fletcher, Situation Ethics: The New Morality (Philadelphia: Westminster Press, 1966), 149.

[3] Pugh, Religionless Christianity, 7.

[4] Eric Metaxas (interview), “The Authentic Bonhoeffer,” Christianity Today (July 2010), at www.christianitytoday.com/ct/2010/july/7.54.html, accessed October 25, 2010.

[5] Stephen Haynes, The Bonhoeffer Phenomenon: Portraits of a Protestant Saint (Minneapolis: Fortress Press, 2004), xiv.

[6] Bonhoeffer to Eberhard Bethge, July 16, 1944, June 27, 1944, May 5, 1944, in Letters and Papers from Prison, trans. Reginald Fuller (New York: Macmillan, 1971), 360, 336–37, 285.

[7] See Richard Weikart, The Myth of Dietrich Bonhoeffer: Is His Theology Evangelical? (San Francisco: International Scholars Publications, 1997); Weikart, “So Many Different Dietrich Bonhoeffers,” Trinity Journal 32 NS (2011): 69–81; and Weikart, “Scripture and Myth in Dietrich Bonhoeffer,” Fides et Historia 25 (1993): 12–25 (these articles are available at my website: www.csustan.edu/history/faculty/weikart).

[8] Bonhoeffer to Rüdiger Schleicher, April 3, 1936, in Testament to Freedom: The Essential Writings of Dietrich Bonhoeffer, Geffrey B. Kelly and F. Burton Nelson (San Francisco: Harper San Francisco, 1990), 448.

[9] Bonhoeffer to friend, January 1936, in Bonhoeffer, Gesammelte Schriften, 6 vols. (Munich: Christian Kaiser Verlag, 1958ff.), 6:367–68.

[10] Bonhoeffer, Ethics, trans. Neville Horton Smith (New York: Macmillan, 1965), 294–95.

[11] Bonhoeffer to Bethge, January 31; 1941, June 25, 1942, in Gesammelte Schriften, 5:397, 420; and March 19, 1944, in Letters and Papers from Prison, trans. Reginald Fuller (New York: Macmillan, 1971), 234.

[12] Bonhoeffer to Bethge, June 25, 1942, in Gesammelte Schriften, 5:420.

[13] Karl Barth, Der Römerbrief (Munich, 1922); The Word of God and the Word of Man, trans. Douglas Horton, (n.p.: Pilgrim Press, 1928).

[14] Bonhoeffer, “Christologie,” in Gesammelte Schriften, 3:204–5.

[15] Bonhoeffer, Dietrich Bonhoeffer Werke, vol. 9 (Munich: Christian Kaiser Verlag, 1986), 318–20.

[16] Bonhoeffer, “Jesus Christus und vom Wesen des Christentums,” in Gesammelte Schriften, 5:137–38.

[17] Bonhoeffer, Nachfolge, in Dietrich Bonhoeffer Werke, vol. 4 (Munich: Christian Kaiser Verlag, 1989), 219–21.

[18] Bonhoeffer to Bethge, January 23, 1944, in Letters and Papers from Prison, 193.

[19] Bonhoeffer to Rüdiger Schleicher, April 8, 1936, in Gesammelte Schriften, 3:28.

[20] Bonhoeffer, “Grundfragen einer christlichen Ethik,” in Dietrich Bonhoeffer Werke, vol. 10 (Munich: Christian Kaiser Verlag, 1991), 332.

[21] Bonhoeffer, Nachfolge, 46.

[22] “Nachwort der Herausgeber,” in Bonhoeffer, Nachfolge, 307.

[23] Bonhoeffer, Ethik, 1–36.

[24] Bonhoeffer, Ethik, 228–36.

[25]Bonhoeffer, Gesammelte Schriften, 4:202.

[26] Bonhoeffer to Bethge, June 27, 1944, in Letters and Papers from Prison, 336–37.

[27] Ibid., 336.

[28] Eberhard Bethge, Dietrich Bonhoeffer: Man of Vision, Man of Courage, trans. Eric Mosbacher (New York: Harper and Row, 1970), 388–89.

[29] Bethge, Dietrich Bonhoeffer, 153–56.

[30] Bonhoeffer to Bethge, August 3, 1944, in Widerstand und Ergebung, 257.

[31] Bonhoeffer, Ethik, 53.

[32] Stephen R. Haynes and Lori Brandt Hale, Bonhoeffer for Armchair Theologians (Louisville, KY: Westminster John Knox Press, 2009), 13.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس