الرد على مقال أمجد بشارة عن غضب الله



كتب الأخ أمجد بشارة على صفحة التواصل الإجتماعي فيسبوك الخاصة به مقال ينفي فيه عن الله غضبه تارة، ويغير معنى هذا الغضب تارة أخرى، كما سنرى. وذلك لإقحام منظور لاهوتي شرقي على الحق الكتابي. والسطور التالية هي تفنيد لما كتبه. سأتناول كل فقرة من مقاله على حدة لتفنيدها. ولتسهيل القراءة وعدم تكرار الأسماء، قمت بإعطاء ما كتبه الأخ أمجد اللون الأسود، يتبعه ردي عليه باللون الأزرق.

يبدأ الأخ أمجد بشارة مقاله:

معنى مصطلح غضب الله في الكتاب المقدس وعند الآباء:
"لأَنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْنَا لِلْغَضَبِ، بَلْ لاقْتِنَاءِ الْخَلاَصِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ،" (1تس5: 9).

هذا النص موجه إلى الكنيسة وليس إلى العالم. أما الذين هم خارج الكنيسة فيقول عنهم "وكنا بالطبيعة أبناء الغضب كالباقين أيضًا" (أف ٢ : ٣).

الأفلام والمسلسلات اللي شكلت وعينا في نقط كتير دايمًا بتظهر إن نهاية الشرير لازم تكون نتاج موت عنيف، حادثة شديدة مثلًا، إنفجار، المهم يكون موت عنيف..
ودا اللي بيخلينا في أحيان كتير نتسرع في الحكم على تسونامي أو إعصار كاترينا أو كورونا إنهم بالتأكيد نتاج غضب الله، لإن نتاجهم موت مش طبيعي، أكيد دي دينونة من الله على الأشرار..

حتى ولو لم يقرأ الإنسان الكتاب المقدس ليعرف منه أن هناك إله ذو سلطان وقاضي يحكم بالبر والعدل، فإن الطبيعة نفسها تعلّم الإنسان ضرورة وجود كائن بهذه المواصفات. لأن الأرض لا يوجد بها عدل مطلق. لهذا السبب أقر عمانوئيل كانط بضرورة وجود ثواب وعقاب إن أردنا أن يكون هناك أخلاقيات. رغم أن كانط رفض كل البراهين الأنطولوجية والغائية والكوزمولوجية، إلا أنه لم يستطع رفض البرهان الأخلاقي على وجود الله. بل رأى ضرورة التمسك به.

نفس التفكير اللي كان عند اليهود وقت المسيح (لو١٣؛ يو٩). لكن الكتاب المقدس بالعكس مبيقولش كدا، إجابة المسيح في الشاهدين اللي فاتوا مبتقولش كدا، وكمان في العهد القديم اللي كان محوره البركة المادية بطول الأيام والأولاد، في كتير من نصوصه بيقول إن الأشرار بيعيشوا حياة رغدة وبيرقدوا في أمان (مز٧٣ كمثال).

كون الرب يسوع نفى وجود علاقة بين موت الجليليين والذين سقط عليهم برج سلوام وعمى المولود أعمى، وبين خطايا هؤلاء جميعًا، لا يعني أن غضب الله لا يقف وراء أي حادثة. أو أنه لا يوجد علاقة بين الخطية وبين ما يحدث. بالعكس، لقد أكد الرب على حادثتي سدوم وعمورة والطوفان واستخدمهما كتحذير للدينونة العتيدة (مر ٦ : ١١، مت ٢٤ : ٣٧). وأنذر أورشليم بالدينونة التي ستأتي عليها (مت ٢٤ :٢) والتي حدثت فعلاً عام سبعون ميلادية على يد تيطس الروماني. ما من شك أن هناك أحداث معاصرة تحدث نتيجة غضب الله على الشر، إلا أننا لا نتسطيع أن نجزم إن كانت هذه أو إن كانت تلك. لكن الكتاب المقدس يقر بالمبدأ نفسه. 

صحيح أن الأشرار ينعمون بخيرات مادية (ليس جميعهم)، ولكن هذا يعني فقط أن دينونتهم مؤجلة كما يعلّم آساف في مزموره "حقًا في مزالق جعلتهم. أسقطتهم إلى البوار. كيف صاروا للخراب بغتة! اضمحلوا، فنوا من الدواهي. كحلم عند التيقظ يا رب، عند التيقظ تحتقر خيالهم" (مز ٧٣ : ١٨ - ٢٠). كما أن السبب في حرمان بعض من شعب الرب من الخيرات المادية هو أن الرب يمتحنهم.

حتى في رأي القديس ذهبي الفم إن الموت العنيف مش دليل على شرّ الإنسان، ولا دينونة من الله، فبيقول:
"أي ضرر أصاب هابيل بموته، مع أنه مات موتًا عنيفًا في غير أوانه، وبيدي أخيه؟
أليس على حساب هذا صارت سمعة هابيل تجوب المسكونة؟
أنظر كيف أكّد المثال أكثر مما وعدت، لأنه لا يقف عند حد أن الإنسان لا يضره آخر، بل ينال نفعًا عظيمًا على يدي مناضليه… إخوة يوسف مثلاً أضروا يوسف، لكن يوسف نفسه لم يصبه الضرر. وقايين ألقى بشباكه لهابيل، لكن هابيل لم يسقط فيها…
هل يعاني إنسان من موت عنيف؟ ليذكر يوحنا الذي قُطعت رأسه في السجن وأُخذت في طبق وقُدمت مكافأة لرقص زانية".

مرة أخرى، عدم وجود ارتباط بين غضب الله وبين بعض الحوادث، مثل اضطهاد القديسين، لا يعني أنه لا يوجد ارتباط في كل الحالات. بل كما رأينا فإن غضب الله ما يكون مؤجلاً في الكثير جدًا من الحالات، رحمة بالأشرار. فبالإضافة إلى مثالي الطوفان وسدوم وعمورة، هناك عير وأونان ابني يهوذا، وعُزَّه، وشاول الملك، الذين أماتهم الرب جميعًا عقابًا على خطاياهم (تك ٣٨ : ٧ ، ١٠، ٢ صم ٦ : ٧ ، ١ أخ ١٠ : ١٤).

ويقول الأب تادرس يعقوب:
"لا يليق بالمؤمن وقد أدرك أسرار الله الفائقة أن يدين أحدًا أو يحسب ما يحل بالآخرين عقوبة إلهية لخطايا خفية، إذ يستخف بهم حتى وإن كانت خطاياهم ظاهرة.
لقد سقط اليهود في ذلك فحسبوا البار، الذي بلا خطية، أنه يتألم ويُصلب عن شر أو تجديف ارتكبه.
يقول المرتل: "لأن الذي ضربته أنت هم طردوه، وبوجع الذين جرحتهم يتحدثون" (مز 69: 56). ويقول إشعياء النبي: "نحن حسبناه مُصابًا مضروبًا من الله ومذلولًا، وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه، وبحُبره شُفينا" (إش 53: 4 - 5)".

صحيح أننا لا ينبغي أن نجلس لنحكم على كل مصيبة تحل بشخص إن كانت عقاب من الله أما لا، فهذا في علم الرب وحده. إلا أن هذا في حد ذاته لا ينفي التعليم الواضح في الكتاب المقدس أن الله يعاقب على الخطية، وأن هناك الكثير من الحوادث التي حلّت على الأشرار كقعاب مباشر من الله على خطاياهم. إننا نؤكد فقط ما أكده الكتاب المقدس. ورغم ذلك، يوجد علاقة عامة بين الشر الأدبي والشر الكارثي. فالمصائب، أو الكوارث تحل فقط بالأشرار. لأن الموت واللعنة والأشواك والمرض دخلوا الخليقة فقط بسبب خطية الإنسان. لهذا لا يوجد بار بر مطلق يتألم. الرب يسوع هو البار الوحيد الذي عندما تألم كانت آلامه بدلية.

فلا يمكن لنا تفسير الأمراض والاوبئة وأي موت أو حادث عنيف على إنه غضب الله.. لكن تأثير الميديا طول الوقت على عقلنا مش من السهل أبدًا محو أثره.. كمان قراءتنا القزمة لنصوص الكتاب المقدس اللي بتربط الأحداث اللي حصل فيها موت لشخصيات من العهدين بالغضب الإلهي، وإن بدل ما يكون ذكر الأحداث دي في الكتاب المقدس له معنى جوهري محتاجين نفهمه وهدفه الأساسي التعليم والتأديب والتقويم، مش هدفه التمسك بيها كقصة! لكن كصورة لها معنى أعمق، فالقصة حدث حصل ملهوش أي قيمة بالنسبة لي، والكتاب المقدس مش كتاب قصص.. أما الصورة فهي أداة بيستخدمها الكاتب الموحى إليه عشان يوصل رسالته، فالهدف الرسالة اللي بتحملها الصورة مش الصورة نفسها..

القصة والصورة كلاهما يحددهما الكتاب المقدس نفسه. الرسالة التي نتعلمها ليست شىء نقحمه نحن على كلمة الله، بل نُخْبَرُ بها في ذات القرينة أو في قرينة أخرى. لكن يبدو من كلام الأخ أمجد أنه يريد إقحام معنى آخر على النص يدعوه "معنى أعمق". هل هذه محاولة لترميز النصوص التي تتكلم عن غضب الله وعقابه للأشرار، كما فعل يهود الإسكندرية، الذين نقل عنهم آباء الإسكندرية هذا المنهج لاحقًا، والذي هو أساسًا محاولة يونانية كلاسيكية دفاعية لتجريد الميثولوجيا من النصوص التي تُشَبِّهُ الآلهة بالبشر، وتتحدث عن غضب الآلهة؟ إن المنهج الذي يدعو إليه الأخ أمجد هنا هو أشبه بكوادريجا القرون الوسطى التي تنسب للنص معاني رمزية ليست فيه.

لكن كيف سيمكنك أن تُغَيِّرُ معنى أو تقحم معنى آخر على نصوص تتكلم عن دينونة مباشرة من الله على الأشرار مثل عقاب الأرض بالطوفان، وسدوم وعمورة، والأمم الكنعانية التي امتلأ كأس آثامها عند دخول شعب الرب أرض الموعد (تك ١٥ : ١٦)، وعقاب الفلسطينيين عندما احتجزوا تابوت عهد الرب، بل وعقاب اسرائيل نفسه بالسبي؟ ناهيك عن الكثير جدًا من النصوص التي تتحدث عن الدينونة الأبدية والتي جاءت على لسان الرب يسوع المسيح نفسه بدون أي تخفيف أو تهوين من طرفه.

لكن بشكل سريع فإن غضب الله كمصطلح مذكور في الكتاب المقدس وفي كتابات الآباء، معناه إن خطايانا حجبت الله عنا، أخرجتنا من المعية الإلهية، فصرنا عميان ومهزومين من شرور العالم.. ويكتب الأنبا أنطونيوس الكبير:
"الله صالح وهو فقط يمنح كل عطية صالحة (يعقوب ١: ١٧) ولا يمكنه أن يقدم الضرر والأذى، لأنه لا يمكنه أن يتغير.
وليس أن الله هو الذي يتحول إلى غضوب في علاقته معنا، ولكن خطايانا تحجب نور الله من أن يسطع فينا.
إننا إذا قلنا أن الله هو الذي يتحول بعيداً عن الأشرار نكون كمن يقول أن الشمس هي التي تحجب نورها عن الشخص الأعمى"..

صحيح أن جانب من غضب الله هو احتجابه عنا نتيجة خطايانا، وصحيح أن الإنسان أساسًا خارج معية الله (الشركة معه) بسبب خطاياه، فصار أعمى ومهزومًا من شرور العالم، إلا أن هذا أحد جوانب غضب الله فقط. فهناك غضبًا آتيًا "وتنتظروا ابنه من السماء، الذي أقامه من الأموات، يسوع الذي ينقذنا من الغضب الآتي" (١ تس ١ : ١٠).

لسنا نحن من يحدد إن كان الله يجلب الضرر والأذى على الأشرار أم لا. بل كلمة الله. الصلاح لا يتحدد بناء على ما نقرره نحن، بل بناء على ما يعلنه الله عن نفسه في كلمته. وإلا فهذا تصور لله على مخليتنا وليس قبول للصورة التي أعلنها هو عن نفسه. ثم أن استبعاد وجود عقاب ينزله الله على الأشرار ينم عن نظرة ضعيفة جدًا لقداسة والله ولعدله وللخطية. إن أقر الكتاب المقدس أن الله يعاقب الأشرار، فهذا في حد ذاته أمر صالح. هل يرد الأخ أمجد أن يقنعنا أن الله لن يعاقب مغتصبو الأطفال وسارقيهم ومعذبيهم؟ والطغاة قتلة الشعوب ومعذبيهم وناهبي ثرواتهم؟ والوثنيون الذين قدموا أطفالهم ذبائح وسط ضجيج قرع الطبول؟ الذين مزجوا عبادتهم الوثنية بطقوس الزنى الجماعي؟ ماذا عن صلاة القديسين في سفر الرؤيا الذين طلبوا للرب أن ينتقم لدمائهم من الساكنين على الأرض (رؤ ٦ : ١٠)؟ أي إله هو الذي تعلّم به؟ إله ليس لديه أدنى إحساس بالعدل تجاه ناموسه أو تجاه المظلومين الذين لا حول لهم!

الله ليس غضوب، بل كلمة الله تعلمنا أنه رؤوف ورحيم و"بطىء الغضب" (خر ٣٤ : ٦، يوئيل ٢ : ١٣، يونان ٤ : ٢، نا ١ : ٣). أن تقول أن الله غضوب هو أن تقحم مفاهيم وثنية على الحق الكتابي.

صحيح أيضًا أن الله يحجب نوره عن الأشرار، إلا أن هذا ليس الحق كله، بل سيطرحهم في الظلمة الخارجية (كما جاء على لسان الرب يسوع نفسه) إن أصروا على تمردهم عليه (مت ٨ : ١٢ ، ٢٢ : ١٣، ٢٥ : ٣٠).

الغضب هو خروجنا من معية الله فيسود الشر علينا، زي ما بيقول القديس كيرلس السكندري:
'عِنْدَمَا نُقُول: "أَنْت سَخِطْتَ/غَضِبَتْ إِذْ أَخْطَأْنَا"، نَقْصِدُ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَشْمُلْنَا عَطْفُ الرَّبِّ، فَلَنْ يَكُونَ أَمَامَ الخَطِّيَّةَ أَيُّ عَائِقٌ يَمْنَعُهَا عَنْ تَعْذِيبِنَا، وَذَلِكَ بِسَبَبِ ضعفِ طَبِيعَتِنَا، مِمَّا يَقُودُ إِلَى سِيَادَةِ الشَّر عَلَيْنَا".

أن تقول أن الخطية هي التي تعذب أو تعاقب هو بمثابة نظرة وثنية غير مسيحية. ديانة طبيعية Deism قام الله فيها بتسليم مقاليد الأمور للطبيعة وللإنسان. الإنسان هو الذي يعاقب نفسه، أو أن الخطية هي التي تعاقبه، أو الطبيعة. إن هذا إنكار لسلطان الله على الخليقة والإنسان. بل وإنكار ضمني لوجوده. فإن كان الله بلا سلطان فالله ليس الله. أن تقول هذا أيضًا هو أن تقول الله لا يكافىء الأبرار على برهم، ولكن الأبرار يكافئون تلقائيًا بدون تدخل من الله. والكتاب المقدس لا يدعم أي من هذه الأفكار.

ويقول أوريجينوس إن الإشارة إلي التشبيهات البشرية لله anthropomorphism مثل غضب الله لا يمكن فهمها حرفيا.
”حينما تسمع عن غضب الله و سخطه لا تفهم ذلك بمعني ممارسة الله لمشاعر الغضب والحنق“.
يستخدم الله اللغة البشرية، والهدف هو تصحيح الأخطاء
البشرية،كما يوجه الأب طفله.
”نحن أيضا يكون لنا وجه عنيف الملامح حينما نوجه أطفالنا، ليس لأن هذه هي مشاعرنا الحقيقية، و لكن من أجل نزولنا إلي مستواهم ، فإذا ما سمحنا لملامحنا الطيبة في الظهور علي وجوهنا نفسد الطفل.
الله لا يغضب في الحقيقة، لكننا نختبر آثار غضبه حينما نقع في تجربة بسبب شرنا، هذا هو التأديب الذي ندعوه ”غضب_الله“.

إن كان لا يمكن فهم غضب الله بصورة حرفية، إذًا لا يمكن فهم محبته أو رحمته أو صلاحه بصورة حرفية. وإلا فلماذا انتقاء صفة الغضب وحدها لترميزها أو روحنتها؟ طبعًا مع الفارق بين غضب الله وغضب الإنسان. فالإنسان متقلب ومجحف وأناني ومؤذي في غضبه. لكن الرب بطىء الغضب، عادل دائمًا، صالح دائمًا، محق دائمًا، لا يغضب دون أن يكون قد أظهر رحمة كثيرة.

كما أن غضب الله على الأشرار ليس تصحيحي لكن لإجراء عدله وبره "في نار لهيب معطيًا نقمة للذين لا يعرفون الله، والذين لا يطيعون إنجيل ربنا يسوع المسيح. الذين سيعاقبون بهلاك أبدي من وجه الرب ومن مجد قوته" (٢ تس ١ : ٨ - ٩).

الأشرار ليسو أولاد الله، بل من أب هو إبليس كما قال الرب يسوع المسيح نفسه "أنتم من أب هو إبليس" (يو ٨ : ٤٤). لهذا فغضب الله نحوهم ليس غضبًا تأديبيًا، بل للعدل لناموسه وللمظلومين.

الله لا يغضب في الحقيقة؟ إن هذا عكس ما يقوله الكتاب المقدس "الله قاض عادل، وإله يسخط في كل يوم" (مز ٧ : ١١).

فضلاً عن كل ما طرحناه هنا، فإن نفي الغضب عن الله، ينفي أعظم إنجازات الصليب. فإن لم تنقذنا محبة الله ورحمته من غضبه، فما معنى الصليب؟ كلما كان التقابل بين رحمة الله وعدل قويًا في الصليب كلما ازدادت الكفارة مجدًا. لكن هذه النظرة تجرد الصليب مجده ونعمته. صحيح أنه لا يوجد تصارع بين عدل الله ورحمته، بل قمة التوافق والتناغم، لأنه عدله مُحب ومحبته عادلة، فصفات الله هي جوهره وجوهر هو صفاته. إلا أن هذا لا ينفي التقابل الموجود في الصليب، بين رحمة الله ومحبته من ناحية، وبين عدله وغضبه من ناحية أخرى.

هل غضب الله شخصي أم شىء تلقائي يحدث بمعزل عن سلطانه؟

يعلمنا العهد الجديد أن غضب الله شخصي، وليس شئ يُنسب إلى الطبيعة أو إلى آلية زرع وحصاد أوتوماتيكية في الخليقة. إن "غضب الله" يمكث على الخاطئ الذي لا يؤمن بالإبن (يو ٣ : ٣٦)، وليس أن الخاطئ يدين نفسه. وأن الغضب لا يحدث بتلقائية بمعزل عن الله ولكنه "الله الذي يجلب الغضب" (رو ٣ : ٥). كما أن الله "يريد أن يظهر غضبه" (رو ٩ : ٢٢). إن غضب الله هو نقمته على الشرير "لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء، بل أعطوا مكانًا للغضب، لأنه مكتوب: ليّ النقمة أنا أجازي يقول الرب" (رو ١٢ : ١٩). ليس أن الغضب شئ مجرد بمعزل عن الله، وليس أن الله يغضب على الخطية دون الخاطئ، بل "لأنه بسبب هذه الأمور يأتي غضب الله على أبناء المعصية" (أف ٥ : ٦). صحيح أن الخطايا والشرور هي السبب في غضب الله "الأمور التي يأتي من أجلها غضب الله" (كو ٣ : ٦)، إلا أن الله شخصيًا ينسب الغضب إلى نفسه "حتى أقسمت في غضبي لن يدخلوا راحتي" (عب ٣ : ١١، ٤ : ٣). كما أن الغضب ليس فقط غضب الله الآب، بل غضب الإبن أيضًا "وهم يقولون للجبال والصخور: اسقطي علينا وأخفينا عن وجه الجالس على العرش وعن غضب الخروف" (رؤ ٦ : ١٦). ذلك لأن غضب الخروف هو نفسه "خمر غضب الله" (رؤ ١٤ : ١٠)، والذي سيكون "معصرة غضب الله العظيمة" (رؤ ١٤ : ١٩)، و"كأس خمر سخط غضبه" (رؤ ١٦ : ١٩). الصورة قاتمة؟ جداً، وهكذا كانت في الصليب أيضًا، فالمسيح الذي أخذ كأس غضب الله التي "أعطاه الآب" ليشرب (مت ٢٦ : ٣٩ ، ٤٢ ، مر ١٤ : ٣٦ ، لو ٢٢ : ٤٢)، هو نفسه الذي "من فمه يخرج سيف ماضي لكي يضرب به الأمم. وهو سيرعاهم بعصا من حديد، وهو يدوس معصرة خمر وسخط غضب الله القادر على كل شئ" (رؤ ١٩ : ١٥).

غضب الله في أقوال الآباء

أخيرًا، اقتباسك لأقوال الآباء لا يحسم الخلاف حول معنى غضب الله. ذلك لأن أقوال الآباء في النهاية هي مجرد تفسيرات للكتاب المقدس. قد تصيب وقد تخطىء. فالآباء أنفسهم اختلفوا فيما بينهم. بل وبعضهم جاءت أقوالهم متضاربة مع ما كتبوه في مواضع أخرى. ومن المعروف أيضًا تأثر الآباء بالفلسفة اليونانية ولا سيما آباء الإسكندرية الذين أخذوا بروحنة وترميز النصوص التي تشبه الله بالبشر وتتحدث عن غضبه وسخطه، متأثرين في ذلك بيهود الإسكندرية ومن قبلهم فلاسفة اليونان. ومع ذلك يوجد في كتابات الآباء ما يعارض كلامك وفي نفس الوقت يثبت موقفنا.

على سبيل المثال، يرى باسيليوس الكبير أن غضب الله شخصي يصدر من الله في حكم أو دينونة ضد من ينتهك وصية واحدة. وأنه لا سبيل أمامنا لاستيعاب هول غضب الله:

"لأنني عندما أسمع ذلك الحكم الرهيب الصادر عن الله ضد من ينتهك بجهله حتى وصية واحدة، فأنا لا أعرف كيف أخاف هول غضبه بما فيه الكفاية". (باسيليوس الكبير، الأعمال النسكية، دينونة الله)

إغناطيوس الأنطاكي يرى أن هناك غضب آتٍ لله وأن الإنسان جدير بالخوف من هذا الغضب أو أن يحتمي منه في النعمة:

"فإما أن نخاف من الغضب الآتي أو دعونا نحب النعمة التي لدينا - إما هذا أو ذاك ، طالما أننا موجودون في يسوع المسيح للحياة الحقة". (إغناطوس الأنطاكي – الرسالة إلى أفسس)

أوريجانوس أيضًا يقول أن هناك سخطٍ وغضبٍ قادمان في الدينونة:

"ولكن كنتيجة لأفعالهم، فإن أولئك الذين يمارسون الشر سوف يكون هناك سخط وغضب، وضيقة وكرب، وفقًا لما ذخروه لأنفسهم". (أوريجانوس – الرسالة إلى رومية ٢. ٦. ١)

وفي تعريفه للغضب الآتي يقول بطرس الكريسولوجي (من القرن الخامس):

"ما هو الغضب الآتي؟ إنه ما لا نهاية له، وهو الذي لا يُطْلِق الإنسان بالموت، بل يبقيه مقيدًا بالقيود، ولا يسمح له بعد الآن بالحصول على أي أمل في العفو، بمجرد إدانته في عالم عقوبة تارتاروس". (بطرس الكريسولوجي - العظات ٣. ١٣٧. ٨)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس