ديانة الإنسان الطبيعي



للإيمان المسيحي ثلاثة أبعاد: العقيدة (العقل)، السلوك (العمل)، الإختبار (العبادة). من بين هذه الثلاثة تحتل العقيدة مكانة مركزية. فكل شئ آخر ينبع منها. هكذا فهم المصلحون البروتستانت مسيحيتهم ومن قبلهم الرسل. العقيدة السليمة تقود إلى الاختبار الحقيقي والسلوك النقي. صحيح أنه قد توجد العقيدة السليمة بدون أي من هذين الأمرين (الشياطين يؤمنون ويقشعرون)، لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يوجد اختبار حقيقي، أو سلوك روحي مقبول أمام الله، دون أن يكون نابعًا من الحق العقيدي. بل ولابد أن تكون تلك العقيدة قويمة. وإن وجد من يدعي بأن له اختبار مع الله، أو له عمل صالح، مع إغفال مركزية وحصرية عمل المسيح الكفاري، أو أن يكون له عقيدة لكن غير كتابية، فلا شك أنه ينتمي إلى بدعة Cult .

الإيمان المسيحي الحقيقي لابد أن يحوي تلك الأبعاد الثلاثة: العقيدة، بما بها من عنصر فوقطبيعي، والسلوك، والإختبار. أما ديانة الإنسان الطبيعي فتأتي لتشوه هذا التكامل الإيماني بالإطاحة بمركزية العقيدة، أو حتى بالاحتفاظ بمركزية العقيدة مع تشويهها. ديانة الإنسان الطبيعي قد تكون أخلاقية، أي مرتكزة حول الأخلاقيات والأعمال الصالحة. أو شعورية، أي تتمحور حول الإختبار أو الشعور. أو عقلانية، أي ترتكز حول العقيدة لكن مع انتزاع العنصر المعجزي منها. أو قد تكون مزيج من هذه الثلاثة.

أولا المسيحية الأخلاقية Moralism

الإنسان الطبيعي يرفض فكرة الفساد الموروث. وبدلاً من ذلك يرى نفسه صالحًا. وأن الحياة الأبدية قابلة للشراء بأعماله الصالحة (أو التي تبدو كذلك). يقول اللاهوتي مايكل هورتون أن: "البيلاجيوسية ديانة الإنسان الطبيعي". أي أن الإنسان بطبعه يظن الصلاح في نفسه ويسعى لإرضاء الله بناء على مجهوداته الذاتية. 

هذه المسيحية الأخلاقية أطلت بوجهها القبيح على المسيحية الحقيقية منذ قرنها الأول. حيث نقرأ توبيخ الرسول بولس للغلاطيين الذين أرادوا أن يتبرروا بأعمال الناموس. ثم نجد أغسطينوس متصديًا بتعليم النعمة لبيلاجيوس وأتباعه في القرن الرابع، والذين كانوا ينادون بعدم ضرورة النعمة في الخلاص، وأن الصلاح لصيق بالطبيعة البشرية. توجد المسيحية الأخلاقية أيضًا بشكل مخفف في الطوائف الطقسية التي لا تنكر الخطية الأصلية، ورغم ذلك تنادي بأن الخلاص يتوقف على الجهاد والمعمودية. 

لكن الديانة الكتابية الحقيقية، على العكس من ذلك. إذ تخبرنا بأن الإنسان وارث للفساد الجذري. تعبير "الفساد الجذري" يعبر عن الحق الكتابي بأكثر دقة من التعبير الأكثر شيوعا "الفساد الكلي". ذلك لأن الفساد الجذري يفترض وجود صورة الله في الإنسان، وإن كانت مشوهه بسبب ذلك الفساد. في حين أن تعبير "الفساد الكلي" من الممكن بأن يوحي بالتدمير الكلي لصورة الله في الإنسان. لهذا فالفساد الجذري يركز على فكرة أن الفساد متشعب في كل الكيان الإنسانى: عقل وإرادة وشعور وجسد. شبهه أحدهم بوضع القليل من السم في الماء. الماء لا يزال ماء، ولكن خصائصه اختلفت بسبب الفساد الذي حدث فيه. 

وكنتيجة منطقية لذلك، فإن الإنسان غير قادر على إرضاء الله بأعماله الصالحة. هي تبدو فقط صالحة، لكنها في حقيقتها نابعة من قلب ملوث، وليست بهدف مجد الله. والطريق الوحيد لإرضاء الله هو الاكتساء ببر آخر، بر غريب عنا، بر المسيح. ليس فقط أن المسيح حمل عنا دينونة خطايانا، بل حسب لنا بره إيجابيًا. كما تقول الرسالة إلى دياجنتس: "يا لها من مبادلة حلوة! يا له من عمل لا يُسْبَر غوره! يا له من خير يفوق التوقعات! حتى أن شر الكثيرين طُمِرَ في شخص بار واحد، وأن بر شخص واحد يبرر عصاة كثيرون".

2- المسيحية الشعورية

الميل إلى ذلك النوع من المسيحية التي يمكن أن نسميها المسيحية الشعورية Experiential Christianity نجده في الكثير من التيارات اللاهوتية. مثل تَقَوِيَّة القرنين السابع عشر والثامن عشر، والتي ظهرت كرد فعل على تركيز الإصلاح البروتستانتي على التعليم الصحيح. ونجدها الآن في الحركة الكاريزماتية بما تتسم به من عبادة يغلب عليها الشعور الذي يأتي متطرفًا في بعض الأحيان. ونراها أيضًا في الأرثوذكسية الشرقية (لا سيما الروسية) التي تنادي بالثيوسيس (التَّأَلُّه) واختبار طاقات الله. أي أن المسيح أخذ بشريتنا لِيُصَيِّرَنَا آلهة عن طريق الإتحاد به من خلال أعماله (طاقاته). ثم نصادفها أيضا لدى بعض المتصوفة الأقباط، الذين ينادون باختبار العشق الإلهي، والذي يختار الله في محبته الحرة أن يعلنه لمن يشاء. وفي المسيحية الوجودية (الكيركجاردية) أيضًا والتي تركز على الإختبار الفردي الوجودي مع تنحية الكنيسة والنص جانبًا. كل هذه التيارات ترتكز حول العنصر الاختباري في المسيحية لدرجة إغفال العقيدة، أو رفضها في حالات أخرى. هذه هي ديانة الإنسان الطبيعي الذي يركز على إحساسه ويتخذه مركزًا لديانته، بدلاً من الوثوق في كلمة الله، سواء اتفقت معها مشاعرنا أم لم تتفق. 

لا تسيء فهمي. أنا لا أقول أنه لا ينبغي أن يكون هناك اختبار مسيحي، أو أن المسيحي ينبغي أن يكون مجرد من الفرح أو الشعور الروحي. على العكس، الإيمان يؤثر في كل جوانب الحياة. الإيمان القويم (أورثوذكسي) يؤدي إلى السلوك الصحيح (أورثوبراكسي)، ويثمر شعوراً تعبديًا حقيقيًا (أورثوباثي). لكن ليس كل ما نظنه من شعور (دنيوي فائر) هو شعور روحي حقيقي. الإيمان يجلب الفرح والشبع ومحبة الله. ولكن إن لم يكن هذا الإختبار، أو الشعور، هو ثمرة الاتكال المطلق على عمل وكفاية المسيح، والتأمل الدائم في كفارته وكمالاته المعلنة في الكتاب المقدس، فهو بكل تأكيد شعور نفسي مزيف. لذلك فديانة الإنسان الطبيعي هي ديانة تغلب الشعور على حق الإنجيل.

3- المسيحية العقلانية (الليبرالية)

المسيحية حق معلن من الله، وليست شئ نصل إليه بالاجتهاد العقلي. وهناك أشياء فيها تسمو عن العقل البشري. مثل الثالوث والأقانيم وطبيعتي المسيح المتحدتين في شخصه الواحد، والمعجزات. معجزتي الميلاد العذراوي والقيامة الجسدية للمسيح تشكلان حجر الأساس في المسيحية. عقيدتي الخلق والوحي أيضًا بهما عنصرًا معجزيًا. فالخلق جاء من العدم، بدون مادة سابقة، بواسطة كلمة الله الآمرة. عقيدة الوحي، طبقًا للتقليد المصلح، هي أن الله استخدم كتبة الوحي، دون أن يلغي دورهم، في إعلان حقه لفظيًا. بعض هذه المعجزات جوهرية للإيمان المسيحي، مثل الثالوث، و طبيعتي المسيح، ميلاده المعجزي، وقيامته.

ديانة الإنسان الطبيعي تميل إلى تغليب الأمور العقلانية على الحقائق الفوقطبيعية التي تشكل جوهر الإيمان المسيحي. فمنذ فجر المسيحية والهراطقة يحاولون عقلنة تلك الأمور التي تسمو عن العقل. آريوس ونسطور وأوطاخي وسابيليوس، كل هؤلاء عقلانيون أرادوا تجريد المسيحية من البعد الفوقطبيعي فيها، فيما يتعلق بجوهر الله وأقانيمه، والمسيح وطبيعتيه. بعد الإصلاح الإنجيلي أيضًا، ظهر اللاهوت الليبرالي لينأى بالمسيحية عن الهجوم العقلاني عليها. فقام الليبراليون بتجريد المسيحية من كل ما هو فوقطبيعي فيها: معجزات المسيح، وألوهيته. الوحي أيضًا، في نظرهم، ليس سوى تعبير الكنيسة عن اختباراتها الداخلية، وليس ذات أقوال الله. ففسروا بذلك الأمور الفوقطبيعية من خلال مفاهيم طبعانية تستثني العنصر المعجزي. 

هذا ليس معناه بأي حال من الأحوال أن المسيحية ضد العقل. الإيمان المسيحي عقلي وليس عقلاني. يسمو عن العقل ولا يعارضه. والفرق بين الاثنين كبير. عقلي، لأنه لا يوجد به متناقضات. ولكنه ليس عقلانيًا، أي أنه لا يستثني العنصر الفوقطبيعي. كل ما هو عقلاني يستبعد المعجزات. وهذه هي ديانة الإنسان الطبيعي، الذي يسعى إلى طبعنة الحق الإلهي المعلن، بفهمه من خلال مفاهيم طبعانية (لاميتافيزقية). 

هكذا، فإن ديانة الإنسان الطبيعي تسعى إلى تشويه التكامل الموجود في المسيحية، من عقيدة واختبار وسلوك. أما المسيحية الكتابية الحقيقية فترتكز حول الحق الكتابي، الذي عند الإيمان به حقًا، سيقود حتمًا إلى اختبار أصيل وسلوك مقدس. ديانة الإنسان الطبيعي قد تكون أخلاقية، أو شعورية، أو عقلانية، أو مزيج من هذه.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس