تفنيد عدنان طرابلسي حول الكفارة العقابية


نشر أحدهم على صفحة التواصل الاجتماعي الخاصة به تلخيصًا للنقد الذي وجهه عدنان طرابلسي للبدلية العقابية. إلا أن أبسط ما يُقال عن هذا النقد أنه اختزالي ومجحف وينم عن عدم دراية بالعقيدة الإنجيلية المصلحة. ولن أطيل على القارىء بمقدمة طويلة فالرد نفسه طويل بما يكفي. السطور التالية هي تفنيد للثلاث مشاكل التي يرى طرابلسي أنها موجودة في الكفارة العقابية والتي جاءت في كتابه "سألتني فأجبتك" (ص ٢٨٧ - ٢٨٩).

على الرغم أن طرابلسي يقرّ بأن "الكتاب يظهر الخلاص بأنه حقيقة ذات وجوه متعددة"، إلا أن منهجه هو عكس ذلك تمامًا، إذ يستنكر وجود أي جانب قضائي في الخلاص. مختزلاً الخلاص فقط في جانبه العلاجي أو الشفائي. الأدهى من ذلك أنه يقول أن أنسلم "قام ... باختراع نظرية التكفير التي سادت في الفكر الغربي حتى يومنا الحالي".

أن تقول أن أنسلم اخترع نظرية التكفير (الاسترضاء) إنما يدل على عدم إدراك للفرق بين العقيدة وصياغتها. فالحق المتعلق بالاسترضاء موجود في الكتاب المقدس وإن كان أنسلم هو أول محاولة لاهوتية لصياغة الحق المتعلق بذلك. إن هذا أشبه بالقول أنه تم اختراع عقيدتي الثالوث وألوهية المسيح في مجمع نيقية. ما فعله أنسلم مع الاسترضاء هو نفسه ما فعله الآباء مع عقيدتي الثالوث وألوهية المسيح. ليس اختراع أو استحداث عقائد غير موجودة في الكتاب المقدس لكن فقط صياغة وتنظيم تلك الحقائق الموجودة فيه بالفعل. ‏

بعد أن يُعَرِّف طرابلسي نظرية أنسلم للإسترضاء يقول أن بها ثلاث مشاكل. سنقوم بالرد على كل مشكلة على حدة.

"المشكلة الأولى: إنها مبنية على أن الله ذو خصائص بشرية: فهو يغضب، ويحقد، ويثأر، ويُهان، وتُجرح كرامته، إلخ. لكن الله لا يتغير. نظرية التكفير هذه تعني أن الله يتغير، وأن هذا التغيير سببته أعمال الإنسان! هذا مرفوض في الأرثوذكسية".

إن أقل ما يمكن أن يقال عن العبارة السابقة أنها ليست فقط تسىء فهم الاسترضاء بل تتعمد تشويه هذا المفهوم. من قال أن الله "يحقد، ويثأر"؟ أما إذا رأى طرابلسي أن هذه نتائج يمكن استخلاصها من فكر أنسلم فكل شىء قابل لإساءة فهمه وتأويله بصورة غير صحيحة.

هل الله ذو خصائص بشرية؟ أنا لن أجيب على هذا السؤال بالإيجاب أو النفي لأن طرابلسي لم يحدد بالضبط ما يقصده من ذلك. لكن سأقدم ملاحظتين. الأولى هي أننا مخلوقون على صورة الله ومثاله. وهذا يعني أن هناك تشابه أدبي بين الله والإنسان. الله مختلف عن الإنسان ولكن ليس كليًا. الملاحظة الثانية هي أن الكتاب المقدس يتكلم عن الله بلغة بشرية. وهذا يعني أنه تم تهيئة أو تكييف الحقائق اللامحدودة عن الله لتلائم عقل الإنسان المحدود.

تطبيقًا لذلك، فإن الله يغضب. ولكنه غضبه ليس كغضب الإنسان لأن الله مختلف عنا (ولكن ليس كليًا فيظل هناك شبه أدبي بيننا وبينه). بل كما يقول الكتاب المقدس عنه أنه "بطىء الغضب" (خر ٣٤ : ٣٦، يوئيل ٢ : ١٣، يونان ٤ : ٢، ناحوم ١ : ٣). وبينما غضب الإنسان يخضع لمزاجه وتقلباته، إلا أن غضب الله متسق دائمًا مع طبيعته الصالحة. فهو يغضب فقط بسبب الخطية والظلم والنجاسة. وبينما غضب الإنسان يمكن أن يؤدي إلى الشر، إلا أن غضب الله دائمًا يؤل إلى الصلاح لأنه رد فعل من طبيعته الصالحة. وفي حين غضب الإنسان يخرج عن سيطرته، حاشا أن يخرج غضب الله عن سيطرته فهو كلي الحكمة والقدرة والصلاح.

يعترض طرابلسي على غضب الله بقوله أن "الله لا يتغير". لكن لماذا افترض أن غضب الله يعني أن الله يتغير؟ كما قلنا سابقًا أن الكتاب المقدس يتحدث عن الله بلغة بشرية لكي نستطيع أن نفهم الحقائق غير المحدودة المتعلقة بشخصه اللامحدود. إننا يمكننا أن نضيف على الإختلافات السابقة بين غضب الله وغضب الإنسان هذا الأمر: الله يغضب دون أن يتغير. إننا نُشْبِهُ الله في أننا نغضب، لكننا نختلف عنه في كون غضب الله لا يُغيِّر طبيعته. فضلاً عن ذلك، أن تقول أن الغضب يُغَيِّرُ الله هو أن تقول أيضًا أن مسرة الله تُغَيِّرُه. إن كان هناك أشياء تُغْضب الله فبالتأكيد هناك أشياء تُسِرَّهُ. وإن كان ما يغضبه يغيره فإن ما يسره يغيره أيضًا. ما لا يستطيع طرابلسي إنكاره هنا هو أن الله يُسَرُّ بالبر.

وهذا يأتي بنا للمشكلة الثانية للبدلية العقابية كما يراها طرابلسي:

"المشكلة الثانية: إنها تجعل الخطيئة مشكلة لله بالأحرى لا مشكلة الإنسان. إحدى أوجه هذه النظرية هو أن الله رحيم وعادل بالوقت نفسه. رحمة الله تريد أن تخلص كل الناس. لكنه لا يستطيع أن ينتهك عدالته الإلهية. لهذا فالخطيئة هي مشكلة بالواقع لله. المشكلة هنا ليست ما تفعل الخطيئة للإنسان، بل ما تُحدث الخطيئة من تأثير على الله وعلى موقفه من الناس. في الشرق المسيحي الخطيئة تُرى على أنها مرض يصيب الإنسان. بحسب نظرية التكفير الغربية، هذا المرض يصيب الطبيب أكثر من المريض، والشفاء يعتمد على موقف الطبيب نحو المريض أكثر بالحري من صحة المريض".

التعبير الذي استخدمه طرابلسي هنا بأن البدلية العقابية "تجعل الخطيئة مشكلة الله لا مشكلة الإنسان" هو تعبير يثير الدهشة. كما أنه يستحضر إلى الأذهان مسألة ضرورة الكفارة. هل كان الله مضطرًا لتخليص الإنسان؟ (١) إطلاقًا. فالله ليس تحت أي إلتزام بصفة عامة، فكل ما يفعله من نحو خليقته يفعله بالنعمة المحضة. إن الله خلقنا ويعتني بنا ويخلصنا بالنعمة. كما أن الإنسان بسقوطه وتمرده على الله فقد أحقيته في كل الوعود وامتيازاته التي منحها له الله. لكن الله من فضل إحسانه ونعمته ومحبته ورحمته دبر للإنسان خلاصًا.

(٢) فضلاً عن ذلك، فلم يكن من الممكن أن يترك الله الإنسان بدون خلاص لأن طبيعة الله طبيعة مُخَلِّصَة. لا يمكن أن يرى الله الإنسان في حاجة إلى خلاص ويتركه. تدبير الله للخلاص هو شىء في صميم الاتساق مع طبيعة الله الصالحة.

(٣) وقبل هذا وذاك، فإن الله صنع كل شىء لمجده ومسرته، الخلق والعناية والخلاص جميعًا لمجده. فالإنجيل هو "إنجيل مجد الله المبارك" (١ تي ١ : ١١). إنه لخلاص الإنسان لكن لمجد الله في المقام الأول. وأي قول غير ذلك هو فكر متمركز حول الإنسان. وعلى ما يبدو فإن فكر طرابلسي هو فكر متمركز حول الإنسان إذ يرى أن الخلاص أولاً وأخيرًا لراحة الإنسان دون أن يشير من قريب أو من بعيد لمجد الله.

يمكننا، إذًا، أن نلخص الملاحظات الثلاث السابقة في هذه العبارة: أن الله كان في إلتزام من نحو طبيعته المخلِّصة الصالحة ومجده لأجل خلاص الإنسان وراحته وخيره.

كما أن توجيه هذا الاتهام (الجائر) للبدلية العقابية لا يعفي طرابلسي نفسه من مواجهة ذات الاتهام. فإن نفس السؤال يثور بخصوص منظور طرابلسي. أي لماذا كان الله مضطرًا لشفاء الإنسان أو علاجه طالما المشكلة ليست مشكلة الله (مع تحفظنا على تعبير مشكلة الله)؟ إن كانت الإجابة هي رحمة أو شفقة أو محبة الله من نحو الإنسان، فإن هذا يعني أن الله يصنع كل شىء لأجل الإنسان بحيث أن الإنسان أصبح محور أعمال الله. لقد جعل طرابلسي مجد الإنسان محور أعمال الله وليس أن مجد الله هو مركز نشاطاته في الخلق والعناية والفداء. ومنهج طرابلسي غير سليم كما أشرنا. إن الله يعمل كل شىء لأجل مجده بصفة أساسية وفي نفس الوقت لأجل خير الإنسان. الإثنان يسيران معًا لكن خير الإنسان يعتمد على تحقيق مجد الله.

وادعاء طرابلسي بأن الفكر البروتستانتي المصلح يرى أن "الخطيئة مشكلة الله" ينم عن سوء فهم أو سوء تمثيل جوهري للفكر المصلح (مغالطة رجل القش). صحيح أن الخطية هي مشكلة الإنسان، إلا أن هذا لا يعني أن أمور الله لم يتم المساس بها. لقد وضع الله ناموس وطلب من الإنسان حفظه، لكن الإنسان تعدى عن عمدٍ على هذا الناموس. فكان لابد من استرضاء عدل الله وغضبه المقدسان. إن كان للقوانين الوضعية كرامة وثقل فكم وكم يكون الأمر مع الناموس الإلهي الصالح الذي ينبع من طبيعة الله الصالحة؟

ثمة ملاحظة أخرى في هذه الجزئية وهي أننا لسنا مضطرون لاستعمال تعبير "الخطيئة مشكلة الله". ذلك لأنه لا يوجد مشاكل لدى الله. إن الله لم يجلس بعد سقوط الإنسان ليفكر ماذا يفعل في هذه المشكلة. فهو كلي الحكمة. كما أن الله لم يكن أساسًا تحت أي إلتزام تجاه الإنسان المتمرد على ناموسه. بل ملتزم ومتسق فقط تجاه طبيعته الصالحة التي تعمل لأجل مجده أولاً وخير خليقته ثانيًا. وعليه فتعبير "الخطيئة مشكلة الله" تعبير مجحف ولم يدعمه طرابلسي بأي من كتابات رجال الإصلاح. ويعبر عن سوء فهم جوهري للمنهج المصلح فيما يتعلق بعقيدة الخلاص.

يقول طرابلسي: " إحدى أوجه هذه النظرية هو أن الله رحيم وعادل بالوقت نفسه. رحمة الله تريد أن تخلص كل الناس. لكنه لا يستطيع أن ينتهك عدالته الإلهية". إن طرابلسي يرسم هنا صورة غير صحيحة للكفارة العقابية. إن عدل الله ليس في صراع مع رحمته. بالعكس، إنهما متناغمان. كما أن هذا يدل على سوء فهم للثيولوجي بروبر (الحق المتعلق بطبيعة الله) طبقًا للمنهج المصلح. ذلك لأن الله ليس مجموع صفاته، فهو واحد وبسيط في جوهره. والمقصود بالبساطة هنا هو عدم التركيب. فالله ليس مركبًا من مجموع صفاته. بل جوهره الواحد هو عادل ومحب في نفس الوقت. إن عدله محبًا ومحبته عادلة. المحبة والعدل ليسا متصارعان. بل هما وجهان لنفس الجوهر الواحد غير المركب. إن كانت طبيعته الصالحة اقتضت أن تكون أجرة الخطية موت، فإن نفس الطبيعة الصالحة اقتضت أيضًا أن يحمل هو نفسه تلك العقوبة في ابنه على الصليب. وليس أن عدل الله موجهًا نحو الله ومحبته موجهة نحو الإنسان. بل إن الإثنان موجهان نحو الله والإنسان في نفس الوقت. إن الله بار من نحو وصاياه ويحب الصلاح. وهو أيضًا عادل تجاه الإنسان ويحبه.

كما أن النموذج العلاجي لطرابلسي لا يمكن لبر الله أن يجد فيه مكانًا. البر هو العدل لغويًا ولاهوتيًا. كيف يمكن لمنظور طرابلسي الكفاري العلاجي أن يستوعب بر الله وعدله؟ إن هذا لا يعني سوى شيئًا واحدًا، أنه نموذجًا كفاريًا معيبًا ومنقوصًا لأنه لا يستطيع أن يستوعب صفة جوهرية لدى الله ألا وهي البر أو العدل. يقول بولس أن الله دبر لنا الكفارة "ليكون بارًا ويبرر من هو بالإيمان بيسوع". أي ليكون الله عادلاً في البر الذي يمنحه مجانًا للفاجر (رو ٣ : ٢٦). فهناك البديل العقابي الكفاري الذي احتمل ثمن خطايا الفجار. وهذا معناه أن الله لم يكن يفكر في الإنسان فقط عند الكفارة، بل كان يفكر في ذاته أيضًا وفي المقام الأول "ليكون بارًا". الكفارة العقابية متمركزة حول مجد الله لخير الإنسان، بينما الكفارة العلاجية متمركزة حول مجد الإنسان مع إغفال مجد الله.

يضيف طرابلسي: "المشكلة هنا ليست ما تفعل الخطيئة للإنسان، بل ما تُحدث الخطيئة من تأثير على الله وعلى موقفه من الناس. في الشرق المسيحي الخطيئة تُرى على أنها مرض يصيب الإنسان. بحسب نظرية التكفير الغربية، هذا المرض يصيب الطبيب أكثر من المريض، والشفاء يعتمد على موقف الطبيب نحو المريض أكثر بالحري من صحة المريض".

هذا أيضًا فكر اختزالي كما أننا نختلف مع صياغته. ورغم أن طرابلسي لم يحدد ما يقصده بقوله أن الخطية تؤثر على موقع الله من الناس، إلا أننا نستطيع أن نؤكد أن الخطية لا تؤثر على الله داخليًا. كما أن الله ليس طبيبًا يصيبه مرض الخطية. والكفارة العقابية لا تعني أن الله مريض مشغول بصحته أكثر من صحة الخاطىء. يا لها من عبارات مجحفة مثيرة للغثيان!

إن صلاح الله وضع وصايا الناموس أمام الإنسان ووضع أيضًا عقوبة التعدي عليها "يوم تأكل منها موتًا تموت" (تك ٢ : ١٧)، "أجرة الخطية هي موت" (رو ٦ : ٢٣)، "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة خطية" (عب ٩ : ٢٢). كرامة الناموس من كرامة واضعه (الله). إن كان الله لا يغضب من التعدي على وصايا الناموس، فهو حتمًا لا يُسَرّ بالطاعة. لكن يبدو أن طرابلسي ليس لديه مشكلة في إنسان يهين وصايا الله ليلاً ونهارًا، بل ويهين الله نفسه بالكلمات الصعبة التي يتكلم بها عليه خطاة فجار ضده (يهـ ١ : ١٥)، لدرجة أن طرابلسي لا يرى أن هناك ضرورة للعدالة أو التكفير أو الاسترضاء. إن الإله الذي يتخيله طرابلسي هو إله بلا كرامة أو مجد أو هيبة أو قداسة. يضيره انتهاك مجد الإنسان وكرامته لكن لا يضيره انتهاك كرامته ومجده الشخصيان!

ليس فقط لدى اللاهوت الشرقى تُرى الخطية على أنها مرض يحتاج إلى شفاء، بل في اللاهوت المصلح أيضًا. لأنه حق كتابي. فرؤية الخاطىء على أنه مريض، والخطية على أنها مرض، موضوع يمتد بطول الكتاب المقدس. إلا أن هذا لا يعني أن الخطية ليست موجهة ضد الله وناموسه. أن تقول أن الخطية تؤثر على الإنسان فقط هو فكر متمركز حول الإنسان ويتجاهل مجد الله وكرامته وعدله وناموسه. مرة أخرى، إن كانت الخطية ليست موجهة لله، فالبر أو الطاعة بدورهما ليسا موجهان إليه. الأمر الذي يؤدي بنا منطقيًا إلى ديانة طبيعية تُخرج الله من المعادلة Deism.

الخطية أثرت، وتؤثر، في جوهر الإنسان. أفسدته وشوهته بصورة جوهرية. إلا أن الخطية لا تؤثر داخليًا على الله، حاشا. إنها تؤثر على كرامته وعدله وقداسته فيما يخص علاقاته الخارجية بالخليقة وليس صفاته في جوهرها. وعليه فأن يقول طرابلسي أن الخطية مرض يصيب الطبيب (الله) هو قول مجحف لم يقله أحد ولا يمكن أن يكون نتيجة منطقية يمكن استنتاجها من الكفارة العقابية.

السؤال الذي يثور هنا هو كيف يمكن لطرابلسي أن يستوعب، في نظرته العلاجية التي لا ترى تأثيرًا للخطية على الله، نصوصًا تضع الخطية في مواجهة مع كرامة الله وهيبته وقداسته وعهده وناموسه مثل (لا ٢٢ : ٢، عد ١٤: ٢٣، تث ٣٢ : ٢١، ١ صم ٢ : ٣٠، ١ أخ ٥ : ٢٥، ٢ أخ ٢٩ : ٦، مز ١٠٧ : ١١، إر ٨ : ١٩، حز ٢٢ : ٢٦، ٤٣ : ٨، مل ١ : ٦، ١ تي ٦ : ١ - ٢)؟

كيف يمكن لطرابلسي أيضًا أن يفسر تعليم الكتاب المقدس بأن الخطية موجهة أساسًا إلى الله قبل أن تكون موجهة إلى الإنسان؟ إن يوسف تعفف عن ارتكاب الزنى ليس فقط لأنه لم يرد خيانة فوطيفار، بل لأنه لم يرد خيانة خالقه وربه في الأساس "كيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطىء إلى الله" (تك ٣٩ : ٩). وداود، رغم أنه أخطأ في حق أوريا، وفي حق بثشبع، وفي حق شعبه، وفي حق نفسه (لأن الذي يزني يخطىء إلى جسده طبقًا لبولس) إلا أن هذا كله لا يقاس أمام كون خطيته موجهة إلى الرب في الأساس "إليك وحدك أخطأت" (مز ٥١ : ٤). أنظر أيضًا نصوص أخرى تثبت أن الخطية موجهة في الأساس ضد الرب (تك ٩ : ٦، ٢٠ : ٦، لا ٦ : ٢ – ٧، عد ٣٢ : ٢٣).

أخيرًا وليس آخرًا، إن كانت الخطية لا تؤثر على الله (أو بالحري على علاقاته الخارجية بالخليقة)، بل على الإنسان فقط، لماذا أمر الله بتقديم ذبائح إليه هو؟ لماذا لم يكتفي الناموس مثلاً بأن يطلب من الخاطىء تعويض أخيه الإنسان؟

"المشكلة الثالثة: الخلاص في نظرية التكفير الغربية يبقى خارجًا عن الإنسان وبالتالي يبقى الإنسان بدون تغيّر. فالخلاص يعني أن ذنب الإنسان قد زال، وإذا كان هذا الذنب مجرد موقف قضائي قانوني أمام الله، فهذا يعني أن الإنسان يبقى بدون تغيير في طبيعته وبدون شفاء لأمراضه. بمعنى آخر، الإيمان بكفارة المسيح على الصليب، بحسب نظرية التفكير الغربية، لا يمحو خطايا المؤمن، بل لا يعد هذا المؤمن متهمًا بعد بهذه الخطايا. يبقى الإنسان في الجوهر خاطئًا بدون تغيير".

إن من يقل هذه الكلمات لم يقرأ سوى مصادر ثانوية تنتقد الفكر البروتستانتي للكفارة العقابية، وإلا ما كان قد قال ما قاله. حتى الكاثوليك، رغم أنهم طمسوا التمييز بين التبرير والتقديس، لهذا ظهرت حركة الإصلاح، لا يقولون أنه لا تغيير في الداخل. بل يقولون أن التبرير، ليس إعلان قضائي يخص موقف الإنسان أمام الله، بل بِرّ يُغرس به داخليًا. لهذا لا أعلم من أين جاء طرابلسي بقوله أن الفكر الغربي بخصوص عقيدة الخلاص لا يسمح بالتغيير الداخلي في الإنسان.

أيًا كان الذي يقوله الكاثوليك، ما يهمني هنا هو العقيدة الإنجيلية المُصْلَحَة. أن تقول أن الخلاص في الفكر الغربي يبقى خارجًا عن الإنسان وبالتالي بدون تغيير داخلي ينم عن جهل شديد بالعقيدة المُصْلَحَة وسوء فهم جوهري لها. مرة أخرى، ما فعله المُصْلِحِين ليس أنهم أخرجوا التقديس أو التجديد من المعادلة الخلاصية، بل فقط التمييز بين التبرير والتقديس مع الحفاظ على وحدتهما. التبرير هو إعلان الخاطىء بار قضائيًا أمام الله. والتقديس هو التغيير الداخلي الذي يحدث له طيلة حياته على الأرض بعد التبرير.

على أننا لا نستطيع الحديث هنا عن التقديس دون الحديث عن التجديد أيضًا. في التجديد يقوم الخاطىء من موته الروحي ويصير خليقة جديدة. وهو تغيير جذري يحدث للإنسان الخاطىء عند الإيمان بالمسيح. يتحرر فيه الإنسان من قيود الخطية وسلطانها. على أن التجديد ليس هو نهاية المطاف في التغيير الذي يحدث داخل المؤمن. هناك أيضًا التقديس، وهو عملية تستمر بطول الحياة يصير فيها المسيحي مشابهًا صورة الابن شيئًا فشيئًا. التجديد بمثابة تقديس مبدئي. والتقديس بمثابة تجديد مستمر. المولود ثانية تَغَيَّرَ جذريًا عند اللقاء بالمسيح ويتغير يومًا فيومًا بفعل روح القداسة الذي فيه.

الأكثر من ذلك أن المصلحون أكدوا على ضرورة حدوث هذا التغيير الداخلي بقولهم أن التبرير بالإيمان وحده إلا أن الإيمان (الحقيقي) لا يمكن أن يبقى وحده. بمعنى أننا نتبرر بالإيمان فقط أمام الله، وليس بالإيمان والأعمال معًا، إلا أن هذا الإيمان الصادق لابد وأن يثمر فينا تغييرًا داخليًا فتظهر ثماره علينا في صورة أعمال برّ. فالإيمان هو الجذور والأعمال الصالحة هي الثمار التي تستمد حياتها من تلك الجذور. على أنه لا يوجد إيمان حقيقي بدون ثمار حقيقية. والسبب في ذلك، طبقًا للعقيدة المصلحة، هو فعالية خلاص المسيح. الخلاص الذي يعطيه لنا المسيح ليس فعالاً فقط في جانب التبرير، بل في التقديس أيضًا. فمن اتحد بالمسيح اتحد بالمسيح كله. أخذ بره وقداسته. تم تغيير كل من مقامه أمام الله وطبيعته الداخلية.

ونود أن نؤكد هنا على ما قلناه سابقًا، أن إقرارات الإيمان المصلحة التي كُتبت في القرن السادس عشر أفردت قسمًا خاصًا للتقديس بقدر ما خصصت للتبرير، الأمر الذي يدل على مركزية العقيدتان في الفكر الإنجيلي. وأوضحت تلك الإقرارات الإيمانية أن ذلك التغيير (التقديس) مضمون بقوة قيامة المسيح، وهو تغيير حقيقي يشمل كل جوانب الإنسان، وفيه تضعف قوة الخطية على حياته شيئًا فشيئًا، وينمو فيه المسيحي في القداسة بإستمرار. للمزيد أنظر على سبيل المثال إقرار إيمان ويستمينستر وإقرار الإيماني المعمداني لعام ١٦٨٩ وإقرار الإيمان البلجيكي.

يضيف طرابلسي: "هذا يعني أن الله والإنسان يبقيان طوال حدثية الخلاص خارجيين وأحدهما بالنسبة للآخر. فالإنسان لا يُغَيَّر أو يعاد خلقه، بل يُعلن أنه ‘غير مذنب’ وحسب. هذا إنكار عملي للتجسد الإلهي في الفكر الغربي".

طبعًا أن يدعي طربلسي هذه الادعاءات العشوائية التي لا أساس لها من الصحة إنما يدل على عدم اطلاعه على المصادر المصلحة بل قراءة مصادر ثانوية فقط. لا يوجد منهج قام بالتأكيد على الاتحاد بالمسيح أكثر من المنهج المُصْلَح. فعندما يأتي الإنسان إلى المسيح بالإيمان يتحد معه ويصير في المسيح ويصير المسيح فيه. وهذا يعني بالنسبة للتبرير أن الإنسان يكون له مقام المسيح، أي بار أمام الله. وفيما يتعلق بالتقديس فإن هذا معناه أن الإنسان يأخذ قداسة المسيح لكي ينتصر بها على الشر وينمو بها شيئًا فشيئًا ليكون مشابهًا صورته. أي أن الإنسان في اتحاده بالمسيح يأخذ مقامه القضائي وقوة قيامته. يتغير داخليًا وخارجيًا.

ختامًا، فإن النقد الذي وجهه طرابلسي للكفارة العقابية ناتج عن قراءة مصادر ثانوية فقط واستنتاجات غير صحيحة. فضلاً عن ذلك، لم يأتي طرابلسي باقتباس واحد من المصادر الإنجيلية المصلحة ليثبت صحة ما يدعيه. كما أن ادعاءاته لا تأخذ في الاعتبار نصوص كتابية خطيرة تتحدث عن كون الخطية موجهة إلى الله، الأمر الذي يتطلب أن تكون الكفارة موجهة إلى الله فضلاً عن كونها موجهة إلى الإنسان أيضًا. أي أن الكفارة استرضاء لعدل الله وشفاء للإنسان. لأجل مجد الله وخير الإنسان. لكي فكر طرابلسي اختزالي إذ يقصر الكفارة فقط على جانبها الشخصي الذي يحدث داخل الإنسان. لكن البدلية العقابية لا تختزل كفارة المسيح في ذلك الجانب العقابي بل تستوعب معها أيضًا التغيير الداخلي في الإنسان والنصرة على الشيطان والمصالحة الكونية. مما يعني أن عقيدة الخلاص التي يعتنقها طرابلسي تنم عن فكر لاهوتي متمركز حول الإنسان يغفل مجد الله وبره ويهمشهما.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس