المسيح الرب - الإصلاح البروتستانتي والخلاص الربوبي



هل ممكن للمسيحي أن يعيش بدون تغيير ويظل مسيحيًا؟ هناك من يجيب بنعم، فالمسيحي غير مطلوب منه التغيير لكن فقط الإيمان والإعتراف بالمسيح على الأقل مرة واحدة. فنحن نأتي للمسيح كمخلص وليس كرب. التلمذة والطاعة أشياء عظيمة ومطلوبة لكنها ليست ضرورية للخلاص. على النقيض من هذا الرأي هناك من يجيبون بالنفي على هذا السؤال مؤكدين على أننا نقبل المسيح كمخلص ورب في نفس الوقت. من هنا جاءت التسمية "الخلاص الربوبي". إلا أن البعض من هذه الفئة الأخيرة يضيفون إلى الإيمان الطاعة بالقول أن الإيمان لابد أن يكون مطيعًا (وبهذا يكونون قد خلطوا بين التبرير والتقديس كما سنرى).

هذا الكتاب الفخم، بواسطة اللاهوتي الكبير مايكل هورتون الذي قام بتحريره، يجيب عن هذا السؤال وأسئلة أخرى فرعية مرتبطة به. لكن، بعيدًا عن الكثير من الجدل، والتفاصيل التاريخية، والأسماء الكثيرة، الموجودة جميعًا في هذا الكتاب، رأيت أن أقوم بتلخيص وتبسيط الإجابة الكتابية لهذا السؤال الهام في السطور التالية حتى تعم الفائدة.

أن أول سؤال يمكن أن يثور حول هذا الموضوع هو تعريف ما هو الإيمان بالمسيح؟

الإيمان طبقًا للاهوت المصلح يحوي هذه العناصر الثلاثة:

معرفة (في العقل)، اقتناع أو تصديق (في القلب)، اتكال أو ثقة (في الإرادة). الإيمان الحقيقي ليس مجرد تصديق عقلي لمحتويات الإنجيل. ولا مجرد شعور طيب بالإتكال على خبرة داخلية. لكن معرفة ثم اقتناع بتلك المعرفة ثم اتكال واثق فيها.

إن الإيمان أيضًا كما يقول وارفيلد هو الواسطة التي نخلص من خلالها. وليس الإستحقاق الذي يهبنا الله بناء عليه الخلاص. الإيمان يأتي بعده حرف جر "بـ"، أي الإيمان بالمسيح. إنه نقل الثقة من أنفسنا إلى المسيح. الإيمان ليس سببًا للخلاص، لكن الواسطة فقط.

إن هذا التعريف للإيمان خطيرًا لأنه يحفظنا من خلط التبرير بالتقديس، أو خلط الإيمان بالأعمال. فكما رأينا فإن الإيمان لا يحوي فيه أي عمل أو طاعة أو تلمذة أو توبة. إن الإيمان لا يمكن أن يحدث بمعزل عن هذه الأشياء، كما سيأتي الذكر، إلا أنه مختلف عنها. ولا ينبغي لنا أن نخلطه بها.

وهذا بدوره يأتي بنا إلى السؤال عن طبيعة العلاقة بين التبرير والتقديس.

إن العلاقة بين الإيمان والتوبة، أو بين الإيمان والطاعة، أو بين الإيمان والأعمال، أو بين التبرير والتقديس، هي علاقة السبب بالنتيجة cause and effect . إن الإيمان والتبرير يقفان في ناحية السبب، وكل من التوبة والطاعة والأعمال والتلمذة يقفون جميعًا في ناحية النتيجة. أي أن التوبة والطاعة والأعمال الصالحة جمعيًا تنبع من الإيمان، وتتبعه بالضرورة، ولكنها ليست بأي حال من الأحوال جزء أو مكون من مكونات الإيمان. إن السبب لابد أن يثمر بالنتيجة. لا يمكن لأي من النتيجة أو السبب أن يوجد أحدهما بدون الآخر. إلا أنه من ناحية أخرى لا ينبغي أن نخلط بين الإثنين.

إن أردنا أن نصون "سولا فيديه" من العبث، علينا دائمًا الحفاظ على علاقة من الوحدة والتمييز والسببية بين التبرير والتقديس. التبرير لا يمكن أن يوجد وحده، بل لابد أن يتبعه التقديس. والتبرير يقود إلى التقديس كما يؤدي السبب إلى النتيجة. إلا أنهما شيئان مختلفان ينبغي عدم خلطهما معًا. وهكذا فالعلاقة بين التبرير والتقديس شديدة الحساسية وعدم الأخذ في الاعتبار التحفظات السابقة سيوقعنا في نقيضين لاهوتيين، إما الناموسية من ناحية، أو الضدناموسية من ناحية أخرى، كما سنرى.

إن وجود إختلاف بين التبرير والتقديس لا يعني أنه لا يجمعهما شيئًا. على العكس من ذلك. فهناك عاملاً مشتركًا خطيرًا بينهما. فكلاهما يوهبان لنا. بكلمات أخرى، إن كان التبرير سلبي ولا يفعل شيئًا، أي يستقبل فقط. وإن كان التقديس إيجابي، يفعل أو يستجيب لما قد عُمِلَ بالفعل. إلا أن كلاهما عمل النعمة.

إن القول، بأن الله يهبنا التبرير ونحن علينا التقديس (التغيير) هو بمثابة القول أن جزء من الخلاص بالنعمة والجزء الآخر بالأعمال. إلا أن التبرير، والتقديس (بما في ذلك التلمذة والطاعة والتغيير)، كلاهما ليسا بأعمال الناموس، بل بالنعمة. التبرير ليس من استحقاق والتقديس كذلك. الناموس ليس له قوة على التبرير ولا التقديس. إن التبرير والتقديس كلاهما مضمونان بفعالية وقوة عمل الآب والابن والروح القدس. كما أن التبرير لا يكون بواسطة الأعمال، هكذا التقديس أيضًا يكون بقوة الله. الناموس لا يمكن أن ينتج فينا أي تبرير أو تقديس. كلاهما عمل الله بالنعمة. بتعيين الآب، وبعمل الابن، وبتخصيص الروح القدس أمجاد المسيح الذي اتحدنا به من بر وقداسة.

الخلاص وحدة واحدة، لأنه اتحاد بالمسيح الكامل. فهو يعطينا بره، وقداسته، كلاهما معًا. يخلصنا من عقوبة الخطية ومن سلطانها. القول أن المؤمن يتبرر لكن ليس من الضروري أن يتغير هو بمثابة القول أن النعمة فعالة في التبرير وليس في التقديس. أو أن هناك جانب من عمل الله ليس فعّالاً. أو أن المسيح جعل لنا التقديس ممكنًا فقط وليس فعالاً. أن تترك التقديس غير منجز هو أن تلقي به كمهمة لتقع بأكملها على كاهل المسيحي. والتأكيد على حدوث التقديس جنبًا إلى جنب مع التبرير على أساس سلطان النعمة، ليس تنصلاً من المسؤولية التي ينبغي على المسيحي أن يتحملها في تقديسه، بل هو إنتصار للنعمة على فعالية وسلطان الخطية فيه.

لقد عبر المصلحون عن العلاقة بين التبرير والتقديس بالقول أن التبرير بالإيمان وحده، إلا أن الإيمان لا يبقى وحده بل تتبعه الأعمال الصالحة. وعبروا عن ذلك أيضًا بالقول أن المسيح لا يهبنا بره فقط بل قداسته أيضًا. فنحن عندما نتحد بالمسيح نأخذ كل من مقامه وقوته. وكما أن الشمس عندما تشرق تهبنا نورها وقوتها معًا، هكذا المسيح أيضًا يهبنا بره وقداسته، أي خلاصه الكامل.

العلاقة بين التبرير والتقديس حساسة للغاية كما أشرنا، وعلى قدر حساسيتها تكون خطورتها. والحفاظ على التمييز بين التبرير والتقديس يشبه السير على الحبل، إن ملت قليلًا إلى اليمين أو إلى اليسار وقعت في أحد الفخين. إن خلط التبرير بالتقديس من خلال إقحام الأعمال الصالحة، أو المحبة مثلاً، على التبرير يوقعنا في فخ الناموسية أو الأخلاقية Legalism ، أي محاولة التبرير بالأعمال الصالحة أو الناموس. كما أن فصل التبرير عن التقديس، بالقول أن من تبرر لا حاجة له أن يكف عن الخطية أو غير مضطر أن يعيش حياة التغيير، يوقعنا في فخ اللاأخلاقية أو الضدناموسية Antinomianism . إن كل من التبرير والتقديس مختلفان وفي نفس الوقت لا ينفصلان. أن تخلطهما معًا هو أن تحوّل الإنجيل إلى ناموسية. أن تنزعهما عن بعضهما هو أن تحول الإنجيل إلى ضدناموسية (فوضى). كما سبق وقولنا أن العلاقة بين التبرير والتقديس يمكن تلخيصها في أنها علاقة وحدة وتمييز في نفس الوقت. لهذا ينبغي الحفاظ دائمًا على هذا الخيط الرفيع بين التبرير والتقديس. عدم خلطهما وفي نفس الوقت عدما فصلهما عن بعضهما.

إلا أن الناموسية تقود إلى الضدناموسية (الفوضوية) كما يقول جون نيوتن. بمعنى أن الاعتقاد بأن التغيير أو التقديس متوقف علينا بصفة جوهرية سيؤدي إلى الحماس المبدئي الذي يقود بدوره إلى اليأس والاحباط الشديد في النهاية، ومن ثم الاستسلام إلى الخطية.

وكالفن أيضًا يعلّم بأنه "يجب التمييز بين التبرير والتقديس، وإلا لانزلق المرء إلى أخلاقية أو ناموسية كاثوليكية روما. في نفس الوقت يصرّ على أنه لا يمكن فصلهما، وإلا لانزلق المرء إلى الضدناموسية (معاداة الناموس). التبرير ليس تقديسًا، لكن التقديس يتبع التبرير دائمًا". مرة أخرى، مثلما تأتي الشمس بضوئها وحرارتها معًا، وليس بضوئها فقط، أو بحرارتها فقط، هكذا خلاص المسيح يأتي بتبريره وتقديسه معًا.

إن كان من تبرر لابد أن يتقدس، وإن كان التغيير لابد أن يتبع التبرير، فهل هذا يعني أننا نتيقن من تبريرنا فقط عند رؤية التغيير فينا؟ إن العلاقة بين التبرير والتقديس (التغيير)، أو بين الإيمان والأعمال، تثير سؤال العلاقة بين الإيمان واليقين. هل نتيقن من خلاصنا لأننا تغيرنا؟

نحن لا نؤسس الكرازة على سلوكنا مهما كان بارًا. ولا نؤسس يقيننا بالخلاص على سلوكنا مهما كان مقدسًا. بكلمات أخرى، نحن لا نكرز بأنفسنا أو بسلوكنا الطيب، بل نكرز بوعد الإنجيل. كما أننا نتيقن من خلاصنا لا لأننا تغيرنا، لكن لأننا آمنا بوعد الإنجيل. كرازتنا، ويقيننا بالخلاص، كلاهما مؤسسان على الإعلان الموضعي وغير المتغير للإنجيل والمعطى لنا في الكتاب المقدس. سلوكنا البار عامل مساعد يخدم الكرازة بوعد الإنجيل. وسلوكنا البار أيضًا عامل مساعد لليقين المؤسس على وعد الإنجيل بأننا خلصنا. لكن التوبة أو الطاعة أو السلوك البار لا يمكن أن يكون موضوع الكرازة أو أساس يقيننا بالخلاص.

لكن، ألا يقول بولس أن لنا شهادة الروح القدس في داخلنا بأننا أولاد الله؟ طبعًا، لكن حتى شهادة الروح القدس تعمل من خلال وعد الإنجيل وليس بمعزل عنه. تطبيقًا لذلك، إن المسيحي يتيقن من خلاصه أولاً، وبصفة جوهرية، بناء على ثقته بالوعد المقدم في الإنجيل والمدون في كلمة الله. وشهادة الروح القدس بأننا أولاد الله تعمل من خلال شهادة الكلمة المكتوبة بوعد الإنجيل الذي آمنا به. وأخيرًا السلوك المتغير عامل مساعد ليقيننا بالخلاص.

إن الإيمان يحمل في طياته يقين الخلاص، فـ "الإيمان هو الثقة ... والإيقان". أن تقول أن يقين الخلاص متوقف على سلوكنا هو أن تقول أن الإيمان يشمل الطاعة. الأمر الذي يعد خرق لـ سولا فيديه وتحويل إنجيل النعمة إلى إنجيل أعمال. كما أن السلوك البار عُرضة في كل لحظة للتذبذب والضعف بل والإنهيار. ثم أننا مهما فعلنا لن نكون قد وصلنا إلى الكم والكيف للسلوك البار طبقًا لكلمة الله. فضلاً عن أن السلوك البار هو أمر نحن أنفسنا لا نضمنه طول الوقت، فمن منا يستطيع الافتخار بأنه وصل إلى الكم والكيف من السلوك البار الذي في المسيح مثلاً؟

الإيمان، إذًا، لا يوجد بمعزل عن اليقين. أن نؤمن بببر المسيح لنا، هو أن نتيقن من كفايته لنا ومن موثوقية وعده.

هناك سؤال أخير يثور حول من يقولون عن أنفسهم أنهم مؤمنين، لكن حياتهم العملية ليست كما يجب أن تكون. هل ينبغي لهؤلاء أن يتوقعوا اختبارًا ثانيا؟ السؤال بكلمات أخرى: هل هناك اختباران للمؤمن ونوعان من المؤمنين؟

على سبيل المثال، يقول أحد من ينادون بوجود اختباران للمؤمن ونوعان من المؤمنين، أن هناك ثلاثة أنواع من البشر، وهناك اختباران للإنسان. الثلاثة أنواع من البشر هم: الأول هو الإنسان الطبيعي غير المجدد. والثاني هو المخلّص أو المجدد ولكن في نفس الوقت مؤمن جسدي. والثالث هو الإنسان الروحي، أي المسيحي المجدد والمنتصر. والاختباران، تبعًا لذلك، هما: الأول للخلاص من عقوبة الخطية (التبرير)، والثاني هو الخلاص من قوة الخطية (التقديس). حصول المسيحي على الاختبار الأول لا يعني بالضروة أنه حصل على الاختبار الثاني.

هذا الادعاء يُقال أيضًا بصيغة مختلفة في الدوائر الكاريزماتية عندما يُنادى بأن هناك من اعتمدوا بالروح القدس ومن لم يعتمدوا به ومن ثم عليهم السعي إثر هذه المعمودية.

لكن ينبغي أن نرفض ها الادعاء في ضوء ما قلناه سابقًا. لأن هذا يعني أن هناك جزء من الخلاص غير فعّال ومتوقف على مجهودات الإنسان لتفعيله. الخلاص كله، بجميع مراحله، التبرير والتقديس والتمجيد، فعالاّ وغير متوقف على أمانتنا أو مجهوداتنا. لقد عيّن الآب كل من تبريرنا وتقديسنا، والابن دفع ثمنهما، والروح خصص وضمن حدوثهما. أن تقول أن التغيير أو التقديس مرهون بنا نحن هو أن تقول أنه لن يتقدس أو يتغير أي مسيحي.

تطبيقًا لذلك، لا يوجد مؤمن جسدي ومؤمن روحي. أو بكلمات أكثر دقة لا يوجد مؤمن جسدي يظل بدون أي تغيير طيلة حياته إلى أن يلقى الرب. قد نوصف في نقطة ما من رحلة مسعانا الروحي بأننا جسديين، إلا أن هذا بأي حال من الأحوال لا يمكن أن ينطبق على حياتنا بأكملها إن كنا حقًا مؤمنين. ولعل كلمات وارفيلد هنا تحسم هذا الأمر. يقول وارفيلد:

"بقايا الجسد في المسيحي لا تشكل صفته (كمسيحي جسدي أو روحي). إن المسيحي يكون في الروح ويسير بالروح مهما كانت خطواته متعثرة. وإلى جميع المسيحيين، وليس للبعض، قد أُعْطِيَ الوعد العظيم: "الخطية لن تسودكم"، ومُضاف إلى ذلك أيضًا التأكيد العظيم: "لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة". من يؤمن بيسوع المسيح هو تحت النعمة، وكل مساره، سواء في بدايته أو استمراريته على حد سواء، تعيّنه النعمة، وبالتالي، وبما أنه تَعَيَّنَ المؤمن مسبقًا ليكون مشابهًا لصورة ابن الله، فإنه بالتأكيد يتم مشابهته لتلك الصورة. فالله نفسه يضمن أنه ليس مدعوًا ومبررًا فحسب، بل ممجدًا أيضًا. قد تجد مسيحيين في كل مرحلة من مراحل هذا المسار، لأنه مسار يجب أن يمر الجميع به؛ لكنك لن تجد أي شخص لن يمر في كل مرحلة من مراحله في توقيت الله وبطريقته الصالحين. لا يوجد نوعان من المسيحيين، على الرغم من وجود مسيحيين في كل مرحلة يمكن تصورها من هذا المسار".

إذًا، ليس هناك اختباران أو نوعان من المسيحيين، بل جميعنا مسيحيون بالتساوي ولكن في مراحل مختلفة من مسعانا الروحي المعين والمضمون بقوة وفعالية عمل النعمة.

ختامًا، الكتاب، فضلاً عن أنه يمدك بإجابات حاسمة لهذه الأسئلة اللاهوتية الهامة، فهو يزودك أيضًا بتأريخ هام لهذا الجدل اللاهوتي الذي نجده تقريبًا في كل عصور الكنيسة. كتاب لا غنى عنه لأي مسيحي يريد أن يحسم العلاقة بين التبرير والتقديس ومن ثم الحفاظ على قيمة وفعالية عمل المسيح الكامل (سولا فيديه).


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا قام المسيح في اليوم الثالث بالذات؟

هل حقا تغير الصلاة مشيئة الله؟

أربعة أعمدة في رحلة قديس